العلاقه الموضوعيه بين القانون الدولى لحقوق الانسان و الدستور
من المعلوم ان أي قانون يسعى الى تحقيق هدف معين او مجموعة اهداف معينة، وتختلف هذه الأهداف بطبيعتها من قانون إلى اخر ، ومهما اختلفت هذه الاهداف واختلفت على اثر ذلك طبيعة القوانين ومكانتها وتصنيفاتها الا انها تشترك كافة في طريقة الوصول الى الاهداف وهي صفة وطبيعة ارتبطت بالقانون بشكل عام ، الا وهي صفة التنظيم أي تنظيم العلاقات حيث أن أية قاعدة كي تكون قانونية لابد من ان تتصف وظيفياً بالتنظيم وبحسب ما يتم تنظيمه عن طريق القانون والهدف المقصود من ذلك يحدد الاختصاص الموضوعي للقانون ، أي أن يتم تحديد موضوعات القانون . ويمكن ذلك من خلال تحديد حيثيات العلاقة محل التنظيم من جهة وتحديد الهدف من التنظيم من جهة اخرى ، وللتعرف على خصوصية العلاقة بين القانون الدولي لحقوق الانسان وقانون الدستور من خلال التعرف على العلاقة الموضوعية بين القانونين لابد من تحديد عناصر هذه العلاقة التي ينظمها كل من القانونين من جهة والتعرف على الهدف من تنظيم هذه العلاقات من جهة اخرى .
أما فيما يتعلق بالقانون الدولي لحقوق الإنسان فحاله كأي قانون لا بد ان يكون يهدف إلى تنظيم علاقات معينة وإذا بحثنا عن العلاقة التي يحكمها هذا القانون فنجدها ذات العلاقة التي تنظمها قواعد حقوق الإنسان بشكل عام وهي العلاقة التي يهدف القانون من خلال تنظيمها إلى تحقيق أهدافه والتي تجتمع كلها في سبيل تحقيق الغاية العليا للقانون ألا وهي إعمال حقوق الإنسان ، ويتمثل طرفا العلاقة منطقياً بالافراد من جهة والذين يكونون الطرف الذي وجد القانون لمصلحة اما الطرف الأخر فهو الطرف الذي من الممكن او من المحتمل ان يصدر منه سلوك يؤدي الى انتهاك حقوق الانسان او من الممكن ان يكون مسؤولا عن مهمة ضمان احترام هذه الحقوق ومنع انتهاكها او يكون الأداة الايجابية لتطبيقها ، وما يتعلق بهذا الجزء من هذه الدراسة نجد ان الطرف الثاني في العلاقة والمقابل للافراد يمكن ان يكون الدولة او بتعبير أدق ( السلطة) وهذا التحديد يعد الادق والاغلب فيما يتعلق باطراف علاقات حقوق الانسان بل انه من ناحية اخرى يعد الاهم والاكثر تأثيرا وفاعلية فيما يتعلق بإعمال حقوق الانسان او عكس ذلك أي انتهاكها . حيث ان سلوك السلطة او ممارستها يمكن من الناحية السلبية لحقوق الانسان ، ان تكون الأخطر على هذه الحقوق حيث نرى ان الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان غالباً ما تكون من جراء ممارسة السلطة بهذا الاتجاه ، ومن ناحية اخرى فان سلوك السلطة او ممارستها يمكن ومن الناحية الإيجابية لحقوق الانسان ان يكون الدافع لإعمال هذه الحقوق وتطبيق ما ليس مطبقاً منها وتهيئة الأجواء المناسبة للتطبيق او العمل على الارتقاء بما هو مطبق من الحقوق نحو الأفضل .
إذاً فالعلاقة الأهم والتي يحكمها القانون الدولي لحقوق الإنسان هي العلاقة بين الافراد وأصحاب الحقوق والذين وجد هذا القانون لمصلحتهم والسلطة التي من الممكن ان تكون خصما لهم في هذه العلاقة او داعما لعملية إعمال حقوقهم . ويأتي القانون الدولي لحقوق الإنسان وفي كلتا الحالتين ويوجه قواعده لحكم سلوك السلطة حيث يلزمها في الحالة الأولى بالامتناع عن انتهاك هذه الحقوق اما في الحالة الثانية فيلزمها بالقيام بعمل إيجابي معين في سبيل تطبيق هذه الحقوق ، ويكون ذلك اما بالمبادرة بالقيام بتطبيق حقوق الإنسان او بتهيئة الأجواء المناسبة للبدء بالتطبيق وغير ذلك ما من شأنه ان يؤدي إلى إعمال هذه الحقوق . وفي كل الأحوال فانه وطبقا لهذا القانون تعد مخالفة الالتزام الاول او الثاني مخالفة له .
