مقدمة:
لقد اجتهدت
الشعوب منذ القديم في وضع قوانين كثيرة تهدف من خلالها للسيطرة و
التحكم في
العلاقات الإجتماعية،فتلاحقت مختلف الحضارات القديمة وتتابعت،ولكن الفكرة الأساسية
التي كانت سائدة لدى معظم الحكام هي الإستحواذ والسيطرة وبسط النفوذ.
أما في
العهود الحديثة،فمازال الإجتهاد متواصلا من أجل تحرير قوانين تهدف إلى تحقيق العدالة، فلا يدان البرئ ولا يفلت المجرم
من العقاب، وكون الجريمة ظهرت بظهور
الإنسان فلطالما كانت الشعوب سواء القديمة أو الحديثة تسعى لوضع حد لها،
فإختلفت
العقوبة بدورها بإخلاف الحضارات التي تعملها.
وبماأن
الجريمة والعقوبة من مواضيع القانون الجنائي كان لابد من التعريف به، وهو مجموع
القواعد التي تحدد التنظيم القانوني للفعل المجرم ورد فعل المجتمع إزاء مرتكب هذا
الفعل سواء بتطبيق عقوبة أو تدبير أمن، كما يشتمل أيضا على القواعد الإجرائية التي
تنظم الدعوى الجنائية، فالقانون الجنائي على هذا النحو يشتمل على نوعين من القواعد
القانونية : قواعد موضوعية تحدد الجريمة ورد فعل المجتمع تجاه فعل الجاني وتضم تلك
القواعد مجموعة قوانين العقوبات،كما يتضمن أيضا قواعد الإجراءات الواجب إتخاذها في
كافة مراحل الدعوى الجنائية من جمع إستدلالات وإجراء تحقيق والمحاكمة فالحكم
والطعن في الأحكام وتنفيذ العقوبة وتنتظم تلك القواعد تحت عنوان قانون الإجراءات
الجزائية.
فالقانون
الجنائي كماهو معلوم، جزء من النظام القنوني العام الذي تتضامن قواعده فيما بينها
لتنظيم المجتمع، وبما أن القانون الجنائي بجميع قواعده فرع من فروع القانون العام،
فالدولة عن طريق النيابة العامة هي المختصة بمباشرة الدعوى الجنائية حتى لو صفح
المجني عليه عن الجاني وليس للمجني عليه سلطة على الدعوى العمومية عند تحريكها أو
مباشرتها من قبل ممثلي الحق العام، وليس له أو للمتهم شأن في إختيار العقوبة والتي
ستسلط طبعا من قضاة الحكم الجزائي.
كما أن
ظاهرة الجريمة تمثل أهم الموضوعات التي تناولها القانون الجنائي، وبما أن غالب
التشريعات الجنائية لم تنص على تعريف عام للجريمة إلا أننا يمكن أن نعرفها على
أنها نشاط غير مشروع سواء بعمل أو بإمتناع عن عمل يقرر له القانون عقوبة أو تدبير أمن وقائي وإحترازي، ويأتيه الشخص عن
عمد أو إهمال، ويعتبر هذا التعريف شاملا لجميع الأركان اللازمة لقيام الجريمة
،والتي تتمثل أولا في الركن المادي متضمن لعناصره الأساسة من نشاط إجرامي ونتيجة
إجرامية وعلاقة سببية بينهما، وثانيا الركن الشرعي الذي يقصد منه النص عبر القانون
العقابي أو القوانين الملحقة والمكملة له على عدم مشروعية الفعل أو الإمتناع،
وأخيرا الركن المعنوي وهو القصد الجنائي أو نية الإجرام وإرتكاب الخالفات الجزائية
المعاقب عليها.
وتقسم
الجرائم حسب المادة27 من قانون العقوبات تبعا لخطورتهاوأثرها المخل بإستقرار
المجتمع إلى :جنايات ،جنح ،ومخالفات ،ووضع المشرع لكل نوع منها عقوبات خاصة
ومختلفة عن بعضها في الشدة وكيفية التنفيذ وهذا تبعا لنص المادة 5 من قانون
العقوبات.
1
فبوقوع
الجريمة ينشأ للدولة حق معاقبة الجاني، وإذا رأت النيابة العامة- كونها السلطة
المختصة بالإتهام- تحريك الدعوى العمومية قبل المتهم فإنها تكلفه بالحضور مباشرة
أمام المحكمة إذا كانت الجريمة مخالفة أو جنحة متلبس بها ،غير أن النيابة
العامة قد ترى التثبت من التحريات
والإستدلالات التي جمعت بفحصها وتمحيصها ، وذلك من خلال إجراء التحقيق الإبتدائي
الذي يوجبه القانون بالنسبة للجنايات وجنح الأحدات الإقتصادية والجمركية ،بينما
يجاز التحقيق الإبتدائي في باقي الجنح والمخالفات ، وإثر الإنتهاء من التحقيق تحال
الدعوى العمومية إلى المحكمة الجزائية لمحاكمة المتهم.
وكون
المحاكم الجزائية تفصل في الدعوى حسب الوصف القانوني للجريمة فهي نوعان:
-
محكمة الجنح والخالفات وتفصل في الجرائم الموصوفة جنح ومخالفات
-
ومحكمة الجنايات-موضوع هذا البحث- وتختص بالفصل في الأفعال الموصوفة
قانونا بأنها جنايات.
والسؤال الذي
يثار في هذه المسألة : هو لماذا خص المشرع محكمة الجنايات بنوع معين من الجرائم وما الذي يميزها عن سائر
المحاكم الجزائية، وهل أحاط المشرع بها
ضمانات إجرائية كافية وكفبلة بضمان حسن
وسلامة قصائها؟
ولقد
إعتمدت المنهج التحليلي زالتركيبي كأدوات منهجية قصد معالجة هذه الإشكالية وفقا
للخطة التالية:
مقدمة
-الفصل
التمهيدي: ماهية محكمة الجنايات
-الفصل
الأول: الهيكلة التنظيمية لمحكمة الجنايات و إنعقادها
-الفصل
الثاني: إختصاص محكمة الجنايات وإجراءاتها
-الفصل
الثالث: حقوق الدفاع و الأحكام الصادرة عن محكمة الجنايات
خاتمة
2
لإبراز
محكمة الجنايات كان لابد من التطرق في هذا الفصل التمهيدي إلى عدة مفاهيم وتعاريف
وتعاريف ومصطلحات تخص لب الموضوع، وقبل اللجوء إلى صلبه وجب علينا ذكر لمحة
تاريخية عن نشأة وتطور هذه المحكمة والتنظيم والإجراءات التي كانت خاضعة لها من
جهة، ومن جهة ثانية التطرق إلى أهم الخصائص التي تميزها، وذلك من خلال مبحثين
الأول يقود إلى تطور النظام القضائي والإجرائي وأخص دراستي على العهد البربري و
الروماني في مطلب مستقل والعهد الإسلامي في مطلب ثان وخلال الإحتلال الفرنسي في
مطلب ثالث.
ثم سأحاول
تخصيص المبحث الثاني في إبراز خصائص محكمة الجنايات.
المبحث
الأول: تطور النظام القضائي والإجرائي:
لكي تتمكن
محكمة الجنايات من العمل بصورة طبيعية لابد لها من إتباع تنظيم وإجراءات معينة،
حيث أن هذا النظام القضائي كان يعتمد قديما على قناصله، سواء حكام أو قضاة يعينون
جراء ظهور منازعات تتنوع وتتعدد في كل الميادين،منها: الميدان السياسي و المدني
إلى الجنائي فإلى آخره، ولكن يلاحظ أن هذه المناصب القضائية لم تكن تتسم بدقة
التنظيم، ومن ذلك مثلا هيئة الفصل في القضايا الجنائية حيث كلف في هذا الشأن شخصان
لهما هيئة خاصة تدعى duaviri perduellions (1)، وتتمحور لنا جل مهام هذه الهيئة
في الفصل في قضايا الجرائم العامة كجريمة قتل رب الأسرة والتي كانت تفرض بشأنها
عقوبة الإعدام.
