نظريه وحده القانون و سمو القانون الدولى
تزعم هذه النظرية كل من الفقهاء (كلسن) و (فردروس) و (ديكي) . وتقوم هذه النظرية على أساس انتقاد النظرية السابقة والاتيان بعكس ما تضمنته وهو قائم على اساس وضع القاعدة الاساسية العليا ضمن القانون الدولي ، أي ان القانون الدولي يكون القانون الاعلى والأساسي ، ومن ثم يجب ان تخضع له القوانين الداخلية لكل الدول . ويؤسس انصار هذه النظرية فكرتهم على اساس التدرج ايضاً ولكن معيار سمو القاعدة ضمن النظام القانوني يكون على اساس اتساع نطاق تطبيقها ، وعلى هذا الاساس فانهم يرون بان القانون الدولي هو الاسمى على اعتبار ان قواعده ذات تطبيق اوسع حيث انه اذا كانت جميع الوحدات القانونية أي الدولة تخضع من اصغرها الى اكبرها الى سلطة قانون الدولة فان الدولة بدورها تخضع الى القانون الدولي ، أي ان القانون الدولي سوف يطبق على جميع الدول وبالتالي فانه بذلك سوف يطبق على جميع الوحدات القانونية الموجودة في جميع الدول وبالتالي فسوف يكون له نطاق تطبيق اوسع ومن ثم فيجب ان يكون اسمى من القانون الداخلي المحدد من حيث نطاق التطبيق .
وقد تعرضت هذه النظرية أيضاً للانتقاد وذلك على أساس انه حتى اذا كانت الدول قد قبلت بسيادة القانون الدولي على قانونها فانها وبموجب العمل الدولي ، لم تسلم بهذه السيادة بشكل مطلق بل انها قيدتها بعدم القبول بالسريان المباشر للقانون الدولي على رعاياها الا بموجب موافقتها وذلك ضمن ما يعرف (بنظام الدمج) أي دمج القاعدة الدولية بالقانون الداخلي بإرادة الدولة وبتصرف قانوني داخلي صادر عنها . وفضلاً عن ذلك فان ما جاءت به هذه النظرية ، والقائم على أساس كون القانون الداخلي متفرعاً من القانون الدولي ، قول لا ينسجم مع المنطق والتطور التاريخي ، حيث انه ومن المعروف ان القانون الداخلي اقدم من القانون الدولي من حيث الوجود . فكيف يمكن ان يكون الفرع اقدم من الأصل ؟
وأمام هذه الاتجاهات النظرية بشأن العلاقة بين القانونين والتي لكل منها نقاط صحيحة ونقاط اخرى قد تكون بعيدة عن الصحة لا بد من معرفة واقع هذه العلاقة ، والحكم القانوني العملي والمعمول به بهذا الخصوص .
على الرغم من الانتقادات التي تعرضت اليها نظرية وحدة القانون بشكل عام الا ان الافكار التي جاء بها كل من الاستاذ (كلسن) و (جورج سل) لدعم هذه النظرية قد ادت بالنهاية الى انتصار مفهوم هذه النظرية على النظريات الاخرى المخالفة لها . حيث اننا نجد وبموجب التعامل الدولي اضافة الى الاراء الفقهية العديدة المؤيدة لها ، حسم الخلاف الفقهي لمصلحة هذه النظرية ، ويبدو ان خير انتقاد توجهه هذه النظرية الى نظرية الازدواج هو انها اصبحت لا تنسجم مع الطبيعة الجديدة للمجتمع الدولي والتطور الحاصل في القانون الدولي على هذا الاساس فكيف كان يمكن وبموجب نظرية الازدواج ان يحدد الوضع القانوني لمدن معينة في العالم موضوعة تحت الادارة الدولية او بالنسبة إلى الأقاليم التي وضعت تحت نظام الوصاية .
فضلاً عن هذا لا يمكن لنظرية الازدواج ان تفسر كيف ان بعض الافراد تحدد اختصاصاتهم وحالاتهم القانونية بمقتضى معاهدات دولية ومثال ذلك تحديد الحالة القانونية للامين العام للامم المتحدة( [2]) .
