سمات تنظيم العدالة
الجنائية في السبعينات
الدكتور محمد إبراهيم
زيد *·
في هذا الوقت
بالذات ما تزال هناك أصوات تنادي بالتعديلات الجزئية في مجال تنظيم العدالة
الجنائية ، فتدعو لابقاء أو إلغاء مستشار الإحالة وتنسي بل لا تتناسي أن
العدالة
لن تتحقق بدون تغيير جذري شمولي للنظام الإجرائي التقليدي للدعوة الجنائية .
ومن
العجيب أن يتكلم البعض عن مسح فكرة الإجرائي التقليدي للدعوة الجنائية .
ومن
العجيب أن يتكلم البعض عن مسح فكرة الخصومة الجنائية ولا يحدد لنا بصورة
علمية
واضحة ماهي الخصومة ، وماهي أهدافها وما هو دور الدولة فيها ومامدي رقابة
الشعب
عليها ، وماهي درجة مساهمة المواطنين في إدارتها أن العدالة الجنائية لا
تقتصر علي
ابقاء أو إلغاء مستشار الإحالة . أن العدالة الجنائية لا تقف عند حد مرحلة
التحقيق
والضوابط القضائية لها ، أن العدالة الجنائية لا ينبغي أن تكون عدالة
تقليدية ، بل
هي عدالة اجتماعية تضع في الاعتبار التطورات الحديثة والحاجات الإقليمية في
إطار
قانوني ذي أهداف وغاية .
وقد كان من
الصعب علي الفقهاء التقليديين أن يتقبلوا مثل هذا التطور الطبيعي ، ذلك
لأنهم
حددوا نطاق تحاليلهم بحيث بدت مجردة عن واقع تدور في نطاقه فكرة العدالة
الجنائية
. أن دور القانون في نظر هؤلاء هو القضاء علي الجريمة عن طريق تطبيق عقوبة
رادعة
زاجرة تحقق الردع العام والردع الخاص . وعلي هذا الأساس يكون الإطار
الإجرائي
للدعوى الجنائية الذي يعمل علي تحقيق غايات القانوني الموضوعي . ولذلك جاءت
هذه
العبارات الخالية المضمون أفلاطونية التفكير . يقولون : ( يجب علي الدولة
في علاقاتها
مع منتهك القاعدة القانونية أن تطبق عن طريق القاضي شق الجزاء ). والي هنا
يقف
تفكير المشرع والقاضي بل والجاني ، ويتصور الجميع أن الظاهرة الإجرامية قد
تم
القضاء عليها وان المجتمع ككل قد حقق النجاح في الضرب علي أيدي الجناة ،وان
الجاني
قد تم زجره ولن يرتكب السلوك غير الاجتماعي في المستقبل . وكان الواقع علي
طول
الزمن يناقض ذلك التفكير كله ، ودليلنا علي ذلك الزيادة المطردة في الظاهرة
الإجرامية وبصفة خاصة نسبة العود في المجتمع .
ولقد كان لتطور النظم القانونية في مجال العقوبات أثر في ظهور عيد من
المشاكل في
رحاب تطبيق العدالة الجنائية سواء بالنسبة للمراحل السابقة علي الحكم أو
لمرحلة
الحكم واخيراً بالنسبة لمرحلة التنفيذ العقابي ، وكان هناك مظهر تشريعي
لهذه
المشاكل يبدو واضحاً في التعديلات المستمرة الكلية والجزئية لتقنين
الإجراءات
الجنائية في الدول المختلفة . وكان كل تعديل يراد به توفير ضمانات الدفاع
عن
المتهم ، وحماية المواطنين وإزالة العيوب الجوهرية في مسار الدعوة الجنائية
،
وتوفير الضمانات المرتبطة بحقوق الإنسان في الدعوى وبصفة خاصة خلال المراحل
السابقة علي الحكم (1)[1] ولقد كانت العدالة الجنائية في الماضي تدور
حول محورين :
الجريمة والعقوبة ، أما
اليوم فأنها تتبلور حول ثلاثة : الجريمة والجاني والمعاملة . وكان للدولة
دور في
هذا المجال فأذا ما انصب اهتمام الدولة علي الجريمة وقرر المشرع العقوبة
علي أساس
تحديد للمسؤولية وعلاقة السببية والأهلية الجنائية فان العدالة هنا تكون
عدالة
تقليدية . أما إذا وضع المشرع في اعتباره دراسة شخصية الجاني مع تفريد
المعاملة
تبعاً لحاجته فان هذه العدالة إذن هي عدالة اجتماعية . وبمعني أخر يجب
علي الدولة في تحقيقها للعدالة الجنائية إصلاح حال المتهم واقلمته علي
الحياة
الاجتماعية بدلاً من معاقبته وزجره وردعه . والهدف الأساسي هنا هو التوفيق
بين
مقتضيات العدالة الواقعة التي يمثلها سد حاجات الجاني وتحقيق الدفاع عن
المجتمع .
