جرائم السرقه
فعل الاختلاس
عرفت المادة 311 من قانون العقوبات السرقة بقولها : كل من اختلس منقولا مملوكا لغيره فهو سارق "
وقضت محكمة النقض بأن : الاختلاس فى جريمة السرقة يتم بانتزاع المال من حيازة المجنى عليه بغير رضاه ، وأن التسليم الذى ينتفى به ركن الاختلاس يجب أن يكون برضاء حقيقى من واضع اليد مقصودا به التخلى عن الحيازة وأن تسليم الشئ من صاحب الحق فيه إلى المتهم تسليما مقيدا بشرط واجب التنفيذ فى الحال لا يمنع من اعتبار اختلاسه سرقة متى كان قصد الطرفين من الشرط هو أن يكون تنفيذه فى ذات وقت التسليم تحت إشراف صاحب الشئ ومراقبته حتى يكون فى استمرار متابعته ماله ورعايته إياه بحواسه ما يدل بذاته على أنه لم ينزل ولم يخطر له أن ينزل عن سيطرته وهيمنته عليه ماديا فتبقى له حيازته بعناصرها القانونية ، ولا تكون يد المستلم عليه إلا يدا عارضة مجردة ،
ومن المتفق عليه أنه يلزم لقيام السرقة توافر الأركان التالية :
الركن الأول : فعل مادى هو الاختلاس .
الركن الثانى : أن يكون محل هذا الفعل مالا منقولا مملوكا للغير .
الركن الثالث : القصد الجنائى .
وقد أشار تعريف المادة إلى الركنين الأول والثانى ، أما الركن الثالث فهو مما تتطلبه القاعدة العامة فى الجرائم العمدية من ناحية ضرورة توافر القصد الجنائى العام ، كما تتطلب السرقة بوصفها من جرائم سلب مال الغير توافر قصد خاص هو نية تملك المال المسروق .
وسنعالج كل ركن من الأركان الثلاثة فى مبحث مستقل على التوالى :
 
فعل الاختـلاس
الاختلاس : هو اغتيال بدون رضائه ، وكلمة الاختلاس - ترجمة للكلمة اللاتينية  contrectatio التى كان يستعملها القانون الرومانى فى التعبير عن الفعل المادى فى السرقة .
ونرى إن جميع الفقهاء والقضاة يعرفون السرقة بما لا يخرج عن معنى أخذ المال أو انتزاعه أو نقله أو إخراجه من حيازة مالكه ، بدون رضائه ، فلا سرقة إذا لم يحصل ذلك ، وهذا التعريف يتطلب فضلا عن فعل انتزاع المال المنقول أو أخذه أو نقله ، وأن يتم ذلك بغير رضاء المجنى عليه . ( 1 )
والقاعدة المعروفة هى أن رضاء المجنى عليه بالجريمة لا يحول دون قيامها وهى قاعدة مستقرة فى نطاق الحقوق الطبيعية المتصلة بشخص المجنى عليه ، والتى لا يملك التنازل عنها أو التصرف فيها ، مثل حقه فى الحياة ، وحقه فى المحافظة على سلامة جسمه وصحته ، فالصالح الإجتماعى والنظام العام يحتمان عليه عدم التفريط فى شئ منها ، فإذا رضى بالتفريط فلا يعتد برضائه .
على أن هذه القاعدة قد تتعرض لاستثناءات متعددة فى نطاق الحقوق المكتسبة أو الوضعية ، فقد يتطلب النص فى جرائم معينة صراحة أو دلالة عدم رضاء المجنى عليه ، وإلا فلا جريمة ، كما هى الحال فى اغتصاب الإناث ( م 267ع ) وهتك العرض ( م 268 ) والحبس بغير وجه حق ( م 280 ) والخطف ( م 290 ) وأكثر ما تقابل هذه الاستثناءات فى جرائم المال ، كالسرقة والنصب وخيانة الأمانة ، حيث يلزم فيها عدم الرضاء بها ، وألا يكون الرضاء متضمنا معنى تسليم المال بمحض الرغبة فى ذلك ، وهو حق طبيعى إذ من خصائص المال أن يكون محلا للتعاقد وللانتقال من يد إلى يد .
