المشاكل العمليه التى تعيق تطبيق القانون الدولى
، وإذا كانت تلك المشاكل من الممكن أن تعيق عملية التطبيق استنادا إلى اتجاهات نظرية فان هذه الإعاقة لا تقتصر على ذلك بل إن هناك مشاكل أخرى ذات طبيعة عملية من الممكن أن تعيق هي أيضا عملية التطبيق ، وان هذه المشاكل تكون ملموسة بشكل مباشر خلال تتبع مسيرة تطبيق قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان ابتداءا ببدء وجود هذه القواعد ومروراً باتخاذ ما يلزم لتطبيقها وانتهاءً بكيفية التطبيق الفعلي لها.
ويمكن حصر أهم المشاكل العملية التي يمكن أن تعيق تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان داخليا بما يأتي :
أولاً - مشكلة التحفظ :
علمنا مما تقدم إن تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان يحتاج بالضرورة إلى الاقتران والتفاعل مع القانون الداخلي لأسباب تناولناها فيما تقدم ، ولما كان هذا التفاعل قد وجد كي يطبق ويستفيد منه الإنسان بصرف النظر عن أية وجه من أوجه التميز بين البشر سواء على أساس العرق أو الدين أو الموطن ... الخ ، من أوجه التميز ، ولما كانت قواعد هذا القانون تتصف بالعالمية ، فان هذا يعني إنه موجه كي يطبق على جميع الدول وبالتالي فان هذا يعني تطبيقه في القوانين الداخلية لجميع الدول كي يستفيد منه جميع البشر تحقيقا للعالمية التي تتصف بها.
ولما كان ما تقدم يمثل الطبيعة الخاصة لقواعد هذا القانون ، ولما كانت الدولية تمثل الطبيعة العامة له ، فان النظم الخاصة بالقانون الدولي تسري على هذا القانون ومن بين هذه النظم النظام القانوني للتحفظ على المعاهدات والاتفاقيات الدولية والذي يتضمن تمكين الدول بموجبه من التخلص من بعض الآثار القانونية للمعاهدات . إذ يعرف بأنه ( عمل إرادي من جانب واحد تتخذه الدول بمناسبة الإقدام على الارتباط بإحدى المعاهدات مستهدفة من وراءه الحد من آثار المعاهدة المعنية في مواجهتها باستبعاد بعض أحكامها من نطاق ارتباطها أو إعطاء بعض هذه الأحكام تفسيرا خاصا يتجه نحو تطبيق مداها ) ( [48]) كما عرفته الفقرة ( ج ) من المادة ( 2 ) من اتفاقية فينا لقانون المعاهدة لعام 1969 بأنه ( تصريح من جانب واحد ، تتخذه الدولة عند التوقيع على المعاهدة أو التصديق عليها أو الانضمام إليها أو قبولها ، مستهدفة من وراءه استبعاد أو تعديل الأثر القانوني لبعض أحكام المعاهدة في مواجهتها )( [49]) وقد عرفته موسوعة الأمم المتحدة بالاستناد إلى قرار الجمعية العامة رقم ( 478 ) لعام 1950 ، ورأي محكمة العدل الدولية الاستشاري الصادر عام 1951 المتعلق بالتحفظات على اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الابادة الجماعية بأنه ( خطاب صادر بإرادة منفردة من الدول وبصورة مكتوبة عند التوقيع على اتفاق أو التصديق عليه بهدف التخلي عن الآثار القانونية الناجمة عن تطبيق أحكام محددة من المعاهدة أو تبديلها فيما يتعلق بالبلد الذي أودع هذه التحفظات)( [50]) .
وإذا كان التحفظ جائزاً وممكناً بالنسبة إلى القواعد الدولية بشكل عام ومن ضمنها قواعد حقوق الإنسان ، فان هذا الجواز تكون له تأثيرات اكبر بالنسبة إلى القواعد الأخيرة ، فهو يتناقض مع طبيعتها ومضمونها ، من صفة العالمية ووجوب السريان على الجميع فان جوازه يتناقض مع طبيعته وموضوعه من حيث التنظيم ، حيث إن الجزء الأعظم والاهم من هذه القواعد يتعلق بتنظيم العلاقات بين السلطة والأفراد. وبالتالي فان إجازة التحفظ تعني إعطاء الحق لأحد الأطراف وهو الطرف الأقوى المكلف أصلا بإعمال هذه الحقوق ألا وهي الدولة ، بالتهرب من إعمال هذه الحقوق ، وهنا قد يكون هناك احتمال كبير لتمادي حكومات الدول وتعسفها في استخدام سلاح التحفظ في سبيل التهرب من تنفيذ الالتزامات التي تقررها حقوق الإنسان . لذلك فان مسالة التحفظ تعد من الأمور الخطرة التي يمكن أن تعيق تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان . ولكن بالتدقيق في نظام التحفظ نجد انه لابد وان تكون هناك مزايا معينة في هذا النظام هي التي أفضت إلى إقراره على الرغم من النتائج التي يمكن أن يؤدي إليها فيما يخص مسالة تطبيق أحكام القانون الدولي بشكل عام . وتتجلى مزايا هذا النظام في انه من الممكن أن يكون خير سبيل لضمان استجابة اكبر عدد من الدول للدعوة الموجهة إليها للانضمام إلى المعاهدات المعنية ، حتى ولو كان ذلك في حدود معينة على حساب فكرة تكامل مضمون المعاهدة ، أي انه سبيل للتوفيق بين اتجاهين الأول يتعلق بحق الدولة بعدم التوقيع أو الانضمام إلى المعاهدة أو التصديق عليها استنادا إلى مبدأ السيادة والثاني قائم على أساس ضرورة ضمان تزايد عدد الدول التي يمكن أن تصبح أطرافا في المعاهدة ( [51]) وبالعودة إلى هذه الميزة نجد أن لها دوراً كبيراً فعلاً في إيجاد الاتفاقيات الدولية بشكل عام واتفاقيات حقوق الإنسان بشكل خاص. ولكن وعلى الرغم من إمكانية الاعتراف بايجابية التحفظ سابقة الذكر لكن ما نجده في الواقع العملي هو أن التحفظ من الممكن أن يؤدي إلى أن لا يكون للاتفاقيات الدولية سوى وجود شكلي بعيدا عن ارض الواقع والتطبيق العملي الفعلي وان نكون أمام معاهدات (مهلهلة) كما ذهب البعض إلى وصفها ( [52]) وإذا كان هذا الوصف يصح بالنسبة إلى المعاهدات الدولية بشكل عام فقد يكون أكثر دقة بالنسبة إلى الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والتي تذهب الكثير من الدول إلى استخدام أسلوب التحفظ بشان الكثير من أحكامها وذلك بالاستناد إلى أسانيد متنوعة. يأتي على رأسها ما تناولناه فيما تقدم حول المشاكل النظرية التي تعيق تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان والمتمثلة بمشكلتي العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي ومشكلة العالمية والخصوصية حيث تذهب الدول إلى تأسيس تحفظها على مثل هذه الأسباب وبالتالي تكون لها الإمكانية في عدم تطبيق العديد من أحكام هذه الاتفاقيات وبالتالي عدم التزامها أصلا باتخاذ الإجراءات التشريعية الداخلية كلا أو جزءا بغية تطبيق أحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان.
وإذا كان التحفظ من الممكن أن يكون له تأثير اكبر في اتفاقيات حقوق الإنسان من حيث كثرة استخدامه لإعاقة تطبيقها أو من حيث ان استخدامه يعني بالتأكيد إفراغ محتواها من ما وجد من اجله وبالتالي من الممكن أن تكون مجرد حبر على ورق أو أن تكون قابلة للتطبيق ولكن ليس وفقا لما ينبغي وعلى من ينبغي أن تطبق ، أي يمكن أن يستفيد منها البعض من البشر دون كل البشر.
وأمام هذا الوضع وهذا الأثر للتحفظ وخصوصيته بالنسبة إلى الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والتي تمثل الجزء الأهم من القانون الدولي لحقوق الإنسان ، نتساءل عن مضمون النظام القانوني للتحفظ وعن إمكانية وجود خصوصية لهذا النظام فيما يتعلق بالاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان؟
وبالرجوع إلى التحفظ بشكل عام نجد ان هناك نظاماً قانونياً دولياً للتحفظ ونستطيع ان نجد أحكامه متجسدة في عدة نصوص أوردتها اتفاقية فينا لقانون المعاهدات لعام 1969 ، حيث نصت المادة ( 19 ) منها على ، ( ان للدولة لدى توقيع معاهدة معينة أو التصديق عليها أو قبولها أو إقرارها أو الانضمام إليها ، ان تضع تحفظا معينا ما لم: أ- تحظر المعاهدة هذا التحفظ ب- تنص المعاهدة على انه لا يجوز ان توضع إلا تحفظات محددة ليس من بينها التحفظ موضوع البحث ج- يكون التحفظ في الحالات التي لا تنص عليها الفقرتان ( أ ) و ( ب ) منافياً لموضوع المعاهدة وهدفها ). يفيد النص العام أعلاه بان تنظيم التحفظ يرجع إلى ذات المعاهدة التي يجري التحفظ بصدد أحكامها.
وبهذا المعنى فانه من المفترض ان تعالج اتفاقيات حقوق الإنسان نفسها موضوع التحفظ وتخرج من ذلك بحلول خاصة للمشاكل التي يسببها التحفظ لها فيما يتعلق بإعاقة التطبيق. وبالرجوع إلى هذه الاتفاقيات نجد ان هذه الاتفاقيات لم تحظر بصورة عامة على الدول تفعيل نظام التحفظ على بعض أحكامها ، إلا القليل من هذه الاتفاقيات.
وبشكل عام يمكن تصنيف معالجة هذه الاتفاقيات لموضوع التحفظ إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول :
يضم الاتفاقيات التي حضرت التحفظات بشكل مطلق ومثال ذلك ما جاء في المادة (9) من الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق وتجارة الرقيق والأعراف والممارسات الشبيهة به. وكذلك نص المادة (9) أيضا من اتفاقية مكافحة التمييز في مجال التعليم والتي جاءت بحكم مماثل.
القسم الثاني :
يضم الاتفاقيات التي عالجت موضع التحفظات بمعالجة خاصة ويكون ذلك بالنسبة للاتفاقيات التي جاءت باليات خاصة لمعالجة موضوع التحفظ من خلال أحكام خاصة تتضمن مثلاً ، حظرا نسبيا للتحفظ على أحكام معينة أو آلية معينة لقبول التحفظ مثل اشتراط حصول موافقة أو نسبة من مجموع عدد الأطراف في الاتفاقية أو إيجاد آلية معينة للاعتراض على التحفظ من قبل بقية الدول الأطراف أو إيجاد آلية معينة لسحب التحفظات وغير ذلك من الأحكام الخاصة لكل اتفاقية ، ومن الأمثلة على هذه الاتفاقيات الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري ، حيث نصت المادة (20) منها على تولي الأمين العام للأمم المتحدة مهمة تلقي التحفظات ويقوم بتعميمها على بقية الدول الأطراف وتقوم كل دولة لها اعتراض على التحفظ بإبلاغ الأمين العام خلال مدة تسعين يوما من تاريخ التعميم . كما تضمنت حظرا على قبول التحفظات المنافية لموضوع الاتفاقية ومقصدها أو من شانه تعطيل عمل أية هيئة من الهيئات المنشاة بها ويعد التحفظ كذلك إذا اعترضت عليه ما لا يقل عن ثلثي الدول الأطراف في هذه الاتفاقية وكذلك كانت هناك أحكام خاصة في كل من الاتفاقية الدولية الخاصة بجنسية المراة المتزوجة وكذلك اتفاقية حقوق الطفل واتفاقية القضاء على التميز ضد المراة وكذلك البروتوكول الاختياري الثاني للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والخاص بإلغاء عقوبة الإعدام ، وغير ذلك من الاتفاقيات الدولية.
القسم الثالث :
ويضم هذا القسم الاتفاقيات التي لم تتطرق إلى موضوع التحفظ بشكل مطلق ، ويكون هنا الحكم بالرجوع إلى القواعد الدولية العامة بهذا الخصوص ، وتكون المرجعية هنا إلى ما ورد في المادة (19) من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات سابقة الذكر باعتبارها القاعدة العامة لتنظيم التحفظ عند عدم وجود قواعد خاصة في هذا المجال، ومن أهم الاتفاقيات الدولية التي تدخل ضمن هذه الزمرة أو هذا القسم، العهدين الدوليين الأول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والأخر الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وسواء أخذت اتفاقيات حقوق الإنسان بالنظام العام للتحفظ أو أنها جاءت بنظم خاصة لهذا الغرض فان موضوع التحفظ تبقى لعلاقته بتطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان أهمية كبيرة ، من حيث انه قد يعيق والى حدٍ كبير عملية إعمال حقوق الانسان وانه لابد من تطوير للمعالجة القانونية لهذه المشكلة وايجاد قواعد خاصة لهذا الغرض تاخذ بنظر الاعتبار مبررات وجود التحفظات من جهة وضرورات التقليل منها من جهة اخرى .
وفي اطار ضرورة وجود نظام خاص للتحفظ على الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان ، نطرح عدة تساؤلات تحتاج الى اجوبة لها خصوصية مؤسسة على خصوصية قواعد القانون الدولي لحقوق الانسان . ونبدأ بالسوال، هل ان عدم وجود حظر على التحفظ في اتفاقيات حقوق الانسان يعني جواز أي تحفظ وعلى أي حكم من احكام الاتفاقية ؟ وما هي حدود مثل هذه التحفظات ؟
لقد تناولنا فيما تقدم ان المادة ( 19 ) من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات قد جاءت بقواعد عامة لتنظيم كيفية استخدام الحق في التحفظ وشروط ذلك . ولتخصيص المسالة فيما يتعلق بالتحفظ على الاتفاقية الدولية لحقوق الانسان ، ونظرا إلى الأهمية البالغة لذلك بالنسبة لهذه الاتفاقيات فقد بذلت جهود دولية في هذا الاتجاه ، من قبل الهيئات الدولية لحقوق الانسان والتابعة للامم المتحدة وبعض المنظمات غير الحكومية ، فقد أصدرت اللجنة المعنية بحقوق الانسان والمكلفة برصد تطبيق العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ، تعليقات عامة تعد بمثابة التفسير لاحكام هذا العهد ومن اهم هذه التعليقات ذلك الذي صدر عام 1994 تحت الرقم (24) وضمن الدورة الثانية والخمسين للامم المتحدة ، وقد تناول هذا التعليق وبشيء كبير من الاهتمام موضوع التحفظات على الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان والتي يكون لها اثر سلبي على عملية إعمال حقوق الانسان ( [53]) وبصدد موضوع عدم حظر التحفظ ، جاء في الفقرة (6) من هذا التعليق ( ان عدم وجود حظر على إبداء التحفظات لا يعني اجازة قبول اي تحفظ ) حيث ان التحفظات يجب ان لا تكون متعارضة او مخالفة لموضوع او هدف الالتزام الدولي المتعلق بحقوق الانسان والوارد ضمن الاتفاقية .
اما فيما يتعلق باثر التحفظ او مدى سريانه على الاحكام الواردة في الاتفاقية وحدود ذلك ، فقد تضمن ذات التعليق اعلاه اشارة الى هذا الموضوع في الفقرة ( 8 ) منه ، وذلك عند الحديث عن التحفظات التي تخل بالقواعد الامرة ، حيث جاء في نص هذه الفقرة (ان التحفظات التي تخل بالقواعد الامرة لا تتفق مع موضوع العهد) . وفي هذا النص اشارة واضحة الى اعطاء خصوصية للقواعد الدولية لحقوق الانسان تمنحها تحصيناً اكبر ضد التحفظات التي من الممكن ان تعيق تطبيقها ، حيث انه من المعروف فيما يتعلق بقواعد القانون الدولي الاخرى انها يمكن ان تكون محلاً للتحفظ . وبهذا الحكم الخاص الذي تطرق اليه التعليق نجد انه لا يجوز لدولة ان تتحفظ على حكم من احكام معاهدة اذا كان هذا الحكم محلاً لقاعدة امرة اخرى في العرف الدولي مثلا ، حيث ان الواقع يفيدنا بان اغلب قواعد حقوق الانسان والواردة في الاتفاقيات الدولية كانت عبارة عن قواعد دولية عرفية وتطور الامر بها الى ان ادخلت ضمن قواعد مكتوبة ضمن اتفاقيات ، حيث انه من غير المنطقي ان تزيل عن تلك القواعد قابليتها للتطبيق باعتبارها قاعدة عرفية من خلال ايرادها ضمن اتفاقية مكتوبة واجازة التحفظ عليها بعد ذلك كي تتحول الى مجرد حبر على ورق ، حيث ان الغاية من تقنين مثل هذه القواعد العرفية هو إعطاؤها قابلية اكبر للتطبيق وليس ايجاد وسيلة قانونية لتبرير التهرب من تطبيقها.
وفيما يتعلق بنطاق التحفظ ايضا جاءت الفقرة (19) من ذات التعليق بتنظيم الية التحفظ على نحو معين يحد من نطاقه ، حيث تناولت هذه الفقرة ما يفيد بان تكون التحفظات محددة وشفافة ويكون ذلك من خلال الحرص على ان لا تكون التحفظات عامة بل يجب ان تتعلق بحكم معين من العهد وان يتم بيان نطاق التحفظ بعبارات محددة ، كما يجب على الدول ان تأخذ بنظر الاعتبار الأثر الكلي او لمجموع التحفظات او الأثر الفردي لكل تحفظ على موضوع العهد وهدفه ، حيث يجب ان ينصب التحفظ على عدد محدد من الاحكام وليس على الكل ، وقد اوجد التعليق في هذه الفقرة معياراً محدداً لمدى تحفظ الدولة ، وذلك باشتراط ان لا يكون تحفظ الدولة يفضي الى عدم الالتزام بما هو اعلى من الالتزامات الواردة في القانون الداخلي بشان حقوق الانسان . أي ان هذه الفقرة من التعليق تبين عدم جواز استغلال الدولة لحق التحفظ ليكون سبيل لها للتهرب من السعي الى الارتفاع بمستوى الحماية المقرر في القانون الداخلي فيما يتعلق بحقوق الانسان ، ويكون ذلك من خلال استخدام الية التحفظ لعدم التاثر باي التزام جديد مخالف للقانون الداخلي او الدستور ، وبذلك تستطيع الدولة ان تمتنع عن الارتفاع الايجابي بذلك المستوى .
واضافة الى ما تقدم والذي يبين اتجاه دولي لاعطاء خصوصية لنظام التحفظات على احكام الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان ، نجد ان هناك فقرة اخرى في التعليق سابق الذكر ولابد من الاشارة اليها والتي تعطي بصراحة خصوصية لموضوع التحفظ على هذا النوع من الاتفاقيات ، وهي الفقرة (17) من التعليق والتي تضمنت اشارة صريحة الى ان اتفاقيات حقوق الانسان تتميز عن غيرها من الاتفاقيات الدولية في انها لا تتقبل تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل والمعروف في القانون الدولي ، حيث يجيز هذا المبدا كاصلٍ عام للدولة انهاء معاهدة ، او ايقاف العمل بها او التحفظ على حكم من احكامها كمقابلة لتصرف صادر من طرف اخر يتضمن اخلالا بعملية تطبيق احكامها( [54]).
واضافة الى العمل المتخصص الذي تقوم به اللجان الدولية المتخصصة بمتابعة تطبيق الاتفاقيات لحقوق الانسان فقد حضي موضوع التحفظ على هذه الاتفاقيات باهتمام كبير في المؤتمرات الدولية ، فقد كان موضوع التحفظ على هذه الاتفاقيات محلا للحوار في المؤتمر العالمي لحقوق الانسان والذي عقد في فينا عام 1993 ، وبعد النقاشات المطولة في هذا الموضوع تم تضمين الاعلان الصادر عن هذا المؤتمر فقرة تتعلق بهذا الموضوع وهي الفقرة (26) من الاعلان والتي تضمنت حث الدول على التصديق على معاهدات حقوق الانسان ، وتجنب اللجوء الى التحفظ قدر الامكان . وقد اقرن هذا المؤتمر مضمون هذه الفقرة بفقرة عملية ضمن برنامج العمل الصادر عنه والذي من شانه ان يسعى الى اكمال الفقرات الواردة في الاعلان والصادرة عن المؤتمر حيث جاء في الفقرة (5) من البرنامج انه يشجع الدول على ان تنظر في تضييق مدى التحفظات التي تبديها على الصكوك الدولية لحقوق الانسان وان يتم صياغة هذه التحفظات ان وجدت بصورة دقيقة وطبيعية قدر الامكان وان لا يتنافي كل ذلك اذا وجد مع موضوع المعاهدة او الغرض منها او مقاصدها وان تحاول الدول وبشكل منتظم ان تستعرض تحفظاتها السابقة وان تحاول ان تسحبها( [55]).
ومما تقدم يتضح ان هناك جهد دولي كبير يتجه نحو محاولة الحد من التحفظات بشكل عام وتنظيم ذلك بشيء من الخصوصية فيما يتعلق بالاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان ، غير ان الملاحظ هو انه على الرغم من ان هذه الجهود قد تكون جاءت ببعض النتائج الايجابية على طريق إعمال حقوق الانسان ، الا ان موضوع التحفظ يبقى مشكلة في طريق هذا الإعمال ، ويبدو ان بقائها مرتبط اصلا بضرورة وجود مثل هذه التحفظات كحل وسط بين الانضمام الى الاتفاقيات او عدمه ، فهو وعلى الرغم من إشكاليته يعد امراً ضرورياً عندما يستخدم حقاً لحل مشاكل معينة ولكنه يبدو خطيراً عندما يستغل للتهرب من تطبيق احكام هذه الاتفاقيات . وأمام هذا الواقع الذي يفيد بضرورة وجود نظام التحفظ كحل وسط من جهة وخطورة هذا الحل لإمكانية استغلاله سلباً من جهة اخرى , وامام الجهود الدولية سابقة الذكر والتي حاولت ايجاد حلول لهذه المشكلة وقد تكون قد نجحت في ذلك الى حد ما ، ولكن المشكلة لا تزال قائمة نتساءل عن امكانية ايجاد حلول اخرى ؟
ويبدو ان البحث عن ذلك يتطلب العودة الى صلب المشكلة او ما تتمسك به الدول او تستند اليه عند ممارسة حق التحفظ ، وتبدو هذه الاسانيد وكما ذكرنا فيما تقدم ترتبط بمشاكل العلاقة بين القانونين الدولي والداخلي او مشكلة الخصوصية والعالمية لحقوق الانسان . وامام واقع يفيد بعدم كفاية الجهود والحلول الدولية لعلاج هذه المشكلة ، وحقيقة تفيد بخطورتها وضرورة البحث عن حلول اخرى لها . وامام نتيجة سبق وان تم التوصل اليها في هذه الدراسة والتي تفيد بخصوصية القواعد الدولية لحقوق الانسان وعلاقتها الوثيقة بالقانون الداخلي ، نتساءل عن امكانية ايجاد الحل لهذه المشكلة ولكن من جانب اخر مختلف ، الا وهو جانب القانون الداخلي ؟
واذا كان الامر كذلك فلابد من تحديد نقطة الانطلاق لهذه المعالجة الجديدة ، ولما كان الدستور وعلاقته بالقانون الدولي لحقوق الانسان موضوعا لهذه الدراسة ، وانه يعد جزءا من القانون الداخلي وفي نفس الوقت يمكن ان يكون قانونا له خصوصيته فيما يتعلق بحقوق الانسان فسنحاول معالجة هذه المشكلة عن طريق نظرية الدستور ، وذلك في المبحث القادم من هذه الدراسة.
، وإذا كانت تلك المشاكل من الممكن أن تعيق عملية التطبيق استنادا إلى اتجاهات نظرية فان هذه الإعاقة لا تقتصر على ذلك بل إن هناك مشاكل أخرى ذات طبيعة عملية من الممكن أن تعيق هي أيضا عملية التطبيق ، وان هذه المشاكل تكون ملموسة بشكل مباشر خلال تتبع مسيرة تطبيق قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان ابتداءا ببدء وجود هذه القواعد ومروراً باتخاذ ما يلزم لتطبيقها وانتهاءً بكيفية التطبيق الفعلي لها.
ويمكن حصر أهم المشاكل العملية التي يمكن أن تعيق تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان داخليا بما يأتي :
أولاً - مشكلة التحفظ :
علمنا مما تقدم إن تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان يحتاج بالضرورة إلى الاقتران والتفاعل مع القانون الداخلي لأسباب تناولناها فيما تقدم ، ولما كان هذا التفاعل قد وجد كي يطبق ويستفيد منه الإنسان بصرف النظر عن أية وجه من أوجه التميز بين البشر سواء على أساس العرق أو الدين أو الموطن ... الخ ، من أوجه التميز ، ولما كانت قواعد هذا القانون تتصف بالعالمية ، فان هذا يعني إنه موجه كي يطبق على جميع الدول وبالتالي فان هذا يعني تطبيقه في القوانين الداخلية لجميع الدول كي يستفيد منه جميع البشر تحقيقا للعالمية التي تتصف بها.
ولما كان ما تقدم يمثل الطبيعة الخاصة لقواعد هذا القانون ، ولما كانت الدولية تمثل الطبيعة العامة له ، فان النظم الخاصة بالقانون الدولي تسري على هذا القانون ومن بين هذه النظم النظام القانوني للتحفظ على المعاهدات والاتفاقيات الدولية والذي يتضمن تمكين الدول بموجبه من التخلص من بعض الآثار القانونية للمعاهدات . إذ يعرف بأنه ( عمل إرادي من جانب واحد تتخذه الدول بمناسبة الإقدام على الارتباط بإحدى المعاهدات مستهدفة من وراءه الحد من آثار المعاهدة المعنية في مواجهتها باستبعاد بعض أحكامها من نطاق ارتباطها أو إعطاء بعض هذه الأحكام تفسيرا خاصا يتجه نحو تطبيق مداها ) ( [48]) كما عرفته الفقرة ( ج ) من المادة ( 2 ) من اتفاقية فينا لقانون المعاهدة لعام 1969 بأنه ( تصريح من جانب واحد ، تتخذه الدولة عند التوقيع على المعاهدة أو التصديق عليها أو الانضمام إليها أو قبولها ، مستهدفة من وراءه استبعاد أو تعديل الأثر القانوني لبعض أحكام المعاهدة في مواجهتها )( [49]) وقد عرفته موسوعة الأمم المتحدة بالاستناد إلى قرار الجمعية العامة رقم ( 478 ) لعام 1950 ، ورأي محكمة العدل الدولية الاستشاري الصادر عام 1951 المتعلق بالتحفظات على اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الابادة الجماعية بأنه ( خطاب صادر بإرادة منفردة من الدول وبصورة مكتوبة عند التوقيع على اتفاق أو التصديق عليه بهدف التخلي عن الآثار القانونية الناجمة عن تطبيق أحكام محددة من المعاهدة أو تبديلها فيما يتعلق بالبلد الذي أودع هذه التحفظات)( [50]) .
وإذا كان التحفظ جائزاً وممكناً بالنسبة إلى القواعد الدولية بشكل عام ومن ضمنها قواعد حقوق الإنسان ، فان هذا الجواز تكون له تأثيرات اكبر بالنسبة إلى القواعد الأخيرة ، فهو يتناقض مع طبيعتها ومضمونها ، من صفة العالمية ووجوب السريان على الجميع فان جوازه يتناقض مع طبيعته وموضوعه من حيث التنظيم ، حيث إن الجزء الأعظم والاهم من هذه القواعد يتعلق بتنظيم العلاقات بين السلطة والأفراد. وبالتالي فان إجازة التحفظ تعني إعطاء الحق لأحد الأطراف وهو الطرف الأقوى المكلف أصلا بإعمال هذه الحقوق ألا وهي الدولة ، بالتهرب من إعمال هذه الحقوق ، وهنا قد يكون هناك احتمال كبير لتمادي حكومات الدول وتعسفها في استخدام سلاح التحفظ في سبيل التهرب من تنفيذ الالتزامات التي تقررها حقوق الإنسان . لذلك فان مسالة التحفظ تعد من الأمور الخطرة التي يمكن أن تعيق تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان . ولكن بالتدقيق في نظام التحفظ نجد انه لابد وان تكون هناك مزايا معينة في هذا النظام هي التي أفضت إلى إقراره على الرغم من النتائج التي يمكن أن يؤدي إليها فيما يخص مسالة تطبيق أحكام القانون الدولي بشكل عام . وتتجلى مزايا هذا النظام في انه من الممكن أن يكون خير سبيل لضمان استجابة اكبر عدد من الدول للدعوة الموجهة إليها للانضمام إلى المعاهدات المعنية ، حتى ولو كان ذلك في حدود معينة على حساب فكرة تكامل مضمون المعاهدة ، أي انه سبيل للتوفيق بين اتجاهين الأول يتعلق بحق الدولة بعدم التوقيع أو الانضمام إلى المعاهدة أو التصديق عليها استنادا إلى مبدأ السيادة والثاني قائم على أساس ضرورة ضمان تزايد عدد الدول التي يمكن أن تصبح أطرافا في المعاهدة ( [51]) وبالعودة إلى هذه الميزة نجد أن لها دوراً كبيراً فعلاً في إيجاد الاتفاقيات الدولية بشكل عام واتفاقيات حقوق الإنسان بشكل خاص. ولكن وعلى الرغم من إمكانية الاعتراف بايجابية التحفظ سابقة الذكر لكن ما نجده في الواقع العملي هو أن التحفظ من الممكن أن يؤدي إلى أن لا يكون للاتفاقيات الدولية سوى وجود شكلي بعيدا عن ارض الواقع والتطبيق العملي الفعلي وان نكون أمام معاهدات (مهلهلة) كما ذهب البعض إلى وصفها ( [52]) وإذا كان هذا الوصف يصح بالنسبة إلى المعاهدات الدولية بشكل عام فقد يكون أكثر دقة بالنسبة إلى الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والتي تذهب الكثير من الدول إلى استخدام أسلوب التحفظ بشان الكثير من أحكامها وذلك بالاستناد إلى أسانيد متنوعة. يأتي على رأسها ما تناولناه فيما تقدم حول المشاكل النظرية التي تعيق تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان والمتمثلة بمشكلتي العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي ومشكلة العالمية والخصوصية حيث تذهب الدول إلى تأسيس تحفظها على مثل هذه الأسباب وبالتالي تكون لها الإمكانية في عدم تطبيق العديد من أحكام هذه الاتفاقيات وبالتالي عدم التزامها أصلا باتخاذ الإجراءات التشريعية الداخلية كلا أو جزءا بغية تطبيق أحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان.
وإذا كان التحفظ من الممكن أن يكون له تأثير اكبر في اتفاقيات حقوق الإنسان من حيث كثرة استخدامه لإعاقة تطبيقها أو من حيث ان استخدامه يعني بالتأكيد إفراغ محتواها من ما وجد من اجله وبالتالي من الممكن أن تكون مجرد حبر على ورق أو أن تكون قابلة للتطبيق ولكن ليس وفقا لما ينبغي وعلى من ينبغي أن تطبق ، أي يمكن أن يستفيد منها البعض من البشر دون كل البشر.
وأمام هذا الوضع وهذا الأثر للتحفظ وخصوصيته بالنسبة إلى الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والتي تمثل الجزء الأهم من القانون الدولي لحقوق الإنسان ، نتساءل عن مضمون النظام القانوني للتحفظ وعن إمكانية وجود خصوصية لهذا النظام فيما يتعلق بالاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان؟
وبالرجوع إلى التحفظ بشكل عام نجد ان هناك نظاماً قانونياً دولياً للتحفظ ونستطيع ان نجد أحكامه متجسدة في عدة نصوص أوردتها اتفاقية فينا لقانون المعاهدات لعام 1969 ، حيث نصت المادة ( 19 ) منها على ، ( ان للدولة لدى توقيع معاهدة معينة أو التصديق عليها أو قبولها أو إقرارها أو الانضمام إليها ، ان تضع تحفظا معينا ما لم: أ- تحظر المعاهدة هذا التحفظ ب- تنص المعاهدة على انه لا يجوز ان توضع إلا تحفظات محددة ليس من بينها التحفظ موضوع البحث ج- يكون التحفظ في الحالات التي لا تنص عليها الفقرتان ( أ ) و ( ب ) منافياً لموضوع المعاهدة وهدفها ). يفيد النص العام أعلاه بان تنظيم التحفظ يرجع إلى ذات المعاهدة التي يجري التحفظ بصدد أحكامها.
وبهذا المعنى فانه من المفترض ان تعالج اتفاقيات حقوق الإنسان نفسها موضوع التحفظ وتخرج من ذلك بحلول خاصة للمشاكل التي يسببها التحفظ لها فيما يتعلق بإعاقة التطبيق. وبالرجوع إلى هذه الاتفاقيات نجد ان هذه الاتفاقيات لم تحظر بصورة عامة على الدول تفعيل نظام التحفظ على بعض أحكامها ، إلا القليل من هذه الاتفاقيات.
وبشكل عام يمكن تصنيف معالجة هذه الاتفاقيات لموضوع التحفظ إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول :
يضم الاتفاقيات التي حضرت التحفظات بشكل مطلق ومثال ذلك ما جاء في المادة (9) من الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق وتجارة الرقيق والأعراف والممارسات الشبيهة به. وكذلك نص المادة (9) أيضا من اتفاقية مكافحة التمييز في مجال التعليم والتي جاءت بحكم مماثل.
القسم الثاني :
يضم الاتفاقيات التي عالجت موضع التحفظات بمعالجة خاصة ويكون ذلك بالنسبة للاتفاقيات التي جاءت باليات خاصة لمعالجة موضوع التحفظ من خلال أحكام خاصة تتضمن مثلاً ، حظرا نسبيا للتحفظ على أحكام معينة أو آلية معينة لقبول التحفظ مثل اشتراط حصول موافقة أو نسبة من مجموع عدد الأطراف في الاتفاقية أو إيجاد آلية معينة للاعتراض على التحفظ من قبل بقية الدول الأطراف أو إيجاد آلية معينة لسحب التحفظات وغير ذلك من الأحكام الخاصة لكل اتفاقية ، ومن الأمثلة على هذه الاتفاقيات الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري ، حيث نصت المادة (20) منها على تولي الأمين العام للأمم المتحدة مهمة تلقي التحفظات ويقوم بتعميمها على بقية الدول الأطراف وتقوم كل دولة لها اعتراض على التحفظ بإبلاغ الأمين العام خلال مدة تسعين يوما من تاريخ التعميم . كما تضمنت حظرا على قبول التحفظات المنافية لموضوع الاتفاقية ومقصدها أو من شانه تعطيل عمل أية هيئة من الهيئات المنشاة بها ويعد التحفظ كذلك إذا اعترضت عليه ما لا يقل عن ثلثي الدول الأطراف في هذه الاتفاقية وكذلك كانت هناك أحكام خاصة في كل من الاتفاقية الدولية الخاصة بجنسية المراة المتزوجة وكذلك اتفاقية حقوق الطفل واتفاقية القضاء على التميز ضد المراة وكذلك البروتوكول الاختياري الثاني للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والخاص بإلغاء عقوبة الإعدام ، وغير ذلك من الاتفاقيات الدولية.
القسم الثالث :
ويضم هذا القسم الاتفاقيات التي لم تتطرق إلى موضوع التحفظ بشكل مطلق ، ويكون هنا الحكم بالرجوع إلى القواعد الدولية العامة بهذا الخصوص ، وتكون المرجعية هنا إلى ما ورد في المادة (19) من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات سابقة الذكر باعتبارها القاعدة العامة لتنظيم التحفظ عند عدم وجود قواعد خاصة في هذا المجال، ومن أهم الاتفاقيات الدولية التي تدخل ضمن هذه الزمرة أو هذا القسم، العهدين الدوليين الأول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والأخر الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وسواء أخذت اتفاقيات حقوق الإنسان بالنظام العام للتحفظ أو أنها جاءت بنظم خاصة لهذا الغرض فان موضوع التحفظ تبقى لعلاقته بتطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان أهمية كبيرة ، من حيث انه قد يعيق والى حدٍ كبير عملية إعمال حقوق الانسان وانه لابد من تطوير للمعالجة القانونية لهذه المشكلة وايجاد قواعد خاصة لهذا الغرض تاخذ بنظر الاعتبار مبررات وجود التحفظات من جهة وضرورات التقليل منها من جهة اخرى .
وفي اطار ضرورة وجود نظام خاص للتحفظ على الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان ، نطرح عدة تساؤلات تحتاج الى اجوبة لها خصوصية مؤسسة على خصوصية قواعد القانون الدولي لحقوق الانسان . ونبدأ بالسوال، هل ان عدم وجود حظر على التحفظ في اتفاقيات حقوق الانسان يعني جواز أي تحفظ وعلى أي حكم من احكام الاتفاقية ؟ وما هي حدود مثل هذه التحفظات ؟
لقد تناولنا فيما تقدم ان المادة ( 19 ) من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات قد جاءت بقواعد عامة لتنظيم كيفية استخدام الحق في التحفظ وشروط ذلك . ولتخصيص المسالة فيما يتعلق بالتحفظ على الاتفاقية الدولية لحقوق الانسان ، ونظرا إلى الأهمية البالغة لذلك بالنسبة لهذه الاتفاقيات فقد بذلت جهود دولية في هذا الاتجاه ، من قبل الهيئات الدولية لحقوق الانسان والتابعة للامم المتحدة وبعض المنظمات غير الحكومية ، فقد أصدرت اللجنة المعنية بحقوق الانسان والمكلفة برصد تطبيق العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ، تعليقات عامة تعد بمثابة التفسير لاحكام هذا العهد ومن اهم هذه التعليقات ذلك الذي صدر عام 1994 تحت الرقم (24) وضمن الدورة الثانية والخمسين للامم المتحدة ، وقد تناول هذا التعليق وبشيء كبير من الاهتمام موضوع التحفظات على الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان والتي يكون لها اثر سلبي على عملية إعمال حقوق الانسان ( [53]) وبصدد موضوع عدم حظر التحفظ ، جاء في الفقرة (6) من هذا التعليق ( ان عدم وجود حظر على إبداء التحفظات لا يعني اجازة قبول اي تحفظ ) حيث ان التحفظات يجب ان لا تكون متعارضة او مخالفة لموضوع او هدف الالتزام الدولي المتعلق بحقوق الانسان والوارد ضمن الاتفاقية .
اما فيما يتعلق باثر التحفظ او مدى سريانه على الاحكام الواردة في الاتفاقية وحدود ذلك ، فقد تضمن ذات التعليق اعلاه اشارة الى هذا الموضوع في الفقرة ( 8 ) منه ، وذلك عند الحديث عن التحفظات التي تخل بالقواعد الامرة ، حيث جاء في نص هذه الفقرة (ان التحفظات التي تخل بالقواعد الامرة لا تتفق مع موضوع العهد) . وفي هذا النص اشارة واضحة الى اعطاء خصوصية للقواعد الدولية لحقوق الانسان تمنحها تحصيناً اكبر ضد التحفظات التي من الممكن ان تعيق تطبيقها ، حيث انه من المعروف فيما يتعلق بقواعد القانون الدولي الاخرى انها يمكن ان تكون محلاً للتحفظ . وبهذا الحكم الخاص الذي تطرق اليه التعليق نجد انه لا يجوز لدولة ان تتحفظ على حكم من احكام معاهدة اذا كان هذا الحكم محلاً لقاعدة امرة اخرى في العرف الدولي مثلا ، حيث ان الواقع يفيدنا بان اغلب قواعد حقوق الانسان والواردة في الاتفاقيات الدولية كانت عبارة عن قواعد دولية عرفية وتطور الامر بها الى ان ادخلت ضمن قواعد مكتوبة ضمن اتفاقيات ، حيث انه من غير المنطقي ان تزيل عن تلك القواعد قابليتها للتطبيق باعتبارها قاعدة عرفية من خلال ايرادها ضمن اتفاقية مكتوبة واجازة التحفظ عليها بعد ذلك كي تتحول الى مجرد حبر على ورق ، حيث ان الغاية من تقنين مثل هذه القواعد العرفية هو إعطاؤها قابلية اكبر للتطبيق وليس ايجاد وسيلة قانونية لتبرير التهرب من تطبيقها.
وفيما يتعلق بنطاق التحفظ ايضا جاءت الفقرة (19) من ذات التعليق بتنظيم الية التحفظ على نحو معين يحد من نطاقه ، حيث تناولت هذه الفقرة ما يفيد بان تكون التحفظات محددة وشفافة ويكون ذلك من خلال الحرص على ان لا تكون التحفظات عامة بل يجب ان تتعلق بحكم معين من العهد وان يتم بيان نطاق التحفظ بعبارات محددة ، كما يجب على الدول ان تأخذ بنظر الاعتبار الأثر الكلي او لمجموع التحفظات او الأثر الفردي لكل تحفظ على موضوع العهد وهدفه ، حيث يجب ان ينصب التحفظ على عدد محدد من الاحكام وليس على الكل ، وقد اوجد التعليق في هذه الفقرة معياراً محدداً لمدى تحفظ الدولة ، وذلك باشتراط ان لا يكون تحفظ الدولة يفضي الى عدم الالتزام بما هو اعلى من الالتزامات الواردة في القانون الداخلي بشان حقوق الانسان . أي ان هذه الفقرة من التعليق تبين عدم جواز استغلال الدولة لحق التحفظ ليكون سبيل لها للتهرب من السعي الى الارتفاع بمستوى الحماية المقرر في القانون الداخلي فيما يتعلق بحقوق الانسان ، ويكون ذلك من خلال استخدام الية التحفظ لعدم التاثر باي التزام جديد مخالف للقانون الداخلي او الدستور ، وبذلك تستطيع الدولة ان تمتنع عن الارتفاع الايجابي بذلك المستوى .
واضافة الى ما تقدم والذي يبين اتجاه دولي لاعطاء خصوصية لنظام التحفظات على احكام الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان ، نجد ان هناك فقرة اخرى في التعليق سابق الذكر ولابد من الاشارة اليها والتي تعطي بصراحة خصوصية لموضوع التحفظ على هذا النوع من الاتفاقيات ، وهي الفقرة (17) من التعليق والتي تضمنت اشارة صريحة الى ان اتفاقيات حقوق الانسان تتميز عن غيرها من الاتفاقيات الدولية في انها لا تتقبل تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل والمعروف في القانون الدولي ، حيث يجيز هذا المبدا كاصلٍ عام للدولة انهاء معاهدة ، او ايقاف العمل بها او التحفظ على حكم من احكامها كمقابلة لتصرف صادر من طرف اخر يتضمن اخلالا بعملية تطبيق احكامها( [54]).
واضافة الى العمل المتخصص الذي تقوم به اللجان الدولية المتخصصة بمتابعة تطبيق الاتفاقيات لحقوق الانسان فقد حضي موضوع التحفظ على هذه الاتفاقيات باهتمام كبير في المؤتمرات الدولية ، فقد كان موضوع التحفظ على هذه الاتفاقيات محلا للحوار في المؤتمر العالمي لحقوق الانسان والذي عقد في فينا عام 1993 ، وبعد النقاشات المطولة في هذا الموضوع تم تضمين الاعلان الصادر عن هذا المؤتمر فقرة تتعلق بهذا الموضوع وهي الفقرة (26) من الاعلان والتي تضمنت حث الدول على التصديق على معاهدات حقوق الانسان ، وتجنب اللجوء الى التحفظ قدر الامكان . وقد اقرن هذا المؤتمر مضمون هذه الفقرة بفقرة عملية ضمن برنامج العمل الصادر عنه والذي من شانه ان يسعى الى اكمال الفقرات الواردة في الاعلان والصادرة عن المؤتمر حيث جاء في الفقرة (5) من البرنامج انه يشجع الدول على ان تنظر في تضييق مدى التحفظات التي تبديها على الصكوك الدولية لحقوق الانسان وان يتم صياغة هذه التحفظات ان وجدت بصورة دقيقة وطبيعية قدر الامكان وان لا يتنافي كل ذلك اذا وجد مع موضوع المعاهدة او الغرض منها او مقاصدها وان تحاول الدول وبشكل منتظم ان تستعرض تحفظاتها السابقة وان تحاول ان تسحبها( [55]).
ومما تقدم يتضح ان هناك جهد دولي كبير يتجه نحو محاولة الحد من التحفظات بشكل عام وتنظيم ذلك بشيء من الخصوصية فيما يتعلق بالاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان ، غير ان الملاحظ هو انه على الرغم من ان هذه الجهود قد تكون جاءت ببعض النتائج الايجابية على طريق إعمال حقوق الانسان ، الا ان موضوع التحفظ يبقى مشكلة في طريق هذا الإعمال ، ويبدو ان بقائها مرتبط اصلا بضرورة وجود مثل هذه التحفظات كحل وسط بين الانضمام الى الاتفاقيات او عدمه ، فهو وعلى الرغم من إشكاليته يعد امراً ضرورياً عندما يستخدم حقاً لحل مشاكل معينة ولكنه يبدو خطيراً عندما يستغل للتهرب من تطبيق احكام هذه الاتفاقيات . وأمام هذا الواقع الذي يفيد بضرورة وجود نظام التحفظ كحل وسط من جهة وخطورة هذا الحل لإمكانية استغلاله سلباً من جهة اخرى , وامام الجهود الدولية سابقة الذكر والتي حاولت ايجاد حلول لهذه المشكلة وقد تكون قد نجحت في ذلك الى حد ما ، ولكن المشكلة لا تزال قائمة نتساءل عن امكانية ايجاد حلول اخرى ؟
ويبدو ان البحث عن ذلك يتطلب العودة الى صلب المشكلة او ما تتمسك به الدول او تستند اليه عند ممارسة حق التحفظ ، وتبدو هذه الاسانيد وكما ذكرنا فيما تقدم ترتبط بمشاكل العلاقة بين القانونين الدولي والداخلي او مشكلة الخصوصية والعالمية لحقوق الانسان . وامام واقع يفيد بعدم كفاية الجهود والحلول الدولية لعلاج هذه المشكلة ، وحقيقة تفيد بخطورتها وضرورة البحث عن حلول اخرى لها . وامام نتيجة سبق وان تم التوصل اليها في هذه الدراسة والتي تفيد بخصوصية القواعد الدولية لحقوق الانسان وعلاقتها الوثيقة بالقانون الداخلي ، نتساءل عن امكانية ايجاد الحل لهذه المشكلة ولكن من جانب اخر مختلف ، الا وهو جانب القانون الداخلي ؟
واذا كان الامر كذلك فلابد من تحديد نقطة الانطلاق لهذه المعالجة الجديدة ، ولما كان الدستور وعلاقته بالقانون الدولي لحقوق الانسان موضوعا لهذه الدراسة ، وانه يعد جزءا من القانون الداخلي وفي نفس الوقت يمكن ان يكون قانونا له خصوصيته فيما يتعلق بحقوق الانسان فسنحاول معالجة هذه المشكلة عن طريق نظرية الدستور ، وذلك في المبحث القادم من هذه الدراسة.