أن الركيزة الأساسية التي تدور حولها الدعوى الجنائية بمعناها الحديث هو
تحديد
مسؤولية الجاني ودراسة شخصيته . ومن هنا ظهرت الدعوة إلي التغيير الجوهري
لشكل
الدعوى الجنائية، فبدلاً من أن تكون مركزة في مرحلة واحدة اصبح لها مرحلتين
وبمعني
آخر اتباع نظام التقسيم الثنائي للدعوى الجنائية . أن الانتقاء في نظام
الاختبار
الفضائي ، والإشراف في نظام البارول ، وضرورات المعاملة في العقوبة غير
محددة
المدة كل ذلك يتطلب دراسة لشخصية الجاني وتوجب هذه الدراسة ملاحظة للجاني
سابقة
علي اختيار المعاملة الاجتماعية والإنسانية ، ومتابعة دائمة للجاني خلال
خضوعه
للمعاملة الاجتماعية ، ومرونة في تطبيق هذه المعاملة بحيث يمكن تغييرها
واستبدالها
وتعديلها واعادة النظر فيها علي ضوء الظروف التي تقابل عملية إعادة الأقلمة
علي
الحياة الاجتماعية . ومن هنا ظهرت ضرورات التقسيم الثنائي للدعوى الجنائية،
أي
تقسيم الدعوى إلي مرحلتين : الأولى لتحديد الأذناب والثانية لتقرير
المعاملة
الاجتماعية الواجبة (1)[2]
ولايعد هذا
الاتجاه جديداً بل كان تطوراً للأطر الإجرائية الجنائية بعد الحرب العالمية
الثانية وهو مابدأ واضحاً من مؤتمر سان مارتن 1950، والحلقة الدراسية التي
عقدت في
لندن عام 1952، ومؤتمر انفرس 1954، ومؤتمر سيراكوزا 1969 ومؤتمر روما 1969،
وحلقة
تنظيم العدالة الجنائية التي نظمها المركز القومي للبحوث الاجتماعية
والجنائية عام
1969، والحلقة العربية الثانية للدفاع الاجتماعي 1970.
