نشأه القانون الدولى
من المعروف ان الظهور الاول لمبادئ حقوق الانسان كان على صعيد القوانين الداخلية، إذ لم يكن الفرد في بداية الامر شخصا او موضوعا او محلا للقوانين الدولية إذ ان حقيقة الامر تفيد بان القوانين الداخلية اقدم بالظهور من القوانين الدولية. وان حاجة الانسان إلى ايجاد قواعد تصون حقوقه الانسانية قديمة قدم الانسان ، ولذلك اخذ هذا الانسان يحاول استثمار تلك القوانين في سبيل تحقيق الحماية والتطبيق لحقوقه وقد كان لآراء الفلاسفة ونضالهم فضلاً عن نضال بني البشر بشكل عام وعلى اختلاف الامم والعصور الدور الكبير في ايجاد مبادئ حقوق الانسان ضمن الاطر القانونية وتطوير ذلك وايصالها إلى نظم قانونية خاصة اسمى وتحقق صيانة اكبر لها وذلك بادخال هذه المبادئ في التنظيم الدستوري وذلك لاعطائها مكانة اسمى ضمن القوانين لضمان عدم انتهاكها . ولكن السؤال الذي يثار هو ، هل ان الانسان اكتفى بادخال مبادئ حقوق الانسان في التشريعات الداخلية وتطوير ذلك بادخالها ضمن الدساتير الوطنية ، ام انه كان مستمرا في البحث عن ضمانات اكبر لإعمال حقوقه الانسانية ؟
لم يكتفِ الانسان بما تحقق له في مراحل التطور السابقة واخذ يبحث عن ما يمكنه من الارتفاع بالمستوى السابق المتحقق ويعززه فكان توجه الانسان بعد ذلك إلى قانون جديد وذي طبيعة خاصة ومميزة عن القوانين العادية وقد تكون فيه صفات معينة تدعم ما يسعى اليه الانسان في سبيل الحصول على تفعيل افضل وضمانات اكبر لإعمال حقوقه الانسانية . فكان التوجه في مرحلة جديدة نحو القانون الدولي . والسؤال الذي يثار هنا هو لماذا قصد الانسان هذا القانون ؟ او لماذا اراد الانسان او من يسير مسيرة حقوق الانسان ويناضل من اجلها تدويل قضية تطبيق هذه الحقوق ؟
قبل الاجابة على ما تقدم قد يكون من المفيد القاء نظرة على وضع الانسان في القانون الدولي العام قبل البدء بتدويل مبادئ حقوق الانسان ومن بعد ذلك نتناول الدوافع إلى تدويل هذه المبادئ .
- وضع الفرد في ظل القانون الدولي العام :
كان الاعتقاد العالمي السائد قبل القرن العشرين هو ان الفرد لا يعد من اشخاص القانون الدولي العام ، ويرجع ذلك إلى كون بنية هذا القانون نفسه كانت إحدى العوائق الرئيسة فيما يتعلق بإمكانية اعتبار الفرد من أشخاص هذا القانون حيث ان دور هذا القانون كان يقتصر في تلك الفترة على تنظيم العلاقات بين الدول فقط ، إذ انها كانت الشخص الوحيد لهذا القانون ( [79]) واذا كان التعمق الموضوعي في القانون الدولي التقليدي يدلنا على ان الفرد على الرغم من كونه لم يكن من أشخاص هذا القانون الا انه مع ذلك كان هدفا لهذا القانون باعتباره قانوناً حاله كحال بقية القوانين التي وجدت في سبيل تحقيق هدف معين سامٍ وهو خدمة الفرد (الإنسان) الا ان اتجاهات الدول وسياساتها واتجاهات الفقهاء ونظرياتهم لم تكن تتجه بشكل عام إلى اعتبار الفرد من أشخاص القانون الدولي العام وان الفقهاء الذين كانوا يعتبرون الفرد من أشخاص هذا القانون لم يكونوا يمثلون في ذلك الوقت إلا رأي القلة( [80]).
