علاقة السببية فى أحكام القضاء
قلنا أن الرأى السائد حاليا فى بلادنا يتمشى بالأكثر مع اعتبار السببية رابطة مادية أو موضوعية ، وهذا هو الاتجاه الذى تشير إليه عبارات محكمة النقض فى أكثر من حكم حديث ، ومن ذلك مثلا " إن من المقرر أن علاقة السببية فى المواد الجنائية علاقة مادية تبدأ بالفعل الذى اقترفه الجانى وترتبط من الناحية المعنوية بما يجب عليه أن يتوقعه من النتائج المألوفة لفعله إذا ما أتاه عمدا (1).
وهو فى نفس الوقت أميل إلى اتجاه السببية المناسبة أو الملائمة إذ هو مستقر على أنه إذا تداخلت عوامل أجنبية عن فعل الجانى بقدر ما فى تحقيق النتيجة التى يعاقب عليها القانون فإنها لا تقطع رابطة السببية بين هذا الفعل والنتيجة ، إلا إذا كانت تلك العوامل شاذة غير مألوفة يستوى فى ذلك أن تكون هذه سابقة على الفعل الإجرامي أم معاصرة له ، أم لاحقة ، وأن يكون مصدرها عوامل طبيعية ، أم خطأ صادرا من الجانى ، أم من المجنى عليه ، أم من شخص أجنبي كلية عن الواقعة ، أن يكون الجانى قد توقعها فعلا لنمو ملكة التقدير لديه ، أم كان فى مقدوره توقعها لفرط ما هى مألوفة تتفق والسير العادى للأمور ، فمعيار التوقع أو الاحتمال هو الضابط الأساسى للسببية .
عوامل مألوفة وغير مألوفة :
ما أكثر العوامل المألوفة التى قد تتداخل بين فعل الجانى والنتيجة النهائية فلا تقطع رابطة السببية بين الأمرين ، سواء أتوقعها الجانى بالفعل أم كان بمقدوره - فحسب - أن يتوقعها ، وهذه العوامل يعد تقدير توافرها وأثرها معا مسألة وقائع بحت ، تخضع لقاضى الموضوع فى نطاق تقديره العام لموضوع الدعوى ، لكن يمكن القول بأن أهم هذه العوامل ما يلى :
أولا : الملابسات الطبيعية التى قد تصاحب فعل الجانى فإنها لا تقطع عادة رابطة السببية بين نشاطه وبين النتيجة النهائية ، حتى ولو ساهمت بدور ملحوظ فى إحداثها ، ويستوى فى ذلك أن تكون هذه الملابسات والظروف مطابقة فى تفاصيلها لما أراده الجانى منها ، أم كانت موافقة سير الحوادث إجمالا فحسب .
فإذا حدثت مشاجرة بين أشخاص على ظهر قارب صغير أعقبها تماسك بالأيدى ، وتضارب أدى إلى وقوع أحد المتشاجرين فى النهر وغرقه ، فإن الضارب يعتبر مسئولا عن ضرب أفضى إلى الموت لا عن ضرب بسيط ، وذلك مع أنه قد يقال أن نفس المشاجرة لو وقعت على البر بكل ما صاحبها من تماسك وتضارب لما كان يمكن أن تؤدى إلى وفاة المجنى عليه ، ولما اعتبرت الواقعة أكثر من جنحة ضرب .
ومثلا ألقى الجانى بالمجنى عليه من فوق قنطرة فى النهر قاصدا إغراقه فى الماء فاصطدم هذا الأخير بأسفل القنطرة أثناء سقوطه وتكسرت جمجمته فمات بهذه الكيفية ولم يمت غرقا كما أراد الجانى ، ومثلا صوب حارس حقل بندقية على صياد لقتله جزاء له على الصيد فى حقله بغير موافقته فقفز الصياد تفاديا للمقذوف ولكنه سقط فى هوة سحيقة وتوفى بسبب ذلك لا بسبب المقذوف وهكذا مما يحتمل حصول ما قد يشبهه فى العمل .
ولا تختلف الحال عن ذلك فى الجرائم غير العمدية ، فينبغى حتى يسأل الجانى عن أية نتيجة أن تكون داخلة فى نطاق ما صدر عنه من خطأ أو إهمال بحيث يمكن القول بأنه توقعها أو بالأقل كان بمقدوره أن يتوقعها ، فلا يسأل عن النتائج التى تخرج عقلا عن دائرة تقدير الإنسان العادى ، ومن هذا القبيل ما قضى به من أنه إذا كان المتهم يدرس قمحا فى جرن فسقطت عليه كبريت من جيبه ، فمر عليها النورج فاشتعل الجرن وامتد الحريق إلى ما يجاوره من أجران ومساكن وتوفى بسبب ذلك خلق كثير ، فإن المتهم يكون مسئولا عن الحريق الناشئ عن إهماله مباشرة ، ولا يسأل عن جريمة القتل الخطأ .
ثانيا : ويعد من العوامل المألوفة التى لا تقطع رابطة السببية بين نشاط الجانى والنتيجة النهائية أن يكون المجنى عليه وقت الاعتداء عليه ضعيف البنية أو متقدما فى السن أو صغيرا ، أو مريضا بمرض قديم كالسكر أو ضعف القلب ، أو الأنيميا ، أو تضخم الطحال ( 2 ) مما قد يكون له أثره فى استفحال إصابته فيما بعد وكذلك الشأن إذا أصيب بشيء من هذا القبيل أثناء علاجه من إصابته أحدث المرض نفس الأثر من ناحية تجسيم مدى الإصابة .