وكان من أهم الأسباب التي دعت إلي الآخذ بهذا النظام هو أن التقسيم الثنائي
فائدة
في نطاق التطور الحديث لمعني العقوبة والتدبير الاجتماعي ، وان التشريعات
الحديثة
تبتعد اليوم عن التطبيق الآلي للنصوص القانونية والنطق بالحكم علي قرار
الأساليب
التقليدية . لقد سار الفقه والقضاء في الماضي علي أن الأذناب شرط العقوبة ،
وان
علي القاضي أن يستشير النص القانوني فور ذلك النطق بالحكم . ولكن مبدأ
تفريد
المعاملة أدي إلي عدم اتباع الآلية في إصدار الأحكام . أن المعاملة الحديثة
تعمل
علي تصفية الحالة الخطرة التي لا علاقة لها بالإسناد بمعناه التقليدي أو
بمادية
الأفعال المرتكبة . ولا ادري كيف يري البعض إلي أن مثل تلك النظام غير
مقبول علي
إطلاقه وغير لازم ، وان الدول التي أخذت به يستحسن أن تتركه ، وانه يجب أن
لاتهجر
تقاليدنا الإجرائية المستقلة إلا إذا كانت ثمة فائدة موجودة .لقد كان من
الأولى
علي هذا الفريق أن يقول ما هو واقعنا اليوم لا تقاليد ألامس وان يظهر لنا
عيوب هذا
التطور لا أن يدعو الدول لهجرة . ماهي الدراسات العلمية التي قام بها هؤلاء
حتى
يرتكزوا عليها ويطلقوا مثل هذه الأحكام ؟ ماهي الأسانيد الواقعية التي تدل
علي أن
تقاليدنا الإجرائية مستقرة؟ أين هي دراسة الشخصية في واقع محاكمنا الجنائية
اليوم
؟ أين هو تفريد المعاملة القضائية والتنفيذية الحائر بين المحاكم والمؤسسات
العقابية ؟
يقولون أن فحص الشخصية
يمكن أن يجري في نفس الوقت مع بحث الوقائع ، وان الجريمة ليست امراً نفسياً
بحتاً
فهناك أيضا الخطيئة أو الآثم وهي كلها أمور لا يمكن تجزئتها علي أساس بحث
الوقائع
في مرحلة وبحث الجوانب المعنوية في مرحلة أخري . وهذا القول فيه مغالطة
واضحة .أن
دراسة الشخصية مسالة علمية للبحث عن أسباب السلوك الاجتماعي وتحديد
المعاملة
المناسبة، أما إسناد السلوك وتحديد العلاقة بين النتيجة والسلوك فمسالة
قانونية
تحكمها نصوص لنسب الجريمة إلي مرتكب آثم خاطئ. وقد نتفق علي أن الجريمة
ليست
نتاجاً لحالة نفسية بحت بل هي جماع لتفاعل بيولوجي نفسي اجتماعي ، ولكن أين
دور
الأثم والخطأ في مثل هذا التفاعل. أن مشكلات العدالة الجنائية لا تقتصر
عالي
مستشار الإحالة بل تحيط بمراحل الدعوى الثلاثة : المراحل السابقة علي
المحاكمة –
مرحلة المحاكمة – مرحلة التنفيذ .
وما من شك
في أن من أهم المراحل الأولى مرحلة القبض والتحقيق وما يتم فيها من إجراءات
وتدابير تقيد من حرية الحركة بالنسبة للمتهمين والمشتبه في أمرهم . وهاتان
المرحلتان هما في الواقع من اخطر المراحل حيث تجد التنظيمات القانونية
صعوبة
لاحد لها في تنظيم عمليات الاستيقاف والقبض والتفتيش والتحقيق ، ومايلي ذلك
من
إجراءات من كالحبس الاحتياطي والافراج بكفالة . وهنا تبدو مشكلة
النظام الإجرائي الذي يتبعه المشرع عند تنظيمه لمرحلة التحقيق وتوفير
الضمانات
القانونية والقضائية والشعبية بحيث تتوفر الرقابة والاشراف . وفي هذا الشأن
يتكلمون عن دور المفوض البرلماني ombudsman
ومدي اتصاله بمسالة الاشراف والرقابة تجاه الافعال التي ترتكبها الأدارة
والقضاء وتعد قيداً علي حرية المواطن .
ولقد تبين
لنا في دراسة الواقع في عمليات القبض في جمهورية مصر العربية أن 66% من
حالات
القبض التي تمت بواسطة الشرطة قد أطلق سراح المقبوض عليهم بعد اصطحابهم
إلي
قسم الشرطة . لو ان النيابة العامة أمرت بحبس 31% من حالات القبض حبساً
احتياطياً
وطلقت سراح 69% التي تمثل الباقي سواء بكفالة أو بدون كفالة أو بدون ضمان
أو بضمان
شخص . وقد تم سؤال اعضاء النيابة العامة السؤال التالي : هل تعتقد أن احوال
القبض
التي تعرض عليك تكون سليمة في تقريرها في غالبية الاحوال ؟ وكانت الاجابات
نعم 72%
،لا 73%(1).[3]
أما مشاكل
المحكمة فترتبط بتنظيم المشرع لكل من نوعية المحاكمة ،هدف المحاكمة ،اصدار
الحكم .