والرضاء المعول عليه هو الصحيح الصادر عن إرادة مدركة حرة ، أما إذا انعدم الإدراك كما هى الحال بالنسبة للمجنون أو السكران أو الصغير غير المميز أو إذا انعدم الاختيار كما هى الحال بالنسبة للمكره أو المضطر ، فينعدم بالتالى الرضاء الذى يمنع قيام الجريمة ، ولا يعد رضاء مانعا إياها مجرد علم المجنى عليه بحصول السرقة ، أو سكوته عن التبليغ ، أو تغافله لاستدراج المتهم وضبطه متلبسا بها . ( 2 )
وينبغى أن يكون الرضاء سابقا على الاختلاس أو بالأقل معاصرا إياه ، أما الرضاء اللاحق له فهو من قبيل الصفح أو التنازل الذى يحول دون المطالبة بالتعويض المدنى ، ولكنه لا يؤثر فى قيام الجريمة .
على أنه لا يثير فى الواقع صعوبة حقيقية ، إنما موطن الصعوبة هو فى تحديد معنى الاختلاس ، ومتى يكون تسليم الشئ إلى الجانى نافيا لفعل الاختلاس ، ومميزا بالتالى للسرقة عن الجرائم الأخرى المماثلة لها ، ومتى يرتبط الاختلاس بنظرية الحيازة المعروفة فى القانون المدنى .
 
المطلب الأول : متى يكون التسليم نافيا للاختلاس
 
الاختلاس هو انتزاع مال المجنى عليه قسرا عنه ، أى إخراجه من حيازته دون رضائه ، وينبنى على ذلك أنه لو كان المال فى حيازة الجانى من مبدأ الأمر فاختلاسه يكون غير متصور الوقوع ، فمثلا إذا كان المال فى حيازة الجانى ، بيد أنه محل لدعوى مطروحة أمام القضاء قضى فيها بعدم ملكية الحائز له ، ولكن قام الأخير مع ذلك ببيعه أو استهلاكه فلا سرقة ، وكذلك إذا كانت الحيازة قد آلت إلى الجانى بمقتضى عقد من عقود الأمانة كالوديعة أو الوكالة أو عارية الاستعمال ، فتصرف فى المال ، فإن الواقعة تكون حينئذ خيانة أمانة لا سرقة .
كما ينبنى على ما تقدم أنه إذا لم يكن المال فى حيازة الجانى ، ولكن سلم إليه ممن يملك تسليمه إياه ، فالتسليم يكون وحده نافيا للاختلاس ، بشرط صدوره عن مالك الشئ أو حائزه ، فلا عبرة بصدوره عن غير هذين الشخصين ومن ذلك أن يعتزم مسافر فى قطار سرقة شنطة مسافر آخر معه ، فيكلف الفراش أو الشيال فى محطة الوصول بتسليمها إياه على اعتبار أنها خاصة به فيفعل ، فإن مثل هذه التسليم لم يصدر عن ذى صفة فى إجرائه ، بل عن شخص كان مجرد آلة فى يد الجانى ، ومن ثم لا يعتد به ، أما إذا كان الفراش أو الشيال يعلم حقيقة الحال فيعد بدوره فاعلا أصليا فى جريمة السرقة .
 
المطلب الثانى : ربط الاختلاس بنظرية الحيازة المدنية
 
يميل الاتجاه السائد حاليا إلى ربط فعل الاختلاس بقواعد الحيازة المعروفة فى القانون المدنى ، وهى فكرة قديمة بدأت تشير إليها إشارات مختلفة .
وقد كان للشارح جارسون فضل العناية بتوضيح هذا الربط بين فعل الاختلاس ونظرية الحيازة المدنية وإرسائه على أسس قانونية سليمة ، الأمر الذى ساعد على حل كثير من الصعوبات التى تثار فى بحث الاختلاس من ناحية أثر التسليم فيه ، وبيان متى يكون نافيا له ومتى لا يكون ، حتى اقترن هذا الربط باسمه وصار يعرف بنظرية جارسون فى التسليم أو فى الحيازة .
صور الحيازة .
الحيازة فى المنقول هى سلطة أو سيطرة مادية عليه يباشرها الحائز ، وينبغى التمييز بين ثلاث صور منها وهى : التامة والمؤقتة والمادية :
أولا : الحيازة التامة .