وبموجب الاتجاهات المذكورة والتي كانت سائدة في القانون الدولي التقليدي ، فان الافراد كانوا اشخاصاً في القوانين الداخلية لدولهم ، وموضوعا للسلطة المطلقة التي كان لها كامل الحرية في اخضاعهم لسلطاتها وقوانينها دون ان يكون لأية جهة أجنبية الحق في التدخل في العلاقة القائمة بين الحكومة ( السلطة ) ورعاياها، حتى وان كانت تصرفات السلطة قائمة على أساس الخطأ او الظلم او اللا عدل . واذا كانت سلطة الدولة مطلقة على رعاياها فانها لم تكن كذلك فيما يتعلق بعلاقاتها بالأفراد الأجانب المقيمين داخل الاقليم الخاضع لها ، حيث ان الامر كان قد تطور مبكراً وأصبحت هذه العلاقة خاضعة لقواعد دولية خاصة قائمة على أساس فكرة وجود حد أدنى من الحقوق يجب ان يتمتع بها الفرد الاجنبي وعلى اساس ذلك يجب على الحكومات ان تعامل الاجانب المقيمين في اقليمها بمعاملة خاصة تختلف عن المعاملة التي تعامل بها رعاياها، بحيث تكون سلطة الدولة على الاجانب المقيمين في اقليمها سلطة مقيدة وليست مطلقة كما هو الحال بالنسبة إلى سلطتها على رعاياها .
وبمرور الزمن واستمرار عجلة التطور في القانون الدولي العام بالسير ، وبتهيئة الظروف المناسبة والحاجات الملحة وتطور مسيرة حقوق الانسان بشكل عام ، اخذت المبادئ الأساسية التي دفعت إلى تقييد سلطات الدولة فيما يتعلق بالتعامل مع الاجانب تتطور لتتحول إلى مبادئ تقضي بتقييد سلطات الدولة فيما يتعلق بتعاملها مع رعاياها ، بحيث ظهرت قواعد عرفية دولية تقضي بتقييد سلطات الدولة على رعاياها وجواز التدخل الاجنبي لضمان تطبيق مثل هذه القواعد ( [81]) ، وقد كان اول ما ظهر من هذه القواعد على شكل قواعد دولية تقضي بتوفير حماية دولية خاصة للأقليات وكانت البداية بتوفير مثل هذه الحماية للاقليات الدينية الموجودة في دولة معينة والتي يخشى ان تتعرض للاعتداء او القسوة او التعسف من قبل السلطة التي تسيطر عليها الاغلبية ( [82])، وبعد هذه التطورات اخذ وضع الفرد في القانون الدولي العام يتطور ويتحول من مرحلة اعتباره هدفاً قريباً لا بل هدفا مباشرا من اهداف هذا القانون واستمر هذا التطور إلى الحد الذي بدا الفرد يعتبر من اشخاص هذا القانون وذلك بعد ظهور قواعد دولية خاصة تخاطب الافراد بشكل مباشر وتمنحهم حقوقاً معينة او ترتب عليهم التزامات معينة ، وعلى اثر ظهور تلك القواعد ترتب وضع جديد للفرد في القانون الدولي العام يقضي بالاعتراف بكون الفرد يمكن ان يكون شخصا من اشخاص القانون الدولي العام او بحد أدنى موضوعاً من موضوعات هذا القانون وذلك لوجود قواعد قانونية تخاطبه بشكل مباشر وتمنحه حقوقاً او تفرض عليه التزامات معينة ، بدون التوسط بشخص الدولة التي ينتمي إليها او يخضع لها .
- الأسباب الدافعة إلى تدويل حقوق الإنسان :
علمنا مما تقدم ان فكرة حقوق الانسان ظهرت اول الامر على الصعيد الداخلي على شكل افكار معينة تطورت فيما بعد واصبحت مبادئ قانونية ضمن القوانين الداخلية العادية منها والدستورية ، ولكن الامر لم يتوقف عند هذا الحد بل أخذت هذه المبادئ تنتقل شيئا فشيئا من صعيد القانون الداخلي إلى صعيد القانون الدولي عندما بدأت تدخل مثل هذه المبادئ ضمن ما يعرف بالقانون الدولي العام والذي كان يعد بصيغته الاولى بعيدا عن التدخل في حماية حقوق الافراد , لكنه اخذ يتطور وياخذ على عاتقه وبشكل تدريجي التدخل في مثل هذه المسائل ولكن السؤال هنا هو ما هي الاسباب والدوافع التي أدت إلى تحقيق عملية الانتقال لمبادئ حقوق الانسان من القانون الداخلي إلى القانون الدولي ؟
يرجع هذا التطور في مسيرة حقوق الإنسان من جهة ومسيرة القانون الدولي العام من جهة أخرى إلى عدة عوامل أهمها :
1. تطور الحياة الإنسانية وازدياد الاحتكاك بين الشعوب بفضل التقدم الحاصل في مجال المواصلات والنقل والاتصالات وكذلك التطور الحاصل في مجال الحياة الاقتصادية وما يتعلق بالتبادل التجاري بين الدول وظهور منتجات اقتصادية متباينة من دولة إلى اخرى استدعت وجود علاقات تبادل وفرص عمل متباينة أدت إلى زيادة وجود العاملين خارج أوطانهم ( [83]) الامر الذي ادى إلى زيادة التقارب بين الشعوب وتعرف الشعوب بفضل احتكاكها مع غيرها على اوضاع حقوق الانسان لدى غيرها وتعرفها على مبادئ جديدة في هذا المجال اذ انه من المعلوم ان مبادئ حقوق الانسان والنظرة اليها كانت ولا تزال تختلف من شعب إلى اخر ومن حضارة إلى اخرى( [84]).
2. زيادة إعداد الأجانب المتواجدين خارج أوطانهم , وذلك بفعل التطور الحاصل في الحياة الاقتصادية وظهور مبادئ دعت إلى الانفتاح الاقتصادي او الاختلاف في مدى توفير فرص العمل من دولة إلى اخرى ، وان هذه الزيادة في عدد الاجانب الذين يعملون او يقيمون في دول لا ينتمون اليها برابطة الجنسية يعني احتمال الزيادة في الانتهاكات التي من الممكن ان يتعرض اليها هؤلاء الاجانب من قبل سلطات دولة الاقامة ، الامر الذي قد يؤدي إلى الاضرار بواقع العلاقات الدولية بين دولة الجنسية ودولة الاقامة مما قد يستدعي ان تتدخل الاسرة الدولية وتوجد أعرافاً معينة وتطورها على الصعيد الدولي في سبيل منع الاعتداء على هؤلاء الاجانب .
3. شعور الضمير العالمي بعدم كفاية نظم القانون الداخلي لحماية حقوق الانسان ، وان السبيل الافضل لضمان هذا الاحترام هو حمايتها عن طريق نظم القانون الدولي العام ، حيث انه على الرغم من اختلاف النظرة إلى حقوق الانسان من شعب إلى اخر ومن حضارة إلى اخرى الا ان الدافع إلى هذه النظرة او الهدف هو واحد الا وهو الانسان وان مشاكل الانسان من هذه الناحية هي واحدة اين ما وجد وفي أي زمان حيث ان دافعه هو التخلص او الاتقاء من انتهاك حقوقه وبما ان الدافع إلى التفكير بحقوق الانسان موحداً لدى البشرية فان الافراد اخذوا لا يفكرون بقضية حقوقهم الانسانية على صعيد اوطانهم فحسب بل انهم اخذوا يشتركون ويتضامنون مع الافراد في المجتمعات الانسانية الاخرى في سبيل توحيد الجهود والنضال لتحصيل الإعمال لحقوقهم . ولكن مهما اتحد الجهد فانه قد لا يؤتي ثماره اذا كان بعيدا عن تأطيره في اطار قانوني يضمن تحققه بصيغة تؤدي إلى استفادة كل من ناضل في سبيل هذه القضية من ثمار نضاله وجهوده فضلاً عن نضال وجهود غيره ممن سار في ذات الطريق . وخير اطار قانوني لتأطير قضية حقوق الانسان وتوحيد كافة الجهود الانسانية في هذا المجال هو قانون يمتاز بطبيعته بانه قانون يسري على مجموع الدول وبالتالي فان هذا يعني انه سوف يسري على مجموع الشعوب ويكون بمثابة المعزز والداعم لجميع النظم الداخلية التي وجدت لضمان حقوق الانسان في مختلف الدول . ويتمثل هذا القانون بالقانون الدولي العام ، وبداية انتقال مبادئ حقوق الانسان من الصعيد الداخلي إلى الصعيد الدولي كان البذر الاول للقانون الدولي لحقوق الانسان ذلك القانون الذي يقوم على فكرة وجود مجموعة من القواعد الدولية تعني بتحقيق الاحترام لحقوق الانسان .
واذا كانت مرحلة انتقال مبادئ حقوق الانسان من الصعيد الداخلي إلى الدولي بمثابة المرحلة الجنينية الممهدة لولادة القانون الدولي لحقوق الانسان فان هذه العملية استمرت وتزامن مع استمرارها ازدياد الوعي والاهتمام الدولي في مجال حقوق الانسان وبدأت تظهر نظم وقواعد عرفية دولية في مجال هذه الحقوق كنظام الحد الادنى في معاملة الاجانب ونظام التدخل الإنساني ونظام حماية الاقليات وأخذت تتكون العديد من القواعد الدولية في مجال حماية هذه الحقوق .
الا انه ورغم كل التطورات التي حصلت وازدياد الوعي في هذا المجال لم يؤدِ كل ذلك إلى ظهور ما يعرف بالقانون الدولي لحقوق الانسان . حيث انه وفي المرحلة الاولى (الجنينية) او الممهدة للولادة لم يكن هذا القانون معروفا كقانون قائم بحد ذاته ضمن فروع القانون الدولي العام لا بل حتى قواعده ضمن قواعد هذا القانون لم تكن معروفة لدى الجميع او ان وجودها لم يكن مؤيدا او مصادقا عليه على الصعيد الدولي سواء الرسمي او الفقهي .
واستمر هذا الوضع لفترة زمنية تزامن معها التحديث في القانون الدولي العام واستمرار سير مسيرة حقوق الانسان بشكل عام وعلى الصعيد الدولي بشكل خاص ، ولكن كل ذلك لم يؤدِ إلى ولادة القانون الدولي لحقوق الانسان بشكل صريح وواضح او تدويل حقوق الانسان الا بإصدار ميثاق منظمة الامم المتحدة ، ذلك الميثاق الذي مثل التصديق عليه من قبل غالبية الدول بمثابة التعديل لاحكام القانون الدولي ، حيث انه أوجد منظمة حكومية عالمية تظم في عضويتها غالبية دول العالم ، وتضطلع بمهام ذات طبيعة عامة تهم كل الدول الاعضاء في الاسرة الدولية ، حيث جاء هذا الميثاق راسما للخطوط العريضة لمسيرة حقوق الانسان على الصعيد الدولي وهيأ وبشكل رسمي البيئة المادية والقانونية والمعنوية المناسبة للبدء بإعمال حقوق الانسان بوسائل دولية واستمرار عملية التدويل أي الانتقال لبقية مبادئ حقوق الانسان ، لا بل انه هيأ لإمكانية ايجاد قواعد دولية جديدة لإعمال حقوق الانسان .
إذ جاء ميثاق الأمم المتحدة بالإجازة أو الإعلان الصريح عن تدويل حقوق الانسان وجعلها ضمن الموضوعات الدولية ، وكان ذلك من خلال تناول الميثاق لهذه الحقوق في العديد من مواده فضلاً عن ديباجته ( [85]).
والذي يلاحظ بصدد نصوص الميثاق ان هناك ترابطا فيما بينها بصدد مسالة حقوق الانسان . حيث ان الهدف الاساسي للامم المتحدة والمتمثل بحفظ الامن والسلم الدوليين ليس بالهدف البعيد عن موضوع حقوق الانسان ، حيث ان السلم الدولي وضمان استمراره يعد من اهم حقوق الانسان الجماعية ، الا وهو حق الانسان الجماعي في السلام فضلاً عن كون تحقيق السلام يوفر البيئة المناسبة لتطبيق حقوق الانسان( [86]).
وتبين نصوص حقوق الانسان الواردة في الميثاق ، ذلك الميثاق الذي يمثل معاهدة دولية جماعية فضلاً عن كونه يمثل دستور المنظمة ، تلك المنظمة التي تعد اكبر منظمة عالمية عرفها المجتمع الدولي ، ان ايراد هذه النصوص وما تتضمنه من احكام وعدها من مقاصد المنظمة التي تمثل المجتمع الدولي وتعبر عن ارادته وتوجهاته ، يفيد بتوجه ارادة المجتمع الدولي إلى جعل مبادئ حقوق الانسان قواعد امرة في القانون الدولي العام ( [87]).
وعلى الرغم من الايجابيات التي حققها الميثاق لحقوق الانسان الا انه كان مع ذلك يكتنفه الكثير من العيوب فيما يتعلق بهذه الحقوق حيث انه لم يتناولها بشكل تفصيلي وضمن مواد مفصلة بل انه تناولها في نصوص عامة وضمن مواد متفرقة كما انه لم يضع آليات معينة لإعمالها واكثر من تكرار ذكر ذات العبارات في الكثير من النصوص كل هذه العيوب وعيوب اخرى دفعت إلى حصول خلاف فقهي حول نصوص الميثاق المتعلقة بحقوق الانسان ومدى الزاميتها ( [88]).
ولم يتوقف جهد الامم المتحدة في مجال حقوق الانسان على صياغة واصدار الميثاق بل انها قامت بتعزيز حقوق الانسان من خلال العديد من الاجراءات والتصرفات على الصعيد الدولي والتي يمكن تفسيرها اما بانها تكون تكملة للنواقص التي كانت تشوب الميثاق او انها ترجمة تفصيلية للمبادئ العامة التي جاء بها الميثاق وقد ابتدات هذه الإعمال بالجهد الدولي الذي بدا بعد صدور الميثاق والذي ادى إلى تعريف حقوق الانسان ووصولا إلى ايجاد حماية لهذه الحقوق .
وسوف نتناول فيما يأتي وبهدف خدمة اهداف الدراسة موجزا عن جوانب نشاط الامم المتحدة المتعلق بتكوين القانون الدولي لحقوق الانسان .
من المعروف ان الظهور الاول لمبادئ حقوق الانسان كان على صعيد القوانين الداخلية، إذ لم يكن الفرد في بداية الامر شخصا او موضوعا او محلا للقوانين الدولية إذ ان حقيقة الامر تفيد بان القوانين الداخلية اقدم بالظهور من القوانين الدولية. وان حاجة الانسان إلى ايجاد قواعد تصون حقوقه الانسانية قديمة قدم الانسان ، ولذلك اخذ هذا الانسان يحاول استثمار تلك القوانين في سبيل تحقيق الحماية والتطبيق لحقوقه وقد كان لآراء الفلاسفة ونضالهم فضلاً عن نضال بني البشر بشكل عام وعلى اختلاف الامم والعصور الدور الكبير في ايجاد مبادئ حقوق الانسان ضمن الاطر القانونية وتطوير ذلك وايصالها إلى نظم قانونية خاصة اسمى وتحقق صيانة اكبر لها وذلك بادخال هذه المبادئ في التنظيم الدستوري وذلك لاعطائها مكانة اسمى ضمن القوانين لضمان عدم انتهاكها . ولكن السؤال الذي يثار هو ، هل ان الانسان اكتفى بادخال مبادئ حقوق الانسان في التشريعات الداخلية وتطوير ذلك بادخالها ضمن الدساتير الوطنية ، ام انه كان مستمرا في البحث عن ضمانات اكبر لإعمال حقوقه الانسانية ؟
لم يكتفِ الانسان بما تحقق له في مراحل التطور السابقة واخذ يبحث عن ما يمكنه من الارتفاع بالمستوى السابق المتحقق ويعززه فكان توجه الانسان بعد ذلك إلى قانون جديد وذي طبيعة خاصة ومميزة عن القوانين العادية وقد تكون فيه صفات معينة تدعم ما يسعى اليه الانسان في سبيل الحصول على تفعيل افضل وضمانات اكبر لإعمال حقوقه الانسانية . فكان التوجه في مرحلة جديدة نحو القانون الدولي . والسؤال الذي يثار هنا هو لماذا قصد الانسان هذا القانون ؟ او لماذا اراد الانسان او من يسير مسيرة حقوق الانسان ويناضل من اجلها تدويل قضية تطبيق هذه الحقوق ؟
قبل الاجابة على ما تقدم قد يكون من المفيد القاء نظرة على وضع الانسان في القانون الدولي العام قبل البدء بتدويل مبادئ حقوق الانسان ومن بعد ذلك نتناول الدوافع إلى تدويل هذه المبادئ .
- وضع الفرد في ظل القانون الدولي العام :
كان الاعتقاد العالمي السائد قبل القرن العشرين هو ان الفرد لا يعد من اشخاص القانون الدولي العام ، ويرجع ذلك إلى كون بنية هذا القانون نفسه كانت إحدى العوائق الرئيسة فيما يتعلق بإمكانية اعتبار الفرد من أشخاص هذا القانون حيث ان دور هذا القانون كان يقتصر في تلك الفترة على تنظيم العلاقات بين الدول فقط ، إذ انها كانت الشخص الوحيد لهذا القانون ( [79]) واذا كان التعمق الموضوعي في القانون الدولي التقليدي يدلنا على ان الفرد على الرغم من كونه لم يكن من أشخاص هذا القانون الا انه مع ذلك كان هدفا لهذا القانون باعتباره قانوناً حاله كحال بقية القوانين التي وجدت في سبيل تحقيق هدف معين سامٍ وهو خدمة الفرد (الإنسان) الا ان اتجاهات الدول وسياساتها واتجاهات الفقهاء ونظرياتهم لم تكن تتجه بشكل عام إلى اعتبار الفرد من أشخاص القانون الدولي العام وان الفقهاء الذين كانوا يعتبرون الفرد من أشخاص هذا القانون لم يكونوا يمثلون في ذلك الوقت إلا رأي القلة( [80]).
وبموجب الاتجاهات المذكورة والتي كانت سائدة في القانون الدولي التقليدي ، فان الافراد كانوا اشخاصاً في القوانين الداخلية لدولهم ، وموضوعا للسلطة المطلقة التي كان لها كامل الحرية في اخضاعهم لسلطاتها وقوانينها دون ان يكون لأية جهة أجنبية الحق في التدخل في العلاقة القائمة بين الحكومة ( السلطة ) ورعاياها، حتى وان كانت تصرفات السلطة قائمة على أساس الخطأ او الظلم او اللا عدل . واذا كانت سلطة الدولة مطلقة على رعاياها فانها لم تكن كذلك فيما يتعلق بعلاقاتها بالأفراد الأجانب المقيمين داخل الاقليم الخاضع لها ، حيث ان الامر كان قد تطور مبكراً وأصبحت هذه العلاقة خاضعة لقواعد دولية خاصة قائمة على أساس فكرة وجود حد أدنى من الحقوق يجب ان يتمتع بها الفرد الاجنبي وعلى اساس ذلك يجب على الحكومات ان تعامل الاجانب المقيمين في اقليمها بمعاملة خاصة تختلف عن المعاملة التي تعامل بها رعاياها، بحيث تكون سلطة الدولة على الاجانب المقيمين في اقليمها سلطة مقيدة وليست مطلقة كما هو الحال بالنسبة إلى سلطتها على رعاياها .
وبمرور الزمن واستمرار عجلة التطور في القانون الدولي العام بالسير ، وبتهيئة الظروف المناسبة والحاجات الملحة وتطور مسيرة حقوق الانسان بشكل عام ، اخذت المبادئ الأساسية التي دفعت إلى تقييد سلطات الدولة فيما يتعلق بالتعامل مع الاجانب تتطور لتتحول إلى مبادئ تقضي بتقييد سلطات الدولة فيما يتعلق بتعاملها مع رعاياها ، بحيث ظهرت قواعد عرفية دولية تقضي بتقييد سلطات الدولة على رعاياها وجواز التدخل الاجنبي لضمان تطبيق مثل هذه القواعد ( [81]) ، وقد كان اول ما ظهر من هذه القواعد على شكل قواعد دولية تقضي بتوفير حماية دولية خاصة للأقليات وكانت البداية بتوفير مثل هذه الحماية للاقليات الدينية الموجودة في دولة معينة والتي يخشى ان تتعرض للاعتداء او القسوة او التعسف من قبل السلطة التي تسيطر عليها الاغلبية ( [82])، وبعد هذه التطورات اخذ وضع الفرد في القانون الدولي العام يتطور ويتحول من مرحلة اعتباره هدفاً قريباً لا بل هدفا مباشرا من اهداف هذا القانون واستمر هذا التطور إلى الحد الذي بدا الفرد يعتبر من اشخاص هذا القانون وذلك بعد ظهور قواعد دولية خاصة تخاطب الافراد بشكل مباشر وتمنحهم حقوقاً معينة او ترتب عليهم التزامات معينة ، وعلى اثر ظهور تلك القواعد ترتب وضع جديد للفرد في القانون الدولي العام يقضي بالاعتراف بكون الفرد يمكن ان يكون شخصا من اشخاص القانون الدولي العام او بحد أدنى موضوعاً من موضوعات هذا القانون وذلك لوجود قواعد قانونية تخاطبه بشكل مباشر وتمنحه حقوقاً او تفرض عليه التزامات معينة ، بدون التوسط بشخص الدولة التي ينتمي إليها او يخضع لها .
- الأسباب الدافعة إلى تدويل حقوق الإنسان :
علمنا مما تقدم ان فكرة حقوق الانسان ظهرت اول الامر على الصعيد الداخلي على شكل افكار معينة تطورت فيما بعد واصبحت مبادئ قانونية ضمن القوانين الداخلية العادية منها والدستورية ، ولكن الامر لم يتوقف عند هذا الحد بل أخذت هذه المبادئ تنتقل شيئا فشيئا من صعيد القانون الداخلي إلى صعيد القانون الدولي عندما بدأت تدخل مثل هذه المبادئ ضمن ما يعرف بالقانون الدولي العام والذي كان يعد بصيغته الاولى بعيدا عن التدخل في حماية حقوق الافراد , لكنه اخذ يتطور وياخذ على عاتقه وبشكل تدريجي التدخل في مثل هذه المسائل ولكن السؤال هنا هو ما هي الاسباب والدوافع التي أدت إلى تحقيق عملية الانتقال لمبادئ حقوق الانسان من القانون الداخلي إلى القانون الدولي ؟
يرجع هذا التطور في مسيرة حقوق الإنسان من جهة ومسيرة القانون الدولي العام من جهة أخرى إلى عدة عوامل أهمها :
1. تطور الحياة الإنسانية وازدياد الاحتكاك بين الشعوب بفضل التقدم الحاصل في مجال المواصلات والنقل والاتصالات وكذلك التطور الحاصل في مجال الحياة الاقتصادية وما يتعلق بالتبادل التجاري بين الدول وظهور منتجات اقتصادية متباينة من دولة إلى اخرى استدعت وجود علاقات تبادل وفرص عمل متباينة أدت إلى زيادة وجود العاملين خارج أوطانهم ( [83]) الامر الذي ادى إلى زيادة التقارب بين الشعوب وتعرف الشعوب بفضل احتكاكها مع غيرها على اوضاع حقوق الانسان لدى غيرها وتعرفها على مبادئ جديدة في هذا المجال اذ انه من المعلوم ان مبادئ حقوق الانسان والنظرة اليها كانت ولا تزال تختلف من شعب إلى اخر ومن حضارة إلى اخرى( [84]).
2. زيادة إعداد الأجانب المتواجدين خارج أوطانهم , وذلك بفعل التطور الحاصل في الحياة الاقتصادية وظهور مبادئ دعت إلى الانفتاح الاقتصادي او الاختلاف في مدى توفير فرص العمل من دولة إلى اخرى ، وان هذه الزيادة في عدد الاجانب الذين يعملون او يقيمون في دول لا ينتمون اليها برابطة الجنسية يعني احتمال الزيادة في الانتهاكات التي من الممكن ان يتعرض اليها هؤلاء الاجانب من قبل سلطات دولة الاقامة ، الامر الذي قد يؤدي إلى الاضرار بواقع العلاقات الدولية بين دولة الجنسية ودولة الاقامة مما قد يستدعي ان تتدخل الاسرة الدولية وتوجد أعرافاً معينة وتطورها على الصعيد الدولي في سبيل منع الاعتداء على هؤلاء الاجانب .
3. شعور الضمير العالمي بعدم كفاية نظم القانون الداخلي لحماية حقوق الانسان ، وان السبيل الافضل لضمان هذا الاحترام هو حمايتها عن طريق نظم القانون الدولي العام ، حيث انه على الرغم من اختلاف النظرة إلى حقوق الانسان من شعب إلى اخر ومن حضارة إلى اخرى الا ان الدافع إلى هذه النظرة او الهدف هو واحد الا وهو الانسان وان مشاكل الانسان من هذه الناحية هي واحدة اين ما وجد وفي أي زمان حيث ان دافعه هو التخلص او الاتقاء من انتهاك حقوقه وبما ان الدافع إلى التفكير بحقوق الانسان موحداً لدى البشرية فان الافراد اخذوا لا يفكرون بقضية حقوقهم الانسانية على صعيد اوطانهم فحسب بل انهم اخذوا يشتركون ويتضامنون مع الافراد في المجتمعات الانسانية الاخرى في سبيل توحيد الجهود والنضال لتحصيل الإعمال لحقوقهم . ولكن مهما اتحد الجهد فانه قد لا يؤتي ثماره اذا كان بعيدا عن تأطيره في اطار قانوني يضمن تحققه بصيغة تؤدي إلى استفادة كل من ناضل في سبيل هذه القضية من ثمار نضاله وجهوده فضلاً عن نضال وجهود غيره ممن سار في ذات الطريق . وخير اطار قانوني لتأطير قضية حقوق الانسان وتوحيد كافة الجهود الانسانية في هذا المجال هو قانون يمتاز بطبيعته بانه قانون يسري على مجموع الدول وبالتالي فان هذا يعني انه سوف يسري على مجموع الشعوب ويكون بمثابة المعزز والداعم لجميع النظم الداخلية التي وجدت لضمان حقوق الانسان في مختلف الدول . ويتمثل هذا القانون بالقانون الدولي العام ، وبداية انتقال مبادئ حقوق الانسان من الصعيد الداخلي إلى الصعيد الدولي كان البذر الاول للقانون الدولي لحقوق الانسان ذلك القانون الذي يقوم على فكرة وجود مجموعة من القواعد الدولية تعني بتحقيق الاحترام لحقوق الانسان .
واذا كانت مرحلة انتقال مبادئ حقوق الانسان من الصعيد الداخلي إلى الدولي بمثابة المرحلة الجنينية الممهدة لولادة القانون الدولي لحقوق الانسان فان هذه العملية استمرت وتزامن مع استمرارها ازدياد الوعي والاهتمام الدولي في مجال حقوق الانسان وبدأت تظهر نظم وقواعد عرفية دولية في مجال هذه الحقوق كنظام الحد الادنى في معاملة الاجانب ونظام التدخل الإنساني ونظام حماية الاقليات وأخذت تتكون العديد من القواعد الدولية في مجال حماية هذه الحقوق .
الا انه ورغم كل التطورات التي حصلت وازدياد الوعي في هذا المجال لم يؤدِ كل ذلك إلى ظهور ما يعرف بالقانون الدولي لحقوق الانسان . حيث انه وفي المرحلة الاولى (الجنينية) او الممهدة للولادة لم يكن هذا القانون معروفا كقانون قائم بحد ذاته ضمن فروع القانون الدولي العام لا بل حتى قواعده ضمن قواعد هذا القانون لم تكن معروفة لدى الجميع او ان وجودها لم يكن مؤيدا او مصادقا عليه على الصعيد الدولي سواء الرسمي او الفقهي .
واستمر هذا الوضع لفترة زمنية تزامن معها التحديث في القانون الدولي العام واستمرار سير مسيرة حقوق الانسان بشكل عام وعلى الصعيد الدولي بشكل خاص ، ولكن كل ذلك لم يؤدِ إلى ولادة القانون الدولي لحقوق الانسان بشكل صريح وواضح او تدويل حقوق الانسان الا بإصدار ميثاق منظمة الامم المتحدة ، ذلك الميثاق الذي مثل التصديق عليه من قبل غالبية الدول بمثابة التعديل لاحكام القانون الدولي ، حيث انه أوجد منظمة حكومية عالمية تظم في عضويتها غالبية دول العالم ، وتضطلع بمهام ذات طبيعة عامة تهم كل الدول الاعضاء في الاسرة الدولية ، حيث جاء هذا الميثاق راسما للخطوط العريضة لمسيرة حقوق الانسان على الصعيد الدولي وهيأ وبشكل رسمي البيئة المادية والقانونية والمعنوية المناسبة للبدء بإعمال حقوق الانسان بوسائل دولية واستمرار عملية التدويل أي الانتقال لبقية مبادئ حقوق الانسان ، لا بل انه هيأ لإمكانية ايجاد قواعد دولية جديدة لإعمال حقوق الانسان .
إذ جاء ميثاق الأمم المتحدة بالإجازة أو الإعلان الصريح عن تدويل حقوق الانسان وجعلها ضمن الموضوعات الدولية ، وكان ذلك من خلال تناول الميثاق لهذه الحقوق في العديد من مواده فضلاً عن ديباجته ( [85]).
والذي يلاحظ بصدد نصوص الميثاق ان هناك ترابطا فيما بينها بصدد مسالة حقوق الانسان . حيث ان الهدف الاساسي للامم المتحدة والمتمثل بحفظ الامن والسلم الدوليين ليس بالهدف البعيد عن موضوع حقوق الانسان ، حيث ان السلم الدولي وضمان استمراره يعد من اهم حقوق الانسان الجماعية ، الا وهو حق الانسان الجماعي في السلام فضلاً عن كون تحقيق السلام يوفر البيئة المناسبة لتطبيق حقوق الانسان( [86]).
وتبين نصوص حقوق الانسان الواردة في الميثاق ، ذلك الميثاق الذي يمثل معاهدة دولية جماعية فضلاً عن كونه يمثل دستور المنظمة ، تلك المنظمة التي تعد اكبر منظمة عالمية عرفها المجتمع الدولي ، ان ايراد هذه النصوص وما تتضمنه من احكام وعدها من مقاصد المنظمة التي تمثل المجتمع الدولي وتعبر عن ارادته وتوجهاته ، يفيد بتوجه ارادة المجتمع الدولي إلى جعل مبادئ حقوق الانسان قواعد امرة في القانون الدولي العام ( [87]).
وعلى الرغم من الايجابيات التي حققها الميثاق لحقوق الانسان الا انه كان مع ذلك يكتنفه الكثير من العيوب فيما يتعلق بهذه الحقوق حيث انه لم يتناولها بشكل تفصيلي وضمن مواد مفصلة بل انه تناولها في نصوص عامة وضمن مواد متفرقة كما انه لم يضع آليات معينة لإعمالها واكثر من تكرار ذكر ذات العبارات في الكثير من النصوص كل هذه العيوب وعيوب اخرى دفعت إلى حصول خلاف فقهي حول نصوص الميثاق المتعلقة بحقوق الانسان ومدى الزاميتها ( [88]).
ولم يتوقف جهد الامم المتحدة في مجال حقوق الانسان على صياغة واصدار الميثاق بل انها قامت بتعزيز حقوق الانسان من خلال العديد من الاجراءات والتصرفات على الصعيد الدولي والتي يمكن تفسيرها اما بانها تكون تكملة للنواقص التي كانت تشوب الميثاق او انها ترجمة تفصيلية للمبادئ العامة التي جاء بها الميثاق وقد ابتدات هذه الإعمال بالجهد الدولي الذي بدا بعد صدور الميثاق والذي ادى إلى تعريف حقوق الانسان ووصولا إلى ايجاد حماية لهذه الحقوق .
وسوف نتناول فيما يأتي وبهدف خدمة اهداف الدراسة موجزا عن جوانب نشاط الامم المتحدة المتعلق بتكوين القانون الدولي لحقوق الانسان .