يثور بالنسبة لنوعية المحاكمة موضوع مساهمة المواطنين في تنظيم العدالة
الجنائية
وهو النظام المعروف بأسم (نظام المحلفين )في الدول الغربية ، و(قضاة الشعب
في
الدول الاشتراكية ) ولقد كانت هناك دعوات لدراسة هذا النظام ومعرفة مدي
تطبيقه في
واقع حياتنا العربية ، ولكن ذهبت هذه الصيحات في غمار الفنية القانونية
والشرح علي
المتون . وبالنسبة لهدف المحاكمة فان العدالة ليس لها مطمع سوى إعادة إدماج
الجاني
في الحياة الاجتماعية ، وعلي هذا يجب أن تهدف المحاكمة إلي معرفة الجاني .
وتتم
هذه المعرفة عن طريق دراسة الشخصية بالطرق العلمية . ومن هنا تظهر أهمية
(دوسيه
الشخصية ) الذي يعد إجراء جوهرياً في الدعوى الجنائية بمعناها الحديث أما
إصدار الحكم فقد اصبح علي القاضي أن يبحث عن صياغة مرضية للحكم بحيث تتفق
مع
متطلبات وحاجات شخصية الجاني .
وينتهي بنا
المطاف إلي مرحلة التنفيذ العقابي والتي تعد أهم مرحلة تعمل علي تدعيم
أهداف
الدفاع عن المجتمع ، ورقابة من يخضع إلي المعاملة والأشراف عليه للتحقيق من
إصلاحه
واعادة إدماجه في الحياة الاجتماعية . وهنا تبدو مشكلتين أساسيتين : شكل
الجهاز
الذي يقرر له حق الأشراف علي عملية التنفيذ (قاضي الإشراف علي التنفيذ ) ،
والضمانات التي تقرر للفرد خلال هذه المرحلة (قواعد الحد الأدنى لمعاملة
المذنبين
).(1)[4]
هذه قلة من المشاكل التي تقابل تنظيم العدالة الجنائية ، والتي لن تحل عن
طريق
دعوات جزئية للإصلاح أو تقديم مشروعات لقوانين لا تختلف في صورتها عن تلك
التي
تبين انها عاجزة عن السير مع التقدم العلمي والفقهي . أن الدراسة العلمية
المقارنة
يجب أن تكون ركيزة المشرع في تخطيطه لاهداف وغايات الأطر القانونية
الإجرائية
للمجتمع ولن تكون لهذه الدراسة العلمية قيمة إلا عن طريق التحام المشرع
العربي
بها . وإذا ما استعرضنا تيارات الإصلاح في السبعينات نجد انها شملت
الغالبية سواء
بالنسبة للقانون الموضوعي أو القانون الإجرائي . وهناك ملاحظة عامة علي هذا
التيار
انه قد أصبح لأول مرة ينظر إلي تنظيم العدالة الجنائية بجناحيها الموضوعي
والإجرائي حيث فشلت عملية الفصل التحكيمي بين الموضوع والشكل في السياسة
الجنائية
الحديثة . لقد أظهرت النظم الإجرائية المعمول بها فشلاً واضحاً في الوصول
إلي
الحقيقة ، واصبحت هذه النظم في حالة عسر دائم ، تسير بالدفع الذاتي ويحيط
بها
عدداً من العقبات والصعاب . أن الوصول إلي الحقيقة قد اصبح اليوم مشكلة في
أي نظام
إجرائي ، وأمست معاملة الجاني تعاني كذلك من نقص في الخبرات والأدوات بل
ومن
النظريات أيضاً . وتحسس سمات تنظيم العدالة في السبعينات يتطلب منا اتباع
منهج عام
قوامه تحديد اتجاهات تنظيم العدالة في القانون المقارن ، ثم مواجهة ومقارنة
هذه الاتجاهات
بالمعايير الدولية التي تنادي بها المؤسسات والهيئات الدولية لحماية المتهم
وتوفير
محاكمة عادلة له .
