تطبيق القانون الدولى الاتفاقى لحقوق الانسان
يتكون القانون الدولي الاتفاقي لحقوق الإنسان من مجموعة من الاتفاقيات و المعاهدات الدولية المبرمة بين الدول بشأن حقوق الإنسان وقد كنا قد تناولنا فيما تقدم تعريفا عاما ومأخوذا به فقهيا للمعاهدة إذ عرفت بأنها (اتفاق بين شخصين او اكثر من أشخاص القانون الدولي العام يهدف إلى إحداث آثار قانونية معينة)( [5]).
وفيما يتعلق بهذا المطلب من هذه الدراسة نجد ان ما يعنينا من هذا التعريف هو الشطر الأخير منه (إلى احداث آثار قانونية معينة) وهو ما يعني تطبيق أحكام المعاهدة. وفيما يتعلق بالآثار القانونية و بشكل عام نجد ان أي تعريف قانوني يحتوي في مضمونه الاتجاه إلى احداث آثار قانونية . ولكن الذي يلاحظ و بشكل عام ايضا انه ليس كل التصرفات القانونية تؤدي إلى احداث ذات الآثار التي تهدف اليها او بتعبير ادق ، ليس كل التصرفات القانونية تتصف بالقدرة على النجاح في تحقيق الآثار القانونية التي تتجه إلى احداثها و بالشكل الذي يتطابق مع الهدف منها ، حيث تتباين هنا المصادر القانونية لكل قانون و تختلف في إمكانياتها في تحقيق ذلك باختلاف المصدر القانوني ، ومن هنا تأتي أهمية جعل تسلسل المصادر القانونية بحسب القدرة على النجاح في تحقيق الأهداف من التصرف القانوني ، او بتعبير قانوني ادق ، بحسب مدى الإلزامية في التطبيق . وفيما يتعلق بالقانون الدولي لحقوق الإنسان تلعب المعاهدات او الاتفاقيات الدولية دوراً كبيراً في إعمال حقوق الإنسان . ويكون ذلك من خلال ما لهذا النوع من مصادر القانون الدولي من طبيعة تصلح لمعالجة بعض المشاكل المتعلقة بإعمال حقوق الإنسان بوسائل دولية ، حيث توصف المعاهدات والاتفاقيات الدولية بأنها المصدر الأكثر إلزاماً وقابلية على التطبيق من بقية مصادر القانون الدولي العام. حيث ان صيغة المعاهدات لا تتوقف عند مجرد صدور التصرف القانوني بالدخول كطرف فيها بل يجب ان يقرن بعد ذلك بتصرفات أخرى تقوم بها الدول الأطراف و يكون من شانها ان تؤدي إلى تطبيق ما تم الاتفاق عليه . و السؤال الذي يثار هنا هو متى و كيف تطبق أحكام القانون الدولي الاتفاقي لحقوق الإنسان ؟
علمنا مما تقدم عند الحديث عن تطبيق القانون الدولي العرفي لحقوق الإنسان ان هذا القانون اما ان يطبق بوسائل دولية بحتة او انه قد يطبق بوسائل مشتركة بين القانون الدولي والقانون الداخلي وذلك انطلاقا من الطبيعة الخاصة لقواعد حقوق الإنسان والتي قد تحتاج إلى قواعد داخلية لتطبيق تفاصيل هذه الحقوق . ان هذا الحكم الذي تعلق بتطبيق العرف الدولي ينطبق فيما يتعلق بتطبيق القانون الدولي الاتفاقي لحقوق الإنسان و يرجع ذلك إلى ذات السبب السابق الذكر . وانما يعنينا في حدود هذه الدراسة وفي هذا المطلب منها هو تناول الصورة الثانية أعلاه من صور التطبيق و التي تلعب دورا كبيرا في إعمال حقوق الإنسان . وفيما يتعلق بهذه الصيغة نجد ان القواعد الدولية الاتفاقية لحقوق الإنسان تصبح واجبة التطبيق بعد استكمال الشروط العامة لذلك بموجب أحكام القانون الدولي ، ووفقا للقواعد الدولية الخاصة بهذا الشان و التي قد تختلف من معاهدة إلى أخرى ( [6]). وبعد ان تصبح الاتفاقية واجبة التنفيذ، على الدول الأطراف تنفيذ ما عليها من الالتزامات بموجب أحكام الاتفاقية وعليها ان تهيئ أوضاعها القانونية والمادية لتطبيق أحكام الاتفاقية ، اذ انه وبموجب القواعد العامة في القانون الدولي والخاصة بتنفيذ المعاهدات و الواردة بشكل محدد في اتفاقية فينا لقانون المعاهدات والصادرة عام 1969 و التي دخلت حيز التنفيذ عام 1980 (لا يجوز لطرف في المعاهدة ان يتمسك بقانونه الداخلي كسبب لعدم تنفيذ المعاهدة) ( [7]). وهنا لابد من الإشارة إلى ان هذه الاتفاقية لم تأتِ بهذا الحكم بشكل مطلق بل انها أوردت عليه استثناء في المادة (46) والتي تضمنت جواز عدم تنفيذ المعاهدة اذا كانت قد أبرمت مخالفة لقانونها الداخلي فيما يتعلق باختصاص إبرام المعاهدات و ذلك اذا كان بسبب مخالفة لقاعدة ذات أهمية جوهرية من قواعد القانون الداخلي . أي انه يجب على الدول الأطراف تنفيذ المعاهدة ولا يجوز الامتناع عن ذلك بحجة عدم التلاؤم مع التشريعات الداخلية او عدم وجود تشريعات مناسبة لعملية التطبيق . اما فيما يتعلق بالقواعد الخاصة بحقوق الإنسان والمتعلقة بالتنفيذ على الصعيد الوطني فان اغلب الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان تتطلب اتخاذ إجراءات قانونية ومادية داخلية من نوع خاص في سبيل تنفيذ أحكامها وبهذا الخصوص نجد ان ميثاق الأمم المتحدة والذي يمثل اهم اتفاقية عالمية على مستوى القانون الدولي بشكل عام و القانون الدولي لحقوق الإنسان بشكل خاص ، قد تناول موضوع تطبيق أحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان باعتبار ان هذا الموضوع يعد من الموضوعات الأساسية التي تناولها هذا الميثاق وذلك ضمن الأهداف الرئيسة التي جاء في سبيل تحقيقها وكما بينا ذلك في الفصل الأول من هذه الدراسة . حيث تتضمن المواد الواردة فيه و المتعلقة بحقوق الإنسان التزامات قانونية على جميع الدول الأعضاء وهي في ذات الوقت تمثل جزءا من القانون الدولي لحقوق الإنسان لتعلقها بموضوعه . ولما كانت جميع الالتزامات الواردة في الميثاق واجبة التطبيق على جميع الدول الأعضاء في سبيل تحقيق أهداف المنظمة ، فان هذا يعني ان تلك المواد المتعلقة بحقوق الإنسان تعد ملزمة وواجبة التطبيق . حيث جاءت المادة (56) من الميثاق بنص صريح يفيد بان على جميع الدول الأعضاء اتخاذ إعمال جماعية او فردية تستهدف تحقيق أهداف المنظمة ، حيث ان هذه المادة تفرض التزاما صريحاً على جميع الدول من اجل التصرف على نحو معين من اجل تحقيق الإعمال لحقوق الإنسان ورعايتها . وان تنفيذ هذا الالتزام لا يعني الامتناع عن انتهاك حقوق الإنسان فحسب بل ان الأمر يعني ضرورة القيام بأفعال إيجابية مادية وقانونية لتنفيذ الالتزام وان الإعمال القانونية هنا لا يمكن الا ان تعني اتخاذ التدابير التشريعية المناسبة لإعمال حقوق الإنسان ( [8]). وعلى الرغم من الأهمية سابقة الذكر للميثاق ودوره في إعمال حقوق الإنسان او بأقل تقدير في النص صراحة على تدويل هذه الحقوق فان مسألة تطبيق نصوصه المتعلقة بهذه الحقوق وبشكل مباشر وعلى النطاق الداخلي للدول قد تكون محلا للتشكيك وذلك على اعتبار انه لم يأتِ بمصطلح (حماية) وانه اكتفى بمصطلح (تعزيز) او انه لم يتضمن تعدادا لهذه الحقوق او تفصيلاً لكيفية تطبيقها( [9]). واذا كان تطبيق نصوص الميثاق المتعلقة بحقوق الإنسان من الممكن ان يكون محلاً للشك فيما يتعلق بتطبيقها داخليا فان الامر لا يعد كذلك فيما يتعلق بنصوص اتفاقية أخرى تتعلق بذات الموضوع وهي تلك النصوص الصريحة الواردة في الاتفاقيات الدولية المتخصصة موضوعيا بحقوق الإنسان . ففي هذا الاتجاه تنص الفقرة الأولى من المادة (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والذي اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالرقم (2200) في عام 1966 . قد نصت على ( تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد بان تتخذ ، بمفردها او عن طريق المساعدة والتعاون الدوليين ، ولا سيما على الصعيدين الاقتصادي والتقني وبأقصى ما تسمح به مواردها المتاحة ، ما يلزم من خطوات لضمان التمتع الفعلي التدريجي بالحقوق المعترف بها في هذا العهد . سالكة إلى ذلك جميع السبل المناسبة ، وخصوصاً سبيل اعتماد تدابير تشريعية) وكذلك نص الفقرة الثانية من المادة (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي اعتمد وعرض للتوقيع و التصديق و الانضمام بموجب قرار الجمعية العامة سابق الذكر، والتي جاء فيها (تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد ، اذا كانت تدابيرها التشريعية او غير التشريعية القائمة لا تكفي فعلا إعمال الحقوق المعترف بها في هذا العهد ، ما يكون ضروريا لهذا الإعمال من تدابير تشريعية او غير تشريعية) .
من قراءة المادتين سابقتي الذكر واللتين وردتا في اهم اتفاقيتين دولتين في مجال حقوق الانسان بشكل عام واللتين تضمنتا جملة من الحقوق الإنسانية على اختلاف أنواعها والتي تحتاج اغلبها إلى الدخول إلى القانون الداخلي في سبيل تطبيقها ، يتضح انها تضمنت حكما مشتركا يفيد بان على الدول الأطراف في العهدين ان تتخذ الإجراءات والتدابير المادية والقانونية اللازمة لتفعيل الحقوق الإنسانية الواردة في العهدين ، وان تبذل في هذا الاتجاه أقصى ما لديها من إمكانيات في سبيل تفعيل هذه الحقوق ، و يأتي على راس ذاك اتخاذ ما يكون ضروريا من تدابير تشريعية . ويكون ذلك من خلال تعديل او إلغاء القوانين القائمة والتي تكون مخالفة لمحتوى الالتزام الدولي إلى ما يتلاءم معه او قد يكون ذلك من خلال إصدار التشريعات اللازمة لتنفيذ الالتزامات الدولية في حالة اذا كان التشريع الداخلي يفتقر إلى النصوص القانونية اللازمة لتطبيق حقوق الإنسان .
أي ان كلاً من العهدين قد جاء بمجموعة من الحقوق الإنسانية و ذلك ضمن مواد معينة وانه في نفس الوقت جاء بالسبيل المناسب لتفعيل الحقوق التي جاء بها و الذي يتلاءم مع طبيعتها و حاجتها إلى قانون ذي تماس مباشر مع محل الحقوق وموضوعها الا وهو الإنسان ، اما القانون فهو القانون الداخلي . ويتمثل هذا السبيل بايجاد نص قانوني خاص تكون مهمته إحالة محتوى الحقوق الواردة في المواد القانونية إلى التطبيق من خلال القانون الداخلي . أي ان هذا النص قد يكون بمثابة السبيل القانوني الملزم لنقل هذه الحقوق المنظمة دولياً إلى القانون الداخلي وبما ان هذا السبيل يتصف بالالتزام باعتباره ضمن مواد تعاقد دولي فان مخالفته تكون موجبة للمسؤولية الدولية . وفي هذا الاتجاه ايضا تذهب الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والموقعة عام 1950 والتي بدأت بالنفاذ عام 1953 ، إلى ضرورة ان تتخذ الدول الأطراف فيها الإجراءات التشريعية الداخلية اللازمة لنقل محتوى الاتفاقية إلى حيز التطبيق وكذلك الحال بالنسبة لاتفاقيات إقليمية أخرى خاصة بالدول الأوروبية مثل الميثاق الاجتماعي الأوروبي المبرم في إيطاليا عام 1961 والاتفاقية الأوروبية لمنع التعذيب والمعاملة القاسية او العقوبة اللاانسانية او المهينة والمبرمة في (سترازبورج) عام 1987 . اما فيما يتعلق بالقارة الأمريكية والتي خطت دولها خطوات إيجابية ايضا في مجال حقوق الإنسان وذلك بإقرار الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان في عام 1969 والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1978 والتي تضمنت النص على (82) مادة يتصدرها تعهد من قبل الدول الأطراف باحترام الحقوق والحريات المنصوص عليها . وان تتخذ كافة الإجراءات اللازمة لتطبيقها عن طريق سن التشريعات وغيرها من التدابير الكفيلة بالتنفيذ فيما يتعلق بالمواد الخاصة بالحقوق المدنية و السياسية والواردة تفصيلها في المواد من (3) إلى (25) .
اما بخصوص التنظيم الدولي الإقليمي في القارة الأفريقية فقد صدر عنه عام 1981 الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان و الشعوب و الذي دخل حيز التنفيذ عام 1986، والذي تضمن في المادة الأولى منه نصاً صريحاً بإلزام الدول الأطراف في الميثاق باتخاذ كافة الإجراءات التشريعية وغيرها من اجل كفالة احترام و تطبيق هذا الميثاق .
اما فيما يتعلق بالاتفاقيات الدولية الخاصة لحقوق الإنسان ، فان اغلبها يتجه إلى إيراد نص يلزم الدول الأطراف باتخاذ تدابير تشريعية داخلية في سبيل تنفيذ أحكام هذه الاتفاقيات وعلى سبيل المثال الاتفاقية الدولية لعام 1965 والخاصة بمنع كافة أشكال التمييز العنصري والتي جاء في الفقرة الثانية من المادة الأولى منها نص يلزم الدول الأطراف باتخاذ كل الوسائل والإجراءات التي من شانها إنهاء التمييز العنصري داخل أراضيها وان تضمن منح كل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون تمييز . وكذلك نص المادة (2) من الاتفاقية الدولية الخاصة بإنهاء كل أشكال التمييز ضد المرأة والتي تم إقرارها عن طريق الأمم المتحدة عام 1979 والتي جاءت بحكم مماثل للحكم على الذي جاءت به الاتفاقيات السابقة في سبيل الوصول إلى الأهداف المرجوة من وجودها .
اما بخصوص تطبيق القانون الدولي الإنساني فقد جاءت نصوص هذا القانون بأحكام مشابهة لإحكام سابقة الذكر بهذا الخصوص . فقد جاء في المادة الأولى المشتركة في نصوص اتفاقية جنيف الاربع لعام 1949 ، ( تتعهد الاطراق السامية المتعاقدة بان تحترم هذه الاتفاقية وتكفل احترامها في جميع الأحوال) . اما الفقرة الأولى من المادة الأولى في البروتوكول الأول الملحق بهذه الاتفاقيات لعام 1977 فقد جاء فيه (تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بان تحترم و تفرض احترام هذا الملحق في جميع الأحوال)( [10]).
وتدل هذه النصوص ذات الأهمية والواردة في اهم تشريع للقانون الدولي الانساني على ان تنفيذ الالتزامات الواردة في هذه النصوص لا يكون من خلال مجرد التزام سلبي من قبل الدول بعدم مخالفة نصوصها بل ان الأمر يكون من خلال كفالة الاحترام لها لا بل من خلال فرض هذا الاحترام من خلال جعل الاخرين يحترمونها في جميع الأحوال( [11]).
وبالتأكيد فان تحقيق هذا الالتزام يكون من خلال اتخاذ تدابير تشريعية داخلية في هذا الاتجاه . واذا كانت النصوص السابقة لم تشر صراحة الى الاجراءات والتدابير التشريعية بشكل خاص في سبيل تطبيق الاتفاقيات بشكل عام فان نصوص مواد اخرى في ذات الاتفاقية قد اشارت بشكل صريح الى الاجراءات التشريعية الداخلية في حالات معينة . حيث جاءت نصوص المواد (49) من الاتفاقية الاولى والمادة (50) من الاتفاقية الثانية والمادة (129) من الاتفاقية الثالثة والمادة (146) من الاتفاقية الرابعة ، باشارة صريحة الى الالتزام باتخاذ اجراءات تشريعية ، حيث جاء في النص المشترك للمواد الاربع سابقة الذكر ( تتعهد الاطراف السامية المتعاقدة بان تتخذ أي اجراء تشريعي يلزم لفرض عقوبات جزائية فعالة على الاشخاص الذين يقترفون او يامرون باقتراف احدى المخالفات الجسيمة لهذه الاتفاقية والمبينة في المادة التالية) ويقصد بالمادة التالية المواد التالية للمواد الاربع السابقة الذكر ، حيث تضمنت المواد التالية لها مجموعة من الافعال اللاانسانية ، مثل القتل العمد والتعذيب 000 الخ . ويتضح مما تقدم ان هناك واجبا محددا على الدول الاطراف يقتضي منها اتخاذ تدابير تشريعية بالذات لمعاقبة مرتكبي انواع معينة من الجرائم وفقاً لمبادئ حقوق الإنسان وبالتالي فان عدم تنفيذ هذا الالتزام يعني بالتاكيد تحمل مسؤولية دولية عن ذلك( [12]).
علمنا مما تقدم ان مسألة تنفيذ الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان تحكم بقواعد دولية عامة ، وكذلك فان هناك قواعد خاصة بتطبيق هذه الاتفاقيات بالذات وهي التي ينص عليها في الكثير من هذه الاتفاقيات . ولكن السؤال الذي يثار هنا هو عن الضمان لتنفيذ ما تقضي به هذه الاتفاقيات ؟
من المعلوم ان اتفاقيات حقوق الإنسان تعد جزءا من التشريع الدولي بشكل عام وبالتالي فان الاحكام العامة التي تنطبق على اية اتفاقية دولية تطبق على اتفاقيات حقوق الإنسان ايضا، وبالتالي فان الضمانات الدولية العامة المهيأة لتنفيذ احكام القانون الاصل هي ذاتها المكلفة بضمان تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان . واستناداً الى المبدأ العام في القانون الدولي فان عدم تنفيذ الالتزام الدولي ايا كان مصدره يرتب تحمل الطرف غير المنفذ للمسؤولية الدولية المقررة على فعله المخالف ، حيث ان ضرورة تنفيذ هذه الالتزامات وبالأخص تلك الناجمة عن اتفاقيات دولية يعد من المبادئ المهمة في القانون الدولي العام . وبهذا الاتجاه ذهبت ديباجة اتفاقية فينا سابقة الذكر ، حيث جاء فيها ما يفيد بان حرية الانضمام الى المعاهدات ومبدأ حسن النية وضرورة تنفيذ الاتفاقيات تعد مبادئ معترفاً بها عالمياً ، وان شعوب الامم المتحدة تؤمن باحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وبان تطوير الاتفاقيات من شانه خدمة اهداف الامم المتحدة و احترام حقوق الإنسان . وفضلاً عن ما جاء في الديباجة فقد جاء في المادة (27) سابقة الذكر ان الاطراف لا يمكنهم التذرع بالقانون الداخلي لتبرير عدم تنفيذ معاهدة صادقوا عليها .
وقد كان المجتمع الدولي ومنذ القدم قد تعرف على عدة ضمانات لتنفيذ احكام الاتفاقيات الدولية و يمكن ان تصنف هذه الضمانات الى ضمانات تقليدية تضاءل التعامل بها شيئا فشيئا ومثال ذلك ما يعرف ( بالضمان الديني ) الذي كان سائدا في العصور القديمة والذي كان يتضمن صيغة معينة للقسم و التعهد بتنفيذ المعاهدة . حيث ان صيغة القسم قد تبعث على الرهبة لبيان مدى قدسية الالتزام بالمعاهدة( [13]).
ومن الاساليب القديمة الاخرى (أسلوب الرهن) والذي يتضمن قيام احد اطراف المعاهدة بتقديم بعض الاشياء القديمة كالاحجار الكريمة والاموال على سبيل الوديعة لضمان تنفيذ المعاهدة( [14])، او قد يكون الضمان متخذاً شكل قيام الطرف المتضرر من عدم التنفيذ باحتلال جزء من اراضي الدولة الغير منفذة ولمدة محدودة لاجبارها على التنفيذ وهو ما يعرف بضمان (الاحتلال العسكري) والذي عرف في وقت لاحق باسلوب (الانتقام) ويكون ذلك استناداً الى نص صريح في المعاهدة ذاتها( [15]).
وبالنظر الى اضمحلال الطرق التقليدية الاولى سابقة الذكر لعدم ملاءمتها حالياً لواقع العلاقات الدولية وعدم مشروعية استخدام القوة والاحتلال العسكري في ظل القانون الدولي المعاصر باعتباره تصرفا غير مشروع وفقاً لاحكام ميثاق الامم المتحدة( [16]). فقد اخذ المجتمع الدولي يبحث عن ضمانات لتنفيذ احكام الاتفاقيات الدولية بشكل يتلاءم مع الطابع الجديد لهذا المجتمع والذي يقوم على اساس التعاون الدولي وبالفعل نجد ان هذا المجتمع نجح في ايجاد هذه الضمانات وبالشكل الذي يتلاءم مع طابعه الجديد ، واهم هذه الضمانات وأبرزها تمثل بالرقابة الدولية ، واذا كانت هذه الضمانات تتسم بطابع العمومية فيما يتعلق بتنفيذ احكام القانون الدولي بشكل عام فانها تتسم بخصوصية واهمية واضحة ومعتمدة بشكل صريح فيما يتعلق بتنفيذ احكام الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان .
ومن الأمثلة العامة على ضمانة الرقابة الدولية، الرقابة التي تم النص عليها في المادة (18) من معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية والتي تتضمن متابعة حسن تطبيق الدول الاطراف لاحكام المعاهدة( [17])، اما فيما يتعلق بضمانة الرقابة الدولية الخاصة بتطبيق اتفاقيات حقوق الإنسان فقد اخذت اغلب هذه الاتفاقيات بهذا النوع من الرقابة في سبيل متابعة تنفيذ احكامها وخاصة فيما يتعلق بأتخاذ التدابير التشريعية المناسبة لهذا الغرض . فقد جاء في المواد (16-17) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ما يفيد بان الدول الاطراف تتعهد بان تقدم تقارير عن التدابير التي قد اتخذتها وعن التقدم المحرز على طريق احترام حقوق الإنسان المعترف بها في العهد ، وتوجه هذه التقارير الى الامين العام للامم المتحدة والذي يحيل نسخاً منها بدوره الى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للنظر فيها طبقاً لاحكام العهد( [18]).
وبموجب هذه المادة يعتبر هذا المجلس الجهاز الرسمي المسؤول عن مراقبة تنفيذ احكام العهد الا انه قد فوض اختصاصه هذا الى لجنة خاصة تحت اسم لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وذلك وفقاً لقرار المجلس رقم (17) لسنة 1985 . وتتكون هذه اللجنة من (18) خبيراً منتخبا من قبل الدول الاعضاء ويعملون بصفتهم الشخصية وتقوم هذه اللجنة بدراسة التقارير الواردة اليها وتحليلها ورفعها الى المجلس ولجنة حقوق الإنسان او الوكالات المتخصصة والتابعة للامم المتحدة وذات العلاقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية( [19]).
وكذلك الحال فيما يتعلق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حيث تشرف لجنة حقوق الإنسان التابعة الى المجلس الاقتصادي والاجتماعي على تطبيق احكام العهد ، ويكون ذلك من خلال آليتين للرقابة تتمثل الاولى في النص الصريح في المادة (4) من العهد على إلزام الدول الاطراف بتقديم تقارير دورية الى اللجنة بخصوص الخطوات المتخذة في سبيل إعمال الحقوق المنصوص عليها في العهد كتنفيذ مباشر للالتزام الصريح الوارد في المادة (2) منه .
اما الآلية الثانية فتتمثل بقيام اللجنة بتلقي شكاوي من الافراد ضد الدول الاطراف في البروتوكول الملحق بالعهد بخصوص تطبيق الحقوق الواردة في العهد ( [20]).
وفيما يتعلق بالحماية الاقليمية لحقوق الانسان فنجد ان الاتفاقيات المؤسسة لهذه الحماية قد تم أقرانها باليات معينة للرقابة بهدف ضمان التطبيق ، ففيما يتعلق بالاتفاقية الاوروبية لحقوق الإنسان فقد جاء في المادة (19) منه ما يفيد بإيجاد آلية للرقابة على تطبيق الاتفاقية ويكون ذلك من خلال جهازين خاصين يتمثلان باللجنة الأوربية لحقوق الانسان والمحكمة الاوربية لحقوق الانسان ، اضافة الى ذلك فان الاتفاقية قد خولت بعض الوظائف الاشرافية والرقابية من اجل تطبيق الحقوق الواردة في الاتفاقية الى لجنة وزراء المجلس الاوربي بحسب ما ورد في المادتين (32و54) من الاتفاقية.
وتعتمد آلية الرقابة والاشراف بالنسبة لهذه الاتفاقية على اساس نظام الشكاوي سواء المقدمة من قبل الافراد او الدول الاطراف( [21]).
وكذلك هو الحال بالنسبة إلى تطبيق الاتفاقية الامريكية لحقوق الانسان حيث يقترن تطبيق هذه الاتفاقية بالية مراقبة وإشراف على التطبيق تتولى كل من اللجنة الامريكية لحقوق الانسان والمحكمة الامريكية لحقوق الانسان مهام تنفيذها( [22]).
اما بخصوص الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب فقد تم اقرانه بالية للرقابة والتأكد من حسن التطبيق واتخاذ الدول الاطراف للتدابير اللازمة التشريعية للتنفيذ وتتولى اللجنة الافريقية هذه المهمة بموجب المواد (45و46و59و60و63) من الميثاق( [23]).
وإذا كانت الاتفاقيات العامة لحقوق الانسان سواء في اطارها العالمي او الاقليمي قد تم اقرانها بآليات للرقابة والاشراف على التنفيذ فان الاتفاقيات الخاصة بحقوق معينة من حقوق الانسان لم تخلُ من مثل هذه الرقابة فعلى سبيل المثال فيما يتعلق باتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز العنصري لعام 1965 فقد انشأت هذه الاتفاقية بموجب المادة ( منها لجنة مختصة بمهمة الرقابة وهي لجنة القضاء على التميز العنصري وتكون مهمتها الاساسية مراقبة التدابير المتخذة من قبل الدول الاطراف لإعمال احكام الاتفاقية.
وكذلك الحال فيما يتعلق بلجنة القضاء على التميز ضد المرأة حيث تم انشاء هذه اللجنة بموجب المادة (17)من اتفاقية القضاء على جميع اشكال التميز ضد المرأة والمعتمدة من قبل الامم المتحدة بموجب قرار الجمعية العامة رقم (34/180) لعام 1979 .
وينطبق الوصف السابق نفسه بالنسبة إلى اللجنة مناهضة التعذيب والتي انشأت بموجب المادة (17) من اتفاقية التعذيب وغيره من ضروب المعاملة او المعاملة القاسية او اللاأنسانية او المهينة والمقـرة مـن قبـل الأمـم المتحدة بموجب قرار الجمعية العامة رقم (39/46) لعام 1984.
ويبدو مما تقدم ان تطبيق احكام القانون الدولي الاتفاقي لحقوق الانسان يستند بشكل عام الى القواعد العامة في القانون الدولي لتنفيذ الالتزامات الناجمة عن مصدر اتفاقي او تعاقدي فضلاً عن ذلك فان خصوصية القواعد الدولية لحقوق الانسان وحاجتها الى القانون الداخلي في سبيل تطبيقها اقتضت ايجاد نظام صريح يتضمن ايجاد التزام دولي صريح ومباشر بتطبيق القواعد الدولية لحقوق الانسان من خلال اتخاذ تدابير تشريعية من قبل الاطراف الملتزمة بنصوص الاتفاقية ، كما ان هذا النظام يتضمن في الوقت نفسه وعلى الاغلب ضماناً لتفعيل الالتزام المشار اليه ويكون ذلك من خلال الية الرقابة و الاشراف على تنفيذ الالتزام والتي تعد في حقيقتها بمثابة الدعم الخاص للضمانات العامة المقررة في القانون الدولي العام في سبيل تنفيذ احكامه بشكل عام و بضمنها احكام القانون الدولي لحقوق الانسان.
واذا كان ما تناولناه فيما تقدم يتعلق بالية دولية لتنفيذ الالتزامات الدولية و ضمان تحقق ذلك واذا كان تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان وكما علمنا مما تقدم من هذه الدراسة يحصل بناءا على تفاعل بين قواعده وقواعد القانون الداخلي ، فان هذا يعني ان النظام العام لتطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان لا يكتفي بايجاد الية دولية للتطبيق بل انه يحتاج الى اقران ذلك بالية داخلية لذات الغرض وبقيام التوافق بين الآليتين يمكن ان يتحقق التطبيق ، فهل هناك الية داخلية خاصة بتطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان ؟
علمنا مما تقدم بان القواعد الدولية لحقوق الانسان عبارة عن قواعد ضمن التكوين العام للقانون الدولي العام و اذا كان الامر كذلك فان هذا يعني ان هذه القواعد تصبح واجبة التطبيق او نافذة في الوسط الدولي وفقا للقواعد العامة التي تحكم سريان القواعد الدولية وهي تكون كذلك بالنسبة إلى القواعد العرفية باكتمال العناصر المعروفة والمكونة للعرف الدولي والتي سبق وان تناولناها فيما تقدم . اما بخصوص القواعد الاتفاقية فيكون الامر كذلك اما وفقاً للطريقة المتفق عليها في الاتفاقية للبدء بالنفاذ ( [24]). او يرجع في ذلك الى القاعدة العامة التي تقضي بان المعاهدة تكون نافذة بعد اكتمال اجراءات التصديق عليها وفي هذا الخصوص يذهب الفقيه ( Brownlie ) الى ان المعاهدة تدخل حيز التنفيذ اما بالطريقة التي تقررها المعاهدة وبالتاريخ المحدد فيها لذلك وانه عندما لا تحدد المعاهدة تاريخا معينا للنفاذ و كانت متضمنة تاريخا محدداً للتصديق عليها فان هذا يعني نفاذ المعاهدة يكون في ذلك التاريخ ( [25]).
واذا كان ما تناولناه اعلاه يعني نفاذ المعاهدة الدولية فانه ليس بالضرورة ان يعني ذلك نفاذها في ذات الوقت داخل جميع الدول الأطراف فيها . واذا كان القول السابق لا يعني بالضرورة جمود الاتفاقية او عدم نفاذها بشكل حقيقي فيما يتعلق بالمعاهدات الدولية يشكل عام فان ذلك يعني وعلى الاغلب بالنسبة إلى الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان حيث ان مفهوم النفاذ السابق عبارة عن نفاذ في الوسط الدولي وهو لا يعني بالضرورة نفاذا مقابلا داخل جميع الدول الاطراف حيث نجد ان النفاذ الدولي قد يقابل أحيانا بنفاذ مماثل على الصعيد الداخلي لدى بعض الدول ولكن الامر قد لا يكون كذلك لدى دول أخرى . وان مثل هذا القول يعني ان اغلب النصوص الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان قد تكون غير قابلة للتطبيق بمجرد بدء النفاذ للاتفاقية في الوسط الدولي وقد يرجع ذلك الى سببين يتعلق الاول بان اغلب القواعد الدولية لحقوق الانسان تحتاج الى اقتران بالقواعد الداخلية في سبيل ان تجد طريقها الى التطبيق .اما السبب الثاني فيتعلق بان الكثير من الدول لا تطبق القواعد الدولية بمجرد اقرارها او التصديق عليها بل ان ذلك قد يحتاج الى اجراء داخلي خاص .
وبناءً على ما تقدم فانه وفي سبيل متابعة تطبيق قواعد القانون الدولي لحقوق الانسان ومعرفة نصيب هذه القواعد من النجاح في التطبيق الفعلي و تحقيق الغرض من وجودها لابد من التعرف على كيفية تطبيقها في النظام القانوني الداخلي للدول .
من المعروف ان القواعد الدولية بشكل عام وبضمنها القواعد الاتفاقية منها وان كانت في طبيعتها تشترك مع القواعد الداخلية في صفة القانونية الا ان هذا الاشتراك لا يعني بالضرورة انها من ذات الجنس . وفي هذا الاتجاه يذهب بعض الفقهاء الى ان المعاهدات ليست مصدرا من مصادر القاعدة القانونية الداخلية والى ان الدول وان كانت ملتزمة دوليا بتطبيق المعاهدات سواء في الوسط الدولي او حتى ضمن نظامها القانوني الداخلي فان التطبيق الاخير يحتاج الى تصرف قانوني خاص تأخذه الدولة لتتبنى بموجبه المعاهدات و تدمجها في نظامها الداخلي ( [26]). وبالاخذ بواقع العلاقات الدولية و بالعودة الى ما كنا قد توصلنا اليه فيما يتعلق بتطبيق القانون الدولي داخل الدول وان ذلك يتم بناءا على تفاعل بين عدة اعتبارات نجد ان مسألـة تطبيـق القانـون الدولي في النظام القانوني الداخلي تختلف مـن دولـة الى اخرى ( [27]) وهذا يعني عدم وجود قاعدة عامة تسري على كل علاقة من هذا النوع ومن جهة اخرى وكنتيجة مترتبة على ذلك ان امر تحديد كيفية التطبيق سوف يكون راجعا الى النظام الداخلي نفسه بالنسبة لكل دولة . أي ان القانون الداخلي لكل دولة هو الذي يحدد كيفية تعامله وتفاعله الايجابي او السلبي مع احكام القانون الدولي وهذا الامر سبق وان كنا قد بيناه عند الحديث عن العلاقة بين القانونين . واذا كنا في هذا المحل من هذه الدراسة نبحث عمليا عن كيفية تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان مع التسليم بضرورة اقتران ذلك من حيث التطبيق بالقوانين الداخلية للدول فلا بد لنا ان نتساءل هنا عن الاساليب التي تأخذ بها الدول داخليا للتعامل مع القانون الدولي لحقوق الإنسان ؟
قبل الدخول في موضوع اساليب تطبيق الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان في القوانين الداخلية للدول لابد من بيان ان تنفيذ الالتزامات القانونية للدول التي تقضي بها هذه الاتفاقيات الدولية او غيرها ، يعد واجباً قانونياً على كل دولة تسري عليها احكام الاتفاقيات بموجب القواعد العامة او الخاصة لسريان المعاهدات ، وان تدخل أية دولة عند تنفيذ هذا الالتزام خارج الاحوال التي يجوز بها قانونا ذلك ، يعني خرق هذه الدولة للقانون الدولي العام مما يعني تحملها المسؤولية الدولية . أي ان مثل هذه الدولة تكون امام خيارين هو تنفيذ الالتزامات الدولية وتحمل الاعباء الناجمة عنها وبالتالي عدم تحمل المسؤولة الدولية . اما الثاني فهو عدم تنفيذ الالتزام و بالتالي تحمل هذه المسؤولية والاعباء الناجمة عنها ، ويضاف الى ما تقدم ما يتبع التعامل الايجابي او السلبي مع مثل هذا الالتزام من اثار معنوية ايجابية او سلبية للدولة على صعيد علاقاتها الدولية ، الامر الذي يعني ان على الدول في جميع الأحوال ان تحسم مسألة تعامل قانونها الوطني مع القانون الدولي الواجب التطبيق داخليا من قبلها وان تنظم ذلك على ضوء قراءتها للخيارات سابقة الذكر .
وتتلخص اساليب تنفيذ المعاهدات الدولية عموما في أسلوبين : الاول يقوم على أساس تنفيذ المعاهدة بشكل مباشر و بدون الحاجة الى اتخاذ اجراء داخلي معين ، اما الثاني فيكون باشتراط أستباق تنفيذ المعاهدة الداخلية باتخاذ اجراء معين ممهد للتطبيق .
اولاً- تنفيذ المعاهدة بشكل مباشر .
يقوم هذا النمط على أساس تطبيق ما تقضي به القاعدة الدولية بشكل مباشر على الصعيد الدولي و دون الحاجة الى اتخاذ إجراء تشريعي داخلي من شانه ان يتضمن إعادة خلق محتوى القاعدة الدولية او إعطاءها إمكانية النفاذ الداخلي ، و يؤصل مفهوم هذا النمط على أساسين الاول نظري اما الثاني فهو عملي . حيث يقوم الاساس الاول على احدى النظريات الاساسية للعلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي والتي سبق وان تناولناها والتي تختلف الدول في مدى الاخذ بها والتأثر بها ، وهي نظرية وحدة القانون ، والتي تقضي بان كلاً من القانونين الدولي والداخلي يشكلان في الحقيقة نظاما قانونيا واحدا ، وتأسيساً على ذلك فان خلق أية قاعدة دولية ليس في الحقيقة الا إيجاد لها ضمن النظام الموحد وبالتالي فان تطبيقها سوف لن يكون الا ضمن نطاق السريان لهذا النظام الموحد والذي يشمل بدوره المحيط الدولي والمحيط الداخلي ، وبذلك واذا كانت الاعتبارات العملية تقضي احيانا بان تطبيق قاعدة دولية في المحيط الداخلي والذي يعد جزءا من المحيط العام للنظام فان هذا التطبيق يعد أمراً طبيعياً ونتيجة منطقية ولا يحتاج الى اجراء داخلي في سبيل تحقيق ذلك ، حيث تعد القاعدة الدولية بحسب هذه النظرية تحكم القاعدة الداخلية . اما الاعتبار العملي فيقوم على نتيجة منطقية مرتبطة بنظرية وحدة القانون وتتعلق بصلاحيات سلطات الدولة و الاثار القانونية المترتبة على تصرفاتها حيث انه اذا كان الامر يتعلق بابرام معاهدة وفقا للاسس المنظمة لذلك في القانون الداخلي و بدون أي تجاوز فان هذا يعني قابلية هذه المعاهدة على النفاذ داخليا دون الحاجة الى اتخاذ اجراءات داخلية جديدة واضافية على تلك المتخذة وقت ابرام المعاهدة حيث ان قابلية الاجراءات الاولى على احداث الاثار القانونية يترتب عليها ذات النتيجة فيما يتعلق بالتطبيق على الصعيد الداخلي ( [28]) .
أي ان الاخذ بهذا النمط يقوم على اساس ان كلاً من القانونين الدولي والداخلي يشكلان قانونا واحدا وان النتيجة العملية المترتبة على ذلك تتمثل بعدم الحاجة الى وجود أي اجراء قانوني داخلي في سبيل تطبيق النصوص الدولية الاتفاقية ، حيث تكون قابلة للتطبيق دون الحاجة الى ذلك ، حيث ان المعاهدات الدولية المبرمة بشكل صحيح وفقا للقواعد الدولية والداخلية المنظمة لذلك تكون واجبة التطبيق ويسري هذا الوجوب وبحسب موضوع المعاهدة على سلطات الدولة المختصة بادارة الشؤون الخارجية للدولة او تلك المختصة بإدارة الشؤون الداخلية . حيث ان موضوع القاعدة الدولية اذا كان على الاغلب ينظم مسائل دولية فانه في كثير من الاحيان قد ينظم مسائل داخلية و هناك قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان . وهنا ونحن بصدد الحديث عن تطبيق القانون الدولي داخليا بشكل مباشر ودون الحاجة الى اجراءات معينة قد يثار تساؤل بصدد النظم القانونية الداخلية لبعض الدول التي تاخذ بهذا النمط للتطبيق ، وذلك بخصوص اشتراط قانونها الداخلي لاتخاذ اجراءات معينة لنشر القواعد الدولية الاتفاقية قبل تطبيقها فهل ان هذا الاشتراط يعني عدم تلقائية التطبيق للمعاهدات وتوقف ذلك على القيام باجراء النشر السابق على التطبيق ؟
يتكون القانون الدولي الاتفاقي لحقوق الإنسان من مجموعة من الاتفاقيات و المعاهدات الدولية المبرمة بين الدول بشأن حقوق الإنسان وقد كنا قد تناولنا فيما تقدم تعريفا عاما ومأخوذا به فقهيا للمعاهدة إذ عرفت بأنها (اتفاق بين شخصين او اكثر من أشخاص القانون الدولي العام يهدف إلى إحداث آثار قانونية معينة)( [5]).
وفيما يتعلق بهذا المطلب من هذه الدراسة نجد ان ما يعنينا من هذا التعريف هو الشطر الأخير منه (إلى احداث آثار قانونية معينة) وهو ما يعني تطبيق أحكام المعاهدة. وفيما يتعلق بالآثار القانونية و بشكل عام نجد ان أي تعريف قانوني يحتوي في مضمونه الاتجاه إلى احداث آثار قانونية . ولكن الذي يلاحظ و بشكل عام ايضا انه ليس كل التصرفات القانونية تؤدي إلى احداث ذات الآثار التي تهدف اليها او بتعبير ادق ، ليس كل التصرفات القانونية تتصف بالقدرة على النجاح في تحقيق الآثار القانونية التي تتجه إلى احداثها و بالشكل الذي يتطابق مع الهدف منها ، حيث تتباين هنا المصادر القانونية لكل قانون و تختلف في إمكانياتها في تحقيق ذلك باختلاف المصدر القانوني ، ومن هنا تأتي أهمية جعل تسلسل المصادر القانونية بحسب القدرة على النجاح في تحقيق الأهداف من التصرف القانوني ، او بتعبير قانوني ادق ، بحسب مدى الإلزامية في التطبيق . وفيما يتعلق بالقانون الدولي لحقوق الإنسان تلعب المعاهدات او الاتفاقيات الدولية دوراً كبيراً في إعمال حقوق الإنسان . ويكون ذلك من خلال ما لهذا النوع من مصادر القانون الدولي من طبيعة تصلح لمعالجة بعض المشاكل المتعلقة بإعمال حقوق الإنسان بوسائل دولية ، حيث توصف المعاهدات والاتفاقيات الدولية بأنها المصدر الأكثر إلزاماً وقابلية على التطبيق من بقية مصادر القانون الدولي العام. حيث ان صيغة المعاهدات لا تتوقف عند مجرد صدور التصرف القانوني بالدخول كطرف فيها بل يجب ان يقرن بعد ذلك بتصرفات أخرى تقوم بها الدول الأطراف و يكون من شانها ان تؤدي إلى تطبيق ما تم الاتفاق عليه . و السؤال الذي يثار هنا هو متى و كيف تطبق أحكام القانون الدولي الاتفاقي لحقوق الإنسان ؟
علمنا مما تقدم عند الحديث عن تطبيق القانون الدولي العرفي لحقوق الإنسان ان هذا القانون اما ان يطبق بوسائل دولية بحتة او انه قد يطبق بوسائل مشتركة بين القانون الدولي والقانون الداخلي وذلك انطلاقا من الطبيعة الخاصة لقواعد حقوق الإنسان والتي قد تحتاج إلى قواعد داخلية لتطبيق تفاصيل هذه الحقوق . ان هذا الحكم الذي تعلق بتطبيق العرف الدولي ينطبق فيما يتعلق بتطبيق القانون الدولي الاتفاقي لحقوق الإنسان و يرجع ذلك إلى ذات السبب السابق الذكر . وانما يعنينا في حدود هذه الدراسة وفي هذا المطلب منها هو تناول الصورة الثانية أعلاه من صور التطبيق و التي تلعب دورا كبيرا في إعمال حقوق الإنسان . وفيما يتعلق بهذه الصيغة نجد ان القواعد الدولية الاتفاقية لحقوق الإنسان تصبح واجبة التطبيق بعد استكمال الشروط العامة لذلك بموجب أحكام القانون الدولي ، ووفقا للقواعد الدولية الخاصة بهذا الشان و التي قد تختلف من معاهدة إلى أخرى ( [6]). وبعد ان تصبح الاتفاقية واجبة التنفيذ، على الدول الأطراف تنفيذ ما عليها من الالتزامات بموجب أحكام الاتفاقية وعليها ان تهيئ أوضاعها القانونية والمادية لتطبيق أحكام الاتفاقية ، اذ انه وبموجب القواعد العامة في القانون الدولي والخاصة بتنفيذ المعاهدات و الواردة بشكل محدد في اتفاقية فينا لقانون المعاهدات والصادرة عام 1969 و التي دخلت حيز التنفيذ عام 1980 (لا يجوز لطرف في المعاهدة ان يتمسك بقانونه الداخلي كسبب لعدم تنفيذ المعاهدة) ( [7]). وهنا لابد من الإشارة إلى ان هذه الاتفاقية لم تأتِ بهذا الحكم بشكل مطلق بل انها أوردت عليه استثناء في المادة (46) والتي تضمنت جواز عدم تنفيذ المعاهدة اذا كانت قد أبرمت مخالفة لقانونها الداخلي فيما يتعلق باختصاص إبرام المعاهدات و ذلك اذا كان بسبب مخالفة لقاعدة ذات أهمية جوهرية من قواعد القانون الداخلي . أي انه يجب على الدول الأطراف تنفيذ المعاهدة ولا يجوز الامتناع عن ذلك بحجة عدم التلاؤم مع التشريعات الداخلية او عدم وجود تشريعات مناسبة لعملية التطبيق . اما فيما يتعلق بالقواعد الخاصة بحقوق الإنسان والمتعلقة بالتنفيذ على الصعيد الوطني فان اغلب الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان تتطلب اتخاذ إجراءات قانونية ومادية داخلية من نوع خاص في سبيل تنفيذ أحكامها وبهذا الخصوص نجد ان ميثاق الأمم المتحدة والذي يمثل اهم اتفاقية عالمية على مستوى القانون الدولي بشكل عام و القانون الدولي لحقوق الإنسان بشكل خاص ، قد تناول موضوع تطبيق أحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان باعتبار ان هذا الموضوع يعد من الموضوعات الأساسية التي تناولها هذا الميثاق وذلك ضمن الأهداف الرئيسة التي جاء في سبيل تحقيقها وكما بينا ذلك في الفصل الأول من هذه الدراسة . حيث تتضمن المواد الواردة فيه و المتعلقة بحقوق الإنسان التزامات قانونية على جميع الدول الأعضاء وهي في ذات الوقت تمثل جزءا من القانون الدولي لحقوق الإنسان لتعلقها بموضوعه . ولما كانت جميع الالتزامات الواردة في الميثاق واجبة التطبيق على جميع الدول الأعضاء في سبيل تحقيق أهداف المنظمة ، فان هذا يعني ان تلك المواد المتعلقة بحقوق الإنسان تعد ملزمة وواجبة التطبيق . حيث جاءت المادة (56) من الميثاق بنص صريح يفيد بان على جميع الدول الأعضاء اتخاذ إعمال جماعية او فردية تستهدف تحقيق أهداف المنظمة ، حيث ان هذه المادة تفرض التزاما صريحاً على جميع الدول من اجل التصرف على نحو معين من اجل تحقيق الإعمال لحقوق الإنسان ورعايتها . وان تنفيذ هذا الالتزام لا يعني الامتناع عن انتهاك حقوق الإنسان فحسب بل ان الأمر يعني ضرورة القيام بأفعال إيجابية مادية وقانونية لتنفيذ الالتزام وان الإعمال القانونية هنا لا يمكن الا ان تعني اتخاذ التدابير التشريعية المناسبة لإعمال حقوق الإنسان ( [8]). وعلى الرغم من الأهمية سابقة الذكر للميثاق ودوره في إعمال حقوق الإنسان او بأقل تقدير في النص صراحة على تدويل هذه الحقوق فان مسألة تطبيق نصوصه المتعلقة بهذه الحقوق وبشكل مباشر وعلى النطاق الداخلي للدول قد تكون محلا للتشكيك وذلك على اعتبار انه لم يأتِ بمصطلح (حماية) وانه اكتفى بمصطلح (تعزيز) او انه لم يتضمن تعدادا لهذه الحقوق او تفصيلاً لكيفية تطبيقها( [9]). واذا كان تطبيق نصوص الميثاق المتعلقة بحقوق الإنسان من الممكن ان يكون محلاً للشك فيما يتعلق بتطبيقها داخليا فان الامر لا يعد كذلك فيما يتعلق بنصوص اتفاقية أخرى تتعلق بذات الموضوع وهي تلك النصوص الصريحة الواردة في الاتفاقيات الدولية المتخصصة موضوعيا بحقوق الإنسان . ففي هذا الاتجاه تنص الفقرة الأولى من المادة (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والذي اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالرقم (2200) في عام 1966 . قد نصت على ( تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد بان تتخذ ، بمفردها او عن طريق المساعدة والتعاون الدوليين ، ولا سيما على الصعيدين الاقتصادي والتقني وبأقصى ما تسمح به مواردها المتاحة ، ما يلزم من خطوات لضمان التمتع الفعلي التدريجي بالحقوق المعترف بها في هذا العهد . سالكة إلى ذلك جميع السبل المناسبة ، وخصوصاً سبيل اعتماد تدابير تشريعية) وكذلك نص الفقرة الثانية من المادة (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي اعتمد وعرض للتوقيع و التصديق و الانضمام بموجب قرار الجمعية العامة سابق الذكر، والتي جاء فيها (تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد ، اذا كانت تدابيرها التشريعية او غير التشريعية القائمة لا تكفي فعلا إعمال الحقوق المعترف بها في هذا العهد ، ما يكون ضروريا لهذا الإعمال من تدابير تشريعية او غير تشريعية) .
من قراءة المادتين سابقتي الذكر واللتين وردتا في اهم اتفاقيتين دولتين في مجال حقوق الانسان بشكل عام واللتين تضمنتا جملة من الحقوق الإنسانية على اختلاف أنواعها والتي تحتاج اغلبها إلى الدخول إلى القانون الداخلي في سبيل تطبيقها ، يتضح انها تضمنت حكما مشتركا يفيد بان على الدول الأطراف في العهدين ان تتخذ الإجراءات والتدابير المادية والقانونية اللازمة لتفعيل الحقوق الإنسانية الواردة في العهدين ، وان تبذل في هذا الاتجاه أقصى ما لديها من إمكانيات في سبيل تفعيل هذه الحقوق ، و يأتي على راس ذاك اتخاذ ما يكون ضروريا من تدابير تشريعية . ويكون ذلك من خلال تعديل او إلغاء القوانين القائمة والتي تكون مخالفة لمحتوى الالتزام الدولي إلى ما يتلاءم معه او قد يكون ذلك من خلال إصدار التشريعات اللازمة لتنفيذ الالتزامات الدولية في حالة اذا كان التشريع الداخلي يفتقر إلى النصوص القانونية اللازمة لتطبيق حقوق الإنسان .
أي ان كلاً من العهدين قد جاء بمجموعة من الحقوق الإنسانية و ذلك ضمن مواد معينة وانه في نفس الوقت جاء بالسبيل المناسب لتفعيل الحقوق التي جاء بها و الذي يتلاءم مع طبيعتها و حاجتها إلى قانون ذي تماس مباشر مع محل الحقوق وموضوعها الا وهو الإنسان ، اما القانون فهو القانون الداخلي . ويتمثل هذا السبيل بايجاد نص قانوني خاص تكون مهمته إحالة محتوى الحقوق الواردة في المواد القانونية إلى التطبيق من خلال القانون الداخلي . أي ان هذا النص قد يكون بمثابة السبيل القانوني الملزم لنقل هذه الحقوق المنظمة دولياً إلى القانون الداخلي وبما ان هذا السبيل يتصف بالالتزام باعتباره ضمن مواد تعاقد دولي فان مخالفته تكون موجبة للمسؤولية الدولية . وفي هذا الاتجاه ايضا تذهب الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والموقعة عام 1950 والتي بدأت بالنفاذ عام 1953 ، إلى ضرورة ان تتخذ الدول الأطراف فيها الإجراءات التشريعية الداخلية اللازمة لنقل محتوى الاتفاقية إلى حيز التطبيق وكذلك الحال بالنسبة لاتفاقيات إقليمية أخرى خاصة بالدول الأوروبية مثل الميثاق الاجتماعي الأوروبي المبرم في إيطاليا عام 1961 والاتفاقية الأوروبية لمنع التعذيب والمعاملة القاسية او العقوبة اللاانسانية او المهينة والمبرمة في (سترازبورج) عام 1987 . اما فيما يتعلق بالقارة الأمريكية والتي خطت دولها خطوات إيجابية ايضا في مجال حقوق الإنسان وذلك بإقرار الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان في عام 1969 والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1978 والتي تضمنت النص على (82) مادة يتصدرها تعهد من قبل الدول الأطراف باحترام الحقوق والحريات المنصوص عليها . وان تتخذ كافة الإجراءات اللازمة لتطبيقها عن طريق سن التشريعات وغيرها من التدابير الكفيلة بالتنفيذ فيما يتعلق بالمواد الخاصة بالحقوق المدنية و السياسية والواردة تفصيلها في المواد من (3) إلى (25) .
اما بخصوص التنظيم الدولي الإقليمي في القارة الأفريقية فقد صدر عنه عام 1981 الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان و الشعوب و الذي دخل حيز التنفيذ عام 1986، والذي تضمن في المادة الأولى منه نصاً صريحاً بإلزام الدول الأطراف في الميثاق باتخاذ كافة الإجراءات التشريعية وغيرها من اجل كفالة احترام و تطبيق هذا الميثاق .
اما فيما يتعلق بالاتفاقيات الدولية الخاصة لحقوق الإنسان ، فان اغلبها يتجه إلى إيراد نص يلزم الدول الأطراف باتخاذ تدابير تشريعية داخلية في سبيل تنفيذ أحكام هذه الاتفاقيات وعلى سبيل المثال الاتفاقية الدولية لعام 1965 والخاصة بمنع كافة أشكال التمييز العنصري والتي جاء في الفقرة الثانية من المادة الأولى منها نص يلزم الدول الأطراف باتخاذ كل الوسائل والإجراءات التي من شانها إنهاء التمييز العنصري داخل أراضيها وان تضمن منح كل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون تمييز . وكذلك نص المادة (2) من الاتفاقية الدولية الخاصة بإنهاء كل أشكال التمييز ضد المرأة والتي تم إقرارها عن طريق الأمم المتحدة عام 1979 والتي جاءت بحكم مماثل للحكم على الذي جاءت به الاتفاقيات السابقة في سبيل الوصول إلى الأهداف المرجوة من وجودها .
اما بخصوص تطبيق القانون الدولي الإنساني فقد جاءت نصوص هذا القانون بأحكام مشابهة لإحكام سابقة الذكر بهذا الخصوص . فقد جاء في المادة الأولى المشتركة في نصوص اتفاقية جنيف الاربع لعام 1949 ، ( تتعهد الاطراق السامية المتعاقدة بان تحترم هذه الاتفاقية وتكفل احترامها في جميع الأحوال) . اما الفقرة الأولى من المادة الأولى في البروتوكول الأول الملحق بهذه الاتفاقيات لعام 1977 فقد جاء فيه (تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بان تحترم و تفرض احترام هذا الملحق في جميع الأحوال)( [10]).
وتدل هذه النصوص ذات الأهمية والواردة في اهم تشريع للقانون الدولي الانساني على ان تنفيذ الالتزامات الواردة في هذه النصوص لا يكون من خلال مجرد التزام سلبي من قبل الدول بعدم مخالفة نصوصها بل ان الأمر يكون من خلال كفالة الاحترام لها لا بل من خلال فرض هذا الاحترام من خلال جعل الاخرين يحترمونها في جميع الأحوال( [11]).
وبالتأكيد فان تحقيق هذا الالتزام يكون من خلال اتخاذ تدابير تشريعية داخلية في هذا الاتجاه . واذا كانت النصوص السابقة لم تشر صراحة الى الاجراءات والتدابير التشريعية بشكل خاص في سبيل تطبيق الاتفاقيات بشكل عام فان نصوص مواد اخرى في ذات الاتفاقية قد اشارت بشكل صريح الى الاجراءات التشريعية الداخلية في حالات معينة . حيث جاءت نصوص المواد (49) من الاتفاقية الاولى والمادة (50) من الاتفاقية الثانية والمادة (129) من الاتفاقية الثالثة والمادة (146) من الاتفاقية الرابعة ، باشارة صريحة الى الالتزام باتخاذ اجراءات تشريعية ، حيث جاء في النص المشترك للمواد الاربع سابقة الذكر ( تتعهد الاطراف السامية المتعاقدة بان تتخذ أي اجراء تشريعي يلزم لفرض عقوبات جزائية فعالة على الاشخاص الذين يقترفون او يامرون باقتراف احدى المخالفات الجسيمة لهذه الاتفاقية والمبينة في المادة التالية) ويقصد بالمادة التالية المواد التالية للمواد الاربع السابقة الذكر ، حيث تضمنت المواد التالية لها مجموعة من الافعال اللاانسانية ، مثل القتل العمد والتعذيب 000 الخ . ويتضح مما تقدم ان هناك واجبا محددا على الدول الاطراف يقتضي منها اتخاذ تدابير تشريعية بالذات لمعاقبة مرتكبي انواع معينة من الجرائم وفقاً لمبادئ حقوق الإنسان وبالتالي فان عدم تنفيذ هذا الالتزام يعني بالتاكيد تحمل مسؤولية دولية عن ذلك( [12]).
علمنا مما تقدم ان مسألة تنفيذ الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان تحكم بقواعد دولية عامة ، وكذلك فان هناك قواعد خاصة بتطبيق هذه الاتفاقيات بالذات وهي التي ينص عليها في الكثير من هذه الاتفاقيات . ولكن السؤال الذي يثار هنا هو عن الضمان لتنفيذ ما تقضي به هذه الاتفاقيات ؟
من المعلوم ان اتفاقيات حقوق الإنسان تعد جزءا من التشريع الدولي بشكل عام وبالتالي فان الاحكام العامة التي تنطبق على اية اتفاقية دولية تطبق على اتفاقيات حقوق الإنسان ايضا، وبالتالي فان الضمانات الدولية العامة المهيأة لتنفيذ احكام القانون الاصل هي ذاتها المكلفة بضمان تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان . واستناداً الى المبدأ العام في القانون الدولي فان عدم تنفيذ الالتزام الدولي ايا كان مصدره يرتب تحمل الطرف غير المنفذ للمسؤولية الدولية المقررة على فعله المخالف ، حيث ان ضرورة تنفيذ هذه الالتزامات وبالأخص تلك الناجمة عن اتفاقيات دولية يعد من المبادئ المهمة في القانون الدولي العام . وبهذا الاتجاه ذهبت ديباجة اتفاقية فينا سابقة الذكر ، حيث جاء فيها ما يفيد بان حرية الانضمام الى المعاهدات ومبدأ حسن النية وضرورة تنفيذ الاتفاقيات تعد مبادئ معترفاً بها عالمياً ، وان شعوب الامم المتحدة تؤمن باحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وبان تطوير الاتفاقيات من شانه خدمة اهداف الامم المتحدة و احترام حقوق الإنسان . وفضلاً عن ما جاء في الديباجة فقد جاء في المادة (27) سابقة الذكر ان الاطراف لا يمكنهم التذرع بالقانون الداخلي لتبرير عدم تنفيذ معاهدة صادقوا عليها .
وقد كان المجتمع الدولي ومنذ القدم قد تعرف على عدة ضمانات لتنفيذ احكام الاتفاقيات الدولية و يمكن ان تصنف هذه الضمانات الى ضمانات تقليدية تضاءل التعامل بها شيئا فشيئا ومثال ذلك ما يعرف ( بالضمان الديني ) الذي كان سائدا في العصور القديمة والذي كان يتضمن صيغة معينة للقسم و التعهد بتنفيذ المعاهدة . حيث ان صيغة القسم قد تبعث على الرهبة لبيان مدى قدسية الالتزام بالمعاهدة( [13]).
ومن الاساليب القديمة الاخرى (أسلوب الرهن) والذي يتضمن قيام احد اطراف المعاهدة بتقديم بعض الاشياء القديمة كالاحجار الكريمة والاموال على سبيل الوديعة لضمان تنفيذ المعاهدة( [14])، او قد يكون الضمان متخذاً شكل قيام الطرف المتضرر من عدم التنفيذ باحتلال جزء من اراضي الدولة الغير منفذة ولمدة محدودة لاجبارها على التنفيذ وهو ما يعرف بضمان (الاحتلال العسكري) والذي عرف في وقت لاحق باسلوب (الانتقام) ويكون ذلك استناداً الى نص صريح في المعاهدة ذاتها( [15]).
وبالنظر الى اضمحلال الطرق التقليدية الاولى سابقة الذكر لعدم ملاءمتها حالياً لواقع العلاقات الدولية وعدم مشروعية استخدام القوة والاحتلال العسكري في ظل القانون الدولي المعاصر باعتباره تصرفا غير مشروع وفقاً لاحكام ميثاق الامم المتحدة( [16]). فقد اخذ المجتمع الدولي يبحث عن ضمانات لتنفيذ احكام الاتفاقيات الدولية بشكل يتلاءم مع الطابع الجديد لهذا المجتمع والذي يقوم على اساس التعاون الدولي وبالفعل نجد ان هذا المجتمع نجح في ايجاد هذه الضمانات وبالشكل الذي يتلاءم مع طابعه الجديد ، واهم هذه الضمانات وأبرزها تمثل بالرقابة الدولية ، واذا كانت هذه الضمانات تتسم بطابع العمومية فيما يتعلق بتنفيذ احكام القانون الدولي بشكل عام فانها تتسم بخصوصية واهمية واضحة ومعتمدة بشكل صريح فيما يتعلق بتنفيذ احكام الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان .
ومن الأمثلة العامة على ضمانة الرقابة الدولية، الرقابة التي تم النص عليها في المادة (18) من معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية والتي تتضمن متابعة حسن تطبيق الدول الاطراف لاحكام المعاهدة( [17])، اما فيما يتعلق بضمانة الرقابة الدولية الخاصة بتطبيق اتفاقيات حقوق الإنسان فقد اخذت اغلب هذه الاتفاقيات بهذا النوع من الرقابة في سبيل متابعة تنفيذ احكامها وخاصة فيما يتعلق بأتخاذ التدابير التشريعية المناسبة لهذا الغرض . فقد جاء في المواد (16-17) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ما يفيد بان الدول الاطراف تتعهد بان تقدم تقارير عن التدابير التي قد اتخذتها وعن التقدم المحرز على طريق احترام حقوق الإنسان المعترف بها في العهد ، وتوجه هذه التقارير الى الامين العام للامم المتحدة والذي يحيل نسخاً منها بدوره الى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للنظر فيها طبقاً لاحكام العهد( [18]).
وبموجب هذه المادة يعتبر هذا المجلس الجهاز الرسمي المسؤول عن مراقبة تنفيذ احكام العهد الا انه قد فوض اختصاصه هذا الى لجنة خاصة تحت اسم لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وذلك وفقاً لقرار المجلس رقم (17) لسنة 1985 . وتتكون هذه اللجنة من (18) خبيراً منتخبا من قبل الدول الاعضاء ويعملون بصفتهم الشخصية وتقوم هذه اللجنة بدراسة التقارير الواردة اليها وتحليلها ورفعها الى المجلس ولجنة حقوق الإنسان او الوكالات المتخصصة والتابعة للامم المتحدة وذات العلاقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية( [19]).
وكذلك الحال فيما يتعلق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حيث تشرف لجنة حقوق الإنسان التابعة الى المجلس الاقتصادي والاجتماعي على تطبيق احكام العهد ، ويكون ذلك من خلال آليتين للرقابة تتمثل الاولى في النص الصريح في المادة (4) من العهد على إلزام الدول الاطراف بتقديم تقارير دورية الى اللجنة بخصوص الخطوات المتخذة في سبيل إعمال الحقوق المنصوص عليها في العهد كتنفيذ مباشر للالتزام الصريح الوارد في المادة (2) منه .
اما الآلية الثانية فتتمثل بقيام اللجنة بتلقي شكاوي من الافراد ضد الدول الاطراف في البروتوكول الملحق بالعهد بخصوص تطبيق الحقوق الواردة في العهد ( [20]).
وفيما يتعلق بالحماية الاقليمية لحقوق الانسان فنجد ان الاتفاقيات المؤسسة لهذه الحماية قد تم أقرانها باليات معينة للرقابة بهدف ضمان التطبيق ، ففيما يتعلق بالاتفاقية الاوروبية لحقوق الإنسان فقد جاء في المادة (19) منه ما يفيد بإيجاد آلية للرقابة على تطبيق الاتفاقية ويكون ذلك من خلال جهازين خاصين يتمثلان باللجنة الأوربية لحقوق الانسان والمحكمة الاوربية لحقوق الانسان ، اضافة الى ذلك فان الاتفاقية قد خولت بعض الوظائف الاشرافية والرقابية من اجل تطبيق الحقوق الواردة في الاتفاقية الى لجنة وزراء المجلس الاوربي بحسب ما ورد في المادتين (32و54) من الاتفاقية.
وتعتمد آلية الرقابة والاشراف بالنسبة لهذه الاتفاقية على اساس نظام الشكاوي سواء المقدمة من قبل الافراد او الدول الاطراف( [21]).
وكذلك هو الحال بالنسبة إلى تطبيق الاتفاقية الامريكية لحقوق الانسان حيث يقترن تطبيق هذه الاتفاقية بالية مراقبة وإشراف على التطبيق تتولى كل من اللجنة الامريكية لحقوق الانسان والمحكمة الامريكية لحقوق الانسان مهام تنفيذها( [22]).
اما بخصوص الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب فقد تم اقرانه بالية للرقابة والتأكد من حسن التطبيق واتخاذ الدول الاطراف للتدابير اللازمة التشريعية للتنفيذ وتتولى اللجنة الافريقية هذه المهمة بموجب المواد (45و46و59و60و63) من الميثاق( [23]).
وإذا كانت الاتفاقيات العامة لحقوق الانسان سواء في اطارها العالمي او الاقليمي قد تم اقرانها بآليات للرقابة والاشراف على التنفيذ فان الاتفاقيات الخاصة بحقوق معينة من حقوق الانسان لم تخلُ من مثل هذه الرقابة فعلى سبيل المثال فيما يتعلق باتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز العنصري لعام 1965 فقد انشأت هذه الاتفاقية بموجب المادة ( منها لجنة مختصة بمهمة الرقابة وهي لجنة القضاء على التميز العنصري وتكون مهمتها الاساسية مراقبة التدابير المتخذة من قبل الدول الاطراف لإعمال احكام الاتفاقية.
وكذلك الحال فيما يتعلق بلجنة القضاء على التميز ضد المرأة حيث تم انشاء هذه اللجنة بموجب المادة (17)من اتفاقية القضاء على جميع اشكال التميز ضد المرأة والمعتمدة من قبل الامم المتحدة بموجب قرار الجمعية العامة رقم (34/180) لعام 1979 .
وينطبق الوصف السابق نفسه بالنسبة إلى اللجنة مناهضة التعذيب والتي انشأت بموجب المادة (17) من اتفاقية التعذيب وغيره من ضروب المعاملة او المعاملة القاسية او اللاأنسانية او المهينة والمقـرة مـن قبـل الأمـم المتحدة بموجب قرار الجمعية العامة رقم (39/46) لعام 1984.
ويبدو مما تقدم ان تطبيق احكام القانون الدولي الاتفاقي لحقوق الانسان يستند بشكل عام الى القواعد العامة في القانون الدولي لتنفيذ الالتزامات الناجمة عن مصدر اتفاقي او تعاقدي فضلاً عن ذلك فان خصوصية القواعد الدولية لحقوق الانسان وحاجتها الى القانون الداخلي في سبيل تطبيقها اقتضت ايجاد نظام صريح يتضمن ايجاد التزام دولي صريح ومباشر بتطبيق القواعد الدولية لحقوق الانسان من خلال اتخاذ تدابير تشريعية من قبل الاطراف الملتزمة بنصوص الاتفاقية ، كما ان هذا النظام يتضمن في الوقت نفسه وعلى الاغلب ضماناً لتفعيل الالتزام المشار اليه ويكون ذلك من خلال الية الرقابة و الاشراف على تنفيذ الالتزام والتي تعد في حقيقتها بمثابة الدعم الخاص للضمانات العامة المقررة في القانون الدولي العام في سبيل تنفيذ احكامه بشكل عام و بضمنها احكام القانون الدولي لحقوق الانسان.
واذا كان ما تناولناه فيما تقدم يتعلق بالية دولية لتنفيذ الالتزامات الدولية و ضمان تحقق ذلك واذا كان تطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان وكما علمنا مما تقدم من هذه الدراسة يحصل بناءا على تفاعل بين قواعده وقواعد القانون الداخلي ، فان هذا يعني ان النظام العام لتطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان لا يكتفي بايجاد الية دولية للتطبيق بل انه يحتاج الى اقران ذلك بالية داخلية لذات الغرض وبقيام التوافق بين الآليتين يمكن ان يتحقق التطبيق ، فهل هناك الية داخلية خاصة بتطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان ؟
علمنا مما تقدم بان القواعد الدولية لحقوق الانسان عبارة عن قواعد ضمن التكوين العام للقانون الدولي العام و اذا كان الامر كذلك فان هذا يعني ان هذه القواعد تصبح واجبة التطبيق او نافذة في الوسط الدولي وفقا للقواعد العامة التي تحكم سريان القواعد الدولية وهي تكون كذلك بالنسبة إلى القواعد العرفية باكتمال العناصر المعروفة والمكونة للعرف الدولي والتي سبق وان تناولناها فيما تقدم . اما بخصوص القواعد الاتفاقية فيكون الامر كذلك اما وفقاً للطريقة المتفق عليها في الاتفاقية للبدء بالنفاذ ( [24]). او يرجع في ذلك الى القاعدة العامة التي تقضي بان المعاهدة تكون نافذة بعد اكتمال اجراءات التصديق عليها وفي هذا الخصوص يذهب الفقيه ( Brownlie ) الى ان المعاهدة تدخل حيز التنفيذ اما بالطريقة التي تقررها المعاهدة وبالتاريخ المحدد فيها لذلك وانه عندما لا تحدد المعاهدة تاريخا معينا للنفاذ و كانت متضمنة تاريخا محدداً للتصديق عليها فان هذا يعني نفاذ المعاهدة يكون في ذلك التاريخ ( [25]).
واذا كان ما تناولناه اعلاه يعني نفاذ المعاهدة الدولية فانه ليس بالضرورة ان يعني ذلك نفاذها في ذات الوقت داخل جميع الدول الأطراف فيها . واذا كان القول السابق لا يعني بالضرورة جمود الاتفاقية او عدم نفاذها بشكل حقيقي فيما يتعلق بالمعاهدات الدولية يشكل عام فان ذلك يعني وعلى الاغلب بالنسبة إلى الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان حيث ان مفهوم النفاذ السابق عبارة عن نفاذ في الوسط الدولي وهو لا يعني بالضرورة نفاذا مقابلا داخل جميع الدول الاطراف حيث نجد ان النفاذ الدولي قد يقابل أحيانا بنفاذ مماثل على الصعيد الداخلي لدى بعض الدول ولكن الامر قد لا يكون كذلك لدى دول أخرى . وان مثل هذا القول يعني ان اغلب النصوص الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان قد تكون غير قابلة للتطبيق بمجرد بدء النفاذ للاتفاقية في الوسط الدولي وقد يرجع ذلك الى سببين يتعلق الاول بان اغلب القواعد الدولية لحقوق الانسان تحتاج الى اقتران بالقواعد الداخلية في سبيل ان تجد طريقها الى التطبيق .اما السبب الثاني فيتعلق بان الكثير من الدول لا تطبق القواعد الدولية بمجرد اقرارها او التصديق عليها بل ان ذلك قد يحتاج الى اجراء داخلي خاص .
وبناءً على ما تقدم فانه وفي سبيل متابعة تطبيق قواعد القانون الدولي لحقوق الانسان ومعرفة نصيب هذه القواعد من النجاح في التطبيق الفعلي و تحقيق الغرض من وجودها لابد من التعرف على كيفية تطبيقها في النظام القانوني الداخلي للدول .
من المعروف ان القواعد الدولية بشكل عام وبضمنها القواعد الاتفاقية منها وان كانت في طبيعتها تشترك مع القواعد الداخلية في صفة القانونية الا ان هذا الاشتراك لا يعني بالضرورة انها من ذات الجنس . وفي هذا الاتجاه يذهب بعض الفقهاء الى ان المعاهدات ليست مصدرا من مصادر القاعدة القانونية الداخلية والى ان الدول وان كانت ملتزمة دوليا بتطبيق المعاهدات سواء في الوسط الدولي او حتى ضمن نظامها القانوني الداخلي فان التطبيق الاخير يحتاج الى تصرف قانوني خاص تأخذه الدولة لتتبنى بموجبه المعاهدات و تدمجها في نظامها الداخلي ( [26]). وبالاخذ بواقع العلاقات الدولية و بالعودة الى ما كنا قد توصلنا اليه فيما يتعلق بتطبيق القانون الدولي داخل الدول وان ذلك يتم بناءا على تفاعل بين عدة اعتبارات نجد ان مسألـة تطبيـق القانـون الدولي في النظام القانوني الداخلي تختلف مـن دولـة الى اخرى ( [27]) وهذا يعني عدم وجود قاعدة عامة تسري على كل علاقة من هذا النوع ومن جهة اخرى وكنتيجة مترتبة على ذلك ان امر تحديد كيفية التطبيق سوف يكون راجعا الى النظام الداخلي نفسه بالنسبة لكل دولة . أي ان القانون الداخلي لكل دولة هو الذي يحدد كيفية تعامله وتفاعله الايجابي او السلبي مع احكام القانون الدولي وهذا الامر سبق وان كنا قد بيناه عند الحديث عن العلاقة بين القانونين . واذا كنا في هذا المحل من هذه الدراسة نبحث عمليا عن كيفية تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان مع التسليم بضرورة اقتران ذلك من حيث التطبيق بالقوانين الداخلية للدول فلا بد لنا ان نتساءل هنا عن الاساليب التي تأخذ بها الدول داخليا للتعامل مع القانون الدولي لحقوق الإنسان ؟
قبل الدخول في موضوع اساليب تطبيق الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان في القوانين الداخلية للدول لابد من بيان ان تنفيذ الالتزامات القانونية للدول التي تقضي بها هذه الاتفاقيات الدولية او غيرها ، يعد واجباً قانونياً على كل دولة تسري عليها احكام الاتفاقيات بموجب القواعد العامة او الخاصة لسريان المعاهدات ، وان تدخل أية دولة عند تنفيذ هذا الالتزام خارج الاحوال التي يجوز بها قانونا ذلك ، يعني خرق هذه الدولة للقانون الدولي العام مما يعني تحملها المسؤولية الدولية . أي ان مثل هذه الدولة تكون امام خيارين هو تنفيذ الالتزامات الدولية وتحمل الاعباء الناجمة عنها وبالتالي عدم تحمل المسؤولة الدولية . اما الثاني فهو عدم تنفيذ الالتزام و بالتالي تحمل هذه المسؤولية والاعباء الناجمة عنها ، ويضاف الى ما تقدم ما يتبع التعامل الايجابي او السلبي مع مثل هذا الالتزام من اثار معنوية ايجابية او سلبية للدولة على صعيد علاقاتها الدولية ، الامر الذي يعني ان على الدول في جميع الأحوال ان تحسم مسألة تعامل قانونها الوطني مع القانون الدولي الواجب التطبيق داخليا من قبلها وان تنظم ذلك على ضوء قراءتها للخيارات سابقة الذكر .
وتتلخص اساليب تنفيذ المعاهدات الدولية عموما في أسلوبين : الاول يقوم على أساس تنفيذ المعاهدة بشكل مباشر و بدون الحاجة الى اتخاذ اجراء داخلي معين ، اما الثاني فيكون باشتراط أستباق تنفيذ المعاهدة الداخلية باتخاذ اجراء معين ممهد للتطبيق .
اولاً- تنفيذ المعاهدة بشكل مباشر .
يقوم هذا النمط على أساس تطبيق ما تقضي به القاعدة الدولية بشكل مباشر على الصعيد الدولي و دون الحاجة الى اتخاذ إجراء تشريعي داخلي من شانه ان يتضمن إعادة خلق محتوى القاعدة الدولية او إعطاءها إمكانية النفاذ الداخلي ، و يؤصل مفهوم هذا النمط على أساسين الاول نظري اما الثاني فهو عملي . حيث يقوم الاساس الاول على احدى النظريات الاساسية للعلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي والتي سبق وان تناولناها والتي تختلف الدول في مدى الاخذ بها والتأثر بها ، وهي نظرية وحدة القانون ، والتي تقضي بان كلاً من القانونين الدولي والداخلي يشكلان في الحقيقة نظاما قانونيا واحدا ، وتأسيساً على ذلك فان خلق أية قاعدة دولية ليس في الحقيقة الا إيجاد لها ضمن النظام الموحد وبالتالي فان تطبيقها سوف لن يكون الا ضمن نطاق السريان لهذا النظام الموحد والذي يشمل بدوره المحيط الدولي والمحيط الداخلي ، وبذلك واذا كانت الاعتبارات العملية تقضي احيانا بان تطبيق قاعدة دولية في المحيط الداخلي والذي يعد جزءا من المحيط العام للنظام فان هذا التطبيق يعد أمراً طبيعياً ونتيجة منطقية ولا يحتاج الى اجراء داخلي في سبيل تحقيق ذلك ، حيث تعد القاعدة الدولية بحسب هذه النظرية تحكم القاعدة الداخلية . اما الاعتبار العملي فيقوم على نتيجة منطقية مرتبطة بنظرية وحدة القانون وتتعلق بصلاحيات سلطات الدولة و الاثار القانونية المترتبة على تصرفاتها حيث انه اذا كان الامر يتعلق بابرام معاهدة وفقا للاسس المنظمة لذلك في القانون الداخلي و بدون أي تجاوز فان هذا يعني قابلية هذه المعاهدة على النفاذ داخليا دون الحاجة الى اتخاذ اجراءات داخلية جديدة واضافية على تلك المتخذة وقت ابرام المعاهدة حيث ان قابلية الاجراءات الاولى على احداث الاثار القانونية يترتب عليها ذات النتيجة فيما يتعلق بالتطبيق على الصعيد الداخلي ( [28]) .
أي ان الاخذ بهذا النمط يقوم على اساس ان كلاً من القانونين الدولي والداخلي يشكلان قانونا واحدا وان النتيجة العملية المترتبة على ذلك تتمثل بعدم الحاجة الى وجود أي اجراء قانوني داخلي في سبيل تطبيق النصوص الدولية الاتفاقية ، حيث تكون قابلة للتطبيق دون الحاجة الى ذلك ، حيث ان المعاهدات الدولية المبرمة بشكل صحيح وفقا للقواعد الدولية والداخلية المنظمة لذلك تكون واجبة التطبيق ويسري هذا الوجوب وبحسب موضوع المعاهدة على سلطات الدولة المختصة بادارة الشؤون الخارجية للدولة او تلك المختصة بإدارة الشؤون الداخلية . حيث ان موضوع القاعدة الدولية اذا كان على الاغلب ينظم مسائل دولية فانه في كثير من الاحيان قد ينظم مسائل داخلية و هناك قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان . وهنا ونحن بصدد الحديث عن تطبيق القانون الدولي داخليا بشكل مباشر ودون الحاجة الى اجراءات معينة قد يثار تساؤل بصدد النظم القانونية الداخلية لبعض الدول التي تاخذ بهذا النمط للتطبيق ، وذلك بخصوص اشتراط قانونها الداخلي لاتخاذ اجراءات معينة لنشر القواعد الدولية الاتفاقية قبل تطبيقها فهل ان هذا الاشتراط يعني عدم تلقائية التطبيق للمعاهدات وتوقف ذلك على القيام باجراء النشر السابق على التطبيق ؟