ولكن اذا علمنا ان الخلاف الفقهي أفضى الى نتائج إيجابية لمصلحة نظرية وحدة القانون التي زاد مؤيديها شيئاً فشيئاً مع تطور القانون الدولي ، نتساءل عن نتائج الخلاف بالنسبة لنظرية سمو القانون في نظرية الوحدة فلما كانت النتيجة الايجابية ؟
اذا كان الخلاف بين نظريتي الوحدة والازدواج قد حسم لمصلحة نظرية وحدة القانون ، فان واقع العمل الدولي والاعتبارات العملية افضى الى الاعتراف او الاخذ بنظرية وحدة القانون مع سمو القانون الدولي ، وذلك على الوجه الاتي :
1- قاعدة القانون الدولي تعلو على القانون الداخلي ، سواء كان مصدر القاعدة الأولى معاهدة او عرفاً دولياً ، ففي قضية الاباما Alabama( [3]) بين انجلترا والولايات المتحدة الأمريكية والتي فصلت فيها عام 1871 محكمة تحكيم دولية انعقدت في جنيف ، حيث احتج الأمريكيون بان نقص القوانين الإنجليزية لا يعفي السلطات الإنجليزية من الالتزام باتباع العرف الدولي الثابت والخاص بواجبات المحايدين ولقد اخذت المحكمة بهذا الرأي وأدانت إنجلترا .
وبعدها أكدت محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي على هذا الاتجاه ، وذلك في النزاع بين الولايات المتحدة الأمريكية والنرويج والخاص بشركة الملاحة النرويجية ، اذ قررت ان القانون الوطني لا يطبق الا اذا كان يتفق مع القانون الدولي . كما ان محكمة العدل الدولية الدائمة أكدت في اكثر من قضية سيادة القانون الدولي العام . ومن ذلك الحكم رقم (7) والصادر في 25/5/1926 والخاص ببعض المصالح الالمانية في سيليزيا العليا البولونية والذي اكدت فيه المحكمة سيادة المعاهدات على القوانين الوطنية وذكرت انه (من ناحية القانون الدولي العام الذي تقوم المحكمة بتطبيقه ، يعد القانون الوطني مجرد اظهار لارادة الدولة او نشاطها). كما اكدت في القرار الصادر في 6/9/1930 والخاص بالمناطق الحرة ان فرنسا لا يمكن ان تستند الى تشريعاتها الوطنية لكي تقيد من نطاق التزاماتها الدولية( [4]).
اما محكمة العدل الدولية القائمة حالياً فانها قد سارت في ذات الاتجاه ، ويتبين ذلك في العديد من الاحكام الصادرة عنها بهذا الصدد مثل قرارها الصادر في 18/ كانون الاول سنة 1951 في قضية المصائد بين بريطانيا والنرويج والقاضي بان نفاذ تحديد البحر الاقليمي بالنسبة إلى الغير إنما يعود الى القانون الدولي وكذلك قرارها الصادر في 27/ آب 1952 في قضية رعايا الولايات المتحدة الامريكية في المغرب والقاضي بمخالفة المراسيم المغربية الصادرة سنة 1948 للاتفاقيات السابقة المعقودة بين الولايات المتحدة والمغرب( [5]).