1-
اتجاهات تنظيم العدالة
الجنائية في القانون المقارن
لم تكن
دراسات تنظيم العدالة الجنائية تعتمد في أول الأمر إلا علي منهج الملاحظة
الشخصية
المبني علي الاستنباط والتحليل .وما تزال هذه الدراسات حتى اليوم قائمة
وخاصة بين
فقهاء التشريعات التي تتبع النمط اللاتيني . وكان هنري ويجمور أول الداعين
في عام
1909 إلي تغير هذه المنهج في مؤتمر قانون العقوبات وعلم الإجرام بجامعة
نورث وست
بشيكاغو وجاءت الحرب العالمية الثانية ألقت الضوء الساطع علي دراسات تنظيم
العدالة
الجنائية التي تتبع منهج علم الاجتماع القانوني في التحليل واللإستنتاج
والتقييم
وهو ما تأكد بصورة خاصة علي التنظيم والتطبيق العلمي لوقائع القبض . ولقد
كان هذا التحول منطلقاً للغضب الشعبي وعدم الرضاء بعجلة العدالة الجنائية
وإذا ما
حاولنا تحليل عدم الرضاء الشعبي في ذلك الوقت نجد انه مرتبط بالعوامل
التالية (1).
(أ) التطبيق
الآلي للقواعد والقوانين التي
تحكم تنظيم العدالة الجنائية .
(ب)
الاختلاف
في معدل التطور بين القانون والرأي العام .
(ت) الافتراض
السائد بأن تنظيم العدالة مهمة سهلة يستطيع غير المتخصص القيام بها .
(ث) الارتباط
الشديد بين إدارة تنظيم العدالة والسياسة .
(ج)الرغبة الزائدة في
الانتقام عند اقتراف الجاني للسلوك الإجرامي وضرورة تعبير القانون عن هذه
الرغبة.
واهتمت
الجامعات والمراكز العلمية بهذا النوع الجديد من الدراسات بل وظهرت عدة
معاهد
متخصصة في هذا المجال (2) وبدأت أوربا بالاهتمام بدراسة تنظيم العدالة حيث
ظهرت
عدة دراسات منها دراسة ريجلنسون بهولندا عن قياس اتجاه النزلاء تجاه تنظيم
العدالة
الجنائية . ودراسة هنري بيسوتيه عن التنظيم الإجرائي لمحاكم الأحداث ،
ودراسة
المعهد الفيدرالي للجريمة بألمانيا عن طريق المستخدمة في الكشف عن الجريمة
،ودراسة كلاى ليتهنر عن دور النيابة العامة في السويد ،ودراسة ليفاسير عن
قياس اتجاهات
المواطنين تجاه العدالة الجنائية في فرنسا .
وواكبت
جمهورية مصر العربية هذا التطور العلمي في دراسات تنظيم العدالة الجنائية
،ولم يكن
اهتمام مشروع قواعد الحد الأدنى لتنظيم العدالة الجنائية بالمركز القومي
للبحوث
الاجتماعية والجنائية عارضاَ . وقد قام المشرع بنشر ثلاثة دراسات في معايير
القبض
: دراسة المساواة في تنظيم العدالة القضائية ودراسة دور القاضي في تنفيذ
الجزاء
الجنائي .
ويقوم المشروع حالياً بالانتهاء من دراسة مساهمة المواطنين في تنظيم
العدالة
الجنائية
: نظام المحلفين وقضاة الشعب ، ودراسة الإشراف القضائي علي التحقيق (دراسة
ميدانية
)وكان لهذه الدراسات جميعها تأثير علي المشرع وسياسته تجاه تنظيم العدالة
وخاصة في مشروعات القوانين المطروحة حالياً علي بساط البحث والمناقشة . وقد
يكون
من المفيد اختيار مجموعة منتقاة من المشروعات الجديدة لتحديد الاتجاهات
الحديثة بها
. وفي هذا الشأن سنتعرض لمشروع تقنين الإجراءات الجنائية في إيطاليا (مشروع
مانيلوتي) علي أساس انه يمثل المدرسة الوضعية وتطورها ، ومشروع تقنين
المراحل
السابقة علي المحاكمة الذي قدمه معهد القانون الأمريكي لكي يكون نواة لآي
تشريع في
الولايات المتحدة الأمريكية ، ومشروع تقنين الإجراءات الجنائية في جمهورية
مصر
العربية (مشروع حافظ سابق ).