وفيما يخص
القضايا الجنائية الواردة قانونا فيعود إختصاصها إلى قضاة جرائم القتل و هم من يسمون بالكوايترز(2)، حيث يمثلون حكام
محققين ومختصين بالمسائل المالية،وبالتحقيق في القضايا الجنائية.
فمحكمة
الجنايات بدأت تتطور على غرار باقي المحاكم التي وجدت آنذاك لكن إجراءاتها إتسمت
بالإضطراب والتدهور أحيانا و أحيانا أخرى تحقق طفرات ملحوظة وتسير نحو الأحسن،
وهذا هو سر تطورها، إذا كنت تلك الإجراءات جميعها قد توصلوا إليها و إكتسبوها في
تلك الحقبة ، فالسؤال الذي يطرح نفسه،هو كيف تطورت محكمة الجنايات عبر العهود؟
وإلى أي
درجة كانت محكمة الجنايات تحقق العدالة على مستوى المستعمرات؟ هل قوانين وإجراءات
المحكمة كانت منصبة في قالب واحد أم أن الإستعمار كانت له إجراءاته الخاصة،
والمستعمر تطبق عليه إجراءات مخالفة؟
كل هذا وأسئلة أخرى تتعلق بمحكمة الجنايات وجدت نفسي
أمامها مضطر إلى بحث وضعية وظروف هذه
المستعمرات من جانب التنظيم القضائي والإجرائي على وجه الخصوص، إضافة إلى وقفة
شاملة على أهم الفوارق والتغييرات التي خدمت تطور محكمة الجنايات، وذلك من خلال
ثلاث مطالب متعاقبة.
(1): د
محمد محدة،ضمانات المشتبه فيه وحقوق الدفاع من العهد البربري حتى الإستقلال ، ج1 ،ص44
(2): د
محمد محدة،المرجع نفسه ،ص44
3
المطلب
الأول: تطور النظام القانوني والإجرائي خلال العهدين البربري والروماني:
بإعتبار
البربر أول سكان الجزائر فقد إمتازوا عن غيرهم بمواصفات تدل على حالتهم القانونية
والقضائية، في حين أن الرومان يعدون أول من إستعمر الجزائر لفترة زمنية طويلة، حيث
أثروا على البربر خاصة من الناحية القانونية، كما أن القضاء لم يكن مستقلا في
البداية ولا وجود لأشخاص متخصصين في المجال القضائي، وهذا ما يجعل النظام القضائي
ينبثق وينبع من النظام السياسي لتداخل المهام المتبادلةفيما بينهما.
الفرع
الأول: العهد البربري:
قبل التطرق
إلى النظام القضائي كان لابد من الإشارة إلى النظامين السياسي والإجتماعي
بإعتبارهما مصدر نشأة النظام القضائي، حيث أن البربر إمتازوا بالحياة البسيطة
القائمة على النظام الديمقراطي(1).
كما تأثر
البربر بالعهد القرطاجي والفنيقي، من خلال الصلاحيات الداخلية و الخارجية، والتي
تمتع بها هذين النظامين ، وهذا ما لعب دور كببر في نشأة وتطور النظام القضائي،
وهذا هو سر عدم إنفصال القضاء عن التشريع(2)، وأخذ النظام القضائي منعرجا مستقلا
بذاته، حيث حذا البربر حذو القرطاجيين في التنظيم القضائي و جعلوا له ناسا مختصين
ن توقفت مهمتهم في تولي أمر القضاء ، وحل النزاعات ، فإذا لم يفلح مجلس القضاة ولا
مجلس الجماعة(3) في ذلك رفع الأمر إلى المجلس الأعلى، وهذا ما يجعلنا نفرق بين تلك
المجالس وما تطبقه من عدالة ،إلى جانب المدة القانونية المتمثلة في نسبة واحدة
والممنوحة للقاضي.
الفرع
الثاني: العهد الروماني:
على غرار
العهد البربري فإن القضاء في تلك الحقبة من الزمن لم يكن مستقلا ذلك لإرتباطه
بالسلطة السياسية في تلك المرحلة كون النظام الملكي والقائم على الملك ومجلس
الشيوخ ومجلس الشعب.
فكان
التنظيم القضائي بسيط ، وإجراءاته بسيطة للغاية، حيث أن الملك هو صاحب الإختصاص
القضائي والمكلف بفض المنازعات والخصومات، فشخص الملك كان سلطة قضائية ، لا تخضع
لا لإجراءات معينة ، ولا قابلة للنقض أو
الإستئناف.
وهذا
بإختصار شديد عن الحكم الملكي ، والذي سرعان ما تغير إلى حكم جمهوري.
والعهد الجمهوري لم يكن إلا فأل خير للنظام القضائي، حيث
برز إلى الوجود رجال القضاء وصارت لهم مهام تسمى بالمهام القضائية، ويتولون أيضا
إدارة الجيش و إدارة الشؤون المدنية، فسلطتهم كانت أشبه بسلطة الملك وأحكامهم كانت
قابلة للإستئناف أو النقض ، لكن ليس أمام الجهة القضائية ، إنما أمام مجلس الشعب
أو مجلس الشيوخ ، فهذا الأخير كانت له صلاحيات
كثيرة و من بينها مثلا: إنتخاب القضاة للمناصب العليا، أما مجلس الشعب
فخولت له صلاحية إنتخاب القضاة للمناصب الدنيا فقط ، وكذا النظر في الإستئنافات
بالنسبة للدعاوي الجنائية الصادر فيها حكم بالإعدام على أحد المواطنين، ونظره في
ذلك إما بالإلغاء أو التاييد(4).
(1): د
محمد محدة ، المرجع السابق،ص19
(2): د
محمد محدة ،المرجع نفسه،ص20
(3): د
محمد محدة ،المرجع نفسه،ص28
(4): د
محمد محدة، المرجع السابق، ص41
4
و في آخر
المطاف يأتي العهد الإمبراطوري و الذي لا يختلف كثيرا عن سابقيه، من العهود، والشئ
الجديد الذي طرأ على النظام السياسي هو أنه قائم على الإمبراطور، وإلى جانبه مجلس
الشيوخ، ومجلس الشعب مع بعض التغييرات التي طرأت عليه.
أما
المحاكم الجزائية و المحاكم الجنائية ، فكان لها دور أساسي مع سعة الإختصاص حيث
بإمكان المواطن الروماني أن يطلب المحاكمة أمامها حتى لو إرتكب الفعل خارج روما.
كما ظهرت
إلى الوجود وبصورة واضحة الإجراءات الجنائية، وكفلت فيها بعض الحقوق الأساسية
للمتهمين.
فالعهد
الروماني لم يكتف بحدوده و إنما تغلغلت جذوره إلى أقاليم أخرى ، ومن بين ضحاياه
الجزائر ، والتي قسمها وإستقر فيها لمدة زمنية طويلة.
فالتنظيم
القضائي والإجرائي في الجزائر لم يتأثرا تماما، وهذا يعود إلى ممارسة الإستبداد
والتفرقة ، والظلم واللامساوات في الحقوق والإلتزامات بين الرومان و السكان
الأصليين(البربر) ، وكل هذا كان عن العهد الروماني.