اما فيما يتعلق بالدستور فهو باعتباره قانونا لابد ان يكون منظما لعلاقة معينة وهو بهذا المعنى لابد وان يكون لهذه العلاقة طرفان وبالعودة الى ما هو معروف عن الدستور والذي تناولناه في الفصل السابق من هذه الدراسة ، نجد ان الدستور يتضمن بالدرجة الاولى مجموعة قواعد تحكم السلطة القائمة في الدولة وتنظم شؤونها التي تعد ذات أهمية بالغة في حياة المجتمع الانساني المنظم المعروف بتسمية ( الدولة) . وبالعودة الى سلوك السلطة نجد انه وضمن القانون الداخلي والذي شكل الدستور جزءا منه ، يكون متصلا بالأفراد أي ان السلطة تمارس اختصاصها في ادارة الدولة وان ذلك يجعلها في الطرف الاخر من علاقة مع ما تبقى من المكونات الحية للدولة الا وهو الشعب او الافراد . وبالعودة الى تأصيل فكرة الدستور نجد انه يؤصل على اساس انه بمثابة عقد اجتماعي مبرم بين الحكام والشعب ، وبموجب هذا العقد خول الافراد مجموعة من الافراد وهم ( الحكام ) للقيام بمهمة ممارسة السلطة عنهم ومن ناحية اخرى قد يحدد صراحة قيوداً معينة على كيفية ممارسة السلطة من قبل الحكام وكذلك تحديد حقوق معينة للافراد لا يجوز للحكام المساس بها او انتهاكها( [29]) .
ولما كان الدستور ينظم عملية ممارسة السلطة ، أي انه يحكم السلوك الصادر عن أحد أطراف العلاقة التي ينظمها قانون الدستور فالسؤال الذي يثار هنا هو ، لمصلحة من يكون تنظيم عملية ممارسة السلطة ؟
من المعروف منطقيا ان أية علاقة تحتاج الى التنظيم أي تحتاج الى القانون لابد ان تكون علاقة يسعى كل طرف فيها الى تحقيق مصالحه وبالتالي منح حقوق معينة عن طريق التنظيم الى طرف معين لابد وان يكون على حساب الطرف الاخر في ذات العلاقة . وان تقييد أي طرف وضبط سلوكه في العلاقة لابد ان يكون على حساب حقوقه ولمصلحة حقوق ومكاسب الطرف الاخر ، وبهذا المعنى فان ضبط سلوك السلطة وتقييدها لابد ان يكون لمصلحة زيادة حقوق الافراد ، الطرف الاخر في العلاقة ، حيث ان مصلحة الحكام وبشكل عام تتفق مع اطلاق ارادتهم وحرية في ممارستهم للسلطة في حين ان مصلحة الافراد تكون في تقييد الحكام وتحديد كيفية ممارستهم للسلطة ( [30]).
إذاً فالعلاقة التي يحكمها قانون الدستور هي عبارة عن علاقة بين الشعب من جهة والسلطة من جهة اخرى ، وبالرجوع الى العلاقة التي يحكمها القانون الدولي لحقوق الانسان نجد اننا كنا ايضا امام قانون يحكم العلاقة بين الشعب ( الافراد ) من جهة والسلطة من جهة اخرى . وبعد ان علمنا ان هناك وظيفة تنظيمية متطابقة بين كل من القانونين نتساءل عن وجود التطابق في الهدف من تنظيم العلاقة ؟
من البديهي ان القانون الدولي لحقوق الانسان يهدف الى إعمال حقوق الانسان ومن خلال ذلك يحمي الافراد ويحقق غايات اجتماعية غريزية لهم في الحصول على الامن والسلامة والرفاهية وغير ذلك من التفاصيل المعروفة لثمار تطبيق حقوق الانسان. ويكون ذلك بالتأكيد من خلال السعي الى تنظيم سلوك كل من يكون مسؤولا عن إعمال حقوق الانسان او عدم إعمالها . ويكون ذلك اما عن طريق فرض التزام سلبي يتمثل بالامتناع عن ارتكاب انتهاكات لحقوق الانسان والتوقف عن ذلك او بفرض التزام ايجابي للقيام بتطبيق ما هو غير مطبق من هذه الحقوق والذي يحتاج الى تدخل ايجابي من السلطة في سبيل البدء بالتطبيق ويتمثل محتوى الالتزام الاول بفرض التزامات على السلطة او من يمارسها بالامتناع عن اتيان أي سلوك او تصرف يمكن ان يؤدي الى انتهاك احد الحقوق الانسانية او مجموعة منها سواء كان ذلك من خلال تصرف السلطة التشريعية بإصدار قوانين مخالفة لحقوق الإنسان او تصرف السلطة التنفيذية بتنفيذ قوانين مخالفة لهذه الحقوق او الاتيان باي تصرف من هذا القبيل او قد يكون الامر متعلقا بالسلطة القضائية عند ممارستها لاختصاصاتها في الفصل في المنازعات .
أي ان تحقيق هدف هذا القانون يكون من خلال توجيه قواعده لإلزام السلطة لممارسة اختصاصاتها على نحو معين يؤدي الى إعمال حقوق الإنسان وبذلك يكون هذا القانون محققاً لمصلحة الأفراد في العلاقة التي ينظمها والتي تكون السلطة الطرف الأخر فيها .
اما فيما يتعلق بالدستور فان تأصيل فكرته يقوم على ان هناك علاقة بين الافراد والسلطة وان هذه العلاقة قد تم تنظيمها عن طريق الدستور ، الذي كان في بداية الامر بمثابة عقد اجتماعي مبرم بين طرفي العلاقة ، وكان يهدف ابتداءً الى تحقيق مصلحة الأفراد من خلال إيجاد طريقة يستطيعون من خلالها ادارة شؤونهم وذلك عن طريق مجموعة منهم يتولون هذه المهمة وهم (الحكام) حيث انه وبموجب الدستور يتم تخويل هؤلاء الحكام مهام إدارة الدولة . وانه من جهة اخرى يحدد اختصاصات هؤلاء الحكام وحقوقهم والتزاماتهم كما انه يحدد مجالا معينا لا يجوز لهؤلاء الحكام المساس به والذي يتضمن مجموعة من الحقوق للافراد لا يسمح للسلطة الاعتداء عليها بل يجب عليها العمل على حمايتها( [31]).