2- قاعدة القانون الدولي العام تعلو على قاعدة الدستور الداخلي ، لقد اقرت المحاكم الدولية هذا المبدأ في العديد من القرارات منها قرار التحكيم الصادر في قضية السفينة (بونتيجو) والصادر في 26/تموز/1875 بين كل من كولومبيا والولايات المتحدة الامريكية والذي ثار على اثر استيلاء مجموعة من الثوار الكولومبيين بالقوة على السفينة (بونتيجو) والمملوكة لمواطنين أمريكيين وقاموا باحتجازها في اقليم ولاية بناما الكولومبية ، وقد طالبت الولايات المتحدة الامريكية الدولة الفيدرالية الكولومبية بالتعويض ، ولكن الاخيرة احتجت بان الدستور الفيدرالي لا يعطيها الا حقاً محدداً في التدخل في الشؤون الداخلية للولايات الاعضاء . واعتبرت هذه الحكومة ان المسؤولية تقع على ولاية بناما ولم تقبل ان تتحمل عنها تلك المسؤولية ، واتفقت الدولتان بعد ذلك على احالة النزاع إلى التحكيم الدولي . وقد جاء قرار التحكيم متضمناً الاخذ بمبدأ علو القانون الدولي على دستور الدولة ، حيث اكد قرار التحكيم على ان المعاهدة فوق الدستور وان على تشريع الجمهورية الكولومبية ان يطابق المعاهدة وليس على المعاهدة ان تطابق القانون الداخلي ، وان على الدولة ان تصدر القوانين اللازمة لتطبق المعاهدات( [6])، وقد اخذت محكمة العدل الدولية الدائمة بهذا المبدأ بمناسبة الرأي الصادر عنها في الرابع من فبراير عام 1932 بخصوص معاملة المواطنين البولونيين والاشخاص الاخرين الذين هم من اصل بولوني او الذين يتكلمون لغة بولونية ، والذين يقيمون في ارض وانترج الحرة ، فقد ادى تطبيق دستور وانترج إلى انتهاك التزام دولي مفروض على هذه المدينة في مواجهة بولونيا. وذكرت المحكمة ان الدولة لا يمكنها ان تحتج بنصوص دستورها لكي تتخلص من الالتزامات المفروضة عليها في مواجهة دولة اخرى بمقتضى قواعد القانون الدولي او المعاهدات السارية( [7]).
3- المحاكم الدولية تعلو على المحاكم الوطنية ، يتحقق محتوى هذا المبدأ عندما تفصل محكمة تابعة لدولة ما في منازعات خاصة بالاجانب الذين اصيبوا باضرار ناجمة عن إعمال تلك الدولة ، حيث انه اذا صادف واعيد عرض هذه المنازعات فيما بعد على محاكم دولية فانها لا تتقيد وفقاً للعرف الجاري باحكام المحاكم الوطنية ( [8]).
علمنا مما تقدم ان العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي قد افضت الى وجود نظام قانوني موحد يضم كلاً من القانونين ، ويضم هذا النظام القانوني بشكل عام مجموعة من القواعد القانونية التي تهدف الى تنظيم علاقات بين اطراف مختلفة ، ولما كان النظام القانوني الذي نحن بصدد دراسته هو نظام مكون من قواعد دولية وداخلية ، نتساءل عن كيفية توزيع الاختصاص في تنظيم العلاقات بين مجمل القواعد التي يشتمل عليها هذا النظام القانوني الموحد ، فكيف يتم اعطاء الاختصاص للقانون الدولي لتنظيم علاقة معينة واخراج ذلك من اختصاص القانون الداخلي او العكس ؟
لحل هذه المسألة ذات الاهمية نجد ان هذا النظام اوجد بشكل عام حلولاً قانونية واضحة نجدها في كل من القانونين المكونين للنظام القانوني الموحد ، حيث نجد ان هناك قواعد لتوزيع الاختصاص موجودة في القوانين الدولية في حين توجد قواعد اخرى تتعلق بذات الموضوع لذات الغرض في القوانين الداخلية :
أولاً- توزيع الاختصاص بموجب قواعد دولية :
القاعدة التقليدية العامة تقضي بان القانون الوطني يختص بكل ما يتصل بعلاقات الأفراد فيما بينهم او مع الدولة التي ينتمون اليها ، كما يختص بتحديد التنظيم الداخلي للدولة ، اما القانون الدولي فيبين حدود الدولة ونطاق سلطانها الإقليمي والشخصي ، وتظهر مثل هذه التفرقة في بعض أحكام القضاء الدولي ، فمثلاً في قضية تتعلق بشروط خدمة دين عقدته دولة الصرب ، وكانت غالبية حملة سنداته من الفرنسيين ، قررت محكمة العدل الدولية الدائمة ان موضوع النزاع يتعلق بوجود الالتزام الذي عقدته صربيا مع حملة سندات قروضها ومدى الالتزام به ، فهو ينحصر في علاقات من نوع ما تدخل في نطاق القانون الداخلي( [9]).