(1): د
محمد محدة ،المرجع نفسه، ص82
5
المطلب
الثاني: تطور النظام القضائي والإجرائي خلال العهد الإسلامي :
إن الشريعة
الإسلامية لا تفصل بين جهة التحقيق والجهة الناظرة في الدعوى ، فالمحقق هو الحاكم نفسه ، فعند إحالة القضية إلى القاضي
، يقوم بكل المهام التي يقوم بها قاضي التحقيق حاليا ، وقد خضعت الجزائر على غرار
دول المشرق والمغرب لأحكام الشريعة
الإسلامية.
وحسب أحكام
الشريعة الإسلامية و المبادئ التي تنظم جهاز العدالة لم يحدد إطار تنظيمي للقضاء ،
ولكن في المقابل جعلت لذلك الجهاز قواعد عامة ودعائم أساسية يرتكز عليها ، وسأتطرق
في هذا المطلب إلى إلى الأصول والمبادئ الأساسية للإجراءات الجزائية في الشريعة
الإسلامبة ، وأهم الجهات المكلفة بالإجراءات من خلال ما يلي :
الفرع
الأول: الأصول والمبادئ الأساسية للإجراءات الجزائية في الشريعة الإسلامية:
سأعمد على
ذكر المبادئ والأصول التي تقوم عليها الإجراءات في قيام الدعوى والمتابعة في
الشريعة الإسلامية كالآتي:
أولا:
مبدأ المساواة: حرصت
الشريعة الإسلامية في ترتيباتها القضائية على ضمان العدالة للمتهمين، والمساواة
بينهم ، دون النظر إلى الفوارق الإجتماعية أو الإقتصادية أو العقيدة(1).
ثانيا :
أصل البراءة: هو أحد قواعد الفقه الجنائي الإسلامي والذي يراعى
في المحاكم الجنائية بصفة خاصة ، وفي نسبة
الفعل الآثم إلى شخص معين بالذات، وهذا يعني أن القضاء الجنائي الإسلامي لا يرضى
بدعوى مجردة من الدليل، ويؤمر القاضي بأن لا يصدر حكما إلا عن بينة، وكل هذا من
أجل الوصول إلى الأمان وإحقاق الحق و إنزال العدل ،وكان لابد من إقامة الدليل لأنه
الدرع الواقي للقاضي والمتهم معا.
وهذا
المبدأ يبقى ملازما للإنسان إلى حين صدور الحكم النهائي في حقه، أي أن يعامل
معاملة الأبرياء في جميع مراحل الدعوى الجنائية دون النظر إلى جسامة الجريمة
أوكيفية وقوعها(2)،لذا فمن إدعى على غيره حقا من الحقوق التي أقرها المشرع وإعترف
بها، فعليه الدليل لأن الأصل في الذمم البراءة
.
ثالثا:
مبدأ الشرعية: جعل مبدأ العدالة الركيزة الأساسية لقيام الدولة
وإستمرارها،
ولتحقيق
هذا المبدأ لابد من النص على مبدأ الشرعية بما يوفره من حماية للأفراد
من تحكم
السلطة وتعسفها.
ومبدأ الشرعية
جاء مرتبطا إرتباطا وطيدا بمبدأ سيادة الشريعة، وهذا ما يستوجب إحترامها من خلال
تطبيقها بصفة دقيقة على كل الجرائم بإختلاف أنواعها.
(1): د
محمد محدة ، المرجع السابق، ص103
(2): د
محمد محدة، المرجع السابق، ص112
6
الفرع
الثانى:الجهات المكلفة بالقيام بالإجراءات:
و سيتم
التطرق في هذا الفرع إلى الأجهزة المكلفة بالبحث عن الجرائم والتحقيق فيها و تحريك
الدعوى وتوقيع العقوبة وذلك على النحو التالي:
أولا
:رجال الشرطة: إن مهام رجال الشرطة- في العهد الإسلامي- كانت
تنحصر في تحقيق الأمن للأفراد وحفظ النظام العام بالإضافة إلى تنفيذ أوامر السلطات
و مساعدة عمال الخراج وإدارة السجون وتنفيذ أوامر القضاة(1)، في تطبيق العقوبات
بكل أنواعها سواء كانت قصاص أو حدود أو تعازير، أما ما كان في العهد الأموي ، فقد
أصبح رجل الشرطة- حسب رأي ديو مبين الفرنسي- منفذا لقرارات القاضي، كما كان يقضي
في بعض الجنح البسيطة غير المحدودة(2).
أما في عهد
العباسيين ثم بني زيان، فقد تغير حال الشرطة ولم يستمر على ذلك النحو من الثقة
والجدية، لذلك تفطن أولياء الأمور لهذا الوضع فقاموا بفرض رقابة عن طريق رجال الفقه
الشرعي.
ثانيا :
والي المظالم: ظهر هذا
النظام بعد مجئ الإسلام، ويعود سبب ظهوره إلى إنحراف بعض الخلفاء مما آدى إلى بروز
طبقة ذات جاه ونفوذ، وبالتالي الإعتداء على حقوق المواطنين من قبلها ، وقد تم
اللجوء لهذا النظام خاصة في العهد الأموي قصد التصدي لهذه الإعتداءات ورد الحقوق
لأصحابها، والجدير بالإشارة هنا أ، والي المظالم ليس قاضيا، وبذلك فهو يتمتع
بإستقلالية عن القضاء.
ثالثا:
المحتسب: تعبر وظيفة
المحتسب من أعظم الوظائف في الإسلام، حيث
جعلها بعض الفقهاء تتوسط بين وظيفة الشرطة و وظيفة القضاء(3)، وتتمثل إختصاصات
المحتسب في مراقبة أداء العبادات والقيام على نظافة المساجد و الحفاظ على هيبتها،
كما يقوم بمراقبة الأخلاق والآداب العامة بالإضافة إلى مراقبة الأسعار والموازين،
والتي
تعتبر من أكبر مهام المحتسب.
المطلب
الثالث: تطور النظام القضائي و الإجرائي خلال الإحتلال الفرنسي للجزائر:
منذ الإحتلال الفرنسي للجدزائر، عرف النظام الإجرائي
القضائي تطورا ملحوظا ، حيث جاء بأفكار سياسية تهدف للسيطرة على زمام الأمور وفرض
الهيمنة الفرنسية على الأراضي المحتلة، وإتسمت هذه المرحلة بقمع الحركات التحررية
،التي لم تتمكن الدولة الفرنسية من إخمادها مطلقا، وهذا ما دفع السلطات الفرنسية
إلى إصدار نصوص تشريعية تخول للقاضي الفرنسي إتخاذ جميع الصلاحيات والسلطات
التشريعية و التنظيمية، ومن هنا ظهر نظام الإزدواجية بوجود قضاء خاص بالفرنسيين
ويحترم كل الضمانات القانونية الموجودة، وآخر خاص بالجزائريين، وهذا رغم وحدة
المؤسسات القضائية والناظرة في نفس المواضيع المطروحة، أما بالنسبة للنظام
القانوني والإجرائي الإسلامي ،فلم يطبق إلا في الأحوال الشخصية.
(1): د
محمد محدة ، المرجع السابق،ص125
(2): د
محمد محدة ، المرجع نفسه، ص126
(3): دمحمد
محدة ، المرجع نفسه، ص145
7
الفرع
الأول: الإختلافات التمييزية بين الأوروبيين والجزائريين في التجريم والعقاب:
إن هذه
الإختلافات نتناولها في جزئين: جزء خاص بالتجريم ، وجزء آخر يخص العقاب على إنتهاك
النصوص التجريمية.