يطلق عليها أحيانا الحيازة الحقيقية أو النهائية أو القانونية ، وهى حيازة المالك ، أو من يعتقد أنه المالك دون غيره ، لأنها تفترض لدى صاحبها انصراف نيته إلى أنه إنما يحوز المنقول ويتصرف فيه باعتباره مالكا إياه ، وهى مكونة من عنصرين أولهما مادى وهو رابطة فعلية تربط الحائز بما يحوز وتعطيه عليه السيطرة التامة ، فهو يتضمن مجموعة الأفعال المادية التى تفيد معنى الحيازة النهائية ، وثانيهما أدبى أو معنوى وهو اعتقاد الحائز أنه يحوز الشئ بوصفه مالكا إياه دون غيره ، فيعد حائزا حيازة تامة كل من وضع يده على الشئ مستندا إلى عقد ناقل للملكية بطبيعته كالبيع أو الهبة أو المقايضة ، أو إلى سبب مكسب إياها كالميراث أو التقادم .
ثانيا : الحيازة المؤقتة .
ويطلق عليها أحيانا الناقصة وهذه تكون للحائز غير المالك ، ولذلك يصح أن يطلق عليها حيازة الشئ على ذمة مالكه ، وهى تتطلب عقدا يفيد الاعتراف بالملكية لغير الحائز ، مثل الإيجار ، وتتميز عن سابقتها بأنها يتوافر لها الجانب المادى من الحيازة التامة ، دون جانبها المعنوى ، لأن صاحبها إنما يباشرها لا بوصفه أصيلا بل نائبا عن صاحب اليد الحقيقية ، لذا لا يمكن أن يكتسب الملكية لمجرد وضع يده على الشئ مهما طال الأمد ، ما لم تتغير صفة هذه الحيازة المؤقتة إلى تامة .
ثالثا : الحيازة المادية .
وهذه يطلق عليها غالبا اليد العارضة ، وهو تعبير أدل على طبيعتها ، فهى ليست حيازة بالمعنى المدنى المفهوم بل مجرد يد موضوعة على المنقول بطريقة عابرة دون أن يباشر واضعها سلطة معينة ، لا لحسابه ولا لحساب غيره ، ولا يترتب عليها بالتالى أى حق له أو التزام عليه ، ولكنها ذات أهمية خاصة فى جرائم الاعتداء على المال .
وطبقا لهذا الربط بين الحيازة المدنية وفعل الاختلاس يكون هذا الأخير هو الاستيلاء على حيازة المنقول على غير علم صاحبه أو حائزه السابق وبدون رضائه ، ويكون التسليم المانع من الاختلاس هو ذلك الذى يراد به نقل الحيازة التامة أو المؤقتة ، إذ أن الاختلاس لا يقع أبدا من صاحب الحيازة على ما بحيازته من مال كما سبق ، أما التسليم الذى يراد به تمكين الحيازة المادية أى مجرد اليد العارضة فلا يعد تسليما يعتد به فى هذا الشأن إذ لا يعطى المستلم أية حيازة فعلية على الشئ ، ومن ثم لا يحول دون قيام السرقة . ( 3 )
تطبيقات ربط الاختلاس بالحيازة .
لربط الاختلاس بالحيازة المدنية نجد عدة تطبيقات وهى :
أولا : أن التسليم الناقل الحيازة التامة أو الناقصة ، ولو عن غلط ينفى الاختلاس
ثانيا : أن التسليم الناقل الحيازة التامة أو الناقصة ، ولو عن غش أو تدليس ، ينفى الاختلاس كذلك .
ثالثا : أن التسليم لتمكين اليد العارضة لا ينفى الاختلاس .
رابعا: أن التسليم عن عدم إدراك أو اختيار ينفى الاختلاس كذلك
وسنعالجها فيما يلى :
أولا : التسليم ولو عن غلط نافى للاختلاس .
التسليم عن غلط مقتضاه أن يتسلم الإنسان شيئا برضاء صاحبه ورغبته ، ولكن نتيجة غلط أما فى الشئ محل التسليم ، وأما فى شخص المستلم .
والغلط فى الشئ محل التسليم من صوره أن يسدد المدين أكثر من مقدار الدين ، أو أن يقرضه الدائن أكثر من المبلغ المتفق عليه خطأ ، أو أن يسلمه ورقة المخالصة وهو لم يسدد كل الدين ، أو أن يعطى الإنسان شخصا عملة صحيحة لفكها فيرد إليه أكثر من قيمتها عملة صغيرة ، أو أن يخطئ المشترى فى عد النقود فيسلم البائع أكثر من الثمن المطلوب .
( نقض 8/1/1917 مجموعة أحكام النقض س  18 ص 833 )
والغلط فى شخص المستلم صورته أن يسلم المدين الدين إلى غير دائنه ، أو أن يرسل التاجر السلعة إلى غير المشترى ، أو أن يعثر شخص على سند دين فاقد فيسلمه إلى المدين بدل الدائن .
( نقض 19/4/1925 مجموعة أحكام النقض س 5 ص 635 )
ثانيا : التسليم ولو عن غش أو تدليس نافى كذلك للاختلاس .
التسليم عن غش أو تدليس مقتضاه أن يأخذ المستلم المال برضاء صاحبه وإرادته ، ولكن نتيجة الكذب عليه وإيقاعه فى الغلط عمدا ، ومثال ذلك أن يطلب المدين من دائنه تسليمه المخالصة بحجة رغبته فى سداد الدين ثم يستولى عليها ولا يسدده ، أو أن يشترى العميل سلعة بثمن آجل وليس فى نيته الدفع ، أو أن يقترض المدين مبلغا وليس فى نيته السداد ، أو كمقامر يستولى على نقود زميله فى اللعب عن طريق الغش فيه ، أو كشخص يعثر على حافظة نقود ملقاة فى الطريق فيتقدم إليه آخر يدعى كذبا أنه صاحبها ويستولى عليها
( نقض 23/10/1927 مجموعة أحكام النقض س 29 ص 229 )
ففى هذه الأحوال صدر التسليم أيضا عن إرادة حرة مميزة ، وقصد به نقل الحيازة التامة فهو ناف للاختلاس ، ومثلها إذا قصد به نقل الحيازة المؤقتة ، كمن يتسلم سلعة عن طريق استعارتها من صاحبها ، ثم يستولى عليها لنفسه فلا يرتكب سرقة بل خيانة أمانة .
وأوضحت المادة ( 324 م ) من قانون العقوبات والتى نصها " يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز ستة أشهر وبغرامة لا تتجاوز مائتى جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من يتناول طعاما أو شرابا فى محل معد لذلك ولو كان مقيما فيه ، أو شغل غرفة أو أكثر فى فندق أو نحوه أو استأجر سيارة معدة للإيجار مع علمه أنه يستحيل عليه دفع الثمن أو الأجرة ، أو امتنع بغير مبرر عن دفع ما استحق من ذلك أو فر دون الوفاء به
وهذا النص ينشئ فى الواقع جريمة على حدة تختلف عن السرقة فى أن التسليم فيها ناقل للحيازة التامة ، كما أن هذه الجرائم قد تنصب على مجرد الانتفاع فى صور معينة كشغل غرفة فى فندق بغير تناول طعام ، حين يلزم فى السرقة أن تنصب دائما على ملكية الرقبة فلا يكفى فيها الاستيلاء على مجرد المنفعة .
وإذا كان الغش أو التدليس الصادر من المستلم مما يعد طرقا احتيالية أو تصرفا فى مال مملوك للغير وليس له حق التصرف فيه ، أو انتحال اسم كاذب أو صفة غير صحيحة ، كانت الواقعة نصبا معاقبا عليه بمقتضى المادة 336ع .
ثالثا : التسليم لتمكين اليد العارضة غير نافى للاختلاس .
التسليم بقصد تمكين اليد العارضة هو تمكين المستلم من الإمساك بالشئ إمساكا ماديا بحتا حتى يتمكن من فحصه فى حضور صاحبه ، أو استعماله لحساب هذا الأخير وتحت إشرافه لفترة من الوقت قصيرة ، دون أن يتضمن نقلا للسيطرة الكافية على الشئ إليه ، ولا تخليا له عن العنصر المعنوى فى الحيازة ، لأنه لا يكون تنفيذا لعقد معين ، وإن جاز أن يكون تمهيدا لانعقاده ، فهو لا يمنح المستلم حيازة دائمة ولا مؤقتة ، ولا يحول بالتالى دون وقوع الاختلاس .
والتسليم بقصد تمكين اليد العارضة كثير الوقوع فى العمل ، ومن صوره المألوفة تسليم سلعة إلى شخص حتى يتمكن من فحصها فى حضور صاحبها بغية بيعه إياها وإصلاحها أو رهنها أو استبدالها ، ولكنه يفر بها قبل أن ينعقد العقد وتنتقل إليه الحيازة التامة أو المؤقتة ، أو تسليم عملة كبيرة إلى آخر لصرفها (عقد مصارفة) فيستولى عليها ، أو تسليم زائر مكتبة كتبا للإطلاع عليها فيها أو أن يضع الدائن سند المديونية تحت بصر المدين للإطلاع عليه فى حضوره ثم رده إليه ثانية فيستولى عليه المدين لنفسه ، أو أن يسلم عقد رهن لخصم فى دعوى مدنية للإطلاع عليه فيستولى عليه ولا يرده ، أو أن يختلس مستخدمون فى مصلحة الجمارك بضائع مودعة فى مخزن الجمارك ، ولم تكن يدهم عليها سوى يد عارضة
أو أن يشرع سائق سيارة نقل بشركة الغاز فى اختلاس كمية من البنزين تبقت لديه فى صهريج السيارة بأن حاول إفراغها خلسة فى طلمبة أحد باعة البنزين دون علم الشركة لأن البنزين موضوع الجريمة وضعته الشركة فى صهريج السيارة ليستعين به السائق على أداء عمله ، وهو بهذه الصفة لم يخرج أصلا من حيازة الشركة ، ولم تكن يد السائق عليه بوصفه عاملا عندما إلا يدا عارضة ليس من شأنها أن تنقل الحيازة إليه
ومن ذلك أيضا أن يختلس المتهمون كمية من الكحول كانت موجودة فى المكان المعد لها فى الشركة ، ولم يكن اتصال المتهمين بالكحول بسبب كونه مسلما إليهم وفى حيازتهم ، بل كان بصفة عرضية بحكم عملهم فى الشركة ، ومن ثم فإن الواقعة تعتبر جنحة سرقة طبقا للمادة 317ع .
وفى الجملة كل تسليم لا يقصد به صاحبه نقل حيازة تامة أو مؤقتة إلى المستلم لا يحول دون القول بوقوع الاختلاس ، إذا ما استولى المستلم على الشئ المسلم إليه بدون رضاء صاحبه .
تسليم منقولات إلى الخدم والعمال المشتركين فى معيشة واحدة ونحوهم :
من التطبيقات المألوفة فى التسليم لتمكين اليد العارضة تسليم منقولات إلى الخدم أو العمال ، أو من يشترك معهم الإنسان فى معيشة واحدة ، فالمخدوم يسلم خادمه أدوات المطبخ والمائدة ، ويسلم سائقه السيارة وأدواتها ، ورب العمل يسلم عماله آلات وأدوات مختلفة ، والمضيف يسلم ضيوفه ومشاركيه فى معيشة واحدة منقولات شتى ، وصاحب الفندق يسلم النزلاء مثلها ، وصاحب المطعم والمقهى يسلم الرواد مثلها ، فاختلاس شئ منها فى جميع هذه الأحوال يعد سرقة لا خيانة أمانة ، إذ من الجلى أن التسليم كان لمجرد استعمال هذه الأشياء لفترة من الزمن وردها ثانية بعد ذلك ، تحت رقابة صاحبها أو بالقرب منه بما يحول دون القول بحصول عقد وديعة أو عارية استعمال أو نحوهما بين الطرفين .
على أن الأمر قد يختلف عن ذلك أحيانا ، وينبغى القول بعدم اعتبار واقعة الاستيلاء اختلاسا بل مجرد خيانة أمانة ، وذلك إذا تم التسليم لاستعمال الشئ المستلم دون تعمد صاحبه مباشرة أى نوع من الرقابة ، وكانت الرابطة بين الاثنين يحكمها عقد من عقود الأمانة مثل الوديعة أو عارية الاستعمال أو الإيجار ... الخ بحسب الظروف ، لا مجرد رغبة تمكين اليد العارضة ، ومن ذلك استيلاء أحد الزوجين على منقولات مملوكة للزوج الآخر ، ولكنها موضوعة فى منزل الزوجية للاستعمال المشترك بينهما ، فإنه يتعذر القول بأن يده كانت عليها مجرد يد عارضة ، بل هى يد أمين عليها بمقتضى عقد وديعة ، ومن ذلك أيضا تسليم شقة مفروشة إلى مستأجر بمقتضى عقد الإيجار ، ففى الحالين يوجد عقد أمانة ينتفى معه إمكان القول بقيام الرقابة المطلوبة من جانب المالك عند بقاء اليد العارضة .
وكذلك الأمر إذا تم تسليم المال لا لاستعماله ورده ، بل لمباشرة سلطة قانونية عليه وليست مجرد سلطة مادية فحسب ، كتسليم خادم نقودا لشراء سلعة ، فإنه إذا استولى على النقود ولم يشتر السلعة كانت الواقعة خيانة أمانة ، أما إذا استولى على السلعة بعد شرائها لذمة مخدومه ، لوجب عد الواقعة سرقة لأن يده عليها يد عارضة فحسب ، وكتسليم صراف المحل التجارى نقودا من مخدومه أو العملاء فإن هذه النقود تكون فى حيازته بوصفه وكيلا عن مخدومه ومن ثم تكون سلطته قانونية ، ويكون استيلاؤه على شئ منها خيانة أمانة لا سرقة .
تسليم حرز مغلق مع الاحتفاظ بمفتاحه .
من الأمور التى تتصل بتمكين اليد العارضة تسليم حرز مغلق مع احتفاظ صاحبه بمفتاحه ، وقد تضاربت الآراء فى هذا النطاق ، وإن كان الراجح فى نظرنا هو وجوب اعتبار الاستيلاء على الحرز أو شئ منه سرقة لا خيانة أمانة ، فإن الاحتفاظ بالمفتاح قرينة على عدم رغبة صاحبه فى نقل الحيازة إلى المستلم بل إعطائه مجرد اليد العارضة . ( 4 )
وقد يحصل العكس فيسلم صاحب الحرز أو الشئ المغلق مفتاحه إلى آخر كقرينة على تسليم الحرز وما به تسليما ناقلا للحيازة المؤقتة ، كشخص يسلم إلى آخر مفتاح شقته أو سيارته وذلك لا لمجرد توصيله إلى آخر أو للاحتفاظ به ، بل مع السماح له بارتياد الشقة أو باستعمال السيارة ، فالاستيلاء على شئ من محتويات الشقة أو الاستيلاء على السيارة أو شئ من أجزائها ينبغى أن يعد حينئذ خيانة أمانة لا سرقة ، أما إذا كان تسليم المفتاح لمجرد معاينة الشقة لاستئجارها أو تجربة السيارة لشرائها ، أى لمجرد تمكين اليد العارضة ، فالواقعة تكون حينئذ سرقة لا خيانة أمانة ، والأمر رهن بالبحث عن نية من صدر عنه التسليم ، وهى أمر موضوعى قد تساعد ظروف الحال والقرائن المختلفة على التعرف على حقيقته . ( 5 )
رابعا : التسليم عن عدم إدراك أو عدم اختيار غير ناف للاختلاس .
التسليم نتيجة انعدام الإدراك هو التسليم الذى يقع من مجنون أو من صغير غير مميز أو سكران ، والتسليم نتيجة انعدام الاختيار هو ذلك الذى يقع من مكره ، وكلاهما غير ناف للاختلاس إذ شأن التسليم فى ذلك شأن الرضاء بالسرقة على ما وضحناه عند الكلام فى هذا الأخير ، وقد قلنا أنه لا عبرة بتسليم لا يصدر عن رضاء صحيح ، وإكراه المجنى عليه قد يكون ماديا كاستعمال العنف أو القوة ، كما قد يكون معنويا فيعدم الرضاء طالما كان جسيما وسببا دافعا للتسليم ، وفى الحالين لا تنصرف إرادة المكره إلى منح الجانى أية حيازة تامة ولا مؤقتة فلا محل للاعتداء بالتسليم الحاصل منه ، ولا للقول بأنه يكون نافيا للاختلاس .
ويلاحظ أن الإكراه ظرف مشدد للسرقة ، من طبيعته أن يغير وصف الواقعة من جنحة إلى جناية ، ولكن الإكراه الذى يحدث هذا الأثر هو الإكراه المادى ، وكذلك الإكراه المعنوى بالتهديد باستعمال سلاح ، أما صور الإكراه المعنوى الأخرى فهى لا تعد ظرفا مشددا يجعل الواقعة جناية ، ولكنها مادامت فى الجسامة بحيث يمكن القول بأنها أعدمت حرية المجنى عليه فى الاختيار أو أنقصت منها بدرجة ملموسة فإنها كفيلة بأن تعم كل أثر للتسليم ، ومن ثم لا تحول دون القول بحصول الاختلاس .
تقدير ربط الاختلاس بنظرية الحيازة المدنية .
هذه هى نظرية الحيازة المدنية ، وهذه هى أهم تطبيقاتها من الوجهة الجنائية إذا ما أريد ربطها بفعل التسليم لمعرفة أثره فى نفى الاختلاس أو عدم نفيه ، كما استقر عليها القضاء السائد ، ويلاحظ أن الرأى كان قد انتهى إلى أغلب نتائج ربط الاختلاس بنظرية الحيازة المدنية ، وعلى الوجه الآنف الذكر ، حتى قبل الاستعانة الصريحة بهذه النظرية .
فقد كان الشراح والقضاء قد انتهوا فى جانبهم الأقوى - وبعد قليل من التردد والاضطراب - إلى أن التسليم عن غلط أو تدليس ناف للاختلاس ، وذلك استنادا إلى القول بأن المال لا يكون حينئذ قد انتزاع بغير رضاء صاحبه ، بل مادام التسليم قد حصل فعلا ، وكان عن إرادة مدركة حرة ، فالرضاء يعد متوافرا .
ولذا أيضا كان من المسلم به من قبل أن التسليم عن عدم إدراك وتمييز ، أو عن عدم اختيار لا يكون - على العكس مما تقدم - نافيا للاختلاس لأن الرضاء لا يكون حينئذ قائما ، بالأقل الرضاء الصحيح المعول عليه والمنتج لأثاره قانونا .
أو بعبارة أخرى أن ما يطلبه القانون فى السرقة من عدم رضا المجنى عليه بانتزاع حيازة المال منه كان يعد أساسا قانونيا كافيا فى الكثير من الأمور السالفة إلا أنه كان للاستعانة بنظرية الحيازة المدينة فضل جعل هذا الأساس أكثر وضوحا ، وادعى لإيجاد ترابط واضح بين القانونين المدنى والجنائى فى هذا النطاق ، ومن ثم فى إزالة الكثير من دواعى التردد والاضطراب فى تلك الأمور .
وقد ظهرت أهمية هذا الترابط بشكل خاص فيما يتعلق بالتسليم بقصد تمكين اليد العارضة ، فقد أعطانا سندا واضحا للقول بتوافر السرقة أثبت قدما من ذريعة التسليم الاضطرارى ، التى سادت لفترة من الزمن ، والتى أخذت تتراجع تراجعا جليا إزاء هذا المنافس الجديد ، سواء فى مصر أم فى فرنسا - لما يشوبها من غموض وضعف فى الأساس الذى أسست عليه - على ما أشرنا إليه فيما سبق .
وهذا دليل جديد على أن الترابط بين القانونين الجنائى والمدنى ينبغى أن يعد - بوجه عام - أمرا مرغوبا فيه كلما أمكن تحقيقه ، بالأقل عندما تكون القواعد المدنية قريبة إلى الواقع من الأمور ، ذلك لأن قواعد المسئولية الجنائية بما تنطوى عليه من خطورة خاصة لوثيق صلتها بحريات الأفراد ومستقبلهم ونظرة المجتمع لهم لا ينبغى أن تقام إلا على حقيقة الحال كما تجرى بها الحياة كل يوم ، ودون أن يتسع فيها مجال يذكر للكثير من الحلول الافتراضية أو التحكمية التى تلعب دورا ذا شأن كبير فى النطاق المدنى ، والتى كثيرا ما تقف عقبة دون تحقيق هذا الترابط على نطاق أوسع مما هو قائم الآن ، وقد تدعو أحيانا إلى تخطى قواعد القانون المدنى على ما سنقابله فى أكثر من موضع فيما بعد .
_______________________
( 1 )   د /  رؤوف عبيد -  جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال - ص 314
 (2) د / رؤوف عبيد ، جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال ، ص 315 .
( 3 )  د / رؤوف عبيد - جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال - ص 320
( 4 ) راجع فى ذلك د/ عبد العظيم مرسى - جرائم الأموال - فقرة 370
( 5 ) راجع فى ذلك د/ محمد زكى أبو عامر - قانون العقوبات القسم الخاص - ص 621