1-
تمهيد وتقسيم :
تمثل مكافحة الظاهرة الإجرامية والحد منها
الهدف الأسمى الذي يرمي إليه كافة المهتمين بتلك الظاهرة ، وبلوغ تلك الغاية أو
الفشل فيه مقياس على مدى نجاح السياسة الجنائية المتبعة
داخل المجتمع.
وللسياسة الجنائية - بحسبانها
العلم الذي يهدف إلى استقصاء حقائق الظاهرة الإجرامية للوصول إلى أفضل السبل إلى
مكافحتها - مراتب تبدأ بالمستوى القاعدي المتعلق بشق التجريم من القاعدة الجنائية
، فتبحث في مدى تلائم التجريم المقرر من قبل المشرع الداخلي مع قيم وعادات المجتمع
، ومدى الحاجة إلى هذا التجريم في الفترة المقرر فيها ، حيث تتباين المجتمعات في هذا
بحسب مستواها من التطور الاجتماعى والخلقى والروحي. وكذلك تبحث في طبيعة
الوقائع المجرمة لتحديد أى الوقائع يجب أن تظل مجرمة ، وأيها يجب إباحته ، وأيها يجب أن يصبغ عليها وصف
التجريم[1]. وتنتقل
السياسة الجنائية إلى الشق الجزائي من القاعدة الجنائية ، كي تقيم العقوبات
المقررة وحالات التخفيف والتشديد والإعفاء وسبل التفريد التشريعي المقررة في مدونة
العقوبات[2]. ثم تنتهي السياسة الجنائية إلى
مرتبتها الثالثة المتعلقة بتحديد أساليب المعاملة العقابية حال التنفيذ الفعلي
للجزاء الجنائي داخل المؤسسات العقابية ، خاصة ما يتعلق بالتفريد التنفيذي للعقوبة
والتدابير الجنائية ، وكفالة إتباع أسلوب علمي في تنفيذ الجزاء على المجرم بما
يضمن تأهيله وإصلاحه وتهذيبه وإعادة اندماجه في المجتمع مرة أخرى.
وعلى ذلك فإن هدف السياسة
الجنائية لا يقتصر على الحصول على أفضل صياغة لقواعد قانون العقوبات وإنما يمتد
إلى إرشاد القاضي الذي يضطلع بتطبيق هذه الأخيرة وإلى الإدارة العقابية المكلفة
بتطبيق ما قد يحكم به القاضي[3]. وهذا الشق الأخير للسياسة
الجنائية - والمسمى بالسياسة العقابية - هو الذي يضمه علم العقاب موضوع
هذا الكتاب ، والذي يرمي بالتالي إلى الوقوف على الكيفية
التي ينبغي بها مواجهة الظاهرة الإجرامية في مرحلة التنفيذ العقابي ، بما يكفل تحقيق أهداف المجتمع في
منع الجريمة أو تقليصها إلى أبعد مدى[4]. فكأن علم العقاب علم يسلم بحقيقة
الظاهرة الإجرامية ، ويتلقفها بالدراسة والتحليل في أعقاب وقوع الجريمة وثبوتها
على جان أو أكثر ، ثم يبدأ التعامل معها في مرحلة تنفيذ الجزاء الجنائي كي يباعد
بين الجاني - وكذا بقية أفراد المجتمع - وبين تكرار وقوعها. من هنا تظهر أهمية دراسات علم
العقاب حيث يتوقف على هذا العلم نجاح المجتمع في مواجهة الظاهرة الإجرامية[5]. وكان لزامًا علينا والحال كذلك
أن نكشف في مهد مؤلفنا عن بعض الأوليات والعموميات حول الحق في
العقاب التي تعين على إدراك مبادئ هذا
العلم وتفهم مشكلة الجزاء الجنائي ، كل ذلك من خلال الباب التمهيدي من هذه الدراسة.
ومن الحقائق الثابتة أن أي علم من
العلوم ، طبيعياً كان أم إنسانياً ، ينمو ويتطور بقدر نمو وتطور موضوع هذا العلم
والمحل الذي يعني بدراسته. وإذا كانت العقوبة قديماً ، بحسبانها نوعاُ من الألم
يعادل ويكافئ ما قد وقع من جرم ، هي الصورة الأولى للجزاء الجنائي إلا أنه سرعان
ما تبين أن هذا النمط يظل قاصراً عن تحقيق أغراض المجتمع من توقيع العقاب والمتمثل
في منع ومكافحة الجريمة ، لذا فقد كشف التطور عن نمط آخر من أنماط الجزاء الجنائي
ألا وهو التدابير ، سواء أكانت وقائية أو عقابية أم علاجية ،
والتي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر على يد المدرسة الوضعية الإيطالية حين قالت
بفكرة
الخطورة الإجرامية. فكأن هناك تطوراً قد أصاب ما يمكن أن
نطلق عليه صور رد الفعل
العقابي ، وهو ما سوف نوضحه من خلال الباب الثاني من المؤلف.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن نجاح
سياسة المكافحة للظاهرة الإجرامية على مستوى التنفيذ العقابي يتوقف في نهاية الأمر
على أساليب وطرق المعاملة العقابية المتبعة داخل وخارج المؤسسة العقابية وقدرتها
على إعادة تأهيل المجرم وتحقيق كلاً من الردع العام والخاص والحد من معدلات الجريمة في المجتمع.
من هنا فقد خصصنا الباب الثالث والأخير من هذا المؤلف لبيان الكيفية
التي يتم بها اقتضاء الحق في العقاب ، أي بيان أساليب المعاملة العقابية ، سواء أكانت داخلية كالتصنيف
والرعاية الصحية والاجتماعية والعمل ، أو خارجية كالوضع تحت الاختبار وإيقاف
التنفيذ والإفراج الشرطي والعمل للمصلحة العامة والرعاية اللاحقة.
بيد أن التطور الذي
أصاب نوع
العقاب وأساليب المعاملة العقابية (صور رد الفعل العقابي وكيفية
اقتضاء الحق في العقاب) ما كان ليتم لولا التطور
الذي طرأ على فلسفة وأساس حق العقاب ذاته ؛ هذا التطور الذي
نجم عن
تبدل وتنوع المدارس الفكرية في مجال الدراسات الجنائية. من هنا كان ولابد قبل بيان
صور رد الفعل العقابي وكيفية اقتضاء الحق في العقاب أن تبدأ الدراسة بتسليط
الضوء على فلسفة الحق
في العقاب ، وهو ما خصصنا له الباب الأول
من الدراسة.
وعلى هذا فسوف تنقسم الدراسة على
النحو التالي :
الباب التمهيدي
: عموميات حول الحق في العقاب
الباب الأول :
فلسفة الحق في العقاب
الباب
الثاني : صور رد الفعل العقابي
الباب الثالث :
اقتضاء الحق في العقاب
الباب التمهيدي
عموميات
حول الحق في العقاب
2-
أولاً : موضع القانون الجنائي من القانون
عامة :
إذا كان يمكن تعريف القانون بأنه مجموعة
القواعد القانونية التي لها صفة الإلزام والتي تقرها الجماعة الإنسانية في
مجتمع ما من المجتمعات من أجل تنظيم العلاقات والمبادلات
والظواهر التي تسوده ، فإننا بهذا ندرك أن القانون هو أمر قديم قدم
المجتمع الإنساني ذاته. فتلاحم الجماعة الإنسانية يؤدي وبالضرورة إلى نشوء علاقات
متبادلة بعضها قد يتوافق وبعضها قد يتنافر بحكم توافق وتنافر الرغبات والمصالح ،
مما يوجب في النهاية وضع إطار تنظيمي يضمن منع العدوان واستقرار الحقوق لأصحابها.
وبالجملة فإن القانون والمجتمع وجهان لعملة واحدة يتواجدان سوياً ولا غنى لأحدهم
عن الآخر[6].
وبقدر تنوع العلاقات والمعاملات
فإن القواعد القانونية الحاكمة لها تتنوع ، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء ما نسميه
الأفرع القانونية. فمن القواعد ما يهدف إلى تنظيم العلاقات المالية التجارية بين
الأفراد كالقانون المدني والتجاري ، ومن القواعد ما يهدف إلى تنظيم علاقات الأفراد
بالسلطة أو تلك الأخيرة بغيرها من السلطات داخل المجتمع كالقانون الإداري أو
القانون العام ، ومن القواعد ما يهدف إلى تنظيم الإطار الأمني الذي تتحرك فيه كافة
العلاقات السابقة من أجل درء أي عدوان أو عصيان أو خرق يقع على النظام الذي ارتضاه
المجتمع ، وتلك هي رسالة القانون الجنائي.
فالقانون الجنائي يهدف إلى تحقيق
الأمن في المجتمع عن طريق وضع القواعد التجريمية التي تحظر أنماط السلوك التي من
شأنها أن تهدد المجتمع بالضرر أو تعرض أمنه للخطر، مع تفريد الجزاء المناسب
والمكافئ لما وقع من اعتداء.
3-
ثانياً : علم العقاب وموضعه من القانون
الجنائي :
إذا أردنا أن نتخير من شتات التعريفات التي
قيلت بشأن علم العقاب فإننا يمكننا أن نوجز الأمر بقولنا أنه العلم "الذي
يعكف على دراسة الحق في العقاب فيبحث في أسسه ويبين القواعد الخاصة بتنظيم الجزاء
الجنائي (رد الفعل العقابي) وسبل اقتضاء
هذا الحق على النحو الذي يكون من شأنه أن يحقق الجزاء الجنائي أغراضه حال التنفيذ الفعلي داخل
المؤسسة العقابية[7]". وأول ما يستلفت نظرنا في هذا
التعريف هو أن علم العقاب يظهر في ثوب علم المكافحة اللاحق ، أي ذلك الذي لا تظهر
قواعده إلا بعد وقوع الجريمة بالفعل[8].
على أنه لا ينبغي أن نفهم أن علم
العقاب هو مجرد شرح لنصوص القانون الوضعي في معاملة المجرمين ، إنما هو علم كلي
مجرد يهدف إلى استخلاص القواعد العامة والكلية التي تحكم تنفيذ الجزاء الجنائي كي
يحقق الأغراض التي ترسمها له مصلحة المجتمع في مواجهة الظاهرة الإجرامية. وبالتالي
فإن دراسات علم العقاب تهدف بالدرجة الأولى إلى توجيه المشرع في اختيار أفضل
القواعد والأحكام التي يجب أن يراعيها في تنظيم الجزاء الجنائي وطرق تنفيذه[9]. ومن ثم يظهر لنا أن موضع علم
العقاب من القانون الجنائي هو الجزء المتعلق بشق الجزاء من القاعدة الجنائية.
فالمعلوم أن قواعد قانون العقوبات
لها شقين ، الأول منها يتعلق بشق التكليف ، أي الشق الذي يحدد صور السلوك الأفعال
المحظورة. وهذا الشق يحكمه ما يسمى مبدأ الشرعية الجنائية (م5 عقوبات ، م 66 من الدستور
المصري) القائل بأن لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ، وبمعنى أخر أنه لا
يعد سلوكاً ما جريمة ما لم يكن هذا السلوك محظوراً صراحاً بنص القانون عند ارتكابه
، إذ لا رجعية لنصوص قانون العقوبات. والهدف من تلك القاعدة هو تحقيق
الاستقرار في العلاقات الاجتماعية ، كي لا يعاقب الأفراد على أفعال هي مباحة لحظة
القيام بها لمجرد أن تشريعاً ما اعتبرها جرماً في أعقاب وقوعها[10].
أما الشق الثاني من أقسام القاعدة
الجنائية فهو شق الجزاء ، أي الشق الذي يحدد الآثار
القانونية المترتبة على مخالفة الأوامر والنواهي الواردة في شق التكليف ، أي أنه رد الفعل تجاه الخروج على
أحكام قانون العقوبات. وهذا الشق قديم قدم الجريمة ، وإن تنوع رد الفعل تجاه
الجريمة بتطور المجتمعات ، حيث انتقل هذا الشق من صورة الانتقام الفردي والجماعي
في المجتمعات القبلية في صورة اعتداءات مستمرة من قبل المجني عليه أو عشيرته. إلى
أن وصلنا إلى صورة أكثر تهذيباً توكل أمر تنظيم رد الفعل تجاه الجريمة إلى يد سلطة
عليا ، أخذت في العصر الحديث شكل الدولة ، وبدأت بالتالي معالم علم العقاب وعلم
السياسة العقابية من أجل التنظيم الفعال الذي يجمع بين وجوب مكافحة الجريمة وبين
إعادة تأهيل الجاني مرة أخرى ليصبح عضواً نافعاً في المجتمع.
واتصال علم العقاب بشق الجزاء من
القاعدة الجنائية يفرض عليه من أجل مكافحة الظاهرة الإجرامية القيام بتفعيل الجزاء الجنائي في
مرحلة الاختيار ، وكذا تفعيل أغراض الجزاء الجنائي والمعاملة العقابية ، وذلك على التفصيل التالي :
4-
أ : تفعيل الجزاء الجنائي
في مرحلة الاختيار :
بعد قيام المشرع بتحديد أنماط
السلوك التي يعتبرها جريمة تمس الهيئة الاجتماعية عليه أن يتخير أفضل الأجزية التي
تتناسب مع جسامة الفعل والأضرار الناشئة عنه. وهذا الاختيار لا يتم بصورة عشوائية
إنما بعد دراسة مختلف الأجزية الجنائية المتاحة وفق تطور المجتمع ومفاهيمه
السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخلقية.
وهذه الدراسة تقع موقع القلب من
علم العقاب ، فهي جوهره. وكان لهذا العلم دوره في تفعيل الجزاء الجنائي ، حيث لم
يعد هذا الأخير يقتصر على العقوبات باعتبارها الألم الذي يتناسب مع جسامة الجريمة
المرتكبة والذي يصيب المحكوم عليه في حياته أو حريته أو ذمته المالية ، وإنما اتسع
الأمر ليشمل سلسلة من التدابير الاحترازية التي تطبق على طائفة معينة من الجناة
الذين وفق قياسات معينة ينبئ وضعهم الجنائي عن عدم صلاحية العقوبة التقليدية في
إصلاحهم وتقويمهم. وهكذا اتسعت فرصة الاختيار أمام القاضي الجنائي حال القيام
بدورة في مكافحة الجريمة ، وما هذا إلا نتيجة للتطور الذي شهدته أبحاث علم العقاب
والسياسة العقابية.
5-
ب : تفعيل أغراض الجزاء الجنائي والمعاملة
العقابية :
كان لدراسات علم العقاب أثرها في تطوير أغراض
الجزاء الجنائي وأساليب المعاملة العقابية. ففي الوقت الذي كانت فيه العقوبة
هي الجزاء الأساسي بدأ علماء القانون الجنائي في القرن الثامن عشر في الانتقال
بالعقوبة من مرحلة اعتبارها مجرد قصاص تستوجبه قواعد الأخلاق أو مجرد اعتبارها
تعويضاً عادلاً ومستحقاً للمجتمع إلى مرحلة الوظيفة الوقائية للعقوبة. إذ يجب على
العقوبة أن تلعب دوراً في حماية المجتمع بمنع تكرار الجريمة سواء من غير المحكوم
عليه وهو ما يسمى بالردع العام Prévention générale ، وسواء من
المحكوم عليه ذاته وهو ما يسمى بالردع الخاص Prévention spéciale.
وفي المرحلة التي كان ينظر فيها
للعقوبة على أساس أن لها طابع القصاص والانتقام اصطبغت بما يسمى بالوظيفة
الاستبعادية للعقوبة Fonction
d’élimination ، والتي ترى أن كفاح المجتمع ضد الجريمة لا يكون
إلا بإقصاء المجرم عن المجتمع ككل. من هنا ازدادت أهمية عقوبة الإعدام وكذلك
العقوبات السالبة للحرية (خاصة طويلة المدة أو المؤبدة) لأنها تؤدي في النهاية إلى
إبعاد المحكوم عليه عن المجتمع. لذا فإن الدراسات العقابية في هذه المرحلة كانت
تسمى " بعلم السجون "Science Pénitentiaire".
وإزاء العيوب التي ظهرت للوظيفة
الاستبعادية للعقوبة ، لما لها من نتائج سلبية على المحكوم عليه ذاته وعلى أسرته
وعدم تناسبها مع الجرائم القليلة الجسامة من وجهة النظر الاجتماعية ، بدأ الاهتمام
بغرض عقابي آخر للجزاء الجنائي ألا وهو غرض الردع الذي قد يتحقق بطريق التخويف La dissuasion par
l’intimidation أو بطريق الإصلاح La dissuasion par l’amendement .
والطريق الأول له قسمان : الأول
هو الردع العام الموجه للكافة من الناس لما يحدثه الجزاء الجنائي الواقع
على عاتق المحكوم عليه من ترهيب لبقية أفراد المجتمع وإحباط الإرادة الإجرامية
لديهم[11].
وهذا الردع يتفاوت فيه الناس بحسب نوع الجريمة المرتكبة ، فالعقوبات المقررة
لجرائم التهرب الضريبي والجمركي وللمخالفات عموماً لا تحدث درجة التخويف بذات
القدر الذي تحدثه العقوبات في الجرائم الأخرى. كما أن الردع يتفاوت حسب نوع
العقوبة ودرجة جسامتها ، فالإعدام أشد من الحبس في درجة الردع كما أن هذا الأخير
له أثر رادع أشد من الغرامة. ويتوقف أخيراً غرض الردع العام على نوعية المجرم ،
فالمجرم العاطفي مثلاً لا يتمثل العقاب في ذهنه قبل الإقدام على فعله الآثم ، كما
أن هناك طوائف أخرى تقل لديها حدة الردع لما يثور لديهم من باعث الأمل من الإفلات
من العقاب[12].
أما القسم الثاني فهو التخويف الذي ينصرف إلى المحكوم
عليه وحده ، أو ما يسمى بالردع الخاص. وهذا التخويف ينصرف أثره للمستقبل بعد تنفيذ
العقوبة ، بمعنى أنه يستهدف الحيلولة بين المحكوم عليه وبين العودة إلى
سلوك سبيل الجريمة مرة أخرى. غير أن هذا التخويف الخاص في
حالات العقوبة القاسية السالبة للحرية ، وأحيانا المغالي فيها ، من شأنه أن يجعل
المحكوم عليه أكثر عدوانية وكراهية للهيئة الاجتماعية لما للسجن من أثر سلبي على
صحة ونفسية وجسد وأسرة المحكوم عليه.
ولقصور وظيفة الردع بشقيقها العام
والخاص عن مكافحة الجريمة كان لابد أن تنهج الدراسات العقابية نهجاً حديثاً في
النظرة إلى أغراض الجزاء الجنائي وأساليب المعاملة العقابية ، الأمر الذي تم على يد أنصار
المدرسة الوضعية الإيطالية ، التي لا تنظر للجسامة الذاتية للواقعة الإجرامية
كأساس للعقاب وإنما للخطورة الإجرامية للفاعل واحتمال وقوع الجريمة منه في
المستقبل.
من هنا ظهر الطريق الثاني ألا وهو
الردع بطريقة الإصلاح ، أي العمل بأساليب مختلفة على دفع المحكوم عليه في المستقبل
وبعد انتهاء مرحلة التنفيذ العقابي إلى التوافق في سلوكه مع القواعد الاجتماعية
السائدة في المجتمع ، وبالجملة تحوله إلى رجل شريف. وهذا الهدف - كما ترى المدارس
العقابية في فرنسا خاصة مدرسة الدفاع الاجتماعي - هو من مهام الإدارة العقابية
التي يجب أن تعمل على خلق وتنمية الإرادة داخل المحكوم عليه وتهذيبه وتأهيله كي
يعتاد على العمل الشريف في أعقاب خروجه من المؤسسة العقابية. وهذا يلقى على هذه الإدارة عبء
تثقيفي وعبء القيام بالرعاية الصحية والاجتماعية للمحكوم عليه ، سواء أكان ذلك
أثناء مرحلة التنفيذ العقابي أو بعد ذلك في إطار ما يسمى بالرعاية اللاحقة للمحكوم
عليه بهدف ضمان تأهيله وانخراطه عضوا نافعاً في المجتمع. وقد أصبح تحقيق هذا الهدف
أهم ما يشغل الباحثين في علم العقاب[13].
هذا
التطور دفع
البعض - ومع سيادة هذه المفاهيم الحديثة في المعاملة العقابية - إلى إطلاق اصطلاح "علم
معاملة المجرمين" Science de traitement des délinquants على ذلك
العلم الذي يعكف على دراسة القواعد التنفيذية لمختلف الجزاءات الجنائية (عقوبات
وتدابير) ودراسة وسائل المكافحة العامة للجريمة والوقاية منها. هذا الأمر الذي
تهتم به منظمة الأمم المتحدة في إطار دعوتها المتكررة للعديد من المؤتمرات الدورية
والتي تنعقد كل خمس سنوات حول "الوقاية من الجريمة ومعاملة المذنبين"
ومنها المؤتمر الأول الذي انعقد بمدينة جنيف بسويسرا عام 1955. وفى هذا المؤتمر تم
عرض المشروع الذي أعدته سكرتارية الأمم المتحدة حول قواعد الحد الأدنى لمعاملة المذنبين
وتم إقراره واعتماده من قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة في 31
يوليو 1957 ليمثل جملة القواعد التي أجمع الخبراء في المجال العقابي على قبوله
بوجه عام كمبادئ وأساليب صالحة في مجال معاملة المسجونين وإدارة المؤسسات العقابية
، وليعد بمثابة دليل العمل في مجال الإصلاح العقابي[14].
جملة القول أن الدراسات العقابية
الحديثة لم تعد تقتصر على دراسة كيفية تنفيذ العقوبات والتدابير الاحترازية Mesures de sûreté أياً كان نوعها ، بل أصبحت تتناول فوق ذلك أساليب
المعاملة العقابية التي تجري داخل المؤسسة العقابية أو التي تجري خارجها (الإفراج
الشرطي ونظام الرعاية اللاحقة…الخ) على النحو الذي سيظهر في ثنايا هذا المؤلف.
6-
ثالثاً : طبيعة التنفيذ العقابي :
من بين الأسئلة التقليدية التي
تحاول دراسات علم العقاب الإجابة عليها التساؤل حول طبيعة التنفيذ العقابي. وفي
الإجابة على هذا التساؤل يمكنا القول أن هناك سمات ثلاث تحكم طبيعة التنفيذ
العقابي نتولاها بالإيضاح على النحو التالي :
7-
أ : الطبيعة الإدارية لقواعد التنفيذ
العقابي :
غالباً ما يكون سند التنفيذ العقابي هو الحكم
الجنائي النهائي الذي يصدر من القاضي المختص بعد إحالة الدعوى إليه من السلطة
المختصة بذلك وفق القانون ، متضمناً هذا الحكم توقيع عقوبة
جنائية أو تدبير يحدده التشريع على متهم ثبتت إدانته. وقد يكون سند التنفيذ
العقابي أمراً جنائياً يصدره قاضي أو أحد أعضاء النيابة من
درجة معينة وفي أحوال تعينها النصوص القانونية. والأمر الجنائي
له طبيعة قضائية ، إذ هو في حقيقة الأمر حكماً واجب التنفيذ متى
صار نهائياً يتضمن توقيع عقوبة دون اتخاذ الإجراءات العادية للدعوى الجنائية من
تحقيق ومحاكمة ، وبه تنقضي سلطة الدولة في العقاب قِبل المتهم (المواد 323 إلى 330
إجراءات جنائية مصري)[15].
وبمجرد صيرورة الحكم الجنائي
حكماً باتاً لا يجوز الطعن فيه ، إما باستنفاذ طرق الطعن أو بسبب
انقضاء مواعيده المقررة ، فإن الرابطة القانونية العقابية
التي تترتب على وقوع الجريمة بين الدولة صاحبة الحق في العقاب وبين مرتكب الجريمة
تكون واجبة التنفيذ. وفي هذه المرحلة (مرحلة التنفيذ العقابي) تكون الدعوى قد خرجت
من حوزة المحكمة ويصبح أطراف الرابطة الإجرائية هما المحكوم عليه محل التنفيذ والسلطات الإدارية في الدولة التي
يوكل إليها أمر تنفيذ ما جاء في الحكم الجنائي.
من أجل هذا فإن القواعد التي
يشملها علم العقاب وتحكم مرحلة التنفيذ العقابي هي قواعد ذات طبيعة إدارية وليست قضائية.
ويترتب على ذلك أن السلطة القضائية تغل يدها عن التدخل في هذه المرحلة إلا في
الحالات الاستثنائية التي قد يقررها المشرع[16].
8-
ب : الطابع الاستقلالي لقواعد علم
العقاب :
ونقصد بالطابع الاستقلالي لقواعد تنفيذ الجزاء
الجنائي هو استقلال هذه الأخيرة عن التشريع الوضعي باعتباره التجسيد الحي للقواعد القانونية التي تحكم تنفيذ
الجزاء. فقواعد علم العقاب هي قواعد ودراسات إرشادية تهدف إلى توجيه المشرع إلى
الوسائل العلمية والفنية الحديثة التي يمكن أن تتلافى عيوب الأساليب العقابية
المأخوذ بها بالفعل في التشريع القائم.
وعلم العقاب في وصوله لهذه
المبادئ الحديثة التي يوجها إلى المشرع لا يعتمد على تشريع وضعي معين ، ولا يتقيد بإدارة شارع بعينة.
فهو علم توجيهى تجريبي يدرس الأصول والمبادئ
الكلية المجردة التي تكفل تحقيق الأغراض المبتغاة من تنفيذ الجزاء الجنائي. إذاً لا تعني دراسات علم العقاب
بتحليل النصوص القانونية القائمة وشرحها ، ولكن الدور الرئيسي هو تقيمها
بهدف الوصول إلى أفضل النظم التي تحكم التنفيذ العقابي. ويعتمد علم العقاب في تحقيق
ذلك
- شأنه شأن بقية العلوم الاجتماعية - على أسلوب الدراسة المقارنة ، فهو يفاضل ويقارن بين التشريعات
الأجنبية من أجل توجيه المشرع الوطني إلى النظم التي ارتقت بأساليب التنفيذ
العقابي بغية التطوير على المستوى الوطني أو الداخلي[17].
9-
ج : الطابع العلمي لقواعد التنفيذ
العقابي :
دائماً ما يطرح الفقه التساؤل حول ما إذا كان
العقاب يعد علماً Science أم أنه يعتبر مجرد فن Technique.
ولكي نجيب على هذا التساؤل نبادر
إلى القول أنه إذا كانت الدراسات العقابية تعني باستقراء الواقع العملي للتنفيذ العقابي ، كي تفاضل بين الأنظمة العقابية
الواجب إتباعها ، محاولة من ناحية استخلاص مجموعة من القوانين
العلمية تحدد علاقة السببية بين وسائل تنفيذ العقوبات والتدابير المختلفة على نحو
معين وتحقيق غرض معين من ناحية أخرى ، وتضع بذلك للمشرع الخطط التي يجب
إتباعها حال التنفيذ العقابي ، فإن هذه الدراسات يكون لها
الصبغة العلمية ، ويكون العقاب علماً بالمعنى الفني الدقيق
للكلمة. ذلك أن العلم ما هو إلا مجموعة من القوانين التي تحدد صلة سببية بين
ظاهرتين أو أكثر من ظواهر الدراسة[18].
وهذه الصلة قد تكون حتمية وقد تكون احتمالية حسب نوع العلم (علم طبيعي ـ علم
إنساني أو اجتماعي)[19].
وإلى هذه الأخيرة ينتمي علم العقاب ، فهو لا يعطي قوانين عامة ويقينية كتلك
المعروفة في العلوم الطبيعة.
ورغم الطابع العلمي للعقاب فإن
الأخير له شق فني كجزء أساسي من مستلزمات علم العقاب، ذلك لأن القواعد التي تخص
التنفيذ هي قواعد عامة ومجردة ويوكل تنفيذها إلى أشخاص متخصصين عليهم واجب العلم بوسائل وأدوات
التنفيذ التي تصلح لكل مجرم على حدة حتى يمكن تطبيق كافة القواعد
التي توصل إليها علم العقاب في مجال التنفيذ العقابي. ففن العقاب هو الأداة
اللازمة لتطبيق علم العقاب ، وهو السلاح في يد رجال الإدارة
العقابية يمكنهم من إعمال قواعد التفريد العقابي[20].
جملة القول أنه إذا العقاب في
المقام الأول هو علم يستهدف الوصول للقواعد المثلى للتنفيذ العقابي من
خلال مقارنة النظم العقابية بعضها ببعض ، إلا أن هذا العلم لن يكون له
القيمة الفعلية إلا بالاهتمام بفن العقاب ، أي الاهتمام بالكيفية التي بها
يتم تطبيق قواعد هذا العلم على المستوى العملي داخل وخارج المؤسسات العقابية. وهذا التركيز على جانب فن العقاب
هو تمسك بحقيقة تاريخية مؤداها أن فن العقاب كان أسبق في الظهور من قواعد علم
العقاب[21].
10-
رابعاً : علم العقاب وأفرع العلوم الجنائية
الأخرى :
لعلم العقاب طبيعة ذاتية تجعله
مستقلا عن فروع القانون الجنائي الأخرى. هذه الذاتية تنشأ من اختلاف
موضوعه وأغراضه عن موضوع وأغراض العلوم الأخرى ، مما يؤكد من جديد الطابع العلمي
الخاص لهذا العلم. ورغم تلك الذاتية إلا أنه تظل لهذا العلم صلة وثيقة بغيره من
العلوم الجنائية ، كقانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية
وعلم الإجرام وعلم السياسة الجنائية. وهو ما سنوضحه بإيجاز في النقاط
التالية.
11-
أ : علم العقاب وقانون العقوبات :
من المعلوم أن قانون العقوبات هو مجموعة
القواعد القانونية التي تنظم التجريم والعقاب. بمعنى أن المشرع من خلال هذا
القانون يحدد أنماط السلوك (السلبي أوالإيجابي) التي توصف بأنها جريمة ، ويحدد لهذه الأنماط الأجزية
(عقوبات وتدابير) المناسبة. وبهذا المعنى فإن قانون العقوبات هو علم قاعدي يهدف
إلى دراسة القواعد التي تحكم التجريم والعقاب بقصد تفسيرها وبيان مضمونها ثم
استخلاص النظريات التي تحكم الأشكال القانونية لنماذج السلوك محل التجريم
والجزاءات المنصوص عليها كأثر لوقوع الجريمة وثبوت مسئولية مرتكبيها.
أما علم العقاب ، ورغم أنه هو
أيضاً علم قاعدي يهتم بتنظيم الجزاءات الجنائية المختلفة
وأساليب المعاملة العقابية بهدف الوصول إلى الغايات المرجوة من التنفيذ العقابي , إلا أنه علم مستقل عن قانون
العقوبات. إذ أن هذا العلم – علم
العقاب - كما قلنا لا يعتمد في دراساته على تشريع وضعي معين أو على ما هو مطبق بالفعل
في دولة ما من الدول ، ولكنه يهتم بدراسة الأصول والقواعد الكلية التي تحكم
التنفيذ العقابي ، أو بمعنى أدق يرسم
الصورة لما
يجب أن يكون عليه بالفعل تنفيذ الجزاء الجنائي. فجوهر دراساته هو تحديد أثر
جزاء معين بنوع وقدر معين وكيفية تطبيق معينة في تحقيق الغايات المبتغاة من توقيع
الجزاء من الناحية الفعلية[22].
وبالجملة فإن دراسات قانون
العقوبات تعتمد على تحليل ما هو كائن بالفعل من تجريم وعقاب، أما دراسات علم العقاب فهي تبحث فيما يجب أن يكون عليه
الحال في مرحلة التنفيذ العقابي.
ورغم هذه الاستقلالية إلا أنه يظل
بين الفرعين صلة وثيقة تنشأ لعدة أسباب منها :
*- أن دراسات علم العقاب هي التي
تقدم للمشرع الجزاء الجنائي المناسب عند محاولة المشرع الجنائي التدخل لتجريم سلوك
ما. وعند إفراغ هذا الجزاء في قاعدة قانونية مضافاً إلى شق التجريم تبدأ قواعد
قانون العقوبات في التشكيل والتكوين.
*- أن لكل من قواعد قانون العقوبات وعلم العقاب طابع
معياري مشترك. فالأولى تبين ما ينبغي أن يكون
عليه نشاط الأفراد حتى لا يقعوا تحت طائلته ، أما الثانية فتبين ما ينبغي أن يكون عليه نشاط
الإدارة العقابية حتى تتحقق الأهداف المرجوة من توقيع الجزاء
الجنائي[23].
*- أن الباحث في علم العقاب لايسعه للتعرف على النظام القانوني الذي يحكم التنفيذ العقابي في دولة ما
من أجل تحليله ونقده ومعرفة مزاياه وعيوبه إلا التوجه إلى القواعد المدونة في
قانون العقوبات لهذا البلد. فهي التي تبين للباحث في علم العقاب ما إذا كان
التشريع القائم في بلد ما يأخذ بأساليب المعاملة العقابية المتطورة أم لا.
12-
ب : علم العقاب وقانون الإجراءات
الجنائية :
قانون الإجراءات الجنائية هو مجموعة القواعد
القانونية التي تنظم السبيل الإجرائي لاقتضاء الدولة حقها في العقاب. فهو جملة قواعد إجرائية تنظم إثبات الواقعة الجنائية
قبل متهم معين ، بدءاً من التحري والاتهام والتحقيق
والمحاكمة ، انتهاءً بتنفيذ الجزاء المقضي به. فلا يكفي أن ينشأ للدولة حق في العقاب كحق موضوعي ينظمه قانون العقوبات ،
بل يجب أن يتوافر أيضاً حق أخر يكفل وضع الحق الأول موضع
التنفيذ. هذا الحق هو حق إجرائي يرسم كيفية ممارسة الدولة
لسلطتها في العقاب وتحديد السلطة المنوط بها هذا الأمر. وكلها أمور يعالجها قانون الإجراءات
الجنائية.
من هنا يظهر أن قانون الإجراءات الجنائية هو
الأداة القانونية لتوقيع الجزاء الجنائي. فبعد المراحل المختلفة للدعوى الجنائية
وبمجرد صدور الحكم النهائي تنتهي مرحلة الإجراءات الجنائية لتبدأ مرحلة التنفيذ
العقابي كما يحددها علم العقاب. ومن هنا تبدو الصلة بين كلا الفرعين ، فمن ناحية ساهم
علم العقاب بتطوير قواعد الإجراءات الجنائية من أجل كفالة أفضل الضمانات للمتهم ، ومن قبيل ذلك استحداث نظام قاضي
تنفيذ العقوبات في بعض الدول. ومن ناحية أخرى تأثر قانون الإجراءات الجنائية بما
وصل إليه علم العقاب من نتائج في مجال شخصية المتهم ووجوب فحصه طبيعياً ونفسياً
واجتماعياً ووجوب إعداد ما يسمى بملف الشخصية الذي ينتقل مع المتهم خلال كافة
مراحل الدعوى الجنائية.
كذلك تكشف دراسات وبحوث علم العقاب عن ضرورة
تقسيم مراحل الدعوى الجنائية إلى مرحلتين : الأولى هي مرحلة الإدانة ، وفيها
تبحث المحكمة حول ثبوت وقوع الجريمة وإسنادها إلى المتهم ، والثانية هي مرحلة الحكم وفيها
تبحث المحكمة في شخصية المتهم ووضعه الاجتماعي والعائلي والمادي من أجل تحديد
الجزاء الجنائي الذي يلائم ظروفه وحالته[24].
13-
ج : علم العقاب وعلم الإجرام :
علم الإجرام هو فرع من العلوم الجنائية يهتم
ببحث كافة العوامل الدافعة للسلوك الإجرامي. ومن هنا يبدو الفارق بين العلمين ، فبينما تهتم دراسات علم العقاب بدراسة
الإجراءات التي يمكن اتخاذها بعد وقوع الجريمة ، فإننا نجد أن أبحاث علم الإجرام تهتم
بدراسة الأسباب المختلفة للظاهرة الإجرامية قبل وقوع الجريمة ذاتها. علاوة على ذلك
فإن علم العقاب كما سبق القول هو علم قاعدي يتناول بالدراسة الجزاء الجنائي –
عقوبة أم تدبير – من أجل استخلاص أغراضه وبيان مجموعة القواعد والمبادئ العامة
التي يجب أن تحكم تنفيذه. أما علم الإجرام فهو علم من
العلوم السببية التفسيرية ، التي تعني بتفسير الظاهرة الإجرامية بهدف الوصول
إلى قوانين عامة تحكم السلوك الإجرامي من حيث دوافعه وأسبابه الفردية والاجتماعية.
وعلى الرغم من هذا الاختلاف ، إلا
أن بين العلمين صله هي أقرب إلى التصاهر والاندماج. فكلا
العلمين يجعل من الظاهرة الإجرامية موضوعاً لأبحاثه ، ومن المنهج العلمي القائم على
الملاحظة والتجريب أسلوباً ومنهجاً للدراسة. كما أن كلا الفرعين يلتقيان عند هدف
واحد هو العمل على مكافحة الجريمة ، وأن كلاهما يعد منطلق للأخر ، فلا يمكن دراسة الجزاء
الجنائي - كمحور اهتمام علم العقاب - إلا بعد التعرف على أسباب
الإجرام ذاته. وبالتالي فإن علم الإجرام - أو علم أسباب الظاهرة الإجرامية - هو مقدمه أولية وضرورية لعلم
العقاب ، الذي يرمى إلى إصلاح المجرم وإعادته إلى
حظيرة المجتمع الشريف مرة أخرى. لذا يصدق قول البعض أن علم العقاب ما هو إلا
"علم الإجرام التطبيقي"[25].
فبناء على ما تسفر عنه أبحاث علم الإجرام من
نتائج حول أسباب الظاهرة الإجرامية والعوامل الدافعة إليها يمكن
تحديد أفضل الأساليب في مجال المعاملة العقابية ، كي يؤتي الجزاء الجنائي ثماره ويحدث
أثره في نفس الجاني وبقية أفراد المجتمع.
[1] في هذا المعنى د. يسر أنور علي و د. آمال عثمان ، أصول علمي الإجرام
والعقاب ، ج1 ، علم العقاب ، دار النهضة العربية ، 1993، ص295 ، د. رءوف عبيد ،
أصول علمي الإجرام والعقاب ، ط4 ، 1977 ، الكتاب الثاني ، ص 450 ،
د. محمد عيد الغريب ، أصول علم العقاب ، 1999 – 2000 ، ص 13.
[2] يؤكد البعض أن للسياسة الجنائية دور في مجال إجراءات الخصومة
الجنائية ، الأمر الذي تأكد في سنوات الماضي
وبعد الثورة العلمية ، التي دعت إلى ضرورة البحث في العوامل الدافعة للسلوك
الإجرامي وتباعد بين الفرد وتكيفه مع الوسط الاجتماعي فتجعله مناهضاً للمجتمع Antisocial. وذلك من أجل تحديد أنسب السبل للإعادة الفرد إلى حظيرة
المجتمع وجعله عضواً نافعاً فيه. ويظهر دور السياسة الجنائية
جلياً في هذه المرحلة من خلال تحديد بعض الإجراءات الخاصة التي يلزم إتباعها مع
فئات معينة من المجرمين ، كما هو الشأن في مجال الأحداث والمجرمين الشواذ
والمجرمين السياسيين والإجرام الناشئ عن اعتناق مذاهب فكرية معينة Criminalité sectaire . راجع في ذات المعنى ، د.يسر أنور علي و د.
آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص295– 296.
[url=https://mousalawyer.yoo7.com/#_ftnref3][
تمهيد وتقسيم :
تمثل مكافحة الظاهرة الإجرامية والحد منها
الهدف الأسمى الذي يرمي إليه كافة المهتمين بتلك الظاهرة ، وبلوغ تلك الغاية أو
الفشل فيه مقياس على مدى نجاح السياسة الجنائية المتبعة
داخل المجتمع.
وللسياسة الجنائية - بحسبانها
العلم الذي يهدف إلى استقصاء حقائق الظاهرة الإجرامية للوصول إلى أفضل السبل إلى
مكافحتها - مراتب تبدأ بالمستوى القاعدي المتعلق بشق التجريم من القاعدة الجنائية
، فتبحث في مدى تلائم التجريم المقرر من قبل المشرع الداخلي مع قيم وعادات المجتمع
، ومدى الحاجة إلى هذا التجريم في الفترة المقرر فيها ، حيث تتباين المجتمعات في هذا
بحسب مستواها من التطور الاجتماعى والخلقى والروحي. وكذلك تبحث في طبيعة
الوقائع المجرمة لتحديد أى الوقائع يجب أن تظل مجرمة ، وأيها يجب إباحته ، وأيها يجب أن يصبغ عليها وصف
التجريم[1]. وتنتقل
السياسة الجنائية إلى الشق الجزائي من القاعدة الجنائية ، كي تقيم العقوبات
المقررة وحالات التخفيف والتشديد والإعفاء وسبل التفريد التشريعي المقررة في مدونة
العقوبات[2]. ثم تنتهي السياسة الجنائية إلى
مرتبتها الثالثة المتعلقة بتحديد أساليب المعاملة العقابية حال التنفيذ الفعلي
للجزاء الجنائي داخل المؤسسات العقابية ، خاصة ما يتعلق بالتفريد التنفيذي للعقوبة
والتدابير الجنائية ، وكفالة إتباع أسلوب علمي في تنفيذ الجزاء على المجرم بما
يضمن تأهيله وإصلاحه وتهذيبه وإعادة اندماجه في المجتمع مرة أخرى.
وعلى ذلك فإن هدف السياسة
الجنائية لا يقتصر على الحصول على أفضل صياغة لقواعد قانون العقوبات وإنما يمتد
إلى إرشاد القاضي الذي يضطلع بتطبيق هذه الأخيرة وإلى الإدارة العقابية المكلفة
بتطبيق ما قد يحكم به القاضي[3]. وهذا الشق الأخير للسياسة
الجنائية - والمسمى بالسياسة العقابية - هو الذي يضمه علم العقاب موضوع
هذا الكتاب ، والذي يرمي بالتالي إلى الوقوف على الكيفية
التي ينبغي بها مواجهة الظاهرة الإجرامية في مرحلة التنفيذ العقابي ، بما يكفل تحقيق أهداف المجتمع في
منع الجريمة أو تقليصها إلى أبعد مدى[4]. فكأن علم العقاب علم يسلم بحقيقة
الظاهرة الإجرامية ، ويتلقفها بالدراسة والتحليل في أعقاب وقوع الجريمة وثبوتها
على جان أو أكثر ، ثم يبدأ التعامل معها في مرحلة تنفيذ الجزاء الجنائي كي يباعد
بين الجاني - وكذا بقية أفراد المجتمع - وبين تكرار وقوعها. من هنا تظهر أهمية دراسات علم
العقاب حيث يتوقف على هذا العلم نجاح المجتمع في مواجهة الظاهرة الإجرامية[5]. وكان لزامًا علينا والحال كذلك
أن نكشف في مهد مؤلفنا عن بعض الأوليات والعموميات حول الحق في
العقاب التي تعين على إدراك مبادئ هذا
العلم وتفهم مشكلة الجزاء الجنائي ، كل ذلك من خلال الباب التمهيدي من هذه الدراسة.
ومن الحقائق الثابتة أن أي علم من
العلوم ، طبيعياً كان أم إنسانياً ، ينمو ويتطور بقدر نمو وتطور موضوع هذا العلم
والمحل الذي يعني بدراسته. وإذا كانت العقوبة قديماً ، بحسبانها نوعاُ من الألم
يعادل ويكافئ ما قد وقع من جرم ، هي الصورة الأولى للجزاء الجنائي إلا أنه سرعان
ما تبين أن هذا النمط يظل قاصراً عن تحقيق أغراض المجتمع من توقيع العقاب والمتمثل
في منع ومكافحة الجريمة ، لذا فقد كشف التطور عن نمط آخر من أنماط الجزاء الجنائي
ألا وهو التدابير ، سواء أكانت وقائية أو عقابية أم علاجية ،
والتي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر على يد المدرسة الوضعية الإيطالية حين قالت
بفكرة
الخطورة الإجرامية. فكأن هناك تطوراً قد أصاب ما يمكن أن
نطلق عليه صور رد الفعل
العقابي ، وهو ما سوف نوضحه من خلال الباب الثاني من المؤلف.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن نجاح
سياسة المكافحة للظاهرة الإجرامية على مستوى التنفيذ العقابي يتوقف في نهاية الأمر
على أساليب وطرق المعاملة العقابية المتبعة داخل وخارج المؤسسة العقابية وقدرتها
على إعادة تأهيل المجرم وتحقيق كلاً من الردع العام والخاص والحد من معدلات الجريمة في المجتمع.
من هنا فقد خصصنا الباب الثالث والأخير من هذا المؤلف لبيان الكيفية
التي يتم بها اقتضاء الحق في العقاب ، أي بيان أساليب المعاملة العقابية ، سواء أكانت داخلية كالتصنيف
والرعاية الصحية والاجتماعية والعمل ، أو خارجية كالوضع تحت الاختبار وإيقاف
التنفيذ والإفراج الشرطي والعمل للمصلحة العامة والرعاية اللاحقة.
بيد أن التطور الذي
أصاب نوع
العقاب وأساليب المعاملة العقابية (صور رد الفعل العقابي وكيفية
اقتضاء الحق في العقاب) ما كان ليتم لولا التطور
الذي طرأ على فلسفة وأساس حق العقاب ذاته ؛ هذا التطور الذي
نجم عن
تبدل وتنوع المدارس الفكرية في مجال الدراسات الجنائية. من هنا كان ولابد قبل بيان
صور رد الفعل العقابي وكيفية اقتضاء الحق في العقاب أن تبدأ الدراسة بتسليط
الضوء على فلسفة الحق
في العقاب ، وهو ما خصصنا له الباب الأول
من الدراسة.
وعلى هذا فسوف تنقسم الدراسة على
النحو التالي :
الباب التمهيدي
: عموميات حول الحق في العقاب
الباب الأول :
فلسفة الحق في العقاب
الباب
الثاني : صور رد الفعل العقابي
الباب الثالث :
اقتضاء الحق في العقاب
الباب التمهيدي
عموميات
حول الحق في العقاب
2-
أولاً : موضع القانون الجنائي من القانون
عامة :
إذا كان يمكن تعريف القانون بأنه مجموعة
القواعد القانونية التي لها صفة الإلزام والتي تقرها الجماعة الإنسانية في
مجتمع ما من المجتمعات من أجل تنظيم العلاقات والمبادلات
والظواهر التي تسوده ، فإننا بهذا ندرك أن القانون هو أمر قديم قدم
المجتمع الإنساني ذاته. فتلاحم الجماعة الإنسانية يؤدي وبالضرورة إلى نشوء علاقات
متبادلة بعضها قد يتوافق وبعضها قد يتنافر بحكم توافق وتنافر الرغبات والمصالح ،
مما يوجب في النهاية وضع إطار تنظيمي يضمن منع العدوان واستقرار الحقوق لأصحابها.
وبالجملة فإن القانون والمجتمع وجهان لعملة واحدة يتواجدان سوياً ولا غنى لأحدهم
عن الآخر[6].
وبقدر تنوع العلاقات والمعاملات
فإن القواعد القانونية الحاكمة لها تتنوع ، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء ما نسميه
الأفرع القانونية. فمن القواعد ما يهدف إلى تنظيم العلاقات المالية التجارية بين
الأفراد كالقانون المدني والتجاري ، ومن القواعد ما يهدف إلى تنظيم علاقات الأفراد
بالسلطة أو تلك الأخيرة بغيرها من السلطات داخل المجتمع كالقانون الإداري أو
القانون العام ، ومن القواعد ما يهدف إلى تنظيم الإطار الأمني الذي تتحرك فيه كافة
العلاقات السابقة من أجل درء أي عدوان أو عصيان أو خرق يقع على النظام الذي ارتضاه
المجتمع ، وتلك هي رسالة القانون الجنائي.
فالقانون الجنائي يهدف إلى تحقيق
الأمن في المجتمع عن طريق وضع القواعد التجريمية التي تحظر أنماط السلوك التي من
شأنها أن تهدد المجتمع بالضرر أو تعرض أمنه للخطر، مع تفريد الجزاء المناسب
والمكافئ لما وقع من اعتداء.
3-
ثانياً : علم العقاب وموضعه من القانون
الجنائي :
إذا أردنا أن نتخير من شتات التعريفات التي
قيلت بشأن علم العقاب فإننا يمكننا أن نوجز الأمر بقولنا أنه العلم "الذي
يعكف على دراسة الحق في العقاب فيبحث في أسسه ويبين القواعد الخاصة بتنظيم الجزاء
الجنائي (رد الفعل العقابي) وسبل اقتضاء
هذا الحق على النحو الذي يكون من شأنه أن يحقق الجزاء الجنائي أغراضه حال التنفيذ الفعلي داخل
المؤسسة العقابية[7]". وأول ما يستلفت نظرنا في هذا
التعريف هو أن علم العقاب يظهر في ثوب علم المكافحة اللاحق ، أي ذلك الذي لا تظهر
قواعده إلا بعد وقوع الجريمة بالفعل[8].
على أنه لا ينبغي أن نفهم أن علم
العقاب هو مجرد شرح لنصوص القانون الوضعي في معاملة المجرمين ، إنما هو علم كلي
مجرد يهدف إلى استخلاص القواعد العامة والكلية التي تحكم تنفيذ الجزاء الجنائي كي
يحقق الأغراض التي ترسمها له مصلحة المجتمع في مواجهة الظاهرة الإجرامية. وبالتالي
فإن دراسات علم العقاب تهدف بالدرجة الأولى إلى توجيه المشرع في اختيار أفضل
القواعد والأحكام التي يجب أن يراعيها في تنظيم الجزاء الجنائي وطرق تنفيذه[9]. ومن ثم يظهر لنا أن موضع علم
العقاب من القانون الجنائي هو الجزء المتعلق بشق الجزاء من القاعدة الجنائية.
فالمعلوم أن قواعد قانون العقوبات
لها شقين ، الأول منها يتعلق بشق التكليف ، أي الشق الذي يحدد صور السلوك الأفعال
المحظورة. وهذا الشق يحكمه ما يسمى مبدأ الشرعية الجنائية (م5 عقوبات ، م 66 من الدستور
المصري) القائل بأن لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ، وبمعنى أخر أنه لا
يعد سلوكاً ما جريمة ما لم يكن هذا السلوك محظوراً صراحاً بنص القانون عند ارتكابه
، إذ لا رجعية لنصوص قانون العقوبات. والهدف من تلك القاعدة هو تحقيق
الاستقرار في العلاقات الاجتماعية ، كي لا يعاقب الأفراد على أفعال هي مباحة لحظة
القيام بها لمجرد أن تشريعاً ما اعتبرها جرماً في أعقاب وقوعها[10].
أما الشق الثاني من أقسام القاعدة
الجنائية فهو شق الجزاء ، أي الشق الذي يحدد الآثار
القانونية المترتبة على مخالفة الأوامر والنواهي الواردة في شق التكليف ، أي أنه رد الفعل تجاه الخروج على
أحكام قانون العقوبات. وهذا الشق قديم قدم الجريمة ، وإن تنوع رد الفعل تجاه
الجريمة بتطور المجتمعات ، حيث انتقل هذا الشق من صورة الانتقام الفردي والجماعي
في المجتمعات القبلية في صورة اعتداءات مستمرة من قبل المجني عليه أو عشيرته. إلى
أن وصلنا إلى صورة أكثر تهذيباً توكل أمر تنظيم رد الفعل تجاه الجريمة إلى يد سلطة
عليا ، أخذت في العصر الحديث شكل الدولة ، وبدأت بالتالي معالم علم العقاب وعلم
السياسة العقابية من أجل التنظيم الفعال الذي يجمع بين وجوب مكافحة الجريمة وبين
إعادة تأهيل الجاني مرة أخرى ليصبح عضواً نافعاً في المجتمع.
واتصال علم العقاب بشق الجزاء من
القاعدة الجنائية يفرض عليه من أجل مكافحة الظاهرة الإجرامية القيام بتفعيل الجزاء الجنائي في
مرحلة الاختيار ، وكذا تفعيل أغراض الجزاء الجنائي والمعاملة العقابية ، وذلك على التفصيل التالي :
4-
أ : تفعيل الجزاء الجنائي
في مرحلة الاختيار :
بعد قيام المشرع بتحديد أنماط
السلوك التي يعتبرها جريمة تمس الهيئة الاجتماعية عليه أن يتخير أفضل الأجزية التي
تتناسب مع جسامة الفعل والأضرار الناشئة عنه. وهذا الاختيار لا يتم بصورة عشوائية
إنما بعد دراسة مختلف الأجزية الجنائية المتاحة وفق تطور المجتمع ومفاهيمه
السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخلقية.
وهذه الدراسة تقع موقع القلب من
علم العقاب ، فهي جوهره. وكان لهذا العلم دوره في تفعيل الجزاء الجنائي ، حيث لم
يعد هذا الأخير يقتصر على العقوبات باعتبارها الألم الذي يتناسب مع جسامة الجريمة
المرتكبة والذي يصيب المحكوم عليه في حياته أو حريته أو ذمته المالية ، وإنما اتسع
الأمر ليشمل سلسلة من التدابير الاحترازية التي تطبق على طائفة معينة من الجناة
الذين وفق قياسات معينة ينبئ وضعهم الجنائي عن عدم صلاحية العقوبة التقليدية في
إصلاحهم وتقويمهم. وهكذا اتسعت فرصة الاختيار أمام القاضي الجنائي حال القيام
بدورة في مكافحة الجريمة ، وما هذا إلا نتيجة للتطور الذي شهدته أبحاث علم العقاب
والسياسة العقابية.
5-
ب : تفعيل أغراض الجزاء الجنائي والمعاملة
العقابية :
كان لدراسات علم العقاب أثرها في تطوير أغراض
الجزاء الجنائي وأساليب المعاملة العقابية. ففي الوقت الذي كانت فيه العقوبة
هي الجزاء الأساسي بدأ علماء القانون الجنائي في القرن الثامن عشر في الانتقال
بالعقوبة من مرحلة اعتبارها مجرد قصاص تستوجبه قواعد الأخلاق أو مجرد اعتبارها
تعويضاً عادلاً ومستحقاً للمجتمع إلى مرحلة الوظيفة الوقائية للعقوبة. إذ يجب على
العقوبة أن تلعب دوراً في حماية المجتمع بمنع تكرار الجريمة سواء من غير المحكوم
عليه وهو ما يسمى بالردع العام Prévention générale ، وسواء من
المحكوم عليه ذاته وهو ما يسمى بالردع الخاص Prévention spéciale.
وفي المرحلة التي كان ينظر فيها
للعقوبة على أساس أن لها طابع القصاص والانتقام اصطبغت بما يسمى بالوظيفة
الاستبعادية للعقوبة Fonction
d’élimination ، والتي ترى أن كفاح المجتمع ضد الجريمة لا يكون
إلا بإقصاء المجرم عن المجتمع ككل. من هنا ازدادت أهمية عقوبة الإعدام وكذلك
العقوبات السالبة للحرية (خاصة طويلة المدة أو المؤبدة) لأنها تؤدي في النهاية إلى
إبعاد المحكوم عليه عن المجتمع. لذا فإن الدراسات العقابية في هذه المرحلة كانت
تسمى " بعلم السجون "Science Pénitentiaire".
وإزاء العيوب التي ظهرت للوظيفة
الاستبعادية للعقوبة ، لما لها من نتائج سلبية على المحكوم عليه ذاته وعلى أسرته
وعدم تناسبها مع الجرائم القليلة الجسامة من وجهة النظر الاجتماعية ، بدأ الاهتمام
بغرض عقابي آخر للجزاء الجنائي ألا وهو غرض الردع الذي قد يتحقق بطريق التخويف La dissuasion par
l’intimidation أو بطريق الإصلاح La dissuasion par l’amendement .
والطريق الأول له قسمان : الأول
هو الردع العام الموجه للكافة من الناس لما يحدثه الجزاء الجنائي الواقع
على عاتق المحكوم عليه من ترهيب لبقية أفراد المجتمع وإحباط الإرادة الإجرامية
لديهم[11].
وهذا الردع يتفاوت فيه الناس بحسب نوع الجريمة المرتكبة ، فالعقوبات المقررة
لجرائم التهرب الضريبي والجمركي وللمخالفات عموماً لا تحدث درجة التخويف بذات
القدر الذي تحدثه العقوبات في الجرائم الأخرى. كما أن الردع يتفاوت حسب نوع
العقوبة ودرجة جسامتها ، فالإعدام أشد من الحبس في درجة الردع كما أن هذا الأخير
له أثر رادع أشد من الغرامة. ويتوقف أخيراً غرض الردع العام على نوعية المجرم ،
فالمجرم العاطفي مثلاً لا يتمثل العقاب في ذهنه قبل الإقدام على فعله الآثم ، كما
أن هناك طوائف أخرى تقل لديها حدة الردع لما يثور لديهم من باعث الأمل من الإفلات
من العقاب[12].
أما القسم الثاني فهو التخويف الذي ينصرف إلى المحكوم
عليه وحده ، أو ما يسمى بالردع الخاص. وهذا التخويف ينصرف أثره للمستقبل بعد تنفيذ
العقوبة ، بمعنى أنه يستهدف الحيلولة بين المحكوم عليه وبين العودة إلى
سلوك سبيل الجريمة مرة أخرى. غير أن هذا التخويف الخاص في
حالات العقوبة القاسية السالبة للحرية ، وأحيانا المغالي فيها ، من شأنه أن يجعل
المحكوم عليه أكثر عدوانية وكراهية للهيئة الاجتماعية لما للسجن من أثر سلبي على
صحة ونفسية وجسد وأسرة المحكوم عليه.
ولقصور وظيفة الردع بشقيقها العام
والخاص عن مكافحة الجريمة كان لابد أن تنهج الدراسات العقابية نهجاً حديثاً في
النظرة إلى أغراض الجزاء الجنائي وأساليب المعاملة العقابية ، الأمر الذي تم على يد أنصار
المدرسة الوضعية الإيطالية ، التي لا تنظر للجسامة الذاتية للواقعة الإجرامية
كأساس للعقاب وإنما للخطورة الإجرامية للفاعل واحتمال وقوع الجريمة منه في
المستقبل.
من هنا ظهر الطريق الثاني ألا وهو
الردع بطريقة الإصلاح ، أي العمل بأساليب مختلفة على دفع المحكوم عليه في المستقبل
وبعد انتهاء مرحلة التنفيذ العقابي إلى التوافق في سلوكه مع القواعد الاجتماعية
السائدة في المجتمع ، وبالجملة تحوله إلى رجل شريف. وهذا الهدف - كما ترى المدارس
العقابية في فرنسا خاصة مدرسة الدفاع الاجتماعي - هو من مهام الإدارة العقابية
التي يجب أن تعمل على خلق وتنمية الإرادة داخل المحكوم عليه وتهذيبه وتأهيله كي
يعتاد على العمل الشريف في أعقاب خروجه من المؤسسة العقابية. وهذا يلقى على هذه الإدارة عبء
تثقيفي وعبء القيام بالرعاية الصحية والاجتماعية للمحكوم عليه ، سواء أكان ذلك
أثناء مرحلة التنفيذ العقابي أو بعد ذلك في إطار ما يسمى بالرعاية اللاحقة للمحكوم
عليه بهدف ضمان تأهيله وانخراطه عضوا نافعاً في المجتمع. وقد أصبح تحقيق هذا الهدف
أهم ما يشغل الباحثين في علم العقاب[13].
هذا
التطور دفع
البعض - ومع سيادة هذه المفاهيم الحديثة في المعاملة العقابية - إلى إطلاق اصطلاح "علم
معاملة المجرمين" Science de traitement des délinquants على ذلك
العلم الذي يعكف على دراسة القواعد التنفيذية لمختلف الجزاءات الجنائية (عقوبات
وتدابير) ودراسة وسائل المكافحة العامة للجريمة والوقاية منها. هذا الأمر الذي
تهتم به منظمة الأمم المتحدة في إطار دعوتها المتكررة للعديد من المؤتمرات الدورية
والتي تنعقد كل خمس سنوات حول "الوقاية من الجريمة ومعاملة المذنبين"
ومنها المؤتمر الأول الذي انعقد بمدينة جنيف بسويسرا عام 1955. وفى هذا المؤتمر تم
عرض المشروع الذي أعدته سكرتارية الأمم المتحدة حول قواعد الحد الأدنى لمعاملة المذنبين
وتم إقراره واعتماده من قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة في 31
يوليو 1957 ليمثل جملة القواعد التي أجمع الخبراء في المجال العقابي على قبوله
بوجه عام كمبادئ وأساليب صالحة في مجال معاملة المسجونين وإدارة المؤسسات العقابية
، وليعد بمثابة دليل العمل في مجال الإصلاح العقابي[14].
جملة القول أن الدراسات العقابية
الحديثة لم تعد تقتصر على دراسة كيفية تنفيذ العقوبات والتدابير الاحترازية Mesures de sûreté أياً كان نوعها ، بل أصبحت تتناول فوق ذلك أساليب
المعاملة العقابية التي تجري داخل المؤسسة العقابية أو التي تجري خارجها (الإفراج
الشرطي ونظام الرعاية اللاحقة…الخ) على النحو الذي سيظهر في ثنايا هذا المؤلف.
6-
ثالثاً : طبيعة التنفيذ العقابي :
من بين الأسئلة التقليدية التي
تحاول دراسات علم العقاب الإجابة عليها التساؤل حول طبيعة التنفيذ العقابي. وفي
الإجابة على هذا التساؤل يمكنا القول أن هناك سمات ثلاث تحكم طبيعة التنفيذ
العقابي نتولاها بالإيضاح على النحو التالي :
7-
أ : الطبيعة الإدارية لقواعد التنفيذ
العقابي :
غالباً ما يكون سند التنفيذ العقابي هو الحكم
الجنائي النهائي الذي يصدر من القاضي المختص بعد إحالة الدعوى إليه من السلطة
المختصة بذلك وفق القانون ، متضمناً هذا الحكم توقيع عقوبة
جنائية أو تدبير يحدده التشريع على متهم ثبتت إدانته. وقد يكون سند التنفيذ
العقابي أمراً جنائياً يصدره قاضي أو أحد أعضاء النيابة من
درجة معينة وفي أحوال تعينها النصوص القانونية. والأمر الجنائي
له طبيعة قضائية ، إذ هو في حقيقة الأمر حكماً واجب التنفيذ متى
صار نهائياً يتضمن توقيع عقوبة دون اتخاذ الإجراءات العادية للدعوى الجنائية من
تحقيق ومحاكمة ، وبه تنقضي سلطة الدولة في العقاب قِبل المتهم (المواد 323 إلى 330
إجراءات جنائية مصري)[15].
وبمجرد صيرورة الحكم الجنائي
حكماً باتاً لا يجوز الطعن فيه ، إما باستنفاذ طرق الطعن أو بسبب
انقضاء مواعيده المقررة ، فإن الرابطة القانونية العقابية
التي تترتب على وقوع الجريمة بين الدولة صاحبة الحق في العقاب وبين مرتكب الجريمة
تكون واجبة التنفيذ. وفي هذه المرحلة (مرحلة التنفيذ العقابي) تكون الدعوى قد خرجت
من حوزة المحكمة ويصبح أطراف الرابطة الإجرائية هما المحكوم عليه محل التنفيذ والسلطات الإدارية في الدولة التي
يوكل إليها أمر تنفيذ ما جاء في الحكم الجنائي.
من أجل هذا فإن القواعد التي
يشملها علم العقاب وتحكم مرحلة التنفيذ العقابي هي قواعد ذات طبيعة إدارية وليست قضائية.
ويترتب على ذلك أن السلطة القضائية تغل يدها عن التدخل في هذه المرحلة إلا في
الحالات الاستثنائية التي قد يقررها المشرع[16].
8-
ب : الطابع الاستقلالي لقواعد علم
العقاب :
ونقصد بالطابع الاستقلالي لقواعد تنفيذ الجزاء
الجنائي هو استقلال هذه الأخيرة عن التشريع الوضعي باعتباره التجسيد الحي للقواعد القانونية التي تحكم تنفيذ
الجزاء. فقواعد علم العقاب هي قواعد ودراسات إرشادية تهدف إلى توجيه المشرع إلى
الوسائل العلمية والفنية الحديثة التي يمكن أن تتلافى عيوب الأساليب العقابية
المأخوذ بها بالفعل في التشريع القائم.
وعلم العقاب في وصوله لهذه
المبادئ الحديثة التي يوجها إلى المشرع لا يعتمد على تشريع وضعي معين ، ولا يتقيد بإدارة شارع بعينة.
فهو علم توجيهى تجريبي يدرس الأصول والمبادئ
الكلية المجردة التي تكفل تحقيق الأغراض المبتغاة من تنفيذ الجزاء الجنائي. إذاً لا تعني دراسات علم العقاب
بتحليل النصوص القانونية القائمة وشرحها ، ولكن الدور الرئيسي هو تقيمها
بهدف الوصول إلى أفضل النظم التي تحكم التنفيذ العقابي. ويعتمد علم العقاب في تحقيق
ذلك
- شأنه شأن بقية العلوم الاجتماعية - على أسلوب الدراسة المقارنة ، فهو يفاضل ويقارن بين التشريعات
الأجنبية من أجل توجيه المشرع الوطني إلى النظم التي ارتقت بأساليب التنفيذ
العقابي بغية التطوير على المستوى الوطني أو الداخلي[17].
9-
ج : الطابع العلمي لقواعد التنفيذ
العقابي :
دائماً ما يطرح الفقه التساؤل حول ما إذا كان
العقاب يعد علماً Science أم أنه يعتبر مجرد فن Technique.
ولكي نجيب على هذا التساؤل نبادر
إلى القول أنه إذا كانت الدراسات العقابية تعني باستقراء الواقع العملي للتنفيذ العقابي ، كي تفاضل بين الأنظمة العقابية
الواجب إتباعها ، محاولة من ناحية استخلاص مجموعة من القوانين
العلمية تحدد علاقة السببية بين وسائل تنفيذ العقوبات والتدابير المختلفة على نحو
معين وتحقيق غرض معين من ناحية أخرى ، وتضع بذلك للمشرع الخطط التي يجب
إتباعها حال التنفيذ العقابي ، فإن هذه الدراسات يكون لها
الصبغة العلمية ، ويكون العقاب علماً بالمعنى الفني الدقيق
للكلمة. ذلك أن العلم ما هو إلا مجموعة من القوانين التي تحدد صلة سببية بين
ظاهرتين أو أكثر من ظواهر الدراسة[18].
وهذه الصلة قد تكون حتمية وقد تكون احتمالية حسب نوع العلم (علم طبيعي ـ علم
إنساني أو اجتماعي)[19].
وإلى هذه الأخيرة ينتمي علم العقاب ، فهو لا يعطي قوانين عامة ويقينية كتلك
المعروفة في العلوم الطبيعة.
ورغم الطابع العلمي للعقاب فإن
الأخير له شق فني كجزء أساسي من مستلزمات علم العقاب، ذلك لأن القواعد التي تخص
التنفيذ هي قواعد عامة ومجردة ويوكل تنفيذها إلى أشخاص متخصصين عليهم واجب العلم بوسائل وأدوات
التنفيذ التي تصلح لكل مجرم على حدة حتى يمكن تطبيق كافة القواعد
التي توصل إليها علم العقاب في مجال التنفيذ العقابي. ففن العقاب هو الأداة
اللازمة لتطبيق علم العقاب ، وهو السلاح في يد رجال الإدارة
العقابية يمكنهم من إعمال قواعد التفريد العقابي[20].
جملة القول أنه إذا العقاب في
المقام الأول هو علم يستهدف الوصول للقواعد المثلى للتنفيذ العقابي من
خلال مقارنة النظم العقابية بعضها ببعض ، إلا أن هذا العلم لن يكون له
القيمة الفعلية إلا بالاهتمام بفن العقاب ، أي الاهتمام بالكيفية التي بها
يتم تطبيق قواعد هذا العلم على المستوى العملي داخل وخارج المؤسسات العقابية. وهذا التركيز على جانب فن العقاب
هو تمسك بحقيقة تاريخية مؤداها أن فن العقاب كان أسبق في الظهور من قواعد علم
العقاب[21].
10-
رابعاً : علم العقاب وأفرع العلوم الجنائية
الأخرى :
لعلم العقاب طبيعة ذاتية تجعله
مستقلا عن فروع القانون الجنائي الأخرى. هذه الذاتية تنشأ من اختلاف
موضوعه وأغراضه عن موضوع وأغراض العلوم الأخرى ، مما يؤكد من جديد الطابع العلمي
الخاص لهذا العلم. ورغم تلك الذاتية إلا أنه تظل لهذا العلم صلة وثيقة بغيره من
العلوم الجنائية ، كقانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية
وعلم الإجرام وعلم السياسة الجنائية. وهو ما سنوضحه بإيجاز في النقاط
التالية.
11-
أ : علم العقاب وقانون العقوبات :
من المعلوم أن قانون العقوبات هو مجموعة
القواعد القانونية التي تنظم التجريم والعقاب. بمعنى أن المشرع من خلال هذا
القانون يحدد أنماط السلوك (السلبي أوالإيجابي) التي توصف بأنها جريمة ، ويحدد لهذه الأنماط الأجزية
(عقوبات وتدابير) المناسبة. وبهذا المعنى فإن قانون العقوبات هو علم قاعدي يهدف
إلى دراسة القواعد التي تحكم التجريم والعقاب بقصد تفسيرها وبيان مضمونها ثم
استخلاص النظريات التي تحكم الأشكال القانونية لنماذج السلوك محل التجريم
والجزاءات المنصوص عليها كأثر لوقوع الجريمة وثبوت مسئولية مرتكبيها.
أما علم العقاب ، ورغم أنه هو
أيضاً علم قاعدي يهتم بتنظيم الجزاءات الجنائية المختلفة
وأساليب المعاملة العقابية بهدف الوصول إلى الغايات المرجوة من التنفيذ العقابي , إلا أنه علم مستقل عن قانون
العقوبات. إذ أن هذا العلم – علم
العقاب - كما قلنا لا يعتمد في دراساته على تشريع وضعي معين أو على ما هو مطبق بالفعل
في دولة ما من الدول ، ولكنه يهتم بدراسة الأصول والقواعد الكلية التي تحكم
التنفيذ العقابي ، أو بمعنى أدق يرسم
الصورة لما
يجب أن يكون عليه بالفعل تنفيذ الجزاء الجنائي. فجوهر دراساته هو تحديد أثر
جزاء معين بنوع وقدر معين وكيفية تطبيق معينة في تحقيق الغايات المبتغاة من توقيع
الجزاء من الناحية الفعلية[22].
وبالجملة فإن دراسات قانون
العقوبات تعتمد على تحليل ما هو كائن بالفعل من تجريم وعقاب، أما دراسات علم العقاب فهي تبحث فيما يجب أن يكون عليه
الحال في مرحلة التنفيذ العقابي.
ورغم هذه الاستقلالية إلا أنه يظل
بين الفرعين صلة وثيقة تنشأ لعدة أسباب منها :
*- أن دراسات علم العقاب هي التي
تقدم للمشرع الجزاء الجنائي المناسب عند محاولة المشرع الجنائي التدخل لتجريم سلوك
ما. وعند إفراغ هذا الجزاء في قاعدة قانونية مضافاً إلى شق التجريم تبدأ قواعد
قانون العقوبات في التشكيل والتكوين.
*- أن لكل من قواعد قانون العقوبات وعلم العقاب طابع
معياري مشترك. فالأولى تبين ما ينبغي أن يكون
عليه نشاط الأفراد حتى لا يقعوا تحت طائلته ، أما الثانية فتبين ما ينبغي أن يكون عليه نشاط
الإدارة العقابية حتى تتحقق الأهداف المرجوة من توقيع الجزاء
الجنائي[23].
*- أن الباحث في علم العقاب لايسعه للتعرف على النظام القانوني الذي يحكم التنفيذ العقابي في دولة ما
من أجل تحليله ونقده ومعرفة مزاياه وعيوبه إلا التوجه إلى القواعد المدونة في
قانون العقوبات لهذا البلد. فهي التي تبين للباحث في علم العقاب ما إذا كان
التشريع القائم في بلد ما يأخذ بأساليب المعاملة العقابية المتطورة أم لا.
12-
ب : علم العقاب وقانون الإجراءات
الجنائية :
قانون الإجراءات الجنائية هو مجموعة القواعد
القانونية التي تنظم السبيل الإجرائي لاقتضاء الدولة حقها في العقاب. فهو جملة قواعد إجرائية تنظم إثبات الواقعة الجنائية
قبل متهم معين ، بدءاً من التحري والاتهام والتحقيق
والمحاكمة ، انتهاءً بتنفيذ الجزاء المقضي به. فلا يكفي أن ينشأ للدولة حق في العقاب كحق موضوعي ينظمه قانون العقوبات ،
بل يجب أن يتوافر أيضاً حق أخر يكفل وضع الحق الأول موضع
التنفيذ. هذا الحق هو حق إجرائي يرسم كيفية ممارسة الدولة
لسلطتها في العقاب وتحديد السلطة المنوط بها هذا الأمر. وكلها أمور يعالجها قانون الإجراءات
الجنائية.
من هنا يظهر أن قانون الإجراءات الجنائية هو
الأداة القانونية لتوقيع الجزاء الجنائي. فبعد المراحل المختلفة للدعوى الجنائية
وبمجرد صدور الحكم النهائي تنتهي مرحلة الإجراءات الجنائية لتبدأ مرحلة التنفيذ
العقابي كما يحددها علم العقاب. ومن هنا تبدو الصلة بين كلا الفرعين ، فمن ناحية ساهم
علم العقاب بتطوير قواعد الإجراءات الجنائية من أجل كفالة أفضل الضمانات للمتهم ، ومن قبيل ذلك استحداث نظام قاضي
تنفيذ العقوبات في بعض الدول. ومن ناحية أخرى تأثر قانون الإجراءات الجنائية بما
وصل إليه علم العقاب من نتائج في مجال شخصية المتهم ووجوب فحصه طبيعياً ونفسياً
واجتماعياً ووجوب إعداد ما يسمى بملف الشخصية الذي ينتقل مع المتهم خلال كافة
مراحل الدعوى الجنائية.
كذلك تكشف دراسات وبحوث علم العقاب عن ضرورة
تقسيم مراحل الدعوى الجنائية إلى مرحلتين : الأولى هي مرحلة الإدانة ، وفيها
تبحث المحكمة حول ثبوت وقوع الجريمة وإسنادها إلى المتهم ، والثانية هي مرحلة الحكم وفيها
تبحث المحكمة في شخصية المتهم ووضعه الاجتماعي والعائلي والمادي من أجل تحديد
الجزاء الجنائي الذي يلائم ظروفه وحالته[24].
13-
ج : علم العقاب وعلم الإجرام :
علم الإجرام هو فرع من العلوم الجنائية يهتم
ببحث كافة العوامل الدافعة للسلوك الإجرامي. ومن هنا يبدو الفارق بين العلمين ، فبينما تهتم دراسات علم العقاب بدراسة
الإجراءات التي يمكن اتخاذها بعد وقوع الجريمة ، فإننا نجد أن أبحاث علم الإجرام تهتم
بدراسة الأسباب المختلفة للظاهرة الإجرامية قبل وقوع الجريمة ذاتها. علاوة على ذلك
فإن علم العقاب كما سبق القول هو علم قاعدي يتناول بالدراسة الجزاء الجنائي –
عقوبة أم تدبير – من أجل استخلاص أغراضه وبيان مجموعة القواعد والمبادئ العامة
التي يجب أن تحكم تنفيذه. أما علم الإجرام فهو علم من
العلوم السببية التفسيرية ، التي تعني بتفسير الظاهرة الإجرامية بهدف الوصول
إلى قوانين عامة تحكم السلوك الإجرامي من حيث دوافعه وأسبابه الفردية والاجتماعية.
وعلى الرغم من هذا الاختلاف ، إلا
أن بين العلمين صله هي أقرب إلى التصاهر والاندماج. فكلا
العلمين يجعل من الظاهرة الإجرامية موضوعاً لأبحاثه ، ومن المنهج العلمي القائم على
الملاحظة والتجريب أسلوباً ومنهجاً للدراسة. كما أن كلا الفرعين يلتقيان عند هدف
واحد هو العمل على مكافحة الجريمة ، وأن كلاهما يعد منطلق للأخر ، فلا يمكن دراسة الجزاء
الجنائي - كمحور اهتمام علم العقاب - إلا بعد التعرف على أسباب
الإجرام ذاته. وبالتالي فإن علم الإجرام - أو علم أسباب الظاهرة الإجرامية - هو مقدمه أولية وضرورية لعلم
العقاب ، الذي يرمى إلى إصلاح المجرم وإعادته إلى
حظيرة المجتمع الشريف مرة أخرى. لذا يصدق قول البعض أن علم العقاب ما هو إلا
"علم الإجرام التطبيقي"[25].
فبناء على ما تسفر عنه أبحاث علم الإجرام من
نتائج حول أسباب الظاهرة الإجرامية والعوامل الدافعة إليها يمكن
تحديد أفضل الأساليب في مجال المعاملة العقابية ، كي يؤتي الجزاء الجنائي ثماره ويحدث
أثره في نفس الجاني وبقية أفراد المجتمع.
[1] في هذا المعنى د. يسر أنور علي و د. آمال عثمان ، أصول علمي الإجرام
والعقاب ، ج1 ، علم العقاب ، دار النهضة العربية ، 1993، ص295 ، د. رءوف عبيد ،
أصول علمي الإجرام والعقاب ، ط4 ، 1977 ، الكتاب الثاني ، ص 450 ،
د. محمد عيد الغريب ، أصول علم العقاب ، 1999 – 2000 ، ص 13.
[2] يؤكد البعض أن للسياسة الجنائية دور في مجال إجراءات الخصومة
الجنائية ، الأمر الذي تأكد في سنوات الماضي
وبعد الثورة العلمية ، التي دعت إلى ضرورة البحث في العوامل الدافعة للسلوك
الإجرامي وتباعد بين الفرد وتكيفه مع الوسط الاجتماعي فتجعله مناهضاً للمجتمع Antisocial. وذلك من أجل تحديد أنسب السبل للإعادة الفرد إلى حظيرة
المجتمع وجعله عضواً نافعاً فيه. ويظهر دور السياسة الجنائية
جلياً في هذه المرحلة من خلال تحديد بعض الإجراءات الخاصة التي يلزم إتباعها مع
فئات معينة من المجرمين ، كما هو الشأن في مجال الأحداث والمجرمين الشواذ
والمجرمين السياسيين والإجرام الناشئ عن اعتناق مذاهب فكرية معينة Criminalité sectaire . راجع في ذات المعنى ، د.يسر أنور علي و د.
آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص295– 296.
[url=https://mousalawyer.yoo7.com/#_ftnref3][