ثالثا : ومثلها أن تحدث مضاعفات طبيعية للإصابة كالنزيف وتسمم الجروح ، والحمرة ، والجلطة الدموية ، والتيتانوس ، لذا و قضى بأنه إذا توفيت المجنى عليها من التهاب رئوى أصيبت به بسبب رقادها على ظهرها أثناء العلاج من جرح عمدى ، فإن الجانى يكون مسئولا عن جريمة جرح أفضى إلى موتها ( 3 ) وإذا توافرت نية القتل كان الجانى مسئولا عن قتل عمد ، أما إذا لم يكن الالتهاب الرئوى بسبب الاعتداء ولا بسبب العلاج فهو عامل شاذ قاطع بالتالى لرابطة السببية بين الإصابة والوفاة .
رابعا : ومثلها أن يهمل المجنى عليه فى العلاج إهمالا عاديا متوقعا من مثله ، أو أن يمتنع عن العلاج الطبى كلية من يكون من بيئة لا تؤمن بفائدته دون توافر نية إساءة مركز الجانى تعمدا ، وكذلك إهمال القائمين على شئون المجنى عليه ، والمحيطين به ، والمسئولين عنه ، متى كان إهمالا مألوفا متوقعا ممن كان من مثل بيئتهم ، أو بحسب تعبير محكمة النقض أن المتهم مسئول فى صحيح القانون عن جميع النتائج المحتمل حصولها من الإصابة ولو كانت عن طريق غير مباشر كالتراخى فى العلاج أو الإهمال فيه ما لم يكن متعمدا لتجسيم المسئولية . ( 4 )
أما إذا أهمل المجنى عليه إهمالا فاحشا فى حق نفسه ، أو إذا امتنع عن العلاج دون ما عذر مقبول أو بنية الإساءة إلى مركز الجانى ، فإن ذلك يدخل فى عداد العوامل الشاذة غير المألوفة ( 5 ) ، وكذلك الشأن إذا كان المجنى عليه فاقد التمييز لصغر أو لجنون ، وحدث الإهمال الفاحش من ذوية أو من المسئولين عن رعايته .
وإذا كان العلاج أو الجراحة غير مضمون النتيجة أو غير راجح النجاح الرجحان الذى يغرى الإنسان العادى بالأقدام عليه ، فالمجنى عليه غير مطالب به وإذا امتنع ظلت السببية قائمة بين نشاط الجانى وبين النتيجة النهائية . (6)
وكذلك الشأن إذا كان العلاج أو الجراحة ينطوى على خطورة خاصة أو على آلام استثنائية ، فإنه إذا امتنع المجنى عليه أو وليه الشرعى إذا كان قاصرا عن قبول العلاج أو الجراحة ، ظل الجانى مسئولا عن كافة النتائج الجسيمة لسلوكه الإجرامي ، حتى تلك التى كان من الجائز أن تخف لو قبل المجنى عليه إجراء العلاج أو الجراحة
خامسا : وإذا أخطأ الجراح أو الطبيب خطأ يسيرا فى جراحته أو فى طبه سواء أكان الخطأ ماديا أم مهنيا ، فإن ذلك يعد من العوامل المألوفة التى لا تقطع رابطة السببية بين فعل الجانى وبين النتيجة النهائية لإصابة المجنى عليه ، أما إذا أخطأ الطبيب خطأ جسيماً ، غير ممكن توقعه ولا متفق مع السير العادى للأمور لوجب عندئذ القول بانقطاع السببية بين هذا الفعل وبين النتيجة النهائية لإصابة المجنى عليه .
وإذا قام الجراح بإجراء جراحة غير تلك التى اقتضتها إصابة المصاب ثم توفى منها انقطعت رابطة السببية بن الإصابة والوفاة دون توقف ذلك على بحث مدى مسئولية الجراح عن هذه الجراحة الأخرى ، ومن ذلك مثلا أن يجرى الجراح عملية لاستكشاف تمزق بالبريتون لدى المجنى عليه فيجد زائدة دودية أو أوراما يرى إزالتها ، فيموت المصاب ويبين أن الوفاة كانت بسبب هذه الجراحة الثانية لا بسبب الإصابة نفسها ولا بسبب جراحة أجريت للعلاج منها .
سادسا : ومن العوامل المألوفة أيضا أن يخطئ الغير خطأ عاديا حتى ولو كان هذا الخطأ يستوجب مسئولية فاعله جنائياً ، مادام متفقا والسير العادى للأمور ، أو بعبارة أخرى أن الخطأ المشترك فى نطاق المسئولية الجنائية لا يخلى المتهم من المسئولية مادام لا يترتب عليه انتقاء أحد الأركان القانونية للجريمة فى سلوكه الإجرامي فى العمد أو فى الخطأ غير العمدى على حد سواء .( 7 )
مثلا راكب فى ترام أو عربة نقل دفع شخصا دفعة قوية ألقت به فى عرض طريق مزدحم بالمرور ، ثم مرت سيارة بسرعة تتجاوز الحد المسموح به قانونا فدهمت المجنى عليه وقتلته ، وكان يمكنها تفاديه لولا هذه السرعة ، فهنا صدمة السيارة ترتب مسئولية سائقها عن القتل الخطأ لكن لا تقطع رابطة السببية بين الدفعة الأولى والوفاة ، فتعد الواقعة فى نظرنا ضربا أفضى إلى الموت .
وإذا توافرت نية إزهاق الروح كانت قتلا عمدا وذلك بالنسبة لمن صدرت عنه الدفعة الأولى للمجنى عليه التى ألقت به فى عرض الطريق المطروق حين تعد فى نفس الوقت قتلا خطأ بالنسبة لسائق السيارة المسرعة التى صدمت المجنى عليه فأردته قتيلا ، وذلك دون أن تنفى مسئولية أحدهما مسئولية الآخر رغم انقطاع كل رابطة بين الجانبين .