(أ) مشروع الإجراءات
الإيطالي
(مشروع كارنيلوتي)
عهد إلي
كارنيلوتي بصياغة تقنين الإجراءات الجنائية الإيطالي الجديد وذلك بعد أن
شعر الفقه
والقضاء بأن تنظيم العدالة الجنائية في حاجة إلي التعديل بعد تغيير المبادئ
والغايات في الثلاثين سنة الأخيرة . ولقد تمثل هذا الانطباع في المؤتمرات
المحلية
التي عقدت في إيطاليا ابتداء من مؤتمر مركز الثقافة والحضارة تحت عنوان
(مشاكل
تعديل الدعوى الجنائية فينسيا 1961ومؤتمر انريكودي نيكولا (المعايير
الموجهة
لتعديل الدعوى الجنائية ) ليتشي 1964 إلي المؤتمر القومي السابع لقانون
العقوبات
السابع لقانون العقوبات ((في خطوط إصلاح مرحلة التحقيق الجنائي ))
كانتزارو1965.
ولقد ظهر من هذه المؤتمرات بصورة واضحة في العدالة الجنائية مازالت في
حاجة
إلي نظام Ordineمحدد حديث
(1).وكان من الواضح أن الهدف الأول في
هذا الإصلاح لا بد أن ينصب علي توحيد الأنماط المتعددة لنظم التحقيق الذي
تقوم به
النيابة sommaria 1.ويلاحظ أن
هناك تياراً قوياً في الفقه الإيطالي يري أن النظام الاتهامي المعمول به في
التشريعات الانجلوسكسونية لا يجد قبولاً في إيطاليا ، وذلك لان هذا النظام
يتعارض
مع التقاليد والعادات البيئية (2) .ولهذا فان الإصلاح لا بد أن يضع في
الاعتبار
ضرورة تركيز عمليات التحقيق بين يدي النيابة العامة . لكن في مقابل ذلك
التيار
السابق يوجد أيضا تيار آخر يري ضرورة أن يكون التوحيد لنظم التحقيق في صالح
قاضي
التحقيق وليس النيابة العامة . فإذا كانت للنيابة العامة سمة قضائية فإن
ذلك لا
ينفي انها طرف parte في
الدعوى
(3)أن النيابة العامة
جهاز للدولة التي بجانب قيامها بمهمة المحاكمة تقف في مركز الاتهام accusa ، وهذا الموقف (الحكم والاتهام ) لا
يعد حياداً وهو النقد
الذي وجه لمشروع كارنيلوتي الذي لم يضع علي قدم المساواة سلطات النيابة
العامة في
التحقيق والدفاع الذي يكون في هذه المرحلة مجرد من أي سلاح . ومن المعروف
أن
كارنيلوتي يفضل نظام النيابة العامة ، ويؤكد انه يستخدم اصطلاح (التحقيق
الابتدائي
) بدلاً من (التحقيق) ذلك لان هذا الاصطلاح يعد ملائماً لتحديد معني
التحقيق
ووظائفه حيث انه يستخدم لتوفير العناصر الضرورية للمحاكمة لا تلك الضرورية
للإدانة
أو البراءة . وهو ما نصت عليه م 86/1 من مشروعه (يجب أن يعمل التحقيق
الابتدائي
علي تحديد احتمال أن يكون الجريمة قد ارتكبت ، لا ارتكاب الجريمة بصورة
مؤكدة )
وفي نظر كارنيلوتي أن ذلك تجنباً للخطأ الذي وقع فيه القانون الحالي في م
299
والتي ينص علي أن التحقيق الذي يقوم به القاضي يجب أن يعمل علي الوصول إلي
الحقيقة
.ويري كارنيلوتي أن التحقيق الابتدائي يعادل التحقيق بواسطة النيابة
المعمول به
حالياً I..S.ولكنه يختلف
عنه بصورة جذرية بالنسبة لوظائفه حيث أن النظام الحالي يرمي إلي عرض نتائجه
مباشرة
علي قاضي الموضوع لا ستخدامها في المحاكمة .
