المشاكل النظريه التى تعيق تطبيق القانون الدولى
من المعروف ان مبادئ ونظريات حقوق الإنسان تعد من أهم ما توصل اليه الإنسان من حيث العمق والصراع الفكري والتراكم التاريخي والقرب من طبيعة الإنسان، حيث ان ميدان هذه الحقوق كان زاخراً بالاتجاهات الفكرية والفلسفية المتصارعة منها او المتفقة فيما بينها والمستمرة بالتنافس او المنصهرة مع غيرها لتكوين الجديد في هذا المجال والمتجهة منها ضد هذه الحقوق وتطبيقها او أخرى داعمة لهذه الحقوق وساعية إلى تطبيقها , واذا كان هذا وضع مسألة هذه الحقوق من الناحية الفكرية او الفلسفية ، فان الامر قد لا يكون بعيداً عن ذلك بعد تحويل هذه الافكار إلى قواعد قانونية حيث ان القواعد القانونية بشكل عام ليست الا تأطيراً وتنظيماً للافكار السائدة في المجتمع وتوجيهه باتجاه تحقيق اهداف معينة ، واذا كان امر هذه القواعد يمكن ان يكون أصلاً موضوعاً لاكثر من اتجاه فان تطبيق هذه القواعد بالتأكيد سوف لن يكون بعيداً عن ذلك، وان هذا القول تكون له احتمالية اكبر عند الكلام عن تطبيق للقاعدة الدولية ضمن النطاق الداخلي للدول. وبناءاً على ذلك فإن مشاكل تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان داخليا سوف لن تكون بعيدة عن هذه الاتجاهات ، حيث ان الامر سوف يتعلق بقاعدة دولية ضمن إطار قانوني داخلي، واذا كان هناك احتمال لإشكالية فيما يتعلق بتطبيق قاعدتين مختلفتين من حيث النظام القانوني الذي تنتمي إليه كل منهما فأن هذه الإشكالية سوف تكون أكبر بالتأكيد اذا كانت هذه القاعدة مختصة بحقوق الإنسان . وبناءاً على ما تقدم نستطيع ان نقول ان الاشكاليات النظرية بصدد القواعد الدولية لحقوق الإنسان من خلال تفاعلها مع القانون الداخلي يمكن ان ترجع اصلاً إلى الاشكاليات التقليدية المتعلقة بالعلاقة بين القانون الدولي والداخلي من جهة فضلاً عن الاشكاليات الخاصة بحقوق الإنسان فيما يخص التطبيق الداخلي من جهة أخرى.
ونستطيع ان نلخص أهم المشاكل النظرية التي تعرض تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان داخلياً في مشكلتين اساسيتين . الأولى ترتبط بالعلاقة بين القانونين الدولي والداخلي ، والثانية ترتبط بمسألة عالمية او خصوصية حقوق الإنسان . وسوف نتناول فيما يأتيكل مشكلة بشكل مستقل :
أولاً- المشكلة المرتبطة بالعلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي:
سبق وان تبين في صفحات سابقة من هذه الدراسة ان موضوع العلاقة بين القانونين الدولي والداخلي يعد محلاً للعديد من النظريات والاتجاهات الفقهية. وعلى ضوء المواقف من هذه النظريات والاتجاهات تقوم الدول بالتعامل مع هذه المسألة. أي ان حكم المسألة يبقى راجعاً إلى النظام القانوني الداخلي لكل دولة والذي يفترض به ان يعكس أيدولوجية الدولة واتجاهاتها. وبالرجوع إلى هذه النظم القانونية نجد ان هناك العديد منها يتخذ موقفاً معيناً من التعامل مع القانون الدولي وان هذا الموقف قد يؤدي إلى إعاقة تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان.
ويكون ذلك بالتأكيد بالنسبة إلى القوانين الداخلية التي لا تقوم على أساس إعطاء سمو للقانون الدولي على القانون الداخلي . الامر الذي يعني زيادة احتمالية عدم التمكن من تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان حاله في ذلك حال بقية القواعد الدولية، واذا كان الامر يؤدي إلى بعض الضرر بالنسبة إلى القواعد الدولية الأخرى فان هذا الضرر يكون كبيراً بالنسبة إلى قواعد حقوق الإنسان حيث ان الامر يعني إفراغ القواعد من قيمتها وتجميدها وعدم الاستفادة منها بالنسبة لرعايا الدول التي تأخذ بهذا الاتجاه.
واذا كانت احتمالية إعاقة التطبيق قائمة بالنسبة إلى أغلب الدول التي لا تعطي للقواعد الدولية سمو على قانونها الوطني بشكل عام فأن هذه الاحتمالية قد تزداد او تتناقص بحسب تفاصيل هذا الموقف حيث انه وكما علمنا مما تقدم في هذه الدراسة، ان هناك دولاً تعطي سمواً لقانونها الداخلي على القانون الدولي ومثل هذه الدول تكون اكثر الدول تقبلاً لاحتمال إعاقة تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان، اما بالنسبة إلى الدول التي تساوي بين قانونها الداخلي والقانون الدولي فأن الاحتمال قد يكون اقل من الحالة الأولى. وهكذا فانه وبحسب الموقف العام للقانون الداخلي من القانون الدولي تتحدد كيفية التفاعل بينهما وتبعاً لذلك تتحدد مبدئياً احتمالات التطبيق للقانون الدولي لحقوق الإنسان داخليا من عدمه. وهنا ولما كانت القواعد الدولية لحقوق الإنسان بحاجة ماسة للقانون الداخلي في سبيل الوصول إلى إعمالها فأن هذا يعني ضرورة ايجاد نظام خاص للعلاقة بين هذه القواعد والقانون الاخير، ولما كان القانون الداخلي لكل الدول هو الذي يعنى بتحديد وضع العلاقة بالقانون الدولي فان تحديد وتأسيس هذا النظام لا بد وان يكون ضمن القانون الداخلي.
ثانياً- مشكلة العالمية والخصوصية لحقوق الإنسان :
تعد هذه المشكلة من اكثر المشكلات التي من الممكن ان تعترض سبيل تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان من خلال القوانين الداخلية للدول ، حيث ان هذا التطبيق لا يعني تطبيق قواعد قانونية اشتركت مجموعة من الدول في ايجادها فحسب بل ان محتوى هذه القواعد يعني قبل ذلك انها قد تكون عبارة عن مبادئ او افكار او مفاهيم وقيم اسهمت مجموعة من المجتمعات او الثقافات او الحضارات عبر التاريخ في ايجادها سواء عير أنشطة داخلية او خارجية، وتطور الامر بها إلى حين صياغتها من قبل كيانات قانونية تمثل هذه المجتمعات او الثقافات الا وهي الدول. أي ان القانون الدولي لحقوق الإنسان لا يعد ثمرة لجهود دول معينة او مجموعة صغيرة من الدول بل ان مجموعة كبيرة من الدول قد اسهمت في إيجاده وبالتالي فان تاصليه الفكري والحضاري يرجع إلى الثقافات والحضارات التي تمتد إلى تلك الدول، ومن هنا فأن هذا يعني ان تطبيقه على الصعيد الداخلي لدولة معينة قد يعني تطبيق افكار وثقافات أجنبية عن الثقافة الوطنية لتلك الدولة ، وقد تختلف معها في بعض الجوانب التي يكون لها فيها خصوصية تتميز بها عن غيرها من الدول والمجتمعات فيما يتعلق بموضوع حقوق الإنسان. وهنا تكمن المشكلة بالنسبة الى الدول التي تدعي بأن لها خصوصية وخطاباً خاصاً ونظرة خاصة إلى حقوق الإنسان تختلف عن الصفة العامة او (العمومية) التي جاء بها القانون الدولي لحقوق الإنسان باعتباره قانوناً يخاطب جميع الدول بصرف النظر عن انتماءاتها الحضارية والثقافية والفكرية. حيث ان هذه الدول قد تمتنع عن تطبيق بعض احكام القانون الدولي لحقوق الإنسان او تتحفظ عليها وقت إبرام الاتفاقية الدولية على أساس ان مثل تلك الأحكام تتناقض مع الخصوصية الثقافية لمجتمعات تلك الدول بما تتضمنه من عادات وأنماط سلوك. ونظرة إلى الكون والحياة. حيث انه من المعلوم ان قواعد حقوق الإنسان وفي حال تطبيقها في موضوعها الحقيقي والفعال أي في نطاق القانون الداخلي فانها سوف تكون على تماس واحتكاك مباشر مع مختلف جوانب الحياة البشرية وبالتأكيد فأن الجوانب المذكورة آنفاً سوف تكون من ضمنها على خلاف غير ذلك من القواعد الدولية العامة حيث انها غالباً ما تكون بعيدة عن الاحتكاك بهذه الجوانب وانها يمكن ان تخاطب أية دولة دون ان تتعرض لخصوصيات مجتمعات تلك الدول. ولكن السؤال الذي يثار هنا هو انه ولما كان الإنسان هو الإنسان في مختلف المجتمعات وفي مختلف الدول فهل هناك فعلاً خصوصية لحقوقه يتميز بها مجتمع كل دولة عن الأخرى ام ان حقوق الإنسان هي ذاتها بالنسبة إلى مجتمع بني البشر اياً كان جنسه او لونه واياً كانت ثقافته او ديانته واياً كانت جنسيته او دولته. وبالتالي فأن التمسك بمسألة الخصوصية ليس الا سبيل للتهرب والامتناع عن تطبيق احكام القانون الدولي لحقوق الإنسان؟
تعد مسألة العالمية والخصوصية لحقوق الإنسان ومالحق بها من مصطلحات مثل الاصالة والمعاصرة والنقل والعقل والتقليد والتجديد …الخ من هذه الثنائيات، من الامور التي كانت ولا تزال تشغل المفكرين( [34])، سواء على مستوى الفكر والسياسة بشكل عام او على مستوى المفكرين والباحثين في مجال حقوق الإنسان بشكل خاص . ويزداد البحث والاهتمام في هذه المسألة كلما كانت هناك مخاوف من مسالة فقدان الهوية والثقافة الخاصة والانصهار ضمن الغير والتأثر بثقافته ، وتزداد هذه المخاوف كلما كنا أمام مجتمعات تعاني من الجمود وعدم التطور وعدم التمكن من اللحاق بالثقافات والحضارات الأخرى ، التي تظهر بوادر على تقدمها وتطورها وهنا تزداد هذه المخاوف اكثر اذا كان هناك شعور بان هذه الحضارات او الثقافات الآخذة بالتطور والمستمرة في ذلك قد تكون لديها نوايا في التأثير في الثقافات الأخرى بأقل تقدير ان لم نقل التصارع معها وابتلاعها. واذا كانت هذه المخاوف ليست بالامر الجديد اليوم فهي من الامور البارزة في ظل التطورات الحاصلة في المجتمع الدولي وبروز دول متطورة وبروز ظواهر مرافقة لها ضمن مفهوم العولمة والتي يعد موضوع الاهتمام بحقوق الإنسان من أهم التجليات السياسية المرافقة لها( [35]).
وهنا وأمام زيادة هذه المخاوف وفي ظل ظروف خاصة تسود العلاقات الدولية اليوم فان احتمالية ازدياد إثارة هذه المشكلة قد تكون اكبر ، مما يعني زيادة إعاقة تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان بسبب مشكلة العالمية والخصوصية، فما المقصود بكل من عالمية وخصوصية حقوق الإنسان؟
تقوم فكرة عالمية حقوق الإنسان على أساس ان العالم ككل قد شارك بكل حضاراته وثقافاته وأديانه في ايجاد مجموعة من الحقوق الإنسانية ضمن قواعد دولية ، وان هذه القواعد قد تم التوصل اليها نتيجة للاتفاق بين هذه الثقافات في سبيل تحقيق المزيد من الاعتراف لهذه الحقوق وتوفير المزيد من الضمانات والآليات لحمايتها، بحيث يصبح العالم ككل مسؤولاً عن تحقيق ذلك على أساس التعايش والانسجام والتعاون والاعتماد المتبادل بين الثقافات المختلفة وعلى أسس أخلاقية وقانونية دولية وصولاً إلى تحقيق الإعمال لهذه الحقوق والتي لا تختلف في حقيقتها عن حقوق الخاصة في كل الثقافات حيث ان موضوعها ومحلها هو واحد الا وهو الإنسان ورفاهيته. كما ان العالمية تعني ان حقوق الإنسان كل لا يتجزأ، بمعنى ان تكون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية جنباً إلى جنب مع الحقوق السياسية والمدنية وهي لا تقبل بذلك التراتب ( [36]).
وتتجلى الصفة العالمية لقواعد حقوق الإنسان في عدة أدلة ، تبدأ بانتقالها من الصعيد الداخلي إلى الصعيد الدولي واحتضانها في الصعيد الاخير ونموها وتطورها فيه حتى اصبح بيئةً اكثر صحية لهذا الغرض في سبيل دعمها وتطويرها ومحاولة ايصالها إلى التمكن من الإعمال ومن ثم إعادتها إلى وسطها الأول (الداخلي) وفي حقيقة الامر فان الوسط الدولي ليس الا وسطاً يتعلق بالعالم ككل ، ومن ثم فان ما يدخل اليه ويتطور فيه من الممكن ان يتصف بالعالمية .
ومن ناحية أخرى فانه عند الكلام عن عالمية للقواعد الدولية لحقوق الإنسان فان الامر مرتبط بالتأكيد بمجموعة من الاتفاقيات الدولية التي زاد عددها عن المائة اتفاقية وعهد دولي وافقت عليها معظم دول العالم واصبحت هذه الاتفاقيات فضلاً عن الاعلان العالمي لحقوق الإنسان تمثل اليوم المرجعية او المثال الاعلى لحقوق الإنسان سواء دوليا او داخليا وان صفة هذه المنظومة المكونة لهذه المرجعية ما هي الا صفة عالمية لكل انسان في أي مكان وزمان( [37]) ويتأكد ذلك من خلال التذكير بما ورد في ميثاق الامم المتحدة تلك المنظمة الدولية العالمية الاهم وكذلك نصوص العديد من الاتفاقيات والعهود الدولية لحقوق الإنسان من تأكيد على العالمية لحقوق الإنسان ، حيث ان هذه النصوص تخاطب الإنسان وتمنحه حقوقا متنوعة بصرف النظر عن لغة الانسان او دينه او لونه او عرقه او جنسه. ومن ناحية أخرى فان الرجوع إلى موضوعات العديد من الاتفاقيات والعهود الدولية لحقوق الإنسان والتي تكون المرجعية الدولية لهذه الحقوق ، نجد انها تتعلق بأمور تهم على الأغلب الأسرة البشرية بشكل عام ولا تتعلق بشعوب دول معينة بالذات حيث نجد ان موضوعات هذه الصكوك الدولية ترتبط بمشكلات إنسانية في حقيقتها تعد مشكلات عامة تهم الاسرة البشرية بشكل عام على اختلاف مجتمعاتها وثقافاتها ، مثل العبودية والتمييز العنصري وحقوق المرأة والطفل وحظر التعذيب والجرائم ضد الإنسانية والتنمية وحماية ضحايا الحرب وغير ذلك من الموضوعات التي تعكس في الحقيقة الصفة العالمية لهذه المشاكل وفي الوقت نفسه العلاج او الحل العالمي لها ، عن طريق آليات التعاون والاعتماد الدولي المتبادل . واذا كان هناك ثمة شك بصدد عالمية المرجعية التقليدية المعروفة لحقوق الإنسان على أساس انها تتضمن حقوقاً يتم تطبيقها في نهاية المطاف على صعيد داخلي ، فان ظهور الجيل الثالث من حقوق الإنسان بعد التطورات الحاصلة على الصعيد الدولي و الدفع و التقدم الحاصل في مسيرة حقوق الإنسان لمواكبة الحاجات و المشكلات الإنسانية المتزايدة والمستمرة والتي تمثل في حقيقتها هما إنسانياً عالمياً مشتركاً، بحيث ان استمرارها يعني تضرر الاسرة البشرية ككل ، مما اوجب التكاتف و التعاون بين الاسرة البشرية ككل لتلبية هذه الحاجات وحل هذه المشاكل ، التي لا يمكن حلها الا من خلال تعاون بهذا المستوى العالمي ، ومن الحقوق الإنسانية التي تمثل هذا الجيل ، الحق الجماعي في السلام و الحق في التضامن والحق في بيئة نظيفة و الحق في الاغاثة من الكوارث .
وتتأكد عالمية حقوق الإنسان في عالمية المؤتمرات الدولية التي تعقد في مجال حقوق الإنسان ، والتي تمثل ميدانا للبحث في الهم الانساني المشترك ومنابرلاقتراح الحلول للمشاكل الإنسانية ومناسبة لفتح باب الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية او التصديق عليها او الدعوة إلى تطبيقها او انتقاد حالات عدم التصديق او سوء التطبيق …الخ . ومن المؤتمرات الدولية المهمة في هذا المجال ، مؤتمر فينا 1993 والذي طرحت فيه مسالة العالمية والخصوصية لحقوق الإنسان بشكل ملح وكانت موضوعاً للعديد من المناقشات والانقسامات الدولية ، والتي توصلت في نهاية الامر إلى الاقرار بعالمية حقوق الإنسان وترابطها وعدم جواز تجزئتها( [38]).
من المعروف ان مبادئ ونظريات حقوق الإنسان تعد من أهم ما توصل اليه الإنسان من حيث العمق والصراع الفكري والتراكم التاريخي والقرب من طبيعة الإنسان، حيث ان ميدان هذه الحقوق كان زاخراً بالاتجاهات الفكرية والفلسفية المتصارعة منها او المتفقة فيما بينها والمستمرة بالتنافس او المنصهرة مع غيرها لتكوين الجديد في هذا المجال والمتجهة منها ضد هذه الحقوق وتطبيقها او أخرى داعمة لهذه الحقوق وساعية إلى تطبيقها , واذا كان هذا وضع مسألة هذه الحقوق من الناحية الفكرية او الفلسفية ، فان الامر قد لا يكون بعيداً عن ذلك بعد تحويل هذه الافكار إلى قواعد قانونية حيث ان القواعد القانونية بشكل عام ليست الا تأطيراً وتنظيماً للافكار السائدة في المجتمع وتوجيهه باتجاه تحقيق اهداف معينة ، واذا كان امر هذه القواعد يمكن ان يكون أصلاً موضوعاً لاكثر من اتجاه فان تطبيق هذه القواعد بالتأكيد سوف لن يكون بعيداً عن ذلك، وان هذا القول تكون له احتمالية اكبر عند الكلام عن تطبيق للقاعدة الدولية ضمن النطاق الداخلي للدول. وبناءاً على ذلك فإن مشاكل تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان داخليا سوف لن تكون بعيدة عن هذه الاتجاهات ، حيث ان الامر سوف يتعلق بقاعدة دولية ضمن إطار قانوني داخلي، واذا كان هناك احتمال لإشكالية فيما يتعلق بتطبيق قاعدتين مختلفتين من حيث النظام القانوني الذي تنتمي إليه كل منهما فأن هذه الإشكالية سوف تكون أكبر بالتأكيد اذا كانت هذه القاعدة مختصة بحقوق الإنسان . وبناءاً على ما تقدم نستطيع ان نقول ان الاشكاليات النظرية بصدد القواعد الدولية لحقوق الإنسان من خلال تفاعلها مع القانون الداخلي يمكن ان ترجع اصلاً إلى الاشكاليات التقليدية المتعلقة بالعلاقة بين القانون الدولي والداخلي من جهة فضلاً عن الاشكاليات الخاصة بحقوق الإنسان فيما يخص التطبيق الداخلي من جهة أخرى.
ونستطيع ان نلخص أهم المشاكل النظرية التي تعرض تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان داخلياً في مشكلتين اساسيتين . الأولى ترتبط بالعلاقة بين القانونين الدولي والداخلي ، والثانية ترتبط بمسألة عالمية او خصوصية حقوق الإنسان . وسوف نتناول فيما يأتيكل مشكلة بشكل مستقل :
أولاً- المشكلة المرتبطة بالعلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي:
سبق وان تبين في صفحات سابقة من هذه الدراسة ان موضوع العلاقة بين القانونين الدولي والداخلي يعد محلاً للعديد من النظريات والاتجاهات الفقهية. وعلى ضوء المواقف من هذه النظريات والاتجاهات تقوم الدول بالتعامل مع هذه المسألة. أي ان حكم المسألة يبقى راجعاً إلى النظام القانوني الداخلي لكل دولة والذي يفترض به ان يعكس أيدولوجية الدولة واتجاهاتها. وبالرجوع إلى هذه النظم القانونية نجد ان هناك العديد منها يتخذ موقفاً معيناً من التعامل مع القانون الدولي وان هذا الموقف قد يؤدي إلى إعاقة تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان.
ويكون ذلك بالتأكيد بالنسبة إلى القوانين الداخلية التي لا تقوم على أساس إعطاء سمو للقانون الدولي على القانون الداخلي . الامر الذي يعني زيادة احتمالية عدم التمكن من تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان حاله في ذلك حال بقية القواعد الدولية، واذا كان الامر يؤدي إلى بعض الضرر بالنسبة إلى القواعد الدولية الأخرى فان هذا الضرر يكون كبيراً بالنسبة إلى قواعد حقوق الإنسان حيث ان الامر يعني إفراغ القواعد من قيمتها وتجميدها وعدم الاستفادة منها بالنسبة لرعايا الدول التي تأخذ بهذا الاتجاه.
واذا كانت احتمالية إعاقة التطبيق قائمة بالنسبة إلى أغلب الدول التي لا تعطي للقواعد الدولية سمو على قانونها الوطني بشكل عام فأن هذه الاحتمالية قد تزداد او تتناقص بحسب تفاصيل هذا الموقف حيث انه وكما علمنا مما تقدم في هذه الدراسة، ان هناك دولاً تعطي سمواً لقانونها الداخلي على القانون الدولي ومثل هذه الدول تكون اكثر الدول تقبلاً لاحتمال إعاقة تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان، اما بالنسبة إلى الدول التي تساوي بين قانونها الداخلي والقانون الدولي فأن الاحتمال قد يكون اقل من الحالة الأولى. وهكذا فانه وبحسب الموقف العام للقانون الداخلي من القانون الدولي تتحدد كيفية التفاعل بينهما وتبعاً لذلك تتحدد مبدئياً احتمالات التطبيق للقانون الدولي لحقوق الإنسان داخليا من عدمه. وهنا ولما كانت القواعد الدولية لحقوق الإنسان بحاجة ماسة للقانون الداخلي في سبيل الوصول إلى إعمالها فأن هذا يعني ضرورة ايجاد نظام خاص للعلاقة بين هذه القواعد والقانون الاخير، ولما كان القانون الداخلي لكل الدول هو الذي يعنى بتحديد وضع العلاقة بالقانون الدولي فان تحديد وتأسيس هذا النظام لا بد وان يكون ضمن القانون الداخلي.
ثانياً- مشكلة العالمية والخصوصية لحقوق الإنسان :
تعد هذه المشكلة من اكثر المشكلات التي من الممكن ان تعترض سبيل تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان من خلال القوانين الداخلية للدول ، حيث ان هذا التطبيق لا يعني تطبيق قواعد قانونية اشتركت مجموعة من الدول في ايجادها فحسب بل ان محتوى هذه القواعد يعني قبل ذلك انها قد تكون عبارة عن مبادئ او افكار او مفاهيم وقيم اسهمت مجموعة من المجتمعات او الثقافات او الحضارات عبر التاريخ في ايجادها سواء عير أنشطة داخلية او خارجية، وتطور الامر بها إلى حين صياغتها من قبل كيانات قانونية تمثل هذه المجتمعات او الثقافات الا وهي الدول. أي ان القانون الدولي لحقوق الإنسان لا يعد ثمرة لجهود دول معينة او مجموعة صغيرة من الدول بل ان مجموعة كبيرة من الدول قد اسهمت في إيجاده وبالتالي فان تاصليه الفكري والحضاري يرجع إلى الثقافات والحضارات التي تمتد إلى تلك الدول، ومن هنا فأن هذا يعني ان تطبيقه على الصعيد الداخلي لدولة معينة قد يعني تطبيق افكار وثقافات أجنبية عن الثقافة الوطنية لتلك الدولة ، وقد تختلف معها في بعض الجوانب التي يكون لها فيها خصوصية تتميز بها عن غيرها من الدول والمجتمعات فيما يتعلق بموضوع حقوق الإنسان. وهنا تكمن المشكلة بالنسبة الى الدول التي تدعي بأن لها خصوصية وخطاباً خاصاً ونظرة خاصة إلى حقوق الإنسان تختلف عن الصفة العامة او (العمومية) التي جاء بها القانون الدولي لحقوق الإنسان باعتباره قانوناً يخاطب جميع الدول بصرف النظر عن انتماءاتها الحضارية والثقافية والفكرية. حيث ان هذه الدول قد تمتنع عن تطبيق بعض احكام القانون الدولي لحقوق الإنسان او تتحفظ عليها وقت إبرام الاتفاقية الدولية على أساس ان مثل تلك الأحكام تتناقض مع الخصوصية الثقافية لمجتمعات تلك الدول بما تتضمنه من عادات وأنماط سلوك. ونظرة إلى الكون والحياة. حيث انه من المعلوم ان قواعد حقوق الإنسان وفي حال تطبيقها في موضوعها الحقيقي والفعال أي في نطاق القانون الداخلي فانها سوف تكون على تماس واحتكاك مباشر مع مختلف جوانب الحياة البشرية وبالتأكيد فأن الجوانب المذكورة آنفاً سوف تكون من ضمنها على خلاف غير ذلك من القواعد الدولية العامة حيث انها غالباً ما تكون بعيدة عن الاحتكاك بهذه الجوانب وانها يمكن ان تخاطب أية دولة دون ان تتعرض لخصوصيات مجتمعات تلك الدول. ولكن السؤال الذي يثار هنا هو انه ولما كان الإنسان هو الإنسان في مختلف المجتمعات وفي مختلف الدول فهل هناك فعلاً خصوصية لحقوقه يتميز بها مجتمع كل دولة عن الأخرى ام ان حقوق الإنسان هي ذاتها بالنسبة إلى مجتمع بني البشر اياً كان جنسه او لونه واياً كانت ثقافته او ديانته واياً كانت جنسيته او دولته. وبالتالي فأن التمسك بمسألة الخصوصية ليس الا سبيل للتهرب والامتناع عن تطبيق احكام القانون الدولي لحقوق الإنسان؟
تعد مسألة العالمية والخصوصية لحقوق الإنسان ومالحق بها من مصطلحات مثل الاصالة والمعاصرة والنقل والعقل والتقليد والتجديد …الخ من هذه الثنائيات، من الامور التي كانت ولا تزال تشغل المفكرين( [34])، سواء على مستوى الفكر والسياسة بشكل عام او على مستوى المفكرين والباحثين في مجال حقوق الإنسان بشكل خاص . ويزداد البحث والاهتمام في هذه المسألة كلما كانت هناك مخاوف من مسالة فقدان الهوية والثقافة الخاصة والانصهار ضمن الغير والتأثر بثقافته ، وتزداد هذه المخاوف كلما كنا أمام مجتمعات تعاني من الجمود وعدم التطور وعدم التمكن من اللحاق بالثقافات والحضارات الأخرى ، التي تظهر بوادر على تقدمها وتطورها وهنا تزداد هذه المخاوف اكثر اذا كان هناك شعور بان هذه الحضارات او الثقافات الآخذة بالتطور والمستمرة في ذلك قد تكون لديها نوايا في التأثير في الثقافات الأخرى بأقل تقدير ان لم نقل التصارع معها وابتلاعها. واذا كانت هذه المخاوف ليست بالامر الجديد اليوم فهي من الامور البارزة في ظل التطورات الحاصلة في المجتمع الدولي وبروز دول متطورة وبروز ظواهر مرافقة لها ضمن مفهوم العولمة والتي يعد موضوع الاهتمام بحقوق الإنسان من أهم التجليات السياسية المرافقة لها( [35]).
وهنا وأمام زيادة هذه المخاوف وفي ظل ظروف خاصة تسود العلاقات الدولية اليوم فان احتمالية ازدياد إثارة هذه المشكلة قد تكون اكبر ، مما يعني زيادة إعاقة تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان بسبب مشكلة العالمية والخصوصية، فما المقصود بكل من عالمية وخصوصية حقوق الإنسان؟
تقوم فكرة عالمية حقوق الإنسان على أساس ان العالم ككل قد شارك بكل حضاراته وثقافاته وأديانه في ايجاد مجموعة من الحقوق الإنسانية ضمن قواعد دولية ، وان هذه القواعد قد تم التوصل اليها نتيجة للاتفاق بين هذه الثقافات في سبيل تحقيق المزيد من الاعتراف لهذه الحقوق وتوفير المزيد من الضمانات والآليات لحمايتها، بحيث يصبح العالم ككل مسؤولاً عن تحقيق ذلك على أساس التعايش والانسجام والتعاون والاعتماد المتبادل بين الثقافات المختلفة وعلى أسس أخلاقية وقانونية دولية وصولاً إلى تحقيق الإعمال لهذه الحقوق والتي لا تختلف في حقيقتها عن حقوق الخاصة في كل الثقافات حيث ان موضوعها ومحلها هو واحد الا وهو الإنسان ورفاهيته. كما ان العالمية تعني ان حقوق الإنسان كل لا يتجزأ، بمعنى ان تكون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية جنباً إلى جنب مع الحقوق السياسية والمدنية وهي لا تقبل بذلك التراتب ( [36]).
وتتجلى الصفة العالمية لقواعد حقوق الإنسان في عدة أدلة ، تبدأ بانتقالها من الصعيد الداخلي إلى الصعيد الدولي واحتضانها في الصعيد الاخير ونموها وتطورها فيه حتى اصبح بيئةً اكثر صحية لهذا الغرض في سبيل دعمها وتطويرها ومحاولة ايصالها إلى التمكن من الإعمال ومن ثم إعادتها إلى وسطها الأول (الداخلي) وفي حقيقة الامر فان الوسط الدولي ليس الا وسطاً يتعلق بالعالم ككل ، ومن ثم فان ما يدخل اليه ويتطور فيه من الممكن ان يتصف بالعالمية .
ومن ناحية أخرى فانه عند الكلام عن عالمية للقواعد الدولية لحقوق الإنسان فان الامر مرتبط بالتأكيد بمجموعة من الاتفاقيات الدولية التي زاد عددها عن المائة اتفاقية وعهد دولي وافقت عليها معظم دول العالم واصبحت هذه الاتفاقيات فضلاً عن الاعلان العالمي لحقوق الإنسان تمثل اليوم المرجعية او المثال الاعلى لحقوق الإنسان سواء دوليا او داخليا وان صفة هذه المنظومة المكونة لهذه المرجعية ما هي الا صفة عالمية لكل انسان في أي مكان وزمان( [37]) ويتأكد ذلك من خلال التذكير بما ورد في ميثاق الامم المتحدة تلك المنظمة الدولية العالمية الاهم وكذلك نصوص العديد من الاتفاقيات والعهود الدولية لحقوق الإنسان من تأكيد على العالمية لحقوق الإنسان ، حيث ان هذه النصوص تخاطب الإنسان وتمنحه حقوقا متنوعة بصرف النظر عن لغة الانسان او دينه او لونه او عرقه او جنسه. ومن ناحية أخرى فان الرجوع إلى موضوعات العديد من الاتفاقيات والعهود الدولية لحقوق الإنسان والتي تكون المرجعية الدولية لهذه الحقوق ، نجد انها تتعلق بأمور تهم على الأغلب الأسرة البشرية بشكل عام ولا تتعلق بشعوب دول معينة بالذات حيث نجد ان موضوعات هذه الصكوك الدولية ترتبط بمشكلات إنسانية في حقيقتها تعد مشكلات عامة تهم الاسرة البشرية بشكل عام على اختلاف مجتمعاتها وثقافاتها ، مثل العبودية والتمييز العنصري وحقوق المرأة والطفل وحظر التعذيب والجرائم ضد الإنسانية والتنمية وحماية ضحايا الحرب وغير ذلك من الموضوعات التي تعكس في الحقيقة الصفة العالمية لهذه المشاكل وفي الوقت نفسه العلاج او الحل العالمي لها ، عن طريق آليات التعاون والاعتماد الدولي المتبادل . واذا كان هناك ثمة شك بصدد عالمية المرجعية التقليدية المعروفة لحقوق الإنسان على أساس انها تتضمن حقوقاً يتم تطبيقها في نهاية المطاف على صعيد داخلي ، فان ظهور الجيل الثالث من حقوق الإنسان بعد التطورات الحاصلة على الصعيد الدولي و الدفع و التقدم الحاصل في مسيرة حقوق الإنسان لمواكبة الحاجات و المشكلات الإنسانية المتزايدة والمستمرة والتي تمثل في حقيقتها هما إنسانياً عالمياً مشتركاً، بحيث ان استمرارها يعني تضرر الاسرة البشرية ككل ، مما اوجب التكاتف و التعاون بين الاسرة البشرية ككل لتلبية هذه الحاجات وحل هذه المشاكل ، التي لا يمكن حلها الا من خلال تعاون بهذا المستوى العالمي ، ومن الحقوق الإنسانية التي تمثل هذا الجيل ، الحق الجماعي في السلام و الحق في التضامن والحق في بيئة نظيفة و الحق في الاغاثة من الكوارث .
وتتأكد عالمية حقوق الإنسان في عالمية المؤتمرات الدولية التي تعقد في مجال حقوق الإنسان ، والتي تمثل ميدانا للبحث في الهم الانساني المشترك ومنابرلاقتراح الحلول للمشاكل الإنسانية ومناسبة لفتح باب الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية او التصديق عليها او الدعوة إلى تطبيقها او انتقاد حالات عدم التصديق او سوء التطبيق …الخ . ومن المؤتمرات الدولية المهمة في هذا المجال ، مؤتمر فينا 1993 والذي طرحت فيه مسالة العالمية والخصوصية لحقوق الإنسان بشكل ملح وكانت موضوعاً للعديد من المناقشات والانقسامات الدولية ، والتي توصلت في نهاية الامر إلى الاقرار بعالمية حقوق الإنسان وترابطها وعدم جواز تجزئتها( [38]).