أما إذا كانت الواقعة الجديدة من الشذوذ الذى لا يرد بالخاطر فإن الواقعة الأولى تكون مجرد شروع فى قتل عمد ، أو ضرب عمد أو جرح عمد بحسب الأحوال ، وذلك كما فى مثل وفاة المجنى عليه من اصطدام عربة الإسعاف أثناء نقلها إياه ، أو من شبوب حريق المستشفى الذى نقل إليه ، أو من سقوط جدار عليه بعد إصابته ، أو إذا توفى المصاب من مرض معد أثناء مدة العلاج كالتيفوئيد ، أو من مرض لا علاقة له بالاعتداء السابق مثل السرطان سابقا كان على إصابته أم لاحقا لها ، متى تبين أن الوفاة كانت بسبب هذا المرض لا بسبب الاعتداء الذى وقع عليه ، فهنا لا يسأل الجانى إلا عن القدر المتيقن فى حقه ، وهو فى جناية القتل العمد الشروع فيه فحسب
سابعا : أما فعل الغير إذا تداخل عمدا لإحداث النتيجة المعاقب عليها بغير اتفاق مع الجانى السابق فهو يعد من باب أولى عاملا شاذا وقاطعا لرابطة السببية بالتالى ، مثال " كان يطلق أعيارا ناريا على المجنى عليه محمد قاصدا قتله ، لكنه يصيبه فى غير مقتل ، ثم يحضر أحمد ويجهز على محمد لعداوة بينهما فإن أحمد يسأل عن قتل محمد عمدا حين لا يسأل إلا عن شروع فى قتله مادام الاتفاق بين محمود ، أحمد منتفياً .
وإذا ثبت أن الوفاة - أو النتيجة المشددة للعقوبة بوجه عام - قد حصلت من مجموع الإصابات التى أحدثها الجانون المتعدون بالمجنى عليه بحيث كانت أيها كافية بذاتها لإحداثها فيعتبرون جميعهم مسئولين عنها ، حتى مع عدم قيام الاتفاق أو التفاهم السابق فيما بينهم ( 8 ) إنما ينبغى أن يكون جليا من وقائع الدعوى ومن التقارير الطبية أن الإصابات جميعها قد ساهمت معا ومجتمعه فى إحداث الوفاة أو النتيجة المشددة للعقوبة ، وأنها كافية لإحداثها بالتالى ، أما إذا لم يثبت ذلك بطريق اليقين فيجب أن يؤخذ كل جان بالقدر المتيقن فى حقه فقط .
ذلك أن تداخل أرادات آثمة أخرى بين فعل الجانى الأول والنتيجة المعاقب عليها مما يعد بحسب الأصل سببا أجنبيا شاذا ، وقاطعا بالتالى لرابطة السببية ، ما لم يثبت من الوقائع العكس بشكل حاسم .
ثامنا : ويراعى أخيرا أن القوة القاهرة والحادث الفجائى ، إذا كان أيهما غير ممكن توقعه ولا ممكن دفعه ، قد يعدمان فى بعض الصور إرادة المتهم إذا كانا سابقين - أو بالأدق معاصرين - لسلوكه المادى فيمنعان مساءلته جنائيا ، ومن ذلك سقوط منزل على ساكنيه بفعل زلزال أو فيضان ، فإنه لا يقتضى مساءلة مالك هذا المنزل المكلف بصيانته متى أسند الحادث إلى القوة القاهرة دون التقصير فى الصيانة ، كما قد يقطعان فى بعضها الآخر رابطة السببية إذا توسطا بين سلوكه الآثم - إذ اتخذ صورة الشروع فى القتل - وبين الوفاة ، فيحولان دون مساءلته عن هذه النتيجة جنائيا ، ومدنيا أيضا .
ومن أحكام المحاكم فى شأن السببية فى خصوص القتل العمد ما قضى به من أنه : إذا طعن المتهم المجنى عليه بسكين متعمدا قتله فأحدث به جرحا فى تجويف الرئة نتجت عنه الوفاة ، فإنه يكون مرتكبا جناية القتل العمد وإن تكن الوفاة قد حصلت بعد علاج دام ثمانية وخمسين يوما بالمستشفى إذ من المبادئ المقررة أن الفاعل مسئول عن جميع نتائج فعله غير القانونى التى كان يمكنه أو كان واجبا عليه أن يفترضها ، وهذه المسئولية ليست متوقفة على إثبات أن المجنى عليه قد عولج أحسن علاج طبقا للعلوم الحديثة . ( 9 )
يعد قاتلاً عمداً من يصيب المجنى عليه بجرح قطعى فى الرأس وجد تحته كسر مضاعف ، بنية قتله ، ولو أنه بأن للمحكمة أن المجنى عليه بعد أن تحسنت حالته خرج من مستشفى الإسماعيلية وسافر إلى مصر فضبط بمعرفة رجال الصحة لأنهم اشتبهوا فى أنه مصاب بالكوليرا ، ونقل إلى مستشفى الحميات ومنه إلى مستشفى الملك ، ثم صدر أمر بإخلاء مستشفى الملك فنقل إلى المجموعة الصحية بمصر حيث توفى بعد ما أصيب بالشلل نتيجة جراح فى المخ ، لأن الجراح حصل مكان الإصابة وتسبب فى إحداث الوفاة ، التى تكون بالتالى نتيجة مباشرة لإصابة الرأس ( 10 ) ، وكان وجه الطعن هو أن الوقائع على هذه الصورة تكون جناية ضرب أفضى إلى عاهة مستديمة ، لأن الإصابة كانت بسيطة وشفى منها المصاب وخرج لا يشكو مما قيل أنه كان السبب فى وفاته ، فرفضت محكمة النقض هذا الوجه ، وأيدت الحكم المطعون فيه من ناحية اعتباره الواقعة قتلاً عمداً .
إذا كان الثابت من التقرير الطبى أن الوفاة نشأت عن الإصابة ، فإن إهمال العلاج أو حدوث مضاعفات تؤدى إلى الوفاة لا تقطع علاقة السببية بين الإصابة والوفاة ، وهى النتيجة المباشرة التى قصد إليها المتهم حين طعن المجنى عليه عمداً بنية قتله .
أما عن انقطاع علاقة السببية بتدخل عامل شاذ غير متوقع بين فعل الجانى والنتيجة التى حصلت ، فصورته واقعة متهم أراد قتل المجنى عليه فأعطاه فطيرة خلط بها مادة الزرنيخ ، ولما أكل منها هذا الأخير ارتاب فيها فحملها وذهب إلى والد الجانى يشكو إليه ولده منبئا إياه بشكوكه فى الفطيرة ، فأراد والد الجانى تبديد شكوك المجنى عليه بأكل جزء منها أمامه وكانت النتيجة أن مات متسماً بالزرنيخ بينما شفى المجنى عليه الأول ، وقد اعتبرت المحكمة أن الجانى مسئول عن الشروع فى قتل هذا الأخير ، غير مسئول عن قتل والده ، وجلى أن والد الجانى قد أقدم على أكل الفطيرة بعد تنبيهه صراحة من المجنى عليه المقصود بالقتل إلى الشك الخطير فى أمرها ، وكان فى مقدوره التحقق منها بسؤال ولده كما كان اندفاعه فى أكلها على هذا النحو أمرا ما كان بمقدور الإنسان العادى توقعه لفرط شذوذه عن المألوف وغرابته .
ويعد من العوامل الشاذة التى لا يمكن توقعها ويستحيل دفعها القوة القاهرة - كما قلنا - لذا قضى فى هذا الشأن بأنه إذا كانت الوفاة حصلت نتيجة هبوط القلب المفاجئ عقب إعطاء حقنة البنسلين - بسبب حساسية المجنى عليها وهى حساسية خاصة بجسم المجنى عليها كامنة فيه وليس هناك أية مظاهر خارجية تنم عنها أو تدل عليها ، ولم يتحوط لها الطب حتى اليوم ولا سلطان له عليها ، فإن المحكمة لا تكون قد أخطأت أن هى لم تحمل المتهم المسئولية عن وفاة المجنى عليها . ( 11 )
إثبات علاقة السببية :
الفصل فى توافر علاقة السببية أو عدم توافرها من المسائل الموضوعية التى ينفرد بها قاضى الموضوع ولا تخضع لرقابة محكمة النقض طالما أن الحكم قد أقام قضاءه فى هذا الشأن على أسباب تؤدى إلى ما انتهى إليه ( 12 ) .
والغالب أن يكون إثبات علاقة السببية فى جرائم القتل مقتضياً الالتجاء إلى الخبرة الفنية التى تتخذ صورة التقرير الطبى ، وفى هذه الحالة تلتزم محكمة الموضوع بأن تسند استخلاصها لتوافر السببية إلى ما ورد فى تقرير الخبرة (13 ) .
وقد قضى " أن علاقة السببية مسألة موضوعية ينفرد قاضى الموضوع بتقديرها ومتى فصل فيها إثباتاً أو نفياً فلا رقابة لمحكمة النقض عليه مادام قد أقام قضاءه فى ذلك على أسباب تؤدى إليه وأن محكمة الموضوع غير ملزمة بإجابة الدفاع إلى ما طلبه من مناقشة طبيب التخدير أو ضم أوراق علاج المجنى عليه ، مادامت الواقعة قد وضحت لديها ولم تر هى من جانبها حاجة إلى اتخاذ هذا الإجراء أو ذاك ، وكان الإهمال فى علاج المجنى عليه أو التراخى فيه - بفرض صحته - لا يقطع رابطة السببية ما لم يثبت أنه كان متعمداً لتجسيم المسئولية ( 14 ) .
_________________________________
(1) جلسة 7/3/1985 المكتب الفنى سنة 36 ق ـ صـ 344
( 2 ) نقض 25/11/1968 أحكام النقض س 19 رقم 210 صـ 1038
( 3 ) نقض 8/6/1953 أحكام النقض س 4 رقم 24 صـ945
( 4 ) نقض 26/11/1973 أحكام النقض س 24 رقم 220 صـ72 .
( 5 ) نقض 8/11/1949 أحكام النقض س 1 رقم 18 صـ51 .
( 6 ) نقض 10/6/1952 أحكام النقض س 3 رقم 402 صـ1073
( 7 ) راجع نقض 3/1/1966 أحكام النقض س 17 رقم 3 صـ 15 7/3/1966 رقم صـ247 ، 13/5/1968 س19 رقم 109 صـ554
( 8 ) نقض 12/1/1953 أحكام النقض س4 رقم 145 صـ376 .
( 9 ) نقض 22/11/1913 الشرائع 1 صـ86
( 10) نقض 13/12/1949 أحكام النقض س 1 رقم 54 صـ161
( 11 )نقض 25/6/1957 أحكام النقض س 8 رقم 194 صـ717
( 12 ) د/ حسن المرصفاوى ص 165 ق العقوبات القسم الخاص .
( 13 ) د/ فتوح عبد الله االشاذلى المرجع السابق ، صـ 36 .
( 14 ) الطعن رقم 22440 لسنة 59 ق جلسة 15/2/1990 .
قلنا أن الرأى السائد حاليا فى بلادنا يتمشى بالأكثر مع اعتبار السببية رابطة مادية أو موضوعية ، وهذا هو الاتجاه الذى تشير إليه عبارات محكمة النقض فى أكثر من حكم حديث ، ومن ذلك مثلا " إن من المقرر أن علاقة السببية فى المواد الجنائية علاقة مادية تبدأ بالفعل الذى اقترفه الجانى وترتبط من الناحية المعنوية بما يجب عليه أن يتوقعه من النتائج المألوفة لفعله إذا ما أتاه عمدا (1).
وهو فى نفس الوقت أميل إلى اتجاه السببية المناسبة أو الملائمة إذ هو مستقر على أنه إذا تداخلت عوامل أجنبية عن فعل الجانى بقدر ما فى تحقيق النتيجة التى يعاقب عليها القانون فإنها لا تقطع رابطة السببية بين هذا الفعل والنتيجة ، إلا إذا كانت تلك العوامل شاذة غير مألوفة يستوى فى ذلك أن تكون هذه سابقة على الفعل الإجرامي أم معاصرة له ، أم لاحقة ، وأن يكون مصدرها عوامل طبيعية ، أم خطأ صادرا من الجانى ، أم من المجنى عليه ، أم من شخص أجنبي كلية عن الواقعة ، أن يكون الجانى قد توقعها فعلا لنمو ملكة التقدير لديه ، أم كان فى مقدوره توقعها لفرط ما هى مألوفة تتفق والسير العادى للأمور ، فمعيار التوقع أو الاحتمال هو الضابط الأساسى للسببية .
عوامل مألوفة وغير مألوفة :
ما أكثر العوامل المألوفة التى قد تتداخل بين فعل الجانى والنتيجة النهائية فلا تقطع رابطة السببية بين الأمرين ، سواء أتوقعها الجانى بالفعل أم كان بمقدوره - فحسب - أن يتوقعها ، وهذه العوامل يعد تقدير توافرها وأثرها معا مسألة وقائع بحت ، تخضع لقاضى الموضوع فى نطاق تقديره العام لموضوع الدعوى ، لكن يمكن القول بأن أهم هذه العوامل ما يلى :
أولا : الملابسات الطبيعية التى قد تصاحب فعل الجانى فإنها لا تقطع عادة رابطة السببية بين نشاطه وبين النتيجة النهائية ، حتى ولو ساهمت بدور ملحوظ فى إحداثها ، ويستوى فى ذلك أن تكون هذه الملابسات والظروف مطابقة فى تفاصيلها لما أراده الجانى منها ، أم كانت موافقة سير الحوادث إجمالا فحسب .
فإذا حدثت مشاجرة بين أشخاص على ظهر قارب صغير أعقبها تماسك بالأيدى ، وتضارب أدى إلى وقوع أحد المتشاجرين فى النهر وغرقه ، فإن الضارب يعتبر مسئولا عن ضرب أفضى إلى الموت لا عن ضرب بسيط ، وذلك مع أنه قد يقال أن نفس المشاجرة لو وقعت على البر بكل ما صاحبها من تماسك وتضارب لما كان يمكن أن تؤدى إلى وفاة المجنى عليه ، ولما اعتبرت الواقعة أكثر من جنحة ضرب .
ومثلا ألقى الجانى بالمجنى عليه من فوق قنطرة فى النهر قاصدا إغراقه فى الماء فاصطدم هذا الأخير بأسفل القنطرة أثناء سقوطه وتكسرت جمجمته فمات بهذه الكيفية ولم يمت غرقا كما أراد الجانى ، ومثلا صوب حارس حقل بندقية على صياد لقتله جزاء له على الصيد فى حقله بغير موافقته فقفز الصياد تفاديا للمقذوف ولكنه سقط فى هوة سحيقة وتوفى بسبب ذلك لا بسبب المقذوف وهكذا مما يحتمل حصول ما قد يشبهه فى العمل .
ولا تختلف الحال عن ذلك فى الجرائم غير العمدية ، فينبغى حتى يسأل الجانى عن أية نتيجة أن تكون داخلة فى نطاق ما صدر عنه من خطأ أو إهمال بحيث يمكن القول بأنه توقعها أو بالأقل كان بمقدوره أن يتوقعها ، فلا يسأل عن النتائج التى تخرج عقلا عن دائرة تقدير الإنسان العادى ، ومن هذا القبيل ما قضى به من أنه إذا كان المتهم يدرس قمحا فى جرن فسقطت عليه كبريت من جيبه ، فمر عليها النورج فاشتعل الجرن وامتد الحريق إلى ما يجاوره من أجران ومساكن وتوفى بسبب ذلك خلق كثير ، فإن المتهم يكون مسئولا عن الحريق الناشئ عن إهماله مباشرة ، ولا يسأل عن جريمة القتل الخطأ .
ثانيا : ويعد من العوامل المألوفة التى لا تقطع رابطة السببية بين نشاط الجانى والنتيجة النهائية أن يكون المجنى عليه وقت الاعتداء عليه ضعيف البنية أو متقدما فى السن أو صغيرا ، أو مريضا بمرض قديم كالسكر أو ضعف القلب ، أو الأنيميا ، أو تضخم الطحال ( 2 ) مما قد يكون له أثره فى استفحال إصابته فيما بعد وكذلك الشأن إذا أصيب بشيء من هذا القبيل أثناء علاجه من إصابته أحدث المرض نفس الأثر من ناحية تجسيم مدى الإصابة .
ثالثا : ومثلها أن تحدث مضاعفات طبيعية للإصابة كالنزيف وتسمم الجروح ، والحمرة ، والجلطة الدموية ، والتيتانوس ، لذا و قضى بأنه إذا توفيت المجنى عليها من التهاب رئوى أصيبت به بسبب رقادها على ظهرها أثناء العلاج من جرح عمدى ، فإن الجانى يكون مسئولا عن جريمة جرح أفضى إلى موتها ( 3 ) وإذا توافرت نية القتل كان الجانى مسئولا عن قتل عمد ، أما إذا لم يكن الالتهاب الرئوى بسبب الاعتداء ولا بسبب العلاج فهو عامل شاذ قاطع بالتالى لرابطة السببية بين الإصابة والوفاة .
رابعا : ومثلها أن يهمل المجنى عليه فى العلاج إهمالا عاديا متوقعا من مثله ، أو أن يمتنع عن العلاج الطبى كلية من يكون من بيئة لا تؤمن بفائدته دون توافر نية إساءة مركز الجانى تعمدا ، وكذلك إهمال القائمين على شئون المجنى عليه ، والمحيطين به ، والمسئولين عنه ، متى كان إهمالا مألوفا متوقعا ممن كان من مثل بيئتهم ، أو بحسب تعبير محكمة النقض أن المتهم مسئول فى صحيح القانون عن جميع النتائج المحتمل حصولها من الإصابة ولو كانت عن طريق غير مباشر كالتراخى فى العلاج أو الإهمال فيه ما لم يكن متعمدا لتجسيم المسئولية . ( 4 )
أما إذا أهمل المجنى عليه إهمالا فاحشا فى حق نفسه ، أو إذا امتنع عن العلاج دون ما عذر مقبول أو بنية الإساءة إلى مركز الجانى ، فإن ذلك يدخل فى عداد العوامل الشاذة غير المألوفة ( 5 ) ، وكذلك الشأن إذا كان المجنى عليه فاقد التمييز لصغر أو لجنون ، وحدث الإهمال الفاحش من ذوية أو من المسئولين عن رعايته .
وإذا كان العلاج أو الجراحة غير مضمون النتيجة أو غير راجح النجاح الرجحان الذى يغرى الإنسان العادى بالأقدام عليه ، فالمجنى عليه غير مطالب به وإذا امتنع ظلت السببية قائمة بين نشاط الجانى وبين النتيجة النهائية . (6)
وكذلك الشأن إذا كان العلاج أو الجراحة ينطوى على خطورة خاصة أو على آلام استثنائية ، فإنه إذا امتنع المجنى عليه أو وليه الشرعى إذا كان قاصرا عن قبول العلاج أو الجراحة ، ظل الجانى مسئولا عن كافة النتائج الجسيمة لسلوكه الإجرامي ، حتى تلك التى كان من الجائز أن تخف لو قبل المجنى عليه إجراء العلاج أو الجراحة
خامسا : وإذا أخطأ الجراح أو الطبيب خطأ يسيرا فى جراحته أو فى طبه سواء أكان الخطأ ماديا أم مهنيا ، فإن ذلك يعد من العوامل المألوفة التى لا تقطع رابطة السببية بين فعل الجانى وبين النتيجة النهائية لإصابة المجنى عليه ، أما إذا أخطأ الطبيب خطأ جسيماً ، غير ممكن توقعه ولا متفق مع السير العادى للأمور لوجب عندئذ القول بانقطاع السببية بين هذا الفعل وبين النتيجة النهائية لإصابة المجنى عليه .
وإذا قام الجراح بإجراء جراحة غير تلك التى اقتضتها إصابة المصاب ثم توفى منها انقطعت رابطة السببية بن الإصابة والوفاة دون توقف ذلك على بحث مدى مسئولية الجراح عن هذه الجراحة الأخرى ، ومن ذلك مثلا أن يجرى الجراح عملية لاستكشاف تمزق بالبريتون لدى المجنى عليه فيجد زائدة دودية أو أوراما يرى إزالتها ، فيموت المصاب ويبين أن الوفاة كانت بسبب هذه الجراحة الثانية لا بسبب الإصابة نفسها ولا بسبب جراحة أجريت للعلاج منها .
سادسا : ومن العوامل المألوفة أيضا أن يخطئ الغير خطأ عاديا حتى ولو كان هذا الخطأ يستوجب مسئولية فاعله جنائياً ، مادام متفقا والسير العادى للأمور ، أو بعبارة أخرى أن الخطأ المشترك فى نطاق المسئولية الجنائية لا يخلى المتهم من المسئولية مادام لا يترتب عليه انتقاء أحد الأركان القانونية للجريمة فى سلوكه الإجرامي فى العمد أو فى الخطأ غير العمدى على حد سواء .( 7 )
مثلا راكب فى ترام أو عربة نقل دفع شخصا دفعة قوية ألقت به فى عرض طريق مزدحم بالمرور ، ثم مرت سيارة بسرعة تتجاوز الحد المسموح به قانونا فدهمت المجنى عليه وقتلته ، وكان يمكنها تفاديه لولا هذه السرعة ، فهنا صدمة السيارة ترتب مسئولية سائقها عن القتل الخطأ لكن لا تقطع رابطة السببية بين الدفعة الأولى والوفاة ، فتعد الواقعة فى نظرنا ضربا أفضى إلى الموت .
وإذا توافرت نية إزهاق الروح كانت قتلا عمدا وذلك بالنسبة لمن صدرت عنه الدفعة الأولى للمجنى عليه التى ألقت به فى عرض الطريق المطروق حين تعد فى نفس الوقت قتلا خطأ بالنسبة لسائق السيارة المسرعة التى صدمت المجنى عليه فأردته قتيلا ، وذلك دون أن تنفى مسئولية أحدهما مسئولية الآخر رغم انقطاع كل رابطة بين الجانبين .
أما إذا كانت الواقعة الجديدة من الشذوذ الذى لا يرد بالخاطر فإن الواقعة الأولى تكون مجرد شروع فى قتل عمد ، أو ضرب عمد أو جرح عمد بحسب الأحوال ، وذلك كما فى مثل وفاة المجنى عليه من اصطدام عربة الإسعاف أثناء نقلها إياه ، أو من شبوب حريق المستشفى الذى نقل إليه ، أو من سقوط جدار عليه بعد إصابته ، أو إذا توفى المصاب من مرض معد أثناء مدة العلاج كالتيفوئيد ، أو من مرض لا علاقة له بالاعتداء السابق مثل السرطان سابقا كان على إصابته أم لاحقا لها ، متى تبين أن الوفاة كانت بسبب هذا المرض لا بسبب الاعتداء الذى وقع عليه ، فهنا لا يسأل الجانى إلا عن القدر المتيقن فى حقه ، وهو فى جناية القتل العمد الشروع فيه فحسب
سابعا : أما فعل الغير إذا تداخل عمدا لإحداث النتيجة المعاقب عليها بغير اتفاق مع الجانى السابق فهو يعد من باب أولى عاملا شاذا وقاطعا لرابطة السببية بالتالى ، مثال " كان يطلق أعيارا ناريا على المجنى عليه محمد قاصدا قتله ، لكنه يصيبه فى غير مقتل ، ثم يحضر أحمد ويجهز على محمد لعداوة بينهما فإن أحمد يسأل عن قتل محمد عمدا حين لا يسأل إلا عن شروع فى قتله مادام الاتفاق بين محمود ، أحمد منتفياً .
وإذا ثبت أن الوفاة - أو النتيجة المشددة للعقوبة بوجه عام - قد حصلت من مجموع الإصابات التى أحدثها الجانون المتعدون بالمجنى عليه بحيث كانت أيها كافية بذاتها لإحداثها فيعتبرون جميعهم مسئولين عنها ، حتى مع عدم قيام الاتفاق أو التفاهم السابق فيما بينهم ( 8 ) إنما ينبغى أن يكون جليا من وقائع الدعوى ومن التقارير الطبية أن الإصابات جميعها قد ساهمت معا ومجتمعه فى إحداث الوفاة أو النتيجة المشددة للعقوبة ، وأنها كافية لإحداثها بالتالى ، أما إذا لم يثبت ذلك بطريق اليقين فيجب أن يؤخذ كل جان بالقدر المتيقن فى حقه فقط .
ذلك أن تداخل أرادات آثمة أخرى بين فعل الجانى الأول والنتيجة المعاقب عليها مما يعد بحسب الأصل سببا أجنبيا شاذا ، وقاطعا بالتالى لرابطة السببية ، ما لم يثبت من الوقائع العكس بشكل حاسم .
ثامنا : ويراعى أخيرا أن القوة القاهرة والحادث الفجائى ، إذا كان أيهما غير ممكن توقعه ولا ممكن دفعه ، قد يعدمان فى بعض الصور إرادة المتهم إذا كانا سابقين - أو بالأدق معاصرين - لسلوكه المادى فيمنعان مساءلته جنائيا ، ومن ذلك سقوط منزل على ساكنيه بفعل زلزال أو فيضان ، فإنه لا يقتضى مساءلة مالك هذا المنزل المكلف بصيانته متى أسند الحادث إلى القوة القاهرة دون التقصير فى الصيانة ، كما قد يقطعان فى بعضها الآخر رابطة السببية إذا توسطا بين سلوكه الآثم - إذ اتخذ صورة الشروع فى القتل - وبين الوفاة ، فيحولان دون مساءلته عن هذه النتيجة جنائيا ، ومدنيا أيضا .
ومن أحكام المحاكم فى شأن السببية فى خصوص القتل العمد ما قضى به من أنه : إذا طعن المتهم المجنى عليه بسكين متعمدا قتله فأحدث به جرحا فى تجويف الرئة نتجت عنه الوفاة ، فإنه يكون مرتكبا جناية القتل العمد وإن تكن الوفاة قد حصلت بعد علاج دام ثمانية وخمسين يوما بالمستشفى إذ من المبادئ المقررة أن الفاعل مسئول عن جميع نتائج فعله غير القانونى التى كان يمكنه أو كان واجبا عليه أن يفترضها ، وهذه المسئولية ليست متوقفة على إثبات أن المجنى عليه قد عولج أحسن علاج طبقا للعلوم الحديثة . ( 9 )
يعد قاتلاً عمداً من يصيب المجنى عليه بجرح قطعى فى الرأس وجد تحته كسر مضاعف ، بنية قتله ، ولو أنه بأن للمحكمة أن المجنى عليه بعد أن تحسنت حالته خرج من مستشفى الإسماعيلية وسافر إلى مصر فضبط بمعرفة رجال الصحة لأنهم اشتبهوا فى أنه مصاب بالكوليرا ، ونقل إلى مستشفى الحميات ومنه إلى مستشفى الملك ، ثم صدر أمر بإخلاء مستشفى الملك فنقل إلى المجموعة الصحية بمصر حيث توفى بعد ما أصيب بالشلل نتيجة جراح فى المخ ، لأن الجراح حصل مكان الإصابة وتسبب فى إحداث الوفاة ، التى تكون بالتالى نتيجة مباشرة لإصابة الرأس ( 10 ) ، وكان وجه الطعن هو أن الوقائع على هذه الصورة تكون جناية ضرب أفضى إلى عاهة مستديمة ، لأن الإصابة كانت بسيطة وشفى منها المصاب وخرج لا يشكو مما قيل أنه كان السبب فى وفاته ، فرفضت محكمة النقض هذا الوجه ، وأيدت الحكم المطعون فيه من ناحية اعتباره الواقعة قتلاً عمداً .
إذا كان الثابت من التقرير الطبى أن الوفاة نشأت عن الإصابة ، فإن إهمال العلاج أو حدوث مضاعفات تؤدى إلى الوفاة لا تقطع علاقة السببية بين الإصابة والوفاة ، وهى النتيجة المباشرة التى قصد إليها المتهم حين طعن المجنى عليه عمداً بنية قتله .
أما عن انقطاع علاقة السببية بتدخل عامل شاذ غير متوقع بين فعل الجانى والنتيجة التى حصلت ، فصورته واقعة متهم أراد قتل المجنى عليه فأعطاه فطيرة خلط بها مادة الزرنيخ ، ولما أكل منها هذا الأخير ارتاب فيها فحملها وذهب إلى والد الجانى يشكو إليه ولده منبئا إياه بشكوكه فى الفطيرة ، فأراد والد الجانى تبديد شكوك المجنى عليه بأكل جزء منها أمامه وكانت النتيجة أن مات متسماً بالزرنيخ بينما شفى المجنى عليه الأول ، وقد اعتبرت المحكمة أن الجانى مسئول عن الشروع فى قتل هذا الأخير ، غير مسئول عن قتل والده ، وجلى أن والد الجانى قد أقدم على أكل الفطيرة بعد تنبيهه صراحة من المجنى عليه المقصود بالقتل إلى الشك الخطير فى أمرها ، وكان فى مقدوره التحقق منها بسؤال ولده كما كان اندفاعه فى أكلها على هذا النحو أمرا ما كان بمقدور الإنسان العادى توقعه لفرط شذوذه عن المألوف وغرابته .
ويعد من العوامل الشاذة التى لا يمكن توقعها ويستحيل دفعها القوة القاهرة - كما قلنا - لذا قضى فى هذا الشأن بأنه إذا كانت الوفاة حصلت نتيجة هبوط القلب المفاجئ عقب إعطاء حقنة البنسلين - بسبب حساسية المجنى عليها وهى حساسية خاصة بجسم المجنى عليها كامنة فيه وليس هناك أية مظاهر خارجية تنم عنها أو تدل عليها ، ولم يتحوط لها الطب حتى اليوم ولا سلطان له عليها ، فإن المحكمة لا تكون قد أخطأت أن هى لم تحمل المتهم المسئولية عن وفاة المجنى عليها . ( 11 )
إثبات علاقة السببية :
الفصل فى توافر علاقة السببية أو عدم توافرها من المسائل الموضوعية التى ينفرد بها قاضى الموضوع ولا تخضع لرقابة محكمة النقض طالما أن الحكم قد أقام قضاءه فى هذا الشأن على أسباب تؤدى إلى ما انتهى إليه ( 12 ) .
والغالب أن يكون إثبات علاقة السببية فى جرائم القتل مقتضياً الالتجاء إلى الخبرة الفنية التى تتخذ صورة التقرير الطبى ، وفى هذه الحالة تلتزم محكمة الموضوع بأن تسند استخلاصها لتوافر السببية إلى ما ورد فى تقرير الخبرة (13 ) .
وقد قضى " أن علاقة السببية مسألة موضوعية ينفرد قاضى الموضوع بتقديرها ومتى فصل فيها إثباتاً أو نفياً فلا رقابة لمحكمة النقض عليه مادام قد أقام قضاءه فى ذلك على أسباب تؤدى إليه وأن محكمة الموضوع غير ملزمة بإجابة الدفاع إلى ما طلبه من مناقشة طبيب التخدير أو ضم أوراق علاج المجنى عليه ، مادامت الواقعة قد وضحت لديها ولم تر هى من جانبها حاجة إلى اتخاذ هذا الإجراء أو ذاك ، وكان الإهمال فى علاج المجنى عليه أو التراخى فيه - بفرض صحته - لا يقطع رابطة السببية ما لم يثبت أنه كان متعمداً لتجسيم المسئولية ( 14 ) .
_________________________________
(1) جلسة 7/3/1985 المكتب الفنى سنة 36 ق ـ صـ 344
( 2 ) نقض 25/11/1968 أحكام النقض س 19 رقم 210 صـ 1038
( 3 ) نقض 8/6/1953 أحكام النقض س 4 رقم 24 صـ945
( 4 ) نقض 26/11/1973 أحكام النقض س 24 رقم 220 صـ72 .
( 5 ) نقض 8/11/1949 أحكام النقض س 1 رقم 18 صـ51 .
( 6 ) نقض 10/6/1952 أحكام النقض س 3 رقم 402 صـ1073
( 7 ) راجع نقض 3/1/1966 أحكام النقض س 17 رقم 3 صـ 15 7/3/1966 رقم صـ247 ، 13/5/1968 س19 رقم 109 صـ554
( 8 ) نقض 12/1/1953 أحكام النقض س4 رقم 145 صـ376 .
( 9 ) نقض 22/11/1913 الشرائع 1 صـ86
( 10) نقض 13/12/1949 أحكام النقض س 1 رقم 54 صـ161
( 11 )نقض 25/6/1957 أحكام النقض س 8 رقم 194 صـ717
( 12 ) د/ حسن المرصفاوى ص 165 ق العقوبات القسم الخاص .
( 13 ) د/ فتوح عبد الله االشاذلى المرجع السابق ، صـ 36 .
( 14 ) الطعن رقم 22440 لسنة 59 ق جلسة 15/2/1990 .