أولا:
الإختلافات المتعلقة بالتجريم:
إن قانون الإنديجينا ، والذي إشتمل على مجموعة من المخالفات التي يتابع عليها
الأهالي بالحبس من 05 أيام،و 15فرنك كغرامة كحد أدنى ، وهي أفعال مجرمة في القانون
الفرنسي دون أن يتسع تطبيقها أوتتميز بالعمومية ، بل هي مجرد قواعد عقابية خاصة
تؤكد وجود سلطة إستعمارية بالجزائر(1).
ثانيا:
الإختلافات المتعلقة بالعقاب: إن
الإختلاف الموضوعي من ناحية العقوبة أنه لم يطبق القانون الفرنسي مبدأ الشرعية في
الجزائر ،وكذلك مبدأشخصية العقوبة، وغيرها من المبادئ، وهذا ما يدل عليه القرار
التغريمي الذي أصدره أحد مرشالات القيادة العسكرية الفرنسية بالجرائر في 22
جانفي1844، والقاضي بتغريم الأهالي سواء منهم الأبرياء أو المذنبين ،في حالة حرق
الغابات ، لكنه ألغي في عهد الإمبراطور نابوليون الثالث، ليعود العمل به بصدور
المنشور الوزاري في 08 مارس 1859(2).
الفرع
الثاني: الإختلافات المتعلقة بالإجراءات والتنظيم:
لإبراز وجود
التفرقة ضمن تلك الإجراءات لابد من الإشارة إلى الإختلافات الشكلية والإجرائية
وذلك فيما يلي:
أولا
:الإختلافات الإجرائية: إن
الإجراءات المطبقة على الجزائريين والفرنسيين هي من الأوجه البارزة في التمييز
والتفرقة، وما يدل على هذا ، هو تلك الإجراءات المطبقة على الفرنسيين والتي تفصل
بين جهة التحريات والنيابة ،من جانب ،ومن جانب آخر الفصل بين سلطة الإتهام(النيابة
العامة) وسلطة التحقيق المجسدة في قاضي التحقيق الذي يحضى بإستقلال كامل، وكل هذا
من أجل الحفاظ على حقوق المتهمين، ولتوفير أكبر قسط ممكن من العدالة ما لم تثبت
الإدانة، بينما يتجرد الجزائريين من كل هذه الحقوق، والحامي الوحيد لحقوقهم
وحرياتهم هو مأمور الضبط القضائي المتمتع بكامل الصلاحيات، كما أعتبرت كل الجرائم
المرتكبة من الجزائريين متلبس بها ،وبالتالي تخضع للقضاء السريع(3).
(1): د
محمد محدة ، المرجع السابق،ص173
(2): د
محمد محدة، المرجع نفسه ، ص176-177-178
(3): د
محمد محدة ، المرجع نفسه ،ص 180
9
ثانيا:
الإختلافات الشكلية: وهذه
الإختلافات نجدها في تشكيلات المحاكم الجزائية التي تنظر في الجنح والمخالفات
المرتكبة من المواطنين الجزائريين، بحيث تتكون من قاض فرنسي رئيسا وعضوين جزائريين
،يعينان خاصة ممن ليس لديهم معرفة ودراية بالقانون ، وهذا ما يحصل أيضا بمحكمة
الجنايات الخاصة بالجزائريين ، و قد أثر على
نتائج الإحصاءات الخاصة بالمحاكم ومايصدر عنها من أحكام، ومن ثم كانت الإحصاءات
التي أجريت ما بين سنتي 1903و1913 في مقارنة بين أحكام محاكم الجنايات التي تعرض عليها أحوال المسلمين و أحكام
محاكم الجنايات التي يتابع أمامها الأوروبيين كالآتي:
نسبة
البراءة 17% بالنسبة للمحاكم الجنائية التي يتابع فيها المسلمين، مقارنة بـ44%
بالنسبة للمحاكم الجنائية التي يتابع أمامها الأوروبيين.
كما أن
المناطق المدنية كانت المحاكم تطبق فيها أشد العقوبات والإجراءات على الجزائريين
مهما كانت المرحلة التي تمر بها الدعوى ، أما المناطق العسكرية بالجنوب وغيرها ،
فكان فض المنازعات وتوقيع العقاب من إختصاص الجيش ،
وهذا ما
جاء بإنعكاسات سلبية ، وما يلاحظ أيضا أن هناك جهاز إداري يقوم بتوقيع الجزاءات
على الأشخاص رغم أنه لا يمد بأي صلة إلى الجهاز القضائي المختص أصلا بذلك ومن ذلك
(1) :
1- الحاكم العام: ويستطيع أن يوقع
عقوبة الحبس إضافة إلى غرامة مالية قدرها 1000 فرنك فرنسي ، وهذا على مستوى
الأراضي المدنية.
أما المناطق العسكرية وأراضي الجنوب ،فإن اللجان الزجرية
العسكرية هي التي توقع تلك العقوبة.
2- لجنة الدائرة : وتوقع عقوبة
تصل إلى شهرين حبسا وغرامة تقدر بمائة ألف فرنك ، وقد يقوم بهذا أيضا قائد الغرفة
العسكرية.
3- قائد إقليمي : ويوقع عقوبة شهر
حبسا و ثلاثمائة فرنك كغرامة.
4- قائد مركزي : ويستطيع توقيع
عقوبة ثمانية أيام حبسا وثلاثين فرنك كغرامة.
5- قادة محليون : مهما علت درجتهم
يستطعون توقيع عقوبة عشرين فرنك كغرامة لكن لا تنفذ إلا بعد مصادقة السلطات
الفرنسية.
و أمام هذه الوضعية المزرية قامت جبهة التحرير بإيجاد
لجان سمتها بـ: اللجان الشرعية للمثول أمامها كجهاز قضائي بدلا من المثول
أمام الجهاز القضائي الفرنسي والتعرض لأعماله التعسفية الظالمة، وقد كانت هذه
الجان تقضي وفقا لقانون وضعته جبهة التحرير الوطني ليتماشى مع أخلاق وعادات
الجزائريين.
وكانت كل الأعمال والأقضية التي تتناولها اللجان الثورية
تسجل في إستمارات خاصة، أما إذا وجدت نفسها عاجزة عن حل قضية ما ، فإنها ترسلها
إلى السلطات الأعلى منها ، لتقوم هي بدورها بالبحث فيها لترسل في النهاية نسخة من الحكم إلى نفس الجهة أو اللجنة المعنية
بالأمر لتبلغ الحكم الصادر لهم أو عليهم ، لتنفذه بنفسها.
(1)
: د محمد محدة ، المرجع السابق ، ص184
10
و ما يميز
هذه الأحكام الصادرة ، أنها غبر قابلة لأي
نقض أو إستئناف ،كما أنها تكون دائما مسبوقة بعملية صلح (1).
ورغم بساطة
الجهاز القضائي الموجود إبان الثورة التحريرية ، وقلة قوانينه وإجراءاته إلا أنه
كان محافظا على حقوق الخصوم محققا بقضائه وفصله في المنازاعات العدل والإنصاف الذي
لم تبلغه أجهزة القضاء الفرنسي يكل ترسانتها القانونية ، وهذا ما يدل عليه ما كان
من حق ناله المتهم في أن يختار مدافعا عنه، بشرط أن يطلع على ملفه بثلاثة أيام قبل
المحاكمة ، كما يمكن لهذا المدافع طرح الأسئلة على الشهود ومناقشتهم .
ونتيجة
لهذا كله نالت أحكامها رغم بساطة أجهزتها ثقة الجزائريين والمتقاضين الشئ الذي سهل
عملها في كثير من الأحيان(2).
(1)
: محمد محدة ،المرجع نفسه ، ص185
(2)
: محمد محدة ، المرجع نفسه ، ص186
لقد اجتهدت
الشعوب منذ القديم في وضع قوانين كثيرة تهدف من خلالها للسيطرة و
التحكم في
العلاقات الإجتماعية،فتلاحقت مختلف الحضارات القديمة وتتابعت،ولكن الفكرة الأساسية
التي كانت سائدة لدى معظم الحكام هي الإستحواذ والسيطرة وبسط النفوذ.
أما في
العهود الحديثة،فمازال الإجتهاد متواصلا من أجل تحرير قوانين تهدف إلى تحقيق العدالة، فلا يدان البرئ ولا يفلت المجرم
من العقاب، وكون الجريمة ظهرت بظهور
الإنسان فلطالما كانت الشعوب سواء القديمة أو الحديثة تسعى لوضع حد لها،
فإختلفت
العقوبة بدورها بإخلاف الحضارات التي تعملها.
وبماأن
الجريمة والعقوبة من مواضيع القانون الجنائي كان لابد من التعريف به، وهو مجموع
القواعد التي تحدد التنظيم القانوني للفعل المجرم ورد فعل المجتمع إزاء مرتكب هذا
الفعل سواء بتطبيق عقوبة أو تدبير أمن، كما يشتمل أيضا على القواعد الإجرائية التي
تنظم الدعوى الجنائية، فالقانون الجنائي على هذا النحو يشتمل على نوعين من القواعد
القانونية : قواعد موضوعية تحدد الجريمة ورد فعل المجتمع تجاه فعل الجاني وتضم تلك
القواعد مجموعة قوانين العقوبات،كما يتضمن أيضا قواعد الإجراءات الواجب إتخاذها في
كافة مراحل الدعوى الجنائية من جمع إستدلالات وإجراء تحقيق والمحاكمة فالحكم
والطعن في الأحكام وتنفيذ العقوبة وتنتظم تلك القواعد تحت عنوان قانون الإجراءات
الجزائية.
فالقانون
الجنائي كماهو معلوم، جزء من النظام القنوني العام الذي تتضامن قواعده فيما بينها
لتنظيم المجتمع، وبما أن القانون الجنائي بجميع قواعده فرع من فروع القانون العام،
فالدولة عن طريق النيابة العامة هي المختصة بمباشرة الدعوى الجنائية حتى لو صفح
المجني عليه عن الجاني وليس للمجني عليه سلطة على الدعوى العمومية عند تحريكها أو
مباشرتها من قبل ممثلي الحق العام، وليس له أو للمتهم شأن في إختيار العقوبة والتي
ستسلط طبعا من قضاة الحكم الجزائي.
كما أن
ظاهرة الجريمة تمثل أهم الموضوعات التي تناولها القانون الجنائي، وبما أن غالب
التشريعات الجنائية لم تنص على تعريف عام للجريمة إلا أننا يمكن أن نعرفها على
أنها نشاط غير مشروع سواء بعمل أو بإمتناع عن عمل يقرر له القانون عقوبة أو تدبير أمن وقائي وإحترازي، ويأتيه الشخص عن
عمد أو إهمال، ويعتبر هذا التعريف شاملا لجميع الأركان اللازمة لقيام الجريمة
،والتي تتمثل أولا في الركن المادي متضمن لعناصره الأساسة من نشاط إجرامي ونتيجة
إجرامية وعلاقة سببية بينهما، وثانيا الركن الشرعي الذي يقصد منه النص عبر القانون
العقابي أو القوانين الملحقة والمكملة له على عدم مشروعية الفعل أو الإمتناع،
وأخيرا الركن المعنوي وهو القصد الجنائي أو نية الإجرام وإرتكاب الخالفات الجزائية
المعاقب عليها.
وتقسم
الجرائم حسب المادة27 من قانون العقوبات تبعا لخطورتهاوأثرها المخل بإستقرار
المجتمع إلى :جنايات ،جنح ،ومخالفات ،ووضع المشرع لكل نوع منها عقوبات خاصة
ومختلفة عن بعضها في الشدة وكيفية التنفيذ وهذا تبعا لنص المادة 5 من قانون
العقوبات.
1
فبوقوع
الجريمة ينشأ للدولة حق معاقبة الجاني، وإذا رأت النيابة العامة- كونها السلطة
المختصة بالإتهام- تحريك الدعوى العمومية قبل المتهم فإنها تكلفه بالحضور مباشرة
أمام المحكمة إذا كانت الجريمة مخالفة أو جنحة متلبس بها ،غير أن النيابة
العامة قد ترى التثبت من التحريات
والإستدلالات التي جمعت بفحصها وتمحيصها ، وذلك من خلال إجراء التحقيق الإبتدائي
الذي يوجبه القانون بالنسبة للجنايات وجنح الأحدات الإقتصادية والجمركية ،بينما
يجاز التحقيق الإبتدائي في باقي الجنح والمخالفات ، وإثر الإنتهاء من التحقيق تحال
الدعوى العمومية إلى المحكمة الجزائية لمحاكمة المتهم.
وكون
المحاكم الجزائية تفصل في الدعوى حسب الوصف القانوني للجريمة فهي نوعان:
-
محكمة الجنح والخالفات وتفصل في الجرائم الموصوفة جنح ومخالفات
-
ومحكمة الجنايات-موضوع هذا البحث- وتختص بالفصل في الأفعال الموصوفة
قانونا بأنها جنايات.
والسؤال الذي
يثار في هذه المسألة : هو لماذا خص المشرع محكمة الجنايات بنوع معين من الجرائم وما الذي يميزها عن سائر
المحاكم الجزائية، وهل أحاط المشرع بها
ضمانات إجرائية كافية وكفبلة بضمان حسن
وسلامة قصائها؟
ولقد
إعتمدت المنهج التحليلي زالتركيبي كأدوات منهجية قصد معالجة هذه الإشكالية وفقا
للخطة التالية:
مقدمة
-الفصل
التمهيدي: ماهية محكمة الجنايات
-الفصل
الأول: الهيكلة التنظيمية لمحكمة الجنايات و إنعقادها
-الفصل
الثاني: إختصاص محكمة الجنايات وإجراءاتها
-الفصل
الثالث: حقوق الدفاع و الأحكام الصادرة عن محكمة الجنايات
خاتمة
2
لإبراز
محكمة الجنايات كان لابد من التطرق في هذا الفصل التمهيدي إلى عدة مفاهيم وتعاريف
وتعاريف ومصطلحات تخص لب الموضوع، وقبل اللجوء إلى صلبه وجب علينا ذكر لمحة
تاريخية عن نشأة وتطور هذه المحكمة والتنظيم والإجراءات التي كانت خاضعة لها من
جهة، ومن جهة ثانية التطرق إلى أهم الخصائص التي تميزها، وذلك من خلال مبحثين
الأول يقود إلى تطور النظام القضائي والإجرائي وأخص دراستي على العهد البربري و
الروماني في مطلب مستقل والعهد الإسلامي في مطلب ثان وخلال الإحتلال الفرنسي في
مطلب ثالث.
ثم سأحاول
تخصيص المبحث الثاني في إبراز خصائص محكمة الجنايات.
المبحث
الأول: تطور النظام القضائي والإجرائي:
لكي تتمكن
محكمة الجنايات من العمل بصورة طبيعية لابد لها من إتباع تنظيم وإجراءات معينة،
حيث أن هذا النظام القضائي كان يعتمد قديما على قناصله، سواء حكام أو قضاة يعينون
جراء ظهور منازعات تتنوع وتتعدد في كل الميادين،منها: الميدان السياسي و المدني
إلى الجنائي فإلى آخره، ولكن يلاحظ أن هذه المناصب القضائية لم تكن تتسم بدقة
التنظيم، ومن ذلك مثلا هيئة الفصل في القضايا الجنائية حيث كلف في هذا الشأن شخصان
لهما هيئة خاصة تدعى duaviri perduellions (1)، وتتمحور لنا جل مهام هذه الهيئة
في الفصل في قضايا الجرائم العامة كجريمة قتل رب الأسرة والتي كانت تفرض بشأنها
عقوبة الإعدام.
وفيما يخص
القضايا الجنائية الواردة قانونا فيعود إختصاصها إلى قضاة جرائم القتل و هم من يسمون بالكوايترز(2)، حيث يمثلون حكام
محققين ومختصين بالمسائل المالية،وبالتحقيق في القضايا الجنائية.
فمحكمة
الجنايات بدأت تتطور على غرار باقي المحاكم التي وجدت آنذاك لكن إجراءاتها إتسمت
بالإضطراب والتدهور أحيانا و أحيانا أخرى تحقق طفرات ملحوظة وتسير نحو الأحسن،
وهذا هو سر تطورها، إذا كنت تلك الإجراءات جميعها قد توصلوا إليها و إكتسبوها في
تلك الحقبة ، فالسؤال الذي يطرح نفسه،هو كيف تطورت محكمة الجنايات عبر العهود؟
وإلى أي
درجة كانت محكمة الجنايات تحقق العدالة على مستوى المستعمرات؟ هل قوانين وإجراءات
المحكمة كانت منصبة في قالب واحد أم أن الإستعمار كانت له إجراءاته الخاصة،
والمستعمر تطبق عليه إجراءات مخالفة؟
كل هذا وأسئلة أخرى تتعلق بمحكمة الجنايات وجدت نفسي
أمامها مضطر إلى بحث وضعية وظروف هذه
المستعمرات من جانب التنظيم القضائي والإجرائي على وجه الخصوص، إضافة إلى وقفة
شاملة على أهم الفوارق والتغييرات التي خدمت تطور محكمة الجنايات، وذلك من خلال
ثلاث مطالب متعاقبة.
(1): د
محمد محدة،ضمانات المشتبه فيه وحقوق الدفاع من العهد البربري حتى الإستقلال ، ج1 ،ص44
(2): د
محمد محدة،المرجع نفسه ،ص44
3
المطلب
الأول: تطور النظام القانوني والإجرائي خلال العهدين البربري والروماني:
بإعتبار
البربر أول سكان الجزائر فقد إمتازوا عن غيرهم بمواصفات تدل على حالتهم القانونية
والقضائية، في حين أن الرومان يعدون أول من إستعمر الجزائر لفترة زمنية طويلة، حيث
أثروا على البربر خاصة من الناحية القانونية، كما أن القضاء لم يكن مستقلا في
البداية ولا وجود لأشخاص متخصصين في المجال القضائي، وهذا ما يجعل النظام القضائي
ينبثق وينبع من النظام السياسي لتداخل المهام المتبادلةفيما بينهما.
الفرع
الأول: العهد البربري:
قبل التطرق
إلى النظام القضائي كان لابد من الإشارة إلى النظامين السياسي والإجتماعي
بإعتبارهما مصدر نشأة النظام القضائي، حيث أن البربر إمتازوا بالحياة البسيطة
القائمة على النظام الديمقراطي(1).
كما تأثر
البربر بالعهد القرطاجي والفنيقي، من خلال الصلاحيات الداخلية و الخارجية، والتي
تمتع بها هذين النظامين ، وهذا ما لعب دور كببر في نشأة وتطور النظام القضائي،
وهذا هو سر عدم إنفصال القضاء عن التشريع(2)، وأخذ النظام القضائي منعرجا مستقلا
بذاته، حيث حذا البربر حذو القرطاجيين في التنظيم القضائي و جعلوا له ناسا مختصين
ن توقفت مهمتهم في تولي أمر القضاء ، وحل النزاعات ، فإذا لم يفلح مجلس القضاة ولا
مجلس الجماعة(3) في ذلك رفع الأمر إلى المجلس الأعلى، وهذا ما يجعلنا نفرق بين تلك
المجالس وما تطبقه من عدالة ،إلى جانب المدة القانونية المتمثلة في نسبة واحدة
والممنوحة للقاضي.
الفرع
الثاني: العهد الروماني:
على غرار
العهد البربري فإن القضاء في تلك الحقبة من الزمن لم يكن مستقلا ذلك لإرتباطه
بالسلطة السياسية في تلك المرحلة كون النظام الملكي والقائم على الملك ومجلس
الشيوخ ومجلس الشعب.
فكان
التنظيم القضائي بسيط ، وإجراءاته بسيطة للغاية، حيث أن الملك هو صاحب الإختصاص
القضائي والمكلف بفض المنازعات والخصومات، فشخص الملك كان سلطة قضائية ، لا تخضع
لا لإجراءات معينة ، ولا قابلة للنقض أو
الإستئناف.
وهذا
بإختصار شديد عن الحكم الملكي ، والذي سرعان ما تغير إلى حكم جمهوري.
والعهد الجمهوري لم يكن إلا فأل خير للنظام القضائي، حيث
برز إلى الوجود رجال القضاء وصارت لهم مهام تسمى بالمهام القضائية، ويتولون أيضا
إدارة الجيش و إدارة الشؤون المدنية، فسلطتهم كانت أشبه بسلطة الملك وأحكامهم كانت
قابلة للإستئناف أو النقض ، لكن ليس أمام الجهة القضائية ، إنما أمام مجلس الشعب
أو مجلس الشيوخ ، فهذا الأخير كانت له صلاحيات
كثيرة و من بينها مثلا: إنتخاب القضاة للمناصب العليا، أما مجلس الشعب
فخولت له صلاحية إنتخاب القضاة للمناصب الدنيا فقط ، وكذا النظر في الإستئنافات
بالنسبة للدعاوي الجنائية الصادر فيها حكم بالإعدام على أحد المواطنين، ونظره في
ذلك إما بالإلغاء أو التاييد(4).
(1): د
محمد محدة ، المرجع السابق،ص19
(2): د
محمد محدة ،المرجع نفسه،ص20
(3): د
محمد محدة ،المرجع نفسه،ص28
(4): د
محمد محدة، المرجع السابق، ص41
4
و في آخر
المطاف يأتي العهد الإمبراطوري و الذي لا يختلف كثيرا عن سابقيه، من العهود، والشئ
الجديد الذي طرأ على النظام السياسي هو أنه قائم على الإمبراطور، وإلى جانبه مجلس
الشيوخ، ومجلس الشعب مع بعض التغييرات التي طرأت عليه.
أما
المحاكم الجزائية و المحاكم الجنائية ، فكان لها دور أساسي مع سعة الإختصاص حيث
بإمكان المواطن الروماني أن يطلب المحاكمة أمامها حتى لو إرتكب الفعل خارج روما.
كما ظهرت
إلى الوجود وبصورة واضحة الإجراءات الجنائية، وكفلت فيها بعض الحقوق الأساسية
للمتهمين.
فالعهد
الروماني لم يكتف بحدوده و إنما تغلغلت جذوره إلى أقاليم أخرى ، ومن بين ضحاياه
الجزائر ، والتي قسمها وإستقر فيها لمدة زمنية طويلة.
فالتنظيم
القضائي والإجرائي في الجزائر لم يتأثرا تماما، وهذا يعود إلى ممارسة الإستبداد
والتفرقة ، والظلم واللامساوات في الحقوق والإلتزامات بين الرومان و السكان
الأصليين(البربر) ، وكل هذا كان عن العهد الروماني.
(1): د
محمد محدة ،المرجع نفسه، ص82
5
المطلب
الثاني: تطور النظام القضائي والإجرائي خلال العهد الإسلامي :
إن الشريعة
الإسلامية لا تفصل بين جهة التحقيق والجهة الناظرة في الدعوى ، فالمحقق هو الحاكم نفسه ، فعند إحالة القضية إلى القاضي
، يقوم بكل المهام التي يقوم بها قاضي التحقيق حاليا ، وقد خضعت الجزائر على غرار
دول المشرق والمغرب لأحكام الشريعة
الإسلامية.
وحسب أحكام
الشريعة الإسلامية و المبادئ التي تنظم جهاز العدالة لم يحدد إطار تنظيمي للقضاء ،
ولكن في المقابل جعلت لذلك الجهاز قواعد عامة ودعائم أساسية يرتكز عليها ، وسأتطرق
في هذا المطلب إلى إلى الأصول والمبادئ الأساسية للإجراءات الجزائية في الشريعة
الإسلامبة ، وأهم الجهات المكلفة بالإجراءات من خلال ما يلي :
الفرع
الأول: الأصول والمبادئ الأساسية للإجراءات الجزائية في الشريعة الإسلامية:
سأعمد على
ذكر المبادئ والأصول التي تقوم عليها الإجراءات في قيام الدعوى والمتابعة في
الشريعة الإسلامية كالآتي:
أولا:
مبدأ المساواة: حرصت
الشريعة الإسلامية في ترتيباتها القضائية على ضمان العدالة للمتهمين، والمساواة
بينهم ، دون النظر إلى الفوارق الإجتماعية أو الإقتصادية أو العقيدة(1).
ثانيا :
أصل البراءة: هو أحد قواعد الفقه الجنائي الإسلامي والذي يراعى
في المحاكم الجنائية بصفة خاصة ، وفي نسبة
الفعل الآثم إلى شخص معين بالذات، وهذا يعني أن القضاء الجنائي الإسلامي لا يرضى
بدعوى مجردة من الدليل، ويؤمر القاضي بأن لا يصدر حكما إلا عن بينة، وكل هذا من
أجل الوصول إلى الأمان وإحقاق الحق و إنزال العدل ،وكان لابد من إقامة الدليل لأنه
الدرع الواقي للقاضي والمتهم معا.
وهذا
المبدأ يبقى ملازما للإنسان إلى حين صدور الحكم النهائي في حقه، أي أن يعامل
معاملة الأبرياء في جميع مراحل الدعوى الجنائية دون النظر إلى جسامة الجريمة
أوكيفية وقوعها(2)،لذا فمن إدعى على غيره حقا من الحقوق التي أقرها المشرع وإعترف
بها، فعليه الدليل لأن الأصل في الذمم البراءة
.
ثالثا:
مبدأ الشرعية: جعل مبدأ العدالة الركيزة الأساسية لقيام الدولة
وإستمرارها،
ولتحقيق
هذا المبدأ لابد من النص على مبدأ الشرعية بما يوفره من حماية للأفراد
من تحكم
السلطة وتعسفها.
ومبدأ الشرعية
جاء مرتبطا إرتباطا وطيدا بمبدأ سيادة الشريعة، وهذا ما يستوجب إحترامها من خلال
تطبيقها بصفة دقيقة على كل الجرائم بإختلاف أنواعها.
(1): د
محمد محدة ، المرجع السابق، ص103
(2): د
محمد محدة، المرجع السابق، ص112
6
الفرع
الثانى:الجهات المكلفة بالقيام بالإجراءات:
و سيتم
التطرق في هذا الفرع إلى الأجهزة المكلفة بالبحث عن الجرائم والتحقيق فيها و تحريك
الدعوى وتوقيع العقوبة وذلك على النحو التالي:
أولا
:رجال الشرطة: إن مهام رجال الشرطة- في العهد الإسلامي- كانت
تنحصر في تحقيق الأمن للأفراد وحفظ النظام العام بالإضافة إلى تنفيذ أوامر السلطات
و مساعدة عمال الخراج وإدارة السجون وتنفيذ أوامر القضاة(1)، في تطبيق العقوبات
بكل أنواعها سواء كانت قصاص أو حدود أو تعازير، أما ما كان في العهد الأموي ، فقد
أصبح رجل الشرطة- حسب رأي ديو مبين الفرنسي- منفذا لقرارات القاضي، كما كان يقضي
في بعض الجنح البسيطة غير المحدودة(2).
أما في عهد
العباسيين ثم بني زيان، فقد تغير حال الشرطة ولم يستمر على ذلك النحو من الثقة
والجدية، لذلك تفطن أولياء الأمور لهذا الوضع فقاموا بفرض رقابة عن طريق رجال الفقه
الشرعي.
ثانيا :
والي المظالم: ظهر هذا
النظام بعد مجئ الإسلام، ويعود سبب ظهوره إلى إنحراف بعض الخلفاء مما آدى إلى بروز
طبقة ذات جاه ونفوذ، وبالتالي الإعتداء على حقوق المواطنين من قبلها ، وقد تم
اللجوء لهذا النظام خاصة في العهد الأموي قصد التصدي لهذه الإعتداءات ورد الحقوق
لأصحابها، والجدير بالإشارة هنا أ، والي المظالم ليس قاضيا، وبذلك فهو يتمتع
بإستقلالية عن القضاء.
ثالثا:
المحتسب: تعبر وظيفة
المحتسب من أعظم الوظائف في الإسلام، حيث
جعلها بعض الفقهاء تتوسط بين وظيفة الشرطة و وظيفة القضاء(3)، وتتمثل إختصاصات
المحتسب في مراقبة أداء العبادات والقيام على نظافة المساجد و الحفاظ على هيبتها،
كما يقوم بمراقبة الأخلاق والآداب العامة بالإضافة إلى مراقبة الأسعار والموازين،
والتي
تعتبر من أكبر مهام المحتسب.
المطلب
الثالث: تطور النظام القضائي و الإجرائي خلال الإحتلال الفرنسي للجزائر:
منذ الإحتلال الفرنسي للجدزائر، عرف النظام الإجرائي
القضائي تطورا ملحوظا ، حيث جاء بأفكار سياسية تهدف للسيطرة على زمام الأمور وفرض
الهيمنة الفرنسية على الأراضي المحتلة، وإتسمت هذه المرحلة بقمع الحركات التحررية
،التي لم تتمكن الدولة الفرنسية من إخمادها مطلقا، وهذا ما دفع السلطات الفرنسية
إلى إصدار نصوص تشريعية تخول للقاضي الفرنسي إتخاذ جميع الصلاحيات والسلطات
التشريعية و التنظيمية، ومن هنا ظهر نظام الإزدواجية بوجود قضاء خاص بالفرنسيين
ويحترم كل الضمانات القانونية الموجودة، وآخر خاص بالجزائريين، وهذا رغم وحدة
المؤسسات القضائية والناظرة في نفس المواضيع المطروحة، أما بالنسبة للنظام
القانوني والإجرائي الإسلامي ،فلم يطبق إلا في الأحوال الشخصية.
(1): د
محمد محدة ، المرجع السابق،ص125
(2): د
محمد محدة ، المرجع نفسه، ص126
(3): دمحمد
محدة ، المرجع نفسه، ص145
7
الفرع
الأول: الإختلافات التمييزية بين الأوروبيين والجزائريين في التجريم والعقاب:
إن هذه
الإختلافات نتناولها في جزئين: جزء خاص بالتجريم ، وجزء آخر يخص العقاب على إنتهاك
النصوص التجريمية.
أولا:
الإختلافات المتعلقة بالتجريم:
إن قانون الإنديجينا ، والذي إشتمل على مجموعة من المخالفات التي يتابع عليها
الأهالي بالحبس من 05 أيام،و 15فرنك كغرامة كحد أدنى ، وهي أفعال مجرمة في القانون
الفرنسي دون أن يتسع تطبيقها أوتتميز بالعمومية ، بل هي مجرد قواعد عقابية خاصة
تؤكد وجود سلطة إستعمارية بالجزائر(1).
ثانيا:
الإختلافات المتعلقة بالعقاب: إن
الإختلاف الموضوعي من ناحية العقوبة أنه لم يطبق القانون الفرنسي مبدأ الشرعية في
الجزائر ،وكذلك مبدأشخصية العقوبة، وغيرها من المبادئ، وهذا ما يدل عليه القرار
التغريمي الذي أصدره أحد مرشالات القيادة العسكرية الفرنسية بالجرائر في 22
جانفي1844، والقاضي بتغريم الأهالي سواء منهم الأبرياء أو المذنبين ،في حالة حرق
الغابات ، لكنه ألغي في عهد الإمبراطور نابوليون الثالث، ليعود العمل به بصدور
المنشور الوزاري في 08 مارس 1859(2).
الفرع
الثاني: الإختلافات المتعلقة بالإجراءات والتنظيم:
لإبراز وجود
التفرقة ضمن تلك الإجراءات لابد من الإشارة إلى الإختلافات الشكلية والإجرائية
وذلك فيما يلي:
أولا
:الإختلافات الإجرائية: إن
الإجراءات المطبقة على الجزائريين والفرنسيين هي من الأوجه البارزة في التمييز
والتفرقة، وما يدل على هذا ، هو تلك الإجراءات المطبقة على الفرنسيين والتي تفصل
بين جهة التحريات والنيابة ،من جانب ،ومن جانب آخر الفصل بين سلطة الإتهام(النيابة
العامة) وسلطة التحقيق المجسدة في قاضي التحقيق الذي يحضى بإستقلال كامل، وكل هذا
من أجل الحفاظ على حقوق المتهمين، ولتوفير أكبر قسط ممكن من العدالة ما لم تثبت
الإدانة، بينما يتجرد الجزائريين من كل هذه الحقوق، والحامي الوحيد لحقوقهم
وحرياتهم هو مأمور الضبط القضائي المتمتع بكامل الصلاحيات، كما أعتبرت كل الجرائم
المرتكبة من الجزائريين متلبس بها ،وبالتالي تخضع للقضاء السريع(3).
(1): د
محمد محدة ، المرجع السابق،ص173
(2): د
محمد محدة، المرجع نفسه ، ص176-177-178
(3): د
محمد محدة ، المرجع نفسه ،ص 180
9
ثانيا:
الإختلافات الشكلية: وهذه
الإختلافات نجدها في تشكيلات المحاكم الجزائية التي تنظر في الجنح والمخالفات
المرتكبة من المواطنين الجزائريين، بحيث تتكون من قاض فرنسي رئيسا وعضوين جزائريين
،يعينان خاصة ممن ليس لديهم معرفة ودراية بالقانون ، وهذا ما يحصل أيضا بمحكمة
الجنايات الخاصة بالجزائريين ، و قد أثر على
نتائج الإحصاءات الخاصة بالمحاكم ومايصدر عنها من أحكام، ومن ثم كانت الإحصاءات
التي أجريت ما بين سنتي 1903و1913 في مقارنة بين أحكام محاكم الجنايات التي تعرض عليها أحوال المسلمين و أحكام
محاكم الجنايات التي يتابع أمامها الأوروبيين كالآتي:
نسبة
البراءة 17% بالنسبة للمحاكم الجنائية التي يتابع فيها المسلمين، مقارنة بـ44%
بالنسبة للمحاكم الجنائية التي يتابع أمامها الأوروبيين.
كما أن
المناطق المدنية كانت المحاكم تطبق فيها أشد العقوبات والإجراءات على الجزائريين
مهما كانت المرحلة التي تمر بها الدعوى ، أما المناطق العسكرية بالجنوب وغيرها ،
فكان فض المنازعات وتوقيع العقاب من إختصاص الجيش ،
وهذا ما
جاء بإنعكاسات سلبية ، وما يلاحظ أيضا أن هناك جهاز إداري يقوم بتوقيع الجزاءات
على الأشخاص رغم أنه لا يمد بأي صلة إلى الجهاز القضائي المختص أصلا بذلك ومن ذلك
(1) :
1- الحاكم العام: ويستطيع أن يوقع
عقوبة الحبس إضافة إلى غرامة مالية قدرها 1000 فرنك فرنسي ، وهذا على مستوى
الأراضي المدنية.
أما المناطق العسكرية وأراضي الجنوب ،فإن اللجان الزجرية
العسكرية هي التي توقع تلك العقوبة.
2- لجنة الدائرة : وتوقع عقوبة
تصل إلى شهرين حبسا وغرامة تقدر بمائة ألف فرنك ، وقد يقوم بهذا أيضا قائد الغرفة
العسكرية.
3- قائد إقليمي : ويوقع عقوبة شهر
حبسا و ثلاثمائة فرنك كغرامة.
4- قائد مركزي : ويستطيع توقيع
عقوبة ثمانية أيام حبسا وثلاثين فرنك كغرامة.
5- قادة محليون : مهما علت درجتهم
يستطعون توقيع عقوبة عشرين فرنك كغرامة لكن لا تنفذ إلا بعد مصادقة السلطات
الفرنسية.
و أمام هذه الوضعية المزرية قامت جبهة التحرير بإيجاد
لجان سمتها بـ: اللجان الشرعية للمثول أمامها كجهاز قضائي بدلا من المثول
أمام الجهاز القضائي الفرنسي والتعرض لأعماله التعسفية الظالمة، وقد كانت هذه
الجان تقضي وفقا لقانون وضعته جبهة التحرير الوطني ليتماشى مع أخلاق وعادات
الجزائريين.
وكانت كل الأعمال والأقضية التي تتناولها اللجان الثورية
تسجل في إستمارات خاصة، أما إذا وجدت نفسها عاجزة عن حل قضية ما ، فإنها ترسلها
إلى السلطات الأعلى منها ، لتقوم هي بدورها بالبحث فيها لترسل في النهاية نسخة من الحكم إلى نفس الجهة أو اللجنة المعنية
بالأمر لتبلغ الحكم الصادر لهم أو عليهم ، لتنفذه بنفسها.
(1)
: د محمد محدة ، المرجع السابق ، ص184
10
و ما يميز
هذه الأحكام الصادرة ، أنها غبر قابلة لأي
نقض أو إستئناف ،كما أنها تكون دائما مسبوقة بعملية صلح (1).
ورغم بساطة
الجهاز القضائي الموجود إبان الثورة التحريرية ، وقلة قوانينه وإجراءاته إلا أنه
كان محافظا على حقوق الخصوم محققا بقضائه وفصله في المنازاعات العدل والإنصاف الذي
لم تبلغه أجهزة القضاء الفرنسي يكل ترسانتها القانونية ، وهذا ما يدل عليه ما كان
من حق ناله المتهم في أن يختار مدافعا عنه، بشرط أن يطلع على ملفه بثلاثة أيام قبل
المحاكمة ، كما يمكن لهذا المدافع طرح الأسئلة على الشهود ومناقشتهم .
ونتيجة
لهذا كله نالت أحكامها رغم بساطة أجهزتها ثقة الجزائريين والمتقاضين الشئ الذي سهل
عملها في كثير من الأحيان(2).
(1)
: محمد محدة ،المرجع نفسه ، ص185
(2)
: محمد محدة ، المرجع نفسه ، ص186