ولكن الحكم السابق فيما يتعلق باختصاص القانون الداخلي من الصعب تطبيقه في القانون الدولي الحالي وفي ظل التغيرات والتطورات العميقة التي اصابت كيان المجتمع الدولي مما ظهر اثره في القواعد القانونية التي تحكم هذا المجتمع ، حيث ظهرت مجموعة من القواعد الدولية لحكم علاقات كانت ووفقاً لما تقدم تدخل في القانون الداخلي كالقواعد الخاصة بحقوق الانسان ، والقواعد الخاصة بالاقاليم المتمتعة بالحكم الذاتي والتي تفرض التزامات على الدول لمصلحة مستعمراتها .
ولكن اذا كان الامر متجهاً الى امتداد القواعد الدولية من نطاقها المعروف الى النطاق الداخلي فهل ان هذا الامتداد يتم تنظيمه بموجب قواعد معينة ام انه متروك الى التغيرات والظروف الحاصلة سواء على المستوى الداخلي او الدولي ؟
امام واقع التطور المستمر والحاصل في القانون الدولي الحديث نسبياً ، والذي يتوقع له تطورات اكبر في المستقبل وامام حقيقة كون القانون يحاول ان ينظم اكبر دائرة من المسائل ومن ضمنها مسألة توزيع الاختصاص بين القانونين الدولي والداخلي وامام حقيقة ان هناك مسائل معينة يجب ان يتم تنظيمها او تناولها بحسب طبيعتها من قبل قانون معين اقرب الى هذه الطبيعة فقد جرت العادة على القول بان القانون الدولي العام يترك دائرة محددة للاختصاص المطلق للقانون الوطني ، ولاهمية هذه القاعدة فقد تطور الاخذ بها من المجال العرفي الى المجال الاتفاقي كي تكون اكثر وضوحاً ودوراً في التنظيم .
- قاعدة إخراج المسائل الداخلة في صميم السلطان الداخلي للدولة من اختصاص القانون الدولي :
من الافكار التقليدية في القانون الدولي ، فكرة ضرورة ان يصان للدولة مقدار من النشاط لا يستطيع القانون الدولي العام ان يتدخل فيه ، وبموجب ذلك تتأكد ذاتية الدولة وتحترم ارادتها الى حد ما .
وقد تم تأكيد هذه الفكرة والاخذ بها صراحة في عهد عصبة الامم وذلك بموجب احكام الفقرة ( من المادة (15) وهي الخاصة بوساطة مجلس العصبة في المنازعات القائمة بين الدول الاعضاء والتي احتوت حكماً يفيد بانه اذا دفعت دولة ما بان النزاع القائم يدخل ضمن اختصاصها المطلق فيترتب على ذلك امتناع المجلس من تقديم أي توصية بشأن النزاع لاطرافه .
وقد اختلف الشراح لعهد عصبة الامم بصدد المسائل التي تدخل في الاختصاص المطلق للدولة إذ ذهب البعض الى انها المسائل المتعلقة بالشرف والمصالح الاساسية للدولة ، وذهب اخرون الى اضافة المسائل المتعلقة بالهجرة والتعريفة الكمركية وبالاسواق الاقتصادية وتوزيع المواد الخام الى ذلك ، في حين ذهب البعض الى ادخال كل المشاكل ذات الصبغة السياسية ضمن هذا الاختصاص ، وذهب البعض الاخر الى ان جميع المسائل المتعلقة بتكوين الدولة من اقليم وسكان وحكومة تدخل في النطاق المحفوظ للدولة( [10]).
واذا كان عهد عصبة الامم قد تناول الحكم القانوني المتضمن حظر امتداد التدخل الدولي الى المسائل الداخلة في الاختصاص الداخلي المطلق للدولة وذلك عند وجود نزاع معين معروض على مجلس العصبة ، فان ميثاق الامم المتحدة قد جاء بنص مشابه يتضمن حظر التدخل ولو لم يكن هناك نزاع قائم . اذ جاء في النص الجديد الذي جاء به الميثاق في المادة (2) فقرة (7) ( ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للامم المتحدة ان تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم الاختصاص الداخلي لدولة ما ، وليس فيه ما يقتضي الاعضاء ان يعرضوا مثل هذه المسائل لان تحل بحكم الميثاق ، على ان هذا المبدأ لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع) .
تزعم هذه النظرية كل من الفقهاء (كلسن) و (فردروس) و (ديكي) . وتقوم هذه النظرية على أساس انتقاد النظرية السابقة والاتيان بعكس ما تضمنته وهو قائم على اساس وضع القاعدة الاساسية العليا ضمن القانون الدولي ، أي ان القانون الدولي يكون القانون الاعلى والأساسي ، ومن ثم يجب ان تخضع له القوانين الداخلية لكل الدول . ويؤسس انصار هذه النظرية فكرتهم على اساس التدرج ايضاً ولكن معيار سمو القاعدة ضمن النظام القانوني يكون على اساس اتساع نطاق تطبيقها ، وعلى هذا الاساس فانهم يرون بان القانون الدولي هو الاسمى على اعتبار ان قواعده ذات تطبيق اوسع حيث انه اذا كانت جميع الوحدات القانونية أي الدولة تخضع من اصغرها الى اكبرها الى سلطة قانون الدولة فان الدولة بدورها تخضع الى القانون الدولي ، أي ان القانون الدولي سوف يطبق على جميع الدول وبالتالي فانه بذلك سوف يطبق على جميع الوحدات القانونية الموجودة في جميع الدول وبالتالي فسوف يكون له نطاق تطبيق اوسع ومن ثم فيجب ان يكون اسمى من القانون الداخلي المحدد من حيث نطاق التطبيق .
وقد تعرضت هذه النظرية أيضاً للانتقاد وذلك على أساس انه حتى اذا كانت الدول قد قبلت بسيادة القانون الدولي على قانونها فانها وبموجب العمل الدولي ، لم تسلم بهذه السيادة بشكل مطلق بل انها قيدتها بعدم القبول بالسريان المباشر للقانون الدولي على رعاياها الا بموجب موافقتها وذلك ضمن ما يعرف (بنظام الدمج) أي دمج القاعدة الدولية بالقانون الداخلي بإرادة الدولة وبتصرف قانوني داخلي صادر عنها . وفضلاً عن ذلك فان ما جاءت به هذه النظرية ، والقائم على أساس كون القانون الداخلي متفرعاً من القانون الدولي ، قول لا ينسجم مع المنطق والتطور التاريخي ، حيث انه ومن المعروف ان القانون الداخلي اقدم من القانون الدولي من حيث الوجود . فكيف يمكن ان يكون الفرع اقدم من الأصل ؟
وأمام هذه الاتجاهات النظرية بشأن العلاقة بين القانونين والتي لكل منها نقاط صحيحة ونقاط اخرى قد تكون بعيدة عن الصحة لا بد من معرفة واقع هذه العلاقة ، والحكم القانوني العملي والمعمول به بهذا الخصوص .
على الرغم من الانتقادات التي تعرضت اليها نظرية وحدة القانون بشكل عام الا ان الافكار التي جاء بها كل من الاستاذ (كلسن) و (جورج سل) لدعم هذه النظرية قد ادت بالنهاية الى انتصار مفهوم هذه النظرية على النظريات الاخرى المخالفة لها . حيث اننا نجد وبموجب التعامل الدولي اضافة الى الاراء الفقهية العديدة المؤيدة لها ، حسم الخلاف الفقهي لمصلحة هذه النظرية ، ويبدو ان خير انتقاد توجهه هذه النظرية الى نظرية الازدواج هو انها اصبحت لا تنسجم مع الطبيعة الجديدة للمجتمع الدولي والتطور الحاصل في القانون الدولي على هذا الاساس فكيف كان يمكن وبموجب نظرية الازدواج ان يحدد الوضع القانوني لمدن معينة في العالم موضوعة تحت الادارة الدولية او بالنسبة إلى الأقاليم التي وضعت تحت نظام الوصاية .
فضلاً عن هذا لا يمكن لنظرية الازدواج ان تفسر كيف ان بعض الافراد تحدد اختصاصاتهم وحالاتهم القانونية بمقتضى معاهدات دولية ومثال ذلك تحديد الحالة القانونية للامين العام للامم المتحدة( [2]) .
ولكن اذا علمنا ان الخلاف الفقهي أفضى الى نتائج إيجابية لمصلحة نظرية وحدة القانون التي زاد مؤيديها شيئاً فشيئاً مع تطور القانون الدولي ، نتساءل عن نتائج الخلاف بالنسبة لنظرية سمو القانون في نظرية الوحدة فلما كانت النتيجة الايجابية ؟
اذا كان الخلاف بين نظريتي الوحدة والازدواج قد حسم لمصلحة نظرية وحدة القانون ، فان واقع العمل الدولي والاعتبارات العملية افضى الى الاعتراف او الاخذ بنظرية وحدة القانون مع سمو القانون الدولي ، وذلك على الوجه الاتي :
1- قاعدة القانون الدولي تعلو على القانون الداخلي ، سواء كان مصدر القاعدة الأولى معاهدة او عرفاً دولياً ، ففي قضية الاباما Alabama( [3]) بين انجلترا والولايات المتحدة الأمريكية والتي فصلت فيها عام 1871 محكمة تحكيم دولية انعقدت في جنيف ، حيث احتج الأمريكيون بان نقص القوانين الإنجليزية لا يعفي السلطات الإنجليزية من الالتزام باتباع العرف الدولي الثابت والخاص بواجبات المحايدين ولقد اخذت المحكمة بهذا الرأي وأدانت إنجلترا .
وبعدها أكدت محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي على هذا الاتجاه ، وذلك في النزاع بين الولايات المتحدة الأمريكية والنرويج والخاص بشركة الملاحة النرويجية ، اذ قررت ان القانون الوطني لا يطبق الا اذا كان يتفق مع القانون الدولي . كما ان محكمة العدل الدولية الدائمة أكدت في اكثر من قضية سيادة القانون الدولي العام . ومن ذلك الحكم رقم (7) والصادر في 25/5/1926 والخاص ببعض المصالح الالمانية في سيليزيا العليا البولونية والذي اكدت فيه المحكمة سيادة المعاهدات على القوانين الوطنية وذكرت انه (من ناحية القانون الدولي العام الذي تقوم المحكمة بتطبيقه ، يعد القانون الوطني مجرد اظهار لارادة الدولة او نشاطها). كما اكدت في القرار الصادر في 6/9/1930 والخاص بالمناطق الحرة ان فرنسا لا يمكن ان تستند الى تشريعاتها الوطنية لكي تقيد من نطاق التزاماتها الدولية( [4]).
اما محكمة العدل الدولية القائمة حالياً فانها قد سارت في ذات الاتجاه ، ويتبين ذلك في العديد من الاحكام الصادرة عنها بهذا الصدد مثل قرارها الصادر في 18/ كانون الاول سنة 1951 في قضية المصائد بين بريطانيا والنرويج والقاضي بان نفاذ تحديد البحر الاقليمي بالنسبة إلى الغير إنما يعود الى القانون الدولي وكذلك قرارها الصادر في 27/ آب 1952 في قضية رعايا الولايات المتحدة الامريكية في المغرب والقاضي بمخالفة المراسيم المغربية الصادرة سنة 1948 للاتفاقيات السابقة المعقودة بين الولايات المتحدة والمغرب( [5]).
2- قاعدة القانون الدولي العام تعلو على قاعدة الدستور الداخلي ، لقد اقرت المحاكم الدولية هذا المبدأ في العديد من القرارات منها قرار التحكيم الصادر في قضية السفينة (بونتيجو) والصادر في 26/تموز/1875 بين كل من كولومبيا والولايات المتحدة الامريكية والذي ثار على اثر استيلاء مجموعة من الثوار الكولومبيين بالقوة على السفينة (بونتيجو) والمملوكة لمواطنين أمريكيين وقاموا باحتجازها في اقليم ولاية بناما الكولومبية ، وقد طالبت الولايات المتحدة الامريكية الدولة الفيدرالية الكولومبية بالتعويض ، ولكن الاخيرة احتجت بان الدستور الفيدرالي لا يعطيها الا حقاً محدداً في التدخل في الشؤون الداخلية للولايات الاعضاء . واعتبرت هذه الحكومة ان المسؤولية تقع على ولاية بناما ولم تقبل ان تتحمل عنها تلك المسؤولية ، واتفقت الدولتان بعد ذلك على احالة النزاع إلى التحكيم الدولي . وقد جاء قرار التحكيم متضمناً الاخذ بمبدأ علو القانون الدولي على دستور الدولة ، حيث اكد قرار التحكيم على ان المعاهدة فوق الدستور وان على تشريع الجمهورية الكولومبية ان يطابق المعاهدة وليس على المعاهدة ان تطابق القانون الداخلي ، وان على الدولة ان تصدر القوانين اللازمة لتطبق المعاهدات( [6])، وقد اخذت محكمة العدل الدولية الدائمة بهذا المبدأ بمناسبة الرأي الصادر عنها في الرابع من فبراير عام 1932 بخصوص معاملة المواطنين البولونيين والاشخاص الاخرين الذين هم من اصل بولوني او الذين يتكلمون لغة بولونية ، والذين يقيمون في ارض وانترج الحرة ، فقد ادى تطبيق دستور وانترج إلى انتهاك التزام دولي مفروض على هذه المدينة في مواجهة بولونيا. وذكرت المحكمة ان الدولة لا يمكنها ان تحتج بنصوص دستورها لكي تتخلص من الالتزامات المفروضة عليها في مواجهة دولة اخرى بمقتضى قواعد القانون الدولي او المعاهدات السارية( [7]).
3- المحاكم الدولية تعلو على المحاكم الوطنية ، يتحقق محتوى هذا المبدأ عندما تفصل محكمة تابعة لدولة ما في منازعات خاصة بالاجانب الذين اصيبوا باضرار ناجمة عن إعمال تلك الدولة ، حيث انه اذا صادف واعيد عرض هذه المنازعات فيما بعد على محاكم دولية فانها لا تتقيد وفقاً للعرف الجاري باحكام المحاكم الوطنية ( [8]).
علمنا مما تقدم ان العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي قد افضت الى وجود نظام قانوني موحد يضم كلاً من القانونين ، ويضم هذا النظام القانوني بشكل عام مجموعة من القواعد القانونية التي تهدف الى تنظيم علاقات بين اطراف مختلفة ، ولما كان النظام القانوني الذي نحن بصدد دراسته هو نظام مكون من قواعد دولية وداخلية ، نتساءل عن كيفية توزيع الاختصاص في تنظيم العلاقات بين مجمل القواعد التي يشتمل عليها هذا النظام القانوني الموحد ، فكيف يتم اعطاء الاختصاص للقانون الدولي لتنظيم علاقة معينة واخراج ذلك من اختصاص القانون الداخلي او العكس ؟
لحل هذه المسألة ذات الاهمية نجد ان هذا النظام اوجد بشكل عام حلولاً قانونية واضحة نجدها في كل من القانونين المكونين للنظام القانوني الموحد ، حيث نجد ان هناك قواعد لتوزيع الاختصاص موجودة في القوانين الدولية في حين توجد قواعد اخرى تتعلق بذات الموضوع لذات الغرض في القوانين الداخلية :
أولاً- توزيع الاختصاص بموجب قواعد دولية :
القاعدة التقليدية العامة تقضي بان القانون الوطني يختص بكل ما يتصل بعلاقات الأفراد فيما بينهم او مع الدولة التي ينتمون اليها ، كما يختص بتحديد التنظيم الداخلي للدولة ، اما القانون الدولي فيبين حدود الدولة ونطاق سلطانها الإقليمي والشخصي ، وتظهر مثل هذه التفرقة في بعض أحكام القضاء الدولي ، فمثلاً في قضية تتعلق بشروط خدمة دين عقدته دولة الصرب ، وكانت غالبية حملة سنداته من الفرنسيين ، قررت محكمة العدل الدولية الدائمة ان موضوع النزاع يتعلق بوجود الالتزام الذي عقدته صربيا مع حملة سندات قروضها ومدى الالتزام به ، فهو ينحصر في علاقات من نوع ما تدخل في نطاق القانون الداخلي( [9]).
ولكن الحكم السابق فيما يتعلق باختصاص القانون الداخلي من الصعب تطبيقه في القانون الدولي الحالي وفي ظل التغيرات والتطورات العميقة التي اصابت كيان المجتمع الدولي مما ظهر اثره في القواعد القانونية التي تحكم هذا المجتمع ، حيث ظهرت مجموعة من القواعد الدولية لحكم علاقات كانت ووفقاً لما تقدم تدخل في القانون الداخلي كالقواعد الخاصة بحقوق الانسان ، والقواعد الخاصة بالاقاليم المتمتعة بالحكم الذاتي والتي تفرض التزامات على الدول لمصلحة مستعمراتها .
ولكن اذا كان الامر متجهاً الى امتداد القواعد الدولية من نطاقها المعروف الى النطاق الداخلي فهل ان هذا الامتداد يتم تنظيمه بموجب قواعد معينة ام انه متروك الى التغيرات والظروف الحاصلة سواء على المستوى الداخلي او الدولي ؟
امام واقع التطور المستمر والحاصل في القانون الدولي الحديث نسبياً ، والذي يتوقع له تطورات اكبر في المستقبل وامام حقيقة كون القانون يحاول ان ينظم اكبر دائرة من المسائل ومن ضمنها مسألة توزيع الاختصاص بين القانونين الدولي والداخلي وامام حقيقة ان هناك مسائل معينة يجب ان يتم تنظيمها او تناولها بحسب طبيعتها من قبل قانون معين اقرب الى هذه الطبيعة فقد جرت العادة على القول بان القانون الدولي العام يترك دائرة محددة للاختصاص المطلق للقانون الوطني ، ولاهمية هذه القاعدة فقد تطور الاخذ بها من المجال العرفي الى المجال الاتفاقي كي تكون اكثر وضوحاً ودوراً في التنظيم .
- قاعدة إخراج المسائل الداخلة في صميم السلطان الداخلي للدولة من اختصاص القانون الدولي :
من الافكار التقليدية في القانون الدولي ، فكرة ضرورة ان يصان للدولة مقدار من النشاط لا يستطيع القانون الدولي العام ان يتدخل فيه ، وبموجب ذلك تتأكد ذاتية الدولة وتحترم ارادتها الى حد ما .
وقد تم تأكيد هذه الفكرة والاخذ بها صراحة في عهد عصبة الامم وذلك بموجب احكام الفقرة ( من المادة (15) وهي الخاصة بوساطة مجلس العصبة في المنازعات القائمة بين الدول الاعضاء والتي احتوت حكماً يفيد بانه اذا دفعت دولة ما بان النزاع القائم يدخل ضمن اختصاصها المطلق فيترتب على ذلك امتناع المجلس من تقديم أي توصية بشأن النزاع لاطرافه .
وقد اختلف الشراح لعهد عصبة الامم بصدد المسائل التي تدخل في الاختصاص المطلق للدولة إذ ذهب البعض الى انها المسائل المتعلقة بالشرف والمصالح الاساسية للدولة ، وذهب اخرون الى اضافة المسائل المتعلقة بالهجرة والتعريفة الكمركية وبالاسواق الاقتصادية وتوزيع المواد الخام الى ذلك ، في حين ذهب البعض الى ادخال كل المشاكل ذات الصبغة السياسية ضمن هذا الاختصاص ، وذهب البعض الاخر الى ان جميع المسائل المتعلقة بتكوين الدولة من اقليم وسكان وحكومة تدخل في النطاق المحفوظ للدولة( [10]).
واذا كان عهد عصبة الامم قد تناول الحكم القانوني المتضمن حظر امتداد التدخل الدولي الى المسائل الداخلة في الاختصاص الداخلي المطلق للدولة وذلك عند وجود نزاع معين معروض على مجلس العصبة ، فان ميثاق الامم المتحدة قد جاء بنص مشابه يتضمن حظر التدخل ولو لم يكن هناك نزاع قائم . اذ جاء في النص الجديد الذي جاء به الميثاق في المادة (2) فقرة (7) ( ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للامم المتحدة ان تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم الاختصاص الداخلي لدولة ما ، وليس فيه ما يقتضي الاعضاء ان يعرضوا مثل هذه المسائل لان تحل بحكم الميثاق ، على ان هذا المبدأ لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع) .