بينما
التحقيق الابتدائي يعطي نتائجه فقط للنيابة العامة لاستخدامها في المحاكمة
ومن هنا
يعلم القاضي بها عن طريق النيابة العامة . وتنص م 131 من المشروع الجديد
علي ان
تقوم النيابة بالكشف عن وثائقها في حالة الضرورة القصوى قبل المحاكمة ،
وذلك بهدف
ضمان سمة الخصومة CONTRADITTCRIOبالنسبة
للأدلة التي يعتمد عليها القاضي في تحديد اقتناعه .
ويري البعض انه من الضروري في الدعوى الجنائية الاحتفاظ بسمة الخصومة بين
الأطراف
نظراً لان الدعوى في ذاتها ماهي إلا صراع بين المصالح وصراع بين الأشخاص .
والقول
بأن النيابة العامة طرف في الدعوى يوجب التمسك بفكرة المساواة بين الأطراف
أمام
القانون . الأمر الذي له أهمية في النظام الذي يتبع نظرية الفصل بين
السلطات (1).
ولقد أدي النقاش الدائر حول توحيد نظم التحقيق إلي ثلاثة طرق يجب علي
المشروع
الحديث أن يختار أحدهما :
(1) وجوب أن يكون التحقيق
بصورة خالصة لقاضي التحقيق .
(2) أن يعهد
بالتحقيق إلي النيابة مع توفير ضمانات
مناسبة للدفاع .
(3) استبدال
التحقيق بنظام جديد للتحريات وجمع
الأدلة .
ويسود
الاعتقاد بين الفقهاء في إيطاليا انه علي الرغم من أن الدعوى بمعناها
الحديث خليط
بين النظام الاتهامي ونظام التنقيب والتحري إلا انه يجب هيمنة سمات النظام
الأول .
ومن الصعب بمكان تحديد أفضلية نظام علي آخر ، ولكن من المؤكد أن اختلاف
النظامين
يرجع إلي اختلاف النظام السياسي المعمول به . إذ يقال أن النظام الاتهامي
يرتبط
بالنظم الديمقراطية والجمهورية ، أما نظام التنقيب والتحري فانه مرتبط
بالنظم
الملكية . وقد نوه كارميناني بارتباط الديمقراطية والنظام التهامي ، وأعتبر
هذا
الارتباط نتيجة طبيعية مباشرة للسلطة السائدة والسيطرة علي أعضاء الجماعة
السياسية
.(2)وعلي الرغم من أن الفقه يقاوم وبشدة في إيطاليا سمات الدعوى الاتهامية
عن طريق
الوقوف موقفاً وسطاً ، إلا أن هناك اتجاه كبير نحو النظام الاتهامي في
مرحلة
التحقيق ومرحلة المحاكمة ظهر أثره واضحاً في موافقة البرلمان أل إيطالي علي
المعايير التي يجب أن توضع في الاعتبار في أيى تعديل جديد لتنظيم العدالة
الجنائية
ومن بينها وجوب أن تتخذ الدعوى الجنائية سمات النظام الاتهامي .
ويقولون
أن مبدأ الخصومة لا يتم عندما يصدر القاضي حكمه علي أساس محاضر التحقيق الا
إذا
كان المراد هو نزع قيمة المرافعة في حد ذاتها ولا يكون هناك محل للقول
بأنه
يوجد في إجراءات التحقيق الحالية ضمان لمحاكمات لا معني لها ، وإنها تعمل
بلا شك
في إطار الضمانات المحولة للمواطن ، ذلك لأن علانية الإجراءات خلال التحقيق
مع
الاحتفاظ بوحدة الزمن وضمانه أفضل من التحقيق الطويل الأمد الذي تعقده
السرية
المطلقة أو النسبية (1) وذا كان النظام الاتهامي من وجهة النظر الاجتماعية
يشكل
وسيلة قانونية لمواجهة الكراهية والعداء من جانب منتكهي القاعدة القانونية
إلا انه
يحتاج إلي مناخ حضاري متقدم سليم من إيحاءات الخداع والأحابيل الشخصية ولقد
تأكد بصورة واضحة من اتجاه القانون الإنجليزي إلي تدعيم سلطات جهاز المدعي
العام . وعلي اساس هذه الحجة يري بعض الفقهاء وعلي رأسهم جوفاني ليوني انه
من الصعب
قبول النظام الاتهامي في مرحلة التحقيق نظراً لعدم تجاوبه مع العادات
الاجتماعية
والسياسية في إيطاليا .(2)
ونتيجة
لاتجاه توحيد نظم التحقيق في إيطاليا ثارت مشكلتان أساسيتان الأولي تتعلق
بجمع
الأدلة ، والثانية بالحرية الفردية للمتهم .
لقد
حاول كارنيلوتي في مشروعه (تنظيم الأدلة ) وضمان حرية المتهم في المواد من
65 –73
. وجدير بالذكر هنا أن المادة 67 تحكم سؤال المتهم الشهود حيث تعترف للمتهم
بحق
السكوت والصمت وعدم الإجابة ، ولكن تضع علي عاتقه التزام بالظهور أمام
القاضي حيث
تنص علي انه (يلتزم المتهم بالظهور عند دعوته ولكن لا يلتزم بالإجابة ) .
وفي تنظيمه للأدلة نجد أن المادة 72 تقرر : (لا يكون لتقارير ضباط الشرطة
ورجال
القضائية ومحاضر الاستدلالات أية قيمة في الإثبات ولا تعتبر من الدلائل )
وفي هذا
الإطار لجمع أدلة تثور مشكلة السرية ، فلقد تم تبرير صفة السرية لاعمال
التحقيق
بضمان حسن سيره لتسهيل الوصول إلي الحقيقة (1) . ويجمع معضدو السرية بين
ضرورتها
وبين مبدأ حرية القاضي في الاقتناع . ويؤكد الفقه التقليدي السرية لمحاولة
تجنب أن
يقوم بإثارة عناصر قريبة عن الدعوى تعمل علي بلبلة أفكار القاضي وتضليله في
أن
يلحق الضرر باقتناعه . ومن الواضح أنم مبدأ سرية التحقيق في مواجهة أطراف
الدعوى
ومبدأ الخصومة الجنائية لا يتفقان ،ذلك لان هذا المبدأ الأخير يعمل علي
المساواة
بين الأطراف بحيث يسمح إلي كل منهما التأثير في القرار النهائي لجهة
الاختصاص في
التحقيق . ولذلك نجد أن هناك محاولات للوقوف موقفاً وسطاً . إذ يري بعض
الفقهاء
وعلي رأسهم دي مارسيكو انه لابد من وجود علاقة بين التوسع في السرية
والمرحلة التي
تباشر فيها إجراءات التحقيق . فبالنسبة لاعمال الشرطة التي لها سمة السرعة
لا يجوز
مساهمة الدفاع وتكون لها سرية مطلقة أما بالنسبة لتحقيق النيابة العامة
فيكون هناك
احتمال مساهمة الدفاع حتى نهاية التحقيق.(2). ولذلك نجد أن مؤتمر سان
جورجيو يؤكد
منح الدفاع حق حضور استجواب المتهم ، وان يعطي للدفاع حق توجيه الأسئلة في
المحضر لخدمة التحقيق (3).
أما بالنسبة للحرية الفردية للمتهم فأن البعض يري أن هناك عدم
مساواة بين
شكل التحقيق وتقييد الحرية الشخصية باعتبار أن كل منهما أداة للبحث في
الحقيقة .
ويثور هنا سؤال : كيف يمكن تحقيق الحماية القانونية لحق الحرية الفردية ؟
لقد ظهر
في دراسات الفقه الإيطالي اهتمام كبير بشكل التحقيق دون الاهتمام بتنظيم
الحقوق
الفردية . وقد داى ذلك الشباب من الفقهاء إلي القيام بحملة واسعة للدعوة
لهذا
التنظيم ، وقد ظهرت كتابات قوية انعكس رد فعلها علي مؤتمر كالابريا بالذات
حيث
أدعى إلي إصدار تