الإعفــاء مــن العقــوبة
تنص المادة (84 " أ ") من قانون العقوبات على أنه "يعفى من العقوبة المقررة للجرائم المشار إليها في هذا الباب كل من بادر من الجناة بإبلاغ السلطات الإدارية أو القضائية قبل البدء في تنفيذ الجريمة وقبل البدء في التحقيق ، ويجوز للمحكمة الإعفاء من العقوبة إذا حصل البلاغ بعد تمام الجريمة وقبل البدء في التحقيق ، ويجوز لها ذلك إذا مكن الجاني في التحقيق السلطات من القبض على مرتكبي الجريمة الآخرين أو على مرتكبي جريمة أخرى مماثلة لها في النوع والخطورة" .
المادة 84 والمادة 84 (أ) والمادة الأولى تقابل المادة 84 فقرة أولى من القانون القائم التي يتناول حكمها بالعقاب كل من علم بارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها فيها ولم يبلغه إلى السلطات المختصة . وقد رؤى في النص المقترح أن يبسط الحكم على جميع الجرائم التي تقع تحت طائلة هذا الباب حثا على إبلاغ أولى الأمر بأية جريمة من هذه الجرائم بالنظر لأثرها الخاص على الدولة كما رؤى مضعفة العقوبة إذا وقعت العقوبة في زمن الحرب وأجيز للمحكمة أن تعفى من العقاب لصلة الزوجية أو الأبوة والبنوة إذا رأت من ظروف الدعوى محلا لذلك .
• حكمة الإعفاء من العقاب :
جرائم الاعتداء على أمن الدولة من جهة الخارج أو من جهة الداخل من أشد الجرائم خطرا على كيان الدولة وسلامتها وعلى الأخص ما يخل منها بالأمن الخارجي في وقت الحرب وقوعها يتمخض عنه أذى وضرر بليغ يتسع مداه حتى يتناول الشعب بأسره أو يكون من أثاره تمكين العدو من القضاء على كيان الدولة إذ تذرع ضدها بجرائم الخيانة والتجسس فالجرائم المخلة بأمن الدولة ليست جرائم فرد ولكنها في الواقع جريمة دولة على يد فرد أو مجموعة من الأفراد ضد دولة أخرى لذلك اتجهت سياسة الشارع في كثير من القوانين الحديثة إلى إعفاء الجاني من العقوبة إذا سارع إلى التبليغ عن الجريمة فحال بذلك دون ارتكابها أو ساعد السلطات على ضبطها وضبط مرتكبيها من فاعلين وشركاء وأراد الشارع بذلك أن يفتح للمجرم الذي أبصر رشده بابا للتوبة فحفزه على الإفضاء بما فيه خير للجماعة وخدمة للعدالة ونجاة للمبلغ من المسئولية ولا ريب أن كشف الجريمة نتيجة لمعلومات تتلقاها السلطات في الوقت المناسب ، يؤدي إلى إنزال العقاب بباقي الجناة وتلك النتيجة هي أولى في الاعتبار من المصلحة التي ينشدها المجتمع من توقيع العقاب على المبلغ وهي خطة الشارع في عدد من الجرائم الكبرى الي يكون في نبأها إلى السلطات مصلحة محققة للدولة فضلا عن هذا فقد أزال الشارع بهذه المنحة ما ينتصب بين هذه الجرائم وبين أدلتها من الحجب والحوائل فعمل على تيسير السبيل لإثباتها مراعيا الاعتبارات السامية التي أشرنا إليها ولأن الجريمة قد تظل مجهولة لولا التبليغ الذي يدل على نزعة طيبة في نفس المبلغ ولذلك وجب وضعه في منزلة أخرى غير منزلة زملائه المصريين على المضي في الإجرام . (المستشار محمود إسماعيل – مرجع سابق)
• الإعفاء من العقوبة وجوبا :
تنص الفقرة الأولى من المادة 84 (أ) على أنه " يعفى من العقوبة المقررة للجرائم المشار إلها في هذا الباب كل من بادر من الجناة بإبلاغ السلطات الإدارية أو القضائية وقبل البدء في التحقيق
والإعفاء المنصوص عليه في هذه الفقرة هو إعفاء وجوبي لأن الخطاب فيه موجه من الشارع إلى سلطة الحكم بأن تعفى كل من يبلغ عن جريمة من الجرائم بأمن الدولة من جهة الخارج المنصوص عليها في الباب الأول من الكتاب الثاني.
وليس المقصود هو التبليغ من الأشخاص الذين لا دخل لهم في الجريمة فهؤلاء لهم حق التبليغ بمقتضى المادة 25 من قانون الإجراءات الجنائية وتناولته المادة (84ع) ولا من الموظفين المكلفين بخدمة عامة الذين عليهم أن يبلغوا عما علموه من جرائم والمشار إليهم في المادة 26 من القانون المذكور وإنما المقصود هم الأشخاص الذين أسهموا في جريمة من جرائم الأمن الخارجي أو كانوا معتزمين مقارفتها .
ويشترط النص أن يحصل الإبلاغ قبل البدء في تنفيذ الجريمة وقبل البدء في التحقيق ومعنى ذلك ألا تكون الجريمة وقعت تامة أو شروعا .
ولا يعني النص كذلك الأشخاص الذين أوجب القانون عليهم التبليغ إلى السلطات طبقا للمادة (84ع) لأن هذا التبليغ لا يكون إلا بعد وقوع الجريمة .
وكذلك يصح الإعفاء من العقاب طبقا للفقرة الأولى من المادة 84 أ في حالة الاشتراك الجنائي المبلغ في جريمة اتفاق جنائي لأنه عندئذ يكون مستحقا للعقوبة عن جريمة الاتفاق التي تسبق تنفيذ الجريمة كما يشترط النص ويتصور إعفاؤه منه إذا قام بالتبليغ عن هذا الاتفاق ويجب أن تكون الجريمة المبلغ عنها من الجرائم المضرة بأمن الدولة الخارجي وأن يحصل التبليغ عنها لإحدى السلطتين الإدارية والقضائية وكذلك إذا حصل التبليغ للسلطة العسكرية وقد تقدمت إشارة إلى ذلك عند الكلام في المادة 84 ، وأن يتم ذلك التبليغ قبل ارتكاب الجريمة تامة أو الشروع فيها وأن يكون المبلغ هو المبادر بالتبليغ فهذه شروط أربعة لا بد من توافرها لوجوب الإعفاء .
وقد استلزم الشارع أن تكون الجريمة لم ترتكب تامة ولم يشرع في ارتكابها ، فإذا نفذت الجريمة فلا يعفى المبلغ وجوبا وإنما يجوز إعفاؤه من المحكمة إذا توافرت شروط الفقرة الثانية من المادة 84 أ .
واستلزم الشارع أيضا أن يكون المبلغ قد بادر بالإبلاغ أي أن يكون أول من أخبر السلطات عن الجريمة قبل غيره والسبب في ذلك أنه لا فائدة من التبليغ المتأخر عن تبليغ سابق ولا سيما وأن الشارع منح الإعفاء مقابل وقوف السلطات على الجريمة ومن يرتكبونها ومتى تم ذلك على يد هؤلاء المرتكبين الذي عجل إلى إبلاغ السلطات قبل غيره فإن تكرار التبليغ من غيره يكون عديم الفائدة لتحقق الحكمة التي توخاها الشارع على أثر التبليغ الأول ، وصاحبه وحده هو الجدير بمنحة الإعفاء التي خصه الشارع بها ولكن إذا حضر شخصان يبلغان عن نفس الجريمة في وقت واحد فإنهما يستحقان الإعفاء بدرجة واحدة . ويجب أن يكون التبليغ الذي يسوغ الإعفاء شاملا لبيان الجريمة ومرتكبيها ، ولا معنى لأن يقتصر على مجرد القول بحصول الجريمة دون الإفصاح عن العناصر اللازمة لوقوف السلطات على المعلومات التي تمكنها من أن تحول دون وقوعها ، فالتبليغ المبهم أو الغامض لا يقتضي الإعفاء .
وتقدير العذر الموجب للإعفاء من العقوبة يدخل في اختصاص السلطة التي تقوم بالتحقيق ، وليس من الصعب استظهار هذا العذر وتوافر الشروط التي تنص عليها المادة 84 أ ، ولسلطة الاتهام عند تحقيق هذه الشروط أن تحفظ الدعوى قطعيا لامتناع العقاب . والإعفاء عذر يمنع من العقاب كليه وليس سببا من أسباب الإباحة أو امتناع المسئولية ، وينبني على هذا العذر استحالة الحكم في الواقعة فيكون العبث رفع الدعوى عنها ، على الرأي الراجح الذي تؤثره ومن رأي بعض الشراح أن يترك تقدير هذا العذر لسلطة الحكم لأن ثبوته يتصل اتصالا مباشرا بأركان الجريمة وهذا بخلاف الأعذار المخففة فالنظر فيها يتجاوز اختصاص من سلطة التحقيق لأنها لا تحول دون المحاكمة ، وإنما تخفف العقوبة فقط ، وفي فرنسا تستقل المحاكم بتقدير هذا العذر سواء كان الإعفاء وجوبيا أو جوازيا ، والسبب في ذلك أن المادة 108 من قانون العقوبات الفرنسي أجازت مع الإعفاء الحكم بمنع المتهم من الإقامة مدة معينة ، فكان لا بد من عرض الدعوى على المحكمة لتطبيق القانون (المستشار محمود إبراهيم إسماعيل – مرجع سابق)
• الحالات التي يجوز فيها الإعفاء من العقوبة :
• الحالة الأولى : الإعفاء قبل البدء في التحقيق
تنص الفقرة الثانية من المادة 84 أ على أنه " ويجوز للمحكمة الإعفاء من العقوبة إذا حصل البلاغ بعد تمام الجريمة وقبل البدء في التحقيق وهذه الحالة هي الأولى التي يجوز فيها إعفاء الجاني من العقوبة ويترك تقدير مسوغات الإعفاء للمحكمة فلا تستقل بتقديرها سلطة الاتهام على ما بيناه فيما سبق ، وهذا التقدير قد يختلف الرأي فيه ولذلك ناط الشارع الفصل فيه لسلطة الحكم دون سلطة الاتهام والمذكرة الإيضاحية للقانون رقم 40 لسنة 1940 أشارت إلى ذلك حيث ذكرت (وفي الحالتين الأخريين المنصوص عليهما في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة 84 مكرره ويكون الإعفاء من العقوبة متروكا لتقدير القاضي الذي يقدر قيمة الفائدة الحقيقية التي ترتبت على التبليغ ولا سيما فيما يتعلق بسير التحقيق والقبض على الجناة .
والسبب في أن الشارع أوجب في الفقرة الأولى إعفاء الجاني ، وأجاز ذلك في الفقرة الثانية أن الإعفاء الوجوبي هو حق للجاني الذي كان سببا في منح الجريمة قبل وقوعها لتبليغه عنها ، أما من تراخى عن التبليغ إلى أن وقعت الجريمة ، فغالب الأمر أنه يستشعر الخشية من المسئولية فيندفع تحت تأثير ذلك إلى التبليغ ليتخلص من تبعة الجريمة ، وهو في ذلك المسلك أدنى إلى رعاية مصلحته منه إلى رعاية المصلحة العامة ولذلك لم يجعل الشارع إعفاءه واجبا وإنما جعله رخصة ترك القاضي بها أن يعفيه أو لا يعفيه .
وعبارة قبل بدء التحقيق : أريد بها أن يكون التحقيق لم يشرع فيه أي لم يأخذ المحقق في مباشرته ، فيبدأ التحقيق في أحوال التلبس بكل إجراء يقوم به مأمور الضبطية القضائية وفي غي هذه الأحوال يعتبر التحقيق قد بدأ متى باشر أحد ممثلي السلطة القضائية إجراء من إجراءاته وفي كافة الأحوال يكون التحقيق عملا تتحرك به الدعوى العمومية حتى ينتهي التحقيق برفعها أو بالتقرير بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية وقد كان أصل المادة في المشروع بنص عبارة " قبل السير في الدعوى " وعند مناقشتها في مجلس النواب استبدلت بها عبرة "قبل البدء في التحقيق" وقيل في ذلك التعديل أن الدعوى الجنائية تعني أن التحقيق قد انتهى حيث تبدأ بانتهائه إجراءات الدعوى ونحن لا نرى فرقا بين التعبيرين ولا موجبا لهذا التعديل لأن لفظ إجراءات الدعوى يقصد بها اتجاه البحث إلى كشف الجريمة والقيام بإجراءات التحقيق التي تستهدف استكمال عناصر الدعوى العمومية لتكون صالحة للحكم .
ويجب أن يكون التبليغ في هذه الحالة كسابقها مستكملا عناصره من جهة بيان نوع الجريمة وزمان ومكان ارتكابها وأسماء مرتكبيها ليكون ثمرة الثمرة المرجوة منه . ولا يلزم لجواز الإعفاء أن يكون قد حصل التبليغ عن كل الفاعلين والشركاء ، وإنما قد يقتصر على البعض منهم ، متى كان هذا البعض هو كل من يعرفهم الجاني ، وأن أمر الباقين قد خفي عليه .
• الحالة الثانية : الإعفاء بعد البدء في التحقيق
تنص الفقرة الثالثة من المادة 84 أ على ما يأتي " ويجوز لها ذلك إذا أمكن الجاني من التحقيق السلطات من القبض على مرتكبي الجريمة الآخرين أو على مرتكبي أخرى مماثلة لها في النوع والخطورة " .
وبهذا النص جاز إعفاء الجاني من العقاب متى كان تبليغه هو السبب الذي أدى إلى ضبط الجناة وشركائهم ولذلك وجب أن يتضمن هذا التبليغ أسماء كل من يعرفهم المبلغ من الفاعلين والشركاء فإذا تستر على البعض منهم أو حرف في الوقائع المنسوبة إليه فإنه لا يجوز إعفاؤه ، لأن المبلغ عندئذ يكون مغرضا في تبليغه مضللا بما أبداه من معلومات . وكذلك لا يجوز الإعفاء إلا إذا كان التبليغ هو السبب في القبض على الجناة فإذا عرف الجاني من قبل التبليغ فإن الشرط الذي جعله الشارع مسوغا للإعفاء لا يتوافر ولمحكمة الموضوع الفصل النهائي فيما إذا كانت البيانات التي أدلى بها المبلغ كافية لتسهيل القبض على الجناة وأن التبليغ عن الجناة هو الذي مكن فعلا من القبض عليهم . ويكفي أن يكون التبليغ عن الجناة مؤديا للقبض عليهم باعتبارهم متهمين ارتكبوا جناية أو أكثر من الجنايات المضرة بأمن الدولة من جهة الخارج ، ولا نرى أنه يشترط للإعفاء أن يؤدي الإبلاغ ضدهم إلى محكمتهم والحكم عليهم لأن الشارع لم يعبر في النص إلا عن التبليغ عن " مرتكبي الجريمة الآخرين " ولأن الدليل عند تمحيصه أمام المحكمة وعند المحاكمة قد يختلف تقديره في نظرها عنه في نظر السلطات أو الأفراد المبلغين .
وقد تناول النص أن يكون التبليغ عن الجناة الفاعلين أو الشركاء في نفس الجريمة التي كان المبلغ ضالعا فيها أو في جرائم أخرى مماثلة في النوع والخطورة وقد قصد الشارع بذلك أن يجعل من الإعفاء حافزا للجاني على التبليغ عن كل جريمة من الجرائم المخلة بأمن الدولة علم بارتكابها حتى ولو كان لم يسهم فيها بفعل أصلي أو اشتراك فيعفى المبلغ من عقاب الجريمة التي ارتكبها إذا أرشد عن مرتكبي جريمة أخرى مماثلة لها ، وقد هدف الشارع من هذا التوسع إلى تشجيع التبليغ عن الجرائم المخلة بأمن الدولة تيسيرا لضبطها والقبض على من ارتكبوها ولأن هذه الجرائم من طائفة واحدة وهدفها الإضرار بأمن الدولة فإذا كان الإبلاغ عن جريمة أخطر من الجريمة المرتكبة فإن الإعفاء يكون واجبا من باب أولى .
والجريمة المماثلة في النوع هي التي تكافئ الأخرى في درجتها كجناية وجناية أو جنحة وجنحة وهذه مسألة قانونية يرجع فيها إلى النصوص ، أما التماثل في الخطورة فمعناه أن يكون الضرر الناشئ عن إحدى الجريمتين موازيا للضرر الناشئ من الجريمة الأخرى أو معادلا له كجريمة تسليم العدو أسلحة وذخائر ومهمات حربية لتسهيل تقدمه وجريمة تسليم العدو سرا من أسرار الدفاع عن البلاد (المادتين 79 ، 80ع) فالخطورة التي لكل من الجريمتين إن لك تكن متكافئة فهي متعادلة فكل منها جناية وكل منها خيانة ولمحكمة الموضوع تقدير الواقع في كل من الجريمتين والضرر الناشئ عنهما ، حلا كان أو محتملا للوصول بهذا التقدير إلى معرفة مبلغ ما بينهما من تماثل في الخطورة .
وليس بلازم للتماثل في الخطورة أن تتحد عقوبة كل من الجريمتين مع عقوبة الجريمة الأخرى من حيث نوعها أو مقدارها وأنه كان من الأصل أن تفرض العقوبة على أساس الضر الناشئ من الجريمة إلا أن الشارع لم يتطلب أكثر من تماثل نوع الجريمتين ، وتماثل خطورتهما على الأمن الخارجي للدولة .
ويجب اجتماع الشرطين معا ، فإذا كانت كل من الجريمتين جناية ولكن بينهما تفاوت ملحوظ في درجة الخطورة فلا يجوز إعفاء الجاني من العقاب لأن التبليغ ليس مطلقا ، بل أن الشارع قيه بهذين الشرطين ، ولو كان التبليغ مطلقا لأمكن أن يترتب عليه الإعفاء من عقوبة جريمة كبرى لمجرد التبليغ عن جريمة صغرى ، وهو نسامح لم بقصد إليه الشارع ولا تتحقق به علة الإعفاء . (راجع في تفصيل ما تقدم المستشار محمود إبراهيم إسماعيل ، مرجع سابق)
تنص المادة (84 " أ ") من قانون العقوبات على أنه "يعفى من العقوبة المقررة للجرائم المشار إليها في هذا الباب كل من بادر من الجناة بإبلاغ السلطات الإدارية أو القضائية قبل البدء في تنفيذ الجريمة وقبل البدء في التحقيق ، ويجوز للمحكمة الإعفاء من العقوبة إذا حصل البلاغ بعد تمام الجريمة وقبل البدء في التحقيق ، ويجوز لها ذلك إذا مكن الجاني في التحقيق السلطات من القبض على مرتكبي الجريمة الآخرين أو على مرتكبي جريمة أخرى مماثلة لها في النوع والخطورة" .
المادة 84 والمادة 84 (أ) والمادة الأولى تقابل المادة 84 فقرة أولى من القانون القائم التي يتناول حكمها بالعقاب كل من علم بارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها فيها ولم يبلغه إلى السلطات المختصة . وقد رؤى في النص المقترح أن يبسط الحكم على جميع الجرائم التي تقع تحت طائلة هذا الباب حثا على إبلاغ أولى الأمر بأية جريمة من هذه الجرائم بالنظر لأثرها الخاص على الدولة كما رؤى مضعفة العقوبة إذا وقعت العقوبة في زمن الحرب وأجيز للمحكمة أن تعفى من العقاب لصلة الزوجية أو الأبوة والبنوة إذا رأت من ظروف الدعوى محلا لذلك .
• حكمة الإعفاء من العقاب :
جرائم الاعتداء على أمن الدولة من جهة الخارج أو من جهة الداخل من أشد الجرائم خطرا على كيان الدولة وسلامتها وعلى الأخص ما يخل منها بالأمن الخارجي في وقت الحرب وقوعها يتمخض عنه أذى وضرر بليغ يتسع مداه حتى يتناول الشعب بأسره أو يكون من أثاره تمكين العدو من القضاء على كيان الدولة إذ تذرع ضدها بجرائم الخيانة والتجسس فالجرائم المخلة بأمن الدولة ليست جرائم فرد ولكنها في الواقع جريمة دولة على يد فرد أو مجموعة من الأفراد ضد دولة أخرى لذلك اتجهت سياسة الشارع في كثير من القوانين الحديثة إلى إعفاء الجاني من العقوبة إذا سارع إلى التبليغ عن الجريمة فحال بذلك دون ارتكابها أو ساعد السلطات على ضبطها وضبط مرتكبيها من فاعلين وشركاء وأراد الشارع بذلك أن يفتح للمجرم الذي أبصر رشده بابا للتوبة فحفزه على الإفضاء بما فيه خير للجماعة وخدمة للعدالة ونجاة للمبلغ من المسئولية ولا ريب أن كشف الجريمة نتيجة لمعلومات تتلقاها السلطات في الوقت المناسب ، يؤدي إلى إنزال العقاب بباقي الجناة وتلك النتيجة هي أولى في الاعتبار من المصلحة التي ينشدها المجتمع من توقيع العقاب على المبلغ وهي خطة الشارع في عدد من الجرائم الكبرى الي يكون في نبأها إلى السلطات مصلحة محققة للدولة فضلا عن هذا فقد أزال الشارع بهذه المنحة ما ينتصب بين هذه الجرائم وبين أدلتها من الحجب والحوائل فعمل على تيسير السبيل لإثباتها مراعيا الاعتبارات السامية التي أشرنا إليها ولأن الجريمة قد تظل مجهولة لولا التبليغ الذي يدل على نزعة طيبة في نفس المبلغ ولذلك وجب وضعه في منزلة أخرى غير منزلة زملائه المصريين على المضي في الإجرام . (المستشار محمود إسماعيل – مرجع سابق)
• الإعفاء من العقوبة وجوبا :
تنص الفقرة الأولى من المادة 84 (أ) على أنه " يعفى من العقوبة المقررة للجرائم المشار إلها في هذا الباب كل من بادر من الجناة بإبلاغ السلطات الإدارية أو القضائية وقبل البدء في التحقيق
والإعفاء المنصوص عليه في هذه الفقرة هو إعفاء وجوبي لأن الخطاب فيه موجه من الشارع إلى سلطة الحكم بأن تعفى كل من يبلغ عن جريمة من الجرائم بأمن الدولة من جهة الخارج المنصوص عليها في الباب الأول من الكتاب الثاني.
وليس المقصود هو التبليغ من الأشخاص الذين لا دخل لهم في الجريمة فهؤلاء لهم حق التبليغ بمقتضى المادة 25 من قانون الإجراءات الجنائية وتناولته المادة (84ع) ولا من الموظفين المكلفين بخدمة عامة الذين عليهم أن يبلغوا عما علموه من جرائم والمشار إليهم في المادة 26 من القانون المذكور وإنما المقصود هم الأشخاص الذين أسهموا في جريمة من جرائم الأمن الخارجي أو كانوا معتزمين مقارفتها .
ويشترط النص أن يحصل الإبلاغ قبل البدء في تنفيذ الجريمة وقبل البدء في التحقيق ومعنى ذلك ألا تكون الجريمة وقعت تامة أو شروعا .
ولا يعني النص كذلك الأشخاص الذين أوجب القانون عليهم التبليغ إلى السلطات طبقا للمادة (84ع) لأن هذا التبليغ لا يكون إلا بعد وقوع الجريمة .
وكذلك يصح الإعفاء من العقاب طبقا للفقرة الأولى من المادة 84 أ في حالة الاشتراك الجنائي المبلغ في جريمة اتفاق جنائي لأنه عندئذ يكون مستحقا للعقوبة عن جريمة الاتفاق التي تسبق تنفيذ الجريمة كما يشترط النص ويتصور إعفاؤه منه إذا قام بالتبليغ عن هذا الاتفاق ويجب أن تكون الجريمة المبلغ عنها من الجرائم المضرة بأمن الدولة الخارجي وأن يحصل التبليغ عنها لإحدى السلطتين الإدارية والقضائية وكذلك إذا حصل التبليغ للسلطة العسكرية وقد تقدمت إشارة إلى ذلك عند الكلام في المادة 84 ، وأن يتم ذلك التبليغ قبل ارتكاب الجريمة تامة أو الشروع فيها وأن يكون المبلغ هو المبادر بالتبليغ فهذه شروط أربعة لا بد من توافرها لوجوب الإعفاء .
وقد استلزم الشارع أن تكون الجريمة لم ترتكب تامة ولم يشرع في ارتكابها ، فإذا نفذت الجريمة فلا يعفى المبلغ وجوبا وإنما يجوز إعفاؤه من المحكمة إذا توافرت شروط الفقرة الثانية من المادة 84 أ .
واستلزم الشارع أيضا أن يكون المبلغ قد بادر بالإبلاغ أي أن يكون أول من أخبر السلطات عن الجريمة قبل غيره والسبب في ذلك أنه لا فائدة من التبليغ المتأخر عن تبليغ سابق ولا سيما وأن الشارع منح الإعفاء مقابل وقوف السلطات على الجريمة ومن يرتكبونها ومتى تم ذلك على يد هؤلاء المرتكبين الذي عجل إلى إبلاغ السلطات قبل غيره فإن تكرار التبليغ من غيره يكون عديم الفائدة لتحقق الحكمة التي توخاها الشارع على أثر التبليغ الأول ، وصاحبه وحده هو الجدير بمنحة الإعفاء التي خصه الشارع بها ولكن إذا حضر شخصان يبلغان عن نفس الجريمة في وقت واحد فإنهما يستحقان الإعفاء بدرجة واحدة . ويجب أن يكون التبليغ الذي يسوغ الإعفاء شاملا لبيان الجريمة ومرتكبيها ، ولا معنى لأن يقتصر على مجرد القول بحصول الجريمة دون الإفصاح عن العناصر اللازمة لوقوف السلطات على المعلومات التي تمكنها من أن تحول دون وقوعها ، فالتبليغ المبهم أو الغامض لا يقتضي الإعفاء .
وتقدير العذر الموجب للإعفاء من العقوبة يدخل في اختصاص السلطة التي تقوم بالتحقيق ، وليس من الصعب استظهار هذا العذر وتوافر الشروط التي تنص عليها المادة 84 أ ، ولسلطة الاتهام عند تحقيق هذه الشروط أن تحفظ الدعوى قطعيا لامتناع العقاب . والإعفاء عذر يمنع من العقاب كليه وليس سببا من أسباب الإباحة أو امتناع المسئولية ، وينبني على هذا العذر استحالة الحكم في الواقعة فيكون العبث رفع الدعوى عنها ، على الرأي الراجح الذي تؤثره ومن رأي بعض الشراح أن يترك تقدير هذا العذر لسلطة الحكم لأن ثبوته يتصل اتصالا مباشرا بأركان الجريمة وهذا بخلاف الأعذار المخففة فالنظر فيها يتجاوز اختصاص من سلطة التحقيق لأنها لا تحول دون المحاكمة ، وإنما تخفف العقوبة فقط ، وفي فرنسا تستقل المحاكم بتقدير هذا العذر سواء كان الإعفاء وجوبيا أو جوازيا ، والسبب في ذلك أن المادة 108 من قانون العقوبات الفرنسي أجازت مع الإعفاء الحكم بمنع المتهم من الإقامة مدة معينة ، فكان لا بد من عرض الدعوى على المحكمة لتطبيق القانون (المستشار محمود إبراهيم إسماعيل – مرجع سابق)
• الحالات التي يجوز فيها الإعفاء من العقوبة :
• الحالة الأولى : الإعفاء قبل البدء في التحقيق
تنص الفقرة الثانية من المادة 84 أ على أنه " ويجوز للمحكمة الإعفاء من العقوبة إذا حصل البلاغ بعد تمام الجريمة وقبل البدء في التحقيق وهذه الحالة هي الأولى التي يجوز فيها إعفاء الجاني من العقوبة ويترك تقدير مسوغات الإعفاء للمحكمة فلا تستقل بتقديرها سلطة الاتهام على ما بيناه فيما سبق ، وهذا التقدير قد يختلف الرأي فيه ولذلك ناط الشارع الفصل فيه لسلطة الحكم دون سلطة الاتهام والمذكرة الإيضاحية للقانون رقم 40 لسنة 1940 أشارت إلى ذلك حيث ذكرت (وفي الحالتين الأخريين المنصوص عليهما في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة 84 مكرره ويكون الإعفاء من العقوبة متروكا لتقدير القاضي الذي يقدر قيمة الفائدة الحقيقية التي ترتبت على التبليغ ولا سيما فيما يتعلق بسير التحقيق والقبض على الجناة .
والسبب في أن الشارع أوجب في الفقرة الأولى إعفاء الجاني ، وأجاز ذلك في الفقرة الثانية أن الإعفاء الوجوبي هو حق للجاني الذي كان سببا في منح الجريمة قبل وقوعها لتبليغه عنها ، أما من تراخى عن التبليغ إلى أن وقعت الجريمة ، فغالب الأمر أنه يستشعر الخشية من المسئولية فيندفع تحت تأثير ذلك إلى التبليغ ليتخلص من تبعة الجريمة ، وهو في ذلك المسلك أدنى إلى رعاية مصلحته منه إلى رعاية المصلحة العامة ولذلك لم يجعل الشارع إعفاءه واجبا وإنما جعله رخصة ترك القاضي بها أن يعفيه أو لا يعفيه .
وعبارة قبل بدء التحقيق : أريد بها أن يكون التحقيق لم يشرع فيه أي لم يأخذ المحقق في مباشرته ، فيبدأ التحقيق في أحوال التلبس بكل إجراء يقوم به مأمور الضبطية القضائية وفي غي هذه الأحوال يعتبر التحقيق قد بدأ متى باشر أحد ممثلي السلطة القضائية إجراء من إجراءاته وفي كافة الأحوال يكون التحقيق عملا تتحرك به الدعوى العمومية حتى ينتهي التحقيق برفعها أو بالتقرير بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية وقد كان أصل المادة في المشروع بنص عبارة " قبل السير في الدعوى " وعند مناقشتها في مجلس النواب استبدلت بها عبرة "قبل البدء في التحقيق" وقيل في ذلك التعديل أن الدعوى الجنائية تعني أن التحقيق قد انتهى حيث تبدأ بانتهائه إجراءات الدعوى ونحن لا نرى فرقا بين التعبيرين ولا موجبا لهذا التعديل لأن لفظ إجراءات الدعوى يقصد بها اتجاه البحث إلى كشف الجريمة والقيام بإجراءات التحقيق التي تستهدف استكمال عناصر الدعوى العمومية لتكون صالحة للحكم .
ويجب أن يكون التبليغ في هذه الحالة كسابقها مستكملا عناصره من جهة بيان نوع الجريمة وزمان ومكان ارتكابها وأسماء مرتكبيها ليكون ثمرة الثمرة المرجوة منه . ولا يلزم لجواز الإعفاء أن يكون قد حصل التبليغ عن كل الفاعلين والشركاء ، وإنما قد يقتصر على البعض منهم ، متى كان هذا البعض هو كل من يعرفهم الجاني ، وأن أمر الباقين قد خفي عليه .
• الحالة الثانية : الإعفاء بعد البدء في التحقيق
تنص الفقرة الثالثة من المادة 84 أ على ما يأتي " ويجوز لها ذلك إذا أمكن الجاني من التحقيق السلطات من القبض على مرتكبي الجريمة الآخرين أو على مرتكبي أخرى مماثلة لها في النوع والخطورة " .
وبهذا النص جاز إعفاء الجاني من العقاب متى كان تبليغه هو السبب الذي أدى إلى ضبط الجناة وشركائهم ولذلك وجب أن يتضمن هذا التبليغ أسماء كل من يعرفهم المبلغ من الفاعلين والشركاء فإذا تستر على البعض منهم أو حرف في الوقائع المنسوبة إليه فإنه لا يجوز إعفاؤه ، لأن المبلغ عندئذ يكون مغرضا في تبليغه مضللا بما أبداه من معلومات . وكذلك لا يجوز الإعفاء إلا إذا كان التبليغ هو السبب في القبض على الجناة فإذا عرف الجاني من قبل التبليغ فإن الشرط الذي جعله الشارع مسوغا للإعفاء لا يتوافر ولمحكمة الموضوع الفصل النهائي فيما إذا كانت البيانات التي أدلى بها المبلغ كافية لتسهيل القبض على الجناة وأن التبليغ عن الجناة هو الذي مكن فعلا من القبض عليهم . ويكفي أن يكون التبليغ عن الجناة مؤديا للقبض عليهم باعتبارهم متهمين ارتكبوا جناية أو أكثر من الجنايات المضرة بأمن الدولة من جهة الخارج ، ولا نرى أنه يشترط للإعفاء أن يؤدي الإبلاغ ضدهم إلى محكمتهم والحكم عليهم لأن الشارع لم يعبر في النص إلا عن التبليغ عن " مرتكبي الجريمة الآخرين " ولأن الدليل عند تمحيصه أمام المحكمة وعند المحاكمة قد يختلف تقديره في نظرها عنه في نظر السلطات أو الأفراد المبلغين .
وقد تناول النص أن يكون التبليغ عن الجناة الفاعلين أو الشركاء في نفس الجريمة التي كان المبلغ ضالعا فيها أو في جرائم أخرى مماثلة في النوع والخطورة وقد قصد الشارع بذلك أن يجعل من الإعفاء حافزا للجاني على التبليغ عن كل جريمة من الجرائم المخلة بأمن الدولة علم بارتكابها حتى ولو كان لم يسهم فيها بفعل أصلي أو اشتراك فيعفى المبلغ من عقاب الجريمة التي ارتكبها إذا أرشد عن مرتكبي جريمة أخرى مماثلة لها ، وقد هدف الشارع من هذا التوسع إلى تشجيع التبليغ عن الجرائم المخلة بأمن الدولة تيسيرا لضبطها والقبض على من ارتكبوها ولأن هذه الجرائم من طائفة واحدة وهدفها الإضرار بأمن الدولة فإذا كان الإبلاغ عن جريمة أخطر من الجريمة المرتكبة فإن الإعفاء يكون واجبا من باب أولى .
والجريمة المماثلة في النوع هي التي تكافئ الأخرى في درجتها كجناية وجناية أو جنحة وجنحة وهذه مسألة قانونية يرجع فيها إلى النصوص ، أما التماثل في الخطورة فمعناه أن يكون الضرر الناشئ عن إحدى الجريمتين موازيا للضرر الناشئ من الجريمة الأخرى أو معادلا له كجريمة تسليم العدو أسلحة وذخائر ومهمات حربية لتسهيل تقدمه وجريمة تسليم العدو سرا من أسرار الدفاع عن البلاد (المادتين 79 ، 80ع) فالخطورة التي لكل من الجريمتين إن لك تكن متكافئة فهي متعادلة فكل منها جناية وكل منها خيانة ولمحكمة الموضوع تقدير الواقع في كل من الجريمتين والضرر الناشئ عنهما ، حلا كان أو محتملا للوصول بهذا التقدير إلى معرفة مبلغ ما بينهما من تماثل في الخطورة .
وليس بلازم للتماثل في الخطورة أن تتحد عقوبة كل من الجريمتين مع عقوبة الجريمة الأخرى من حيث نوعها أو مقدارها وأنه كان من الأصل أن تفرض العقوبة على أساس الضر الناشئ من الجريمة إلا أن الشارع لم يتطلب أكثر من تماثل نوع الجريمتين ، وتماثل خطورتهما على الأمن الخارجي للدولة .
ويجب اجتماع الشرطين معا ، فإذا كانت كل من الجريمتين جناية ولكن بينهما تفاوت ملحوظ في درجة الخطورة فلا يجوز إعفاء الجاني من العقاب لأن التبليغ ليس مطلقا ، بل أن الشارع قيه بهذين الشرطين ، ولو كان التبليغ مطلقا لأمكن أن يترتب عليه الإعفاء من عقوبة جريمة كبرى لمجرد التبليغ عن جريمة صغرى ، وهو نسامح لم بقصد إليه الشارع ولا تتحقق به علة الإعفاء . (راجع في تفصيل ما تقدم المستشار محمود إبراهيم إسماعيل ، مرجع سابق)