وبتحليل طبيعة أحكام الدساتير ، وبالأخذ بما هو معروف عن الدستور بكونه قانون السلطة او القانون الذي يحكم السلطة او ينظم ممارستها ، نجد ذلك ينطبق أيضاً وكما كان الحال بالنسبة إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان ، بقانون يحكم العلاقة بين الأفراد والسلطة . ويحكم هذا القانون هذه العلاقة من خلال تنظيمها وبما انه ينظمها فانه بذلك يقيدها وبما ان السلطة وبموجب طبيعتها والغرض من وجودها تقتضي ان تكون في مكانة فوق الأفراد أو تحكمهم فان تقيدها منطقياً لابد وان يكون لمصلحة الافراد( [32]) .
حيث انه ومن المعلوم ان ممارسة السلطة من الممكن ان تؤدي الى انتهاك حقوق الانسان وبما ان الدستور يعد القانون المتخصص في تنظيم ممارسة السلطة أي حكم سلوك من يقوم بممارستها فانه من الممكن ان يكون منظما لهذه الممارسة بما يخدم عملية إعمال حقوق الانسان . وذلك على أساس ان الدستور ينظم ممارسة السلطة وان هذه الممارسة هي التي يمكن ان تؤدي الى انتهاك هذه الحقوق أو إعمالها( [33]) .
ولكن السؤال الذي يثار هنا هو ، هل ان كل دستور بالضرورة يؤدي من خلال تنظيمه لممارسة السلطة الى إعمال حقوق الانسان وبحسب التقديم سابق الذكر ؟
من الواضح في عالم اليوم انه يمكن القول ان تعدد الدساتير في العالم يمكن ان يكون بتعدد الدول فيه ، حيث بات الدستور يعد بمثابة الركن لاقامة النظام القانوني الوطني للدولة . ولكن وجود هذه الحقيقة لا يعني بالضرورة ان تكون نتيجة ذلك ترجمة للحقيقة التي توصلنا اليها فيما تقدم بخصوص دور الدساتير في إعمال حقوق الانسان ، حيث انه وعلى الرغم من وجود الدساتير في الدول لا نجد إعمالاً حقيقياً لحقوق الانسان في جميع الدول ، حيث ان الحقيقة سابقة الذكر تمثل ما يجب ان يكون الدستور عليه او انها ما وجد الدستور في سبيل تحقيقها بالدرجة الاساس ، وانه قد حقق ذلك في دساتير معينة ولم يحقق ذلك في قوانين اخرى تسمى بتسمية ( الدستور) ايضا ! أي ان الدستور يمكن ان يكون حقيقيا وذلك عندما يتضمن الحقيقة التي تناولناها بخصوص ممارسته لدور تنظيم السلطة لمصلحة حماية حقوق الافراد ، او انه يمكن ان يكون مجرد قانون ينظم السلطة ولكن بهدف تنظيم السلطة فحسب وليس في سبيل حماية حقوق الافراد من خلال هذا التنظيم( [34]) .
وبذلك يكون الدستور مجرد قانون ولكن له مكانة متميزة بحسب طبيعته ويعنى بتنظيم شؤون السلطة وربما يكون ذلك خالصاً لمصلحة السلطة ومكرساً بذلك ضد الطرف الاخر في العلاقة معها ألا وهم الافراد ، ويكون ذلك عندما نكون أمام قانون يسمى (دستور ) ولكنه لا يتضمن أياً من المبادئ الدستورية التي وجدت لحماية حقوق الأفراد وفي مثل هذه الأحوال قد نكون أمام دستور لتكريس الاستبداد( [35]) .
أي أن القانون لكي يكون دستوراً حقيقياً يجب ان يكون متضمناً للمفهوم سابق الذكر للعلاقة بين الدستور والأفراد أي ان يكون دستورا يحمي الأفراد ويكرس لأنظمة تهيئ الأجواء لإعمال حقوق الأفراد متمثلة بأجواء الحرية والديمقراطية المنظمة ، وفي هذا الخصوص يذهب الأستاذ ( مركين جيتزفتش ) الى القول ان الدستور هو (صناعة الحرية)( [36])( أما الأستاذ (بوردو) فيرى ان الدساتير وجدت بالاساس في سبيل (تثبيت الديمقراطية)( [37]). وبهذا المعنى وبشكل عام كان قد ذهب مفكرو الثورة الفرنسية الشهيرة من الثورات التي حصلت في العالم والاشهر من بين الثورات المهمة في مسيرة حقوق الانسان ، وهم الذين اثروا بأفكارهم وبشكل كبير في تسيير مسيرة حقوق الانسان وتوجيهها من جهة والآتيان بالأفكار الدستورية المهمة بشكل عام من جهة أخرى ، اذ يرى هؤلاء ان أي تنظيم او هيئة او بتعبير أدق (دولة) لا تتضمن قانوناً يتضمن ضمانات لحقوق الإنسان فإنها في الحقيقة تعد دولة لا دستور لها . وقد تم تضمين هذا المعنى صراحة في الإعلان الصادر عن الثورة وذلك في المادة (16) والتي جاء فيها (إن كل هيئة اجتماعية لا تضع ضمانا للحقوق ولا تفصل بين السلطات فهي هيئة لا دستور لها) .
وتعزيزاً لما تقدم حول الربط بين الدستور وإعمال حقوق الإنسان على أساس انه المنظم للعلاقة بين الأفراد والسلطة ، فان كيفية قيام الدستور بعملية التنظيم هذه تعكس العلاقة بين إعمال حقوق الإنسان والدستور ، حيث ان الدستور يقوم بعملية التنظيم من خلال تطبيق مبادئ معينة وهي تلك المبادئ التي تعرف بالمبادئ الدستورية، كمبدأ الفصل بين السلطات ومبدأ الرقابة على دستورية القوانين ، والرقابة على إعمال الإدارة واستقلال القضاء ، وهي مرتكزات أساسية تتضمنها اغلب الدساتير ، حيث ان الدستور ينظم السلطة من خلال مخاطبتها بقواعد معينة تمثل كل مجموعة منها مبدأ معينا وان مثل هذه المبادئ في حقيقتها من الممكن ان تكون ضمانات لحقوق الانسان( [38]).
وعلى سبيل المثال فان عملية الفصل بين السلطات تعني اتخاذ إجراء وقائي من احتمال ميل السلطة الى مخالفة حدود حقوقها وصلاحياتها والاعتداء على حقوق الافراد، أي ان الفصل يكون بهدف عدم اطلاق الحرية للسلطة بالتصرف وفصلها بهدف ضمان تقييدها بحدود معينة . اذ ان السلطة وكما يذهب اليه (مونتسكيو) والذي تنسب اليه فكرة هذا المبدأ ، تميل الى الفساد وان إطلاق السلطة يعني إطلاقاً لاحتمال الفساد ، لذلك رأى ان وظائف الدولة يجب ان توزع على هيئات متميزة لتستطيع كل هيئة من الهيئات وقف الاخرى اذا تعدت الاطار او الغايات المحددة او حاولت اساءة استعمال سلطاتها داخل هذا الاطار( [39]).
ومن المعروف ان الاطار المرسوم لاختصاصات السلطة بشكل عام هو ان تمارس اختصاصاتها دون المساس بحقوق الافراد .
اما مبدأ الرقابة على دستورية القوانين ، فهو ايضا مبدأ دستوري مهم وناتج عن مبدأ سمو الدستور ، وهو وبتطبيقه يؤدي الى إعمال حقوق الانسان من خلال تقديس النصوص المباشرة المتعلقة بحقوق الانسان اذا كانت واردة في الدستور ، او من خلال إعمال بقية المبادئ الدستورية التي تؤدي بتطبيقها وبشكل غير مباشر الى إعمال حقوق الانسان . وكذلك الحال بالنسبة إلى الرقابة على إعمال الادارة التي تعد من اهم الضمانات لإعمال حقوق الانسان حيث ان رقابة السلطة القضائية التنفيذية تعد ضمانة لمنع القائمين على السلطة الاخيرة من الانحراف في عملهم وتخطيهم لحدود صلاحياتهم والاعتداء على حقوق الافراد ، اذ تكمن خطورة عمل السلطة التنفيذية على حقوق الافراد في كون هذه السلطة تكون على احتكاك مباشر ويومي مع الافراد وحقوقهم ، وتتضح خطورة هذه السلطة على الافراد بشكل كبير من خلال امتلاك هذه السلطة لاختصاصات تشريعية تتضمن اصدار اللوائح والتعليمات الادارية ومن ثم تولي مهمة تنفيذها مما يعني زيادة احتمالات الخطورة التي يمكن ان يتعرض اليها الافراد فيما يخص حقوقهم الانسانية ( [40]).
ويتضح مما تقدم ان الدستور بأغلب مبادئه يعد قريبا من حقوق الانسان ومرتبطا بها بل قائما على فلسفتها .
ونخلص من كل ما تقدم الى ان العلاقة التي ينظمها القانون الدولي لحقوق الانسان كقانون هي علاقة على الأغلب وبالضرورة تكون قائمة بين الافراد والسلطة ، وان العلاقة التي ينظمها الدستور هي بالضرورة علاقة قائمة بين ذات الطرفين ايضا . اما الهدف الذي يسعى القانون الدولي لحقوق الانسان الى تحقيقه فهو بالتأكيد عبارة عن هدف يخدم مصلحة الافراد وإعمال حقوقهم الانسانية ، وكذلك الحال بالنسبة إلى الدستور فقد وجد لضمان حقوق الافراد ضد أي اعتداء او تجاوز من قبل السلطة ، وبذلك نجد ان اطراف العلاقة التي يتم تنظيمها عن طريق القانون الدولي لحقوق الانسان ودساتير الدول تتمثل بالافراد من جهة والسلطة من جهة اخرى وان الاهداف الحقيقية التي يسعى كل من القانونين الى بلوغها من خلال عمليات التنظيم تتجسد في إعمال حقوق الانسان وعدم الاعتداء عليها . وبذلك نتوصل الى ان هناك علاقة ذات خصوصية ومشتركة بين القانونين من حيث عملية تنظيم العلاقات واطرافها والاهداف المرجوة من عمليات التنظيم وهذا يعني منطقيا وعمليا ضرورة التكامل والتوافق بين القانونين في سبيل تحقيق افضل النتائج التي يصبو اليها من يسعى الى إعمال حقوق الانسان والارتقاء بها.
من المعلوم ان أي قانون يسعى الى تحقيق هدف معين او مجموعة اهداف معينة، وتختلف هذه الأهداف بطبيعتها من قانون إلى اخر ، ومهما اختلفت هذه الاهداف واختلفت على اثر ذلك طبيعة القوانين ومكانتها وتصنيفاتها الا انها تشترك كافة في طريقة الوصول الى الاهداف وهي صفة وطبيعة ارتبطت بالقانون بشكل عام ، الا وهي صفة التنظيم أي تنظيم العلاقات حيث أن أية قاعدة كي تكون قانونية لابد من ان تتصف وظيفياً بالتنظيم وبحسب ما يتم تنظيمه عن طريق القانون والهدف المقصود من ذلك يحدد الاختصاص الموضوعي للقانون ، أي أن يتم تحديد موضوعات القانون . ويمكن ذلك من خلال تحديد حيثيات العلاقة محل التنظيم من جهة وتحديد الهدف من التنظيم من جهة اخرى ، وللتعرف على خصوصية العلاقة بين القانون الدولي لحقوق الانسان وقانون الدستور من خلال التعرف على العلاقة الموضوعية بين القانونين لابد من تحديد عناصر هذه العلاقة التي ينظمها كل من القانونين من جهة والتعرف على الهدف من تنظيم هذه العلاقات من جهة اخرى .
أما فيما يتعلق بالقانون الدولي لحقوق الإنسان فحاله كأي قانون لا بد ان يكون يهدف إلى تنظيم علاقات معينة وإذا بحثنا عن العلاقة التي يحكمها هذا القانون فنجدها ذات العلاقة التي تنظمها قواعد حقوق الإنسان بشكل عام وهي العلاقة التي يهدف القانون من خلال تنظيمها إلى تحقيق أهدافه والتي تجتمع كلها في سبيل تحقيق الغاية العليا للقانون ألا وهي إعمال حقوق الإنسان ، ويتمثل طرفا العلاقة منطقياً بالافراد من جهة والذين يكونون الطرف الذي وجد القانون لمصلحة اما الطرف الأخر فهو الطرف الذي من الممكن او من المحتمل ان يصدر منه سلوك يؤدي الى انتهاك حقوق الانسان او من الممكن ان يكون مسؤولا عن مهمة ضمان احترام هذه الحقوق ومنع انتهاكها او يكون الأداة الايجابية لتطبيقها ، وما يتعلق بهذا الجزء من هذه الدراسة نجد ان الطرف الثاني في العلاقة والمقابل للافراد يمكن ان يكون الدولة او بتعبير أدق ( السلطة) وهذا التحديد يعد الادق والاغلب فيما يتعلق باطراف علاقات حقوق الانسان بل انه من ناحية اخرى يعد الاهم والاكثر تأثيرا وفاعلية فيما يتعلق بإعمال حقوق الانسان او عكس ذلك أي انتهاكها . حيث ان سلوك السلطة او ممارستها يمكن من الناحية السلبية لحقوق الانسان ، ان تكون الأخطر على هذه الحقوق حيث نرى ان الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان غالباً ما تكون من جراء ممارسة السلطة بهذا الاتجاه ، ومن ناحية اخرى فان سلوك السلطة او ممارستها يمكن ومن الناحية الإيجابية لحقوق الانسان ان يكون الدافع لإعمال هذه الحقوق وتطبيق ما ليس مطبقاً منها وتهيئة الأجواء المناسبة للتطبيق او العمل على الارتقاء بما هو مطبق من الحقوق نحو الأفضل .
إذاً فالعلاقة الأهم والتي يحكمها القانون الدولي لحقوق الإنسان هي العلاقة بين الافراد وأصحاب الحقوق والذين وجد هذا القانون لمصلحتهم والسلطة التي من الممكن ان تكون خصما لهم في هذه العلاقة او داعما لعملية إعمال حقوقهم . ويأتي القانون الدولي لحقوق الإنسان وفي كلتا الحالتين ويوجه قواعده لحكم سلوك السلطة حيث يلزمها في الحالة الأولى بالامتناع عن انتهاك هذه الحقوق اما في الحالة الثانية فيلزمها بالقيام بعمل إيجابي معين في سبيل تطبيق هذه الحقوق ، ويكون ذلك اما بالمبادرة بالقيام بتطبيق حقوق الإنسان او بتهيئة الأجواء المناسبة للبدء بالتطبيق وغير ذلك ما من شأنه ان يؤدي إلى إعمال هذه الحقوق . وفي كل الأحوال فانه وطبقا لهذا القانون تعد مخالفة الالتزام الاول او الثاني مخالفة له .
اما فيما يتعلق بالدستور فهو باعتباره قانونا لابد ان يكون منظما لعلاقة معينة وهو بهذا المعنى لابد وان يكون لهذه العلاقة طرفان وبالعودة الى ما هو معروف عن الدستور والذي تناولناه في الفصل السابق من هذه الدراسة ، نجد ان الدستور يتضمن بالدرجة الاولى مجموعة قواعد تحكم السلطة القائمة في الدولة وتنظم شؤونها التي تعد ذات أهمية بالغة في حياة المجتمع الانساني المنظم المعروف بتسمية ( الدولة) . وبالعودة الى سلوك السلطة نجد انه وضمن القانون الداخلي والذي شكل الدستور جزءا منه ، يكون متصلا بالأفراد أي ان السلطة تمارس اختصاصها في ادارة الدولة وان ذلك يجعلها في الطرف الاخر من علاقة مع ما تبقى من المكونات الحية للدولة الا وهو الشعب او الافراد . وبالعودة الى تأصيل فكرة الدستور نجد انه يؤصل على اساس انه بمثابة عقد اجتماعي مبرم بين الحكام والشعب ، وبموجب هذا العقد خول الافراد مجموعة من الافراد وهم ( الحكام ) للقيام بمهمة ممارسة السلطة عنهم ومن ناحية اخرى قد يحدد صراحة قيوداً معينة على كيفية ممارسة السلطة من قبل الحكام وكذلك تحديد حقوق معينة للافراد لا يجوز للحكام المساس بها او انتهاكها( [29]) .
ولما كان الدستور ينظم عملية ممارسة السلطة ، أي انه يحكم السلوك الصادر عن أحد أطراف العلاقة التي ينظمها قانون الدستور فالسؤال الذي يثار هنا هو ، لمصلحة من يكون تنظيم عملية ممارسة السلطة ؟
من المعروف منطقيا ان أية علاقة تحتاج الى التنظيم أي تحتاج الى القانون لابد ان تكون علاقة يسعى كل طرف فيها الى تحقيق مصالحه وبالتالي منح حقوق معينة عن طريق التنظيم الى طرف معين لابد وان يكون على حساب الطرف الاخر في ذات العلاقة . وان تقييد أي طرف وضبط سلوكه في العلاقة لابد ان يكون على حساب حقوقه ولمصلحة حقوق ومكاسب الطرف الاخر ، وبهذا المعنى فان ضبط سلوك السلطة وتقييدها لابد ان يكون لمصلحة زيادة حقوق الافراد ، الطرف الاخر في العلاقة ، حيث ان مصلحة الحكام وبشكل عام تتفق مع اطلاق ارادتهم وحرية في ممارستهم للسلطة في حين ان مصلحة الافراد تكون في تقييد الحكام وتحديد كيفية ممارستهم للسلطة ( [30]).
إذاً فالعلاقة التي يحكمها قانون الدستور هي عبارة عن علاقة بين الشعب من جهة والسلطة من جهة اخرى ، وبالرجوع الى العلاقة التي يحكمها القانون الدولي لحقوق الانسان نجد اننا كنا ايضا امام قانون يحكم العلاقة بين الشعب ( الافراد ) من جهة والسلطة من جهة اخرى . وبعد ان علمنا ان هناك وظيفة تنظيمية متطابقة بين كل من القانونين نتساءل عن وجود التطابق في الهدف من تنظيم العلاقة ؟
من البديهي ان القانون الدولي لحقوق الانسان يهدف الى إعمال حقوق الانسان ومن خلال ذلك يحمي الافراد ويحقق غايات اجتماعية غريزية لهم في الحصول على الامن والسلامة والرفاهية وغير ذلك من التفاصيل المعروفة لثمار تطبيق حقوق الانسان. ويكون ذلك بالتأكيد من خلال السعي الى تنظيم سلوك كل من يكون مسؤولا عن إعمال حقوق الانسان او عدم إعمالها . ويكون ذلك اما عن طريق فرض التزام سلبي يتمثل بالامتناع عن ارتكاب انتهاكات لحقوق الانسان والتوقف عن ذلك او بفرض التزام ايجابي للقيام بتطبيق ما هو غير مطبق من هذه الحقوق والذي يحتاج الى تدخل ايجابي من السلطة في سبيل البدء بالتطبيق ويتمثل محتوى الالتزام الاول بفرض التزامات على السلطة او من يمارسها بالامتناع عن اتيان أي سلوك او تصرف يمكن ان يؤدي الى انتهاك احد الحقوق الانسانية او مجموعة منها سواء كان ذلك من خلال تصرف السلطة التشريعية بإصدار قوانين مخالفة لحقوق الإنسان او تصرف السلطة التنفيذية بتنفيذ قوانين مخالفة لهذه الحقوق او الاتيان باي تصرف من هذا القبيل او قد يكون الامر متعلقا بالسلطة القضائية عند ممارستها لاختصاصاتها في الفصل في المنازعات .
أي ان تحقيق هدف هذا القانون يكون من خلال توجيه قواعده لإلزام السلطة لممارسة اختصاصاتها على نحو معين يؤدي الى إعمال حقوق الإنسان وبذلك يكون هذا القانون محققاً لمصلحة الأفراد في العلاقة التي ينظمها والتي تكون السلطة الطرف الأخر فيها .
اما فيما يتعلق بالدستور فان تأصيل فكرته يقوم على ان هناك علاقة بين الافراد والسلطة وان هذه العلاقة قد تم تنظيمها عن طريق الدستور ، الذي كان في بداية الامر بمثابة عقد اجتماعي مبرم بين طرفي العلاقة ، وكان يهدف ابتداءً الى تحقيق مصلحة الأفراد من خلال إيجاد طريقة يستطيعون من خلالها ادارة شؤونهم وذلك عن طريق مجموعة منهم يتولون هذه المهمة وهم (الحكام) حيث انه وبموجب الدستور يتم تخويل هؤلاء الحكام مهام إدارة الدولة . وانه من جهة اخرى يحدد اختصاصات هؤلاء الحكام وحقوقهم والتزاماتهم كما انه يحدد مجالا معينا لا يجوز لهؤلاء الحكام المساس به والذي يتضمن مجموعة من الحقوق للافراد لا يسمح للسلطة الاعتداء عليها بل يجب عليها العمل على حمايتها( [31]).
وبتحليل طبيعة أحكام الدساتير ، وبالأخذ بما هو معروف عن الدستور بكونه قانون السلطة او القانون الذي يحكم السلطة او ينظم ممارستها ، نجد ذلك ينطبق أيضاً وكما كان الحال بالنسبة إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان ، بقانون يحكم العلاقة بين الأفراد والسلطة . ويحكم هذا القانون هذه العلاقة من خلال تنظيمها وبما انه ينظمها فانه بذلك يقيدها وبما ان السلطة وبموجب طبيعتها والغرض من وجودها تقتضي ان تكون في مكانة فوق الأفراد أو تحكمهم فان تقيدها منطقياً لابد وان يكون لمصلحة الافراد( [32]) .
حيث انه ومن المعلوم ان ممارسة السلطة من الممكن ان تؤدي الى انتهاك حقوق الانسان وبما ان الدستور يعد القانون المتخصص في تنظيم ممارسة السلطة أي حكم سلوك من يقوم بممارستها فانه من الممكن ان يكون منظما لهذه الممارسة بما يخدم عملية إعمال حقوق الانسان . وذلك على أساس ان الدستور ينظم ممارسة السلطة وان هذه الممارسة هي التي يمكن ان تؤدي الى انتهاك هذه الحقوق أو إعمالها( [33]) .
ولكن السؤال الذي يثار هنا هو ، هل ان كل دستور بالضرورة يؤدي من خلال تنظيمه لممارسة السلطة الى إعمال حقوق الانسان وبحسب التقديم سابق الذكر ؟
من الواضح في عالم اليوم انه يمكن القول ان تعدد الدساتير في العالم يمكن ان يكون بتعدد الدول فيه ، حيث بات الدستور يعد بمثابة الركن لاقامة النظام القانوني الوطني للدولة . ولكن وجود هذه الحقيقة لا يعني بالضرورة ان تكون نتيجة ذلك ترجمة للحقيقة التي توصلنا اليها فيما تقدم بخصوص دور الدساتير في إعمال حقوق الانسان ، حيث انه وعلى الرغم من وجود الدساتير في الدول لا نجد إعمالاً حقيقياً لحقوق الانسان في جميع الدول ، حيث ان الحقيقة سابقة الذكر تمثل ما يجب ان يكون الدستور عليه او انها ما وجد الدستور في سبيل تحقيقها بالدرجة الاساس ، وانه قد حقق ذلك في دساتير معينة ولم يحقق ذلك في قوانين اخرى تسمى بتسمية ( الدستور) ايضا ! أي ان الدستور يمكن ان يكون حقيقيا وذلك عندما يتضمن الحقيقة التي تناولناها بخصوص ممارسته لدور تنظيم السلطة لمصلحة حماية حقوق الافراد ، او انه يمكن ان يكون مجرد قانون ينظم السلطة ولكن بهدف تنظيم السلطة فحسب وليس في سبيل حماية حقوق الافراد من خلال هذا التنظيم( [34]) .
وبذلك يكون الدستور مجرد قانون ولكن له مكانة متميزة بحسب طبيعته ويعنى بتنظيم شؤون السلطة وربما يكون ذلك خالصاً لمصلحة السلطة ومكرساً بذلك ضد الطرف الاخر في العلاقة معها ألا وهم الافراد ، ويكون ذلك عندما نكون أمام قانون يسمى (دستور ) ولكنه لا يتضمن أياً من المبادئ الدستورية التي وجدت لحماية حقوق الأفراد وفي مثل هذه الأحوال قد نكون أمام دستور لتكريس الاستبداد( [35]) .
أي أن القانون لكي يكون دستوراً حقيقياً يجب ان يكون متضمناً للمفهوم سابق الذكر للعلاقة بين الدستور والأفراد أي ان يكون دستورا يحمي الأفراد ويكرس لأنظمة تهيئ الأجواء لإعمال حقوق الأفراد متمثلة بأجواء الحرية والديمقراطية المنظمة ، وفي هذا الخصوص يذهب الأستاذ ( مركين جيتزفتش ) الى القول ان الدستور هو (صناعة الحرية)( [36])( أما الأستاذ (بوردو) فيرى ان الدساتير وجدت بالاساس في سبيل (تثبيت الديمقراطية)( [37]). وبهذا المعنى وبشكل عام كان قد ذهب مفكرو الثورة الفرنسية الشهيرة من الثورات التي حصلت في العالم والاشهر من بين الثورات المهمة في مسيرة حقوق الانسان ، وهم الذين اثروا بأفكارهم وبشكل كبير في تسيير مسيرة حقوق الانسان وتوجيهها من جهة والآتيان بالأفكار الدستورية المهمة بشكل عام من جهة أخرى ، اذ يرى هؤلاء ان أي تنظيم او هيئة او بتعبير أدق (دولة) لا تتضمن قانوناً يتضمن ضمانات لحقوق الإنسان فإنها في الحقيقة تعد دولة لا دستور لها . وقد تم تضمين هذا المعنى صراحة في الإعلان الصادر عن الثورة وذلك في المادة (16) والتي جاء فيها (إن كل هيئة اجتماعية لا تضع ضمانا للحقوق ولا تفصل بين السلطات فهي هيئة لا دستور لها) .
وتعزيزاً لما تقدم حول الربط بين الدستور وإعمال حقوق الإنسان على أساس انه المنظم للعلاقة بين الأفراد والسلطة ، فان كيفية قيام الدستور بعملية التنظيم هذه تعكس العلاقة بين إعمال حقوق الإنسان والدستور ، حيث ان الدستور يقوم بعملية التنظيم من خلال تطبيق مبادئ معينة وهي تلك المبادئ التي تعرف بالمبادئ الدستورية، كمبدأ الفصل بين السلطات ومبدأ الرقابة على دستورية القوانين ، والرقابة على إعمال الإدارة واستقلال القضاء ، وهي مرتكزات أساسية تتضمنها اغلب الدساتير ، حيث ان الدستور ينظم السلطة من خلال مخاطبتها بقواعد معينة تمثل كل مجموعة منها مبدأ معينا وان مثل هذه المبادئ في حقيقتها من الممكن ان تكون ضمانات لحقوق الانسان( [38]).
وعلى سبيل المثال فان عملية الفصل بين السلطات تعني اتخاذ إجراء وقائي من احتمال ميل السلطة الى مخالفة حدود حقوقها وصلاحياتها والاعتداء على حقوق الافراد، أي ان الفصل يكون بهدف عدم اطلاق الحرية للسلطة بالتصرف وفصلها بهدف ضمان تقييدها بحدود معينة . اذ ان السلطة وكما يذهب اليه (مونتسكيو) والذي تنسب اليه فكرة هذا المبدأ ، تميل الى الفساد وان إطلاق السلطة يعني إطلاقاً لاحتمال الفساد ، لذلك رأى ان وظائف الدولة يجب ان توزع على هيئات متميزة لتستطيع كل هيئة من الهيئات وقف الاخرى اذا تعدت الاطار او الغايات المحددة او حاولت اساءة استعمال سلطاتها داخل هذا الاطار( [39]).
ومن المعروف ان الاطار المرسوم لاختصاصات السلطة بشكل عام هو ان تمارس اختصاصاتها دون المساس بحقوق الافراد .
اما مبدأ الرقابة على دستورية القوانين ، فهو ايضا مبدأ دستوري مهم وناتج عن مبدأ سمو الدستور ، وهو وبتطبيقه يؤدي الى إعمال حقوق الانسان من خلال تقديس النصوص المباشرة المتعلقة بحقوق الانسان اذا كانت واردة في الدستور ، او من خلال إعمال بقية المبادئ الدستورية التي تؤدي بتطبيقها وبشكل غير مباشر الى إعمال حقوق الانسان . وكذلك الحال بالنسبة إلى الرقابة على إعمال الادارة التي تعد من اهم الضمانات لإعمال حقوق الانسان حيث ان رقابة السلطة القضائية التنفيذية تعد ضمانة لمنع القائمين على السلطة الاخيرة من الانحراف في عملهم وتخطيهم لحدود صلاحياتهم والاعتداء على حقوق الافراد ، اذ تكمن خطورة عمل السلطة التنفيذية على حقوق الافراد في كون هذه السلطة تكون على احتكاك مباشر ويومي مع الافراد وحقوقهم ، وتتضح خطورة هذه السلطة على الافراد بشكل كبير من خلال امتلاك هذه السلطة لاختصاصات تشريعية تتضمن اصدار اللوائح والتعليمات الادارية ومن ثم تولي مهمة تنفيذها مما يعني زيادة احتمالات الخطورة التي يمكن ان يتعرض اليها الافراد فيما يخص حقوقهم الانسانية ( [40]).
ويتضح مما تقدم ان الدستور بأغلب مبادئه يعد قريبا من حقوق الانسان ومرتبطا بها بل قائما على فلسفتها .
ونخلص من كل ما تقدم الى ان العلاقة التي ينظمها القانون الدولي لحقوق الانسان كقانون هي علاقة على الأغلب وبالضرورة تكون قائمة بين الافراد والسلطة ، وان العلاقة التي ينظمها الدستور هي بالضرورة علاقة قائمة بين ذات الطرفين ايضا . اما الهدف الذي يسعى القانون الدولي لحقوق الانسان الى تحقيقه فهو بالتأكيد عبارة عن هدف يخدم مصلحة الافراد وإعمال حقوقهم الانسانية ، وكذلك الحال بالنسبة إلى الدستور فقد وجد لضمان حقوق الافراد ضد أي اعتداء او تجاوز من قبل السلطة ، وبذلك نجد ان اطراف العلاقة التي يتم تنظيمها عن طريق القانون الدولي لحقوق الانسان ودساتير الدول تتمثل بالافراد من جهة والسلطة من جهة اخرى وان الاهداف الحقيقية التي يسعى كل من القانونين الى بلوغها من خلال عمليات التنظيم تتجسد في إعمال حقوق الانسان وعدم الاعتداء عليها . وبذلك نتوصل الى ان هناك علاقة ذات خصوصية ومشتركة بين القانونين من حيث عملية تنظيم العلاقات واطرافها والاهداف المرجوة من عمليات التنظيم وهذا يعني منطقيا وعمليا ضرورة التكامل والتوافق بين القانونين في سبيل تحقيق افضل النتائج التي يصبو اليها من يسعى الى إعمال حقوق الانسان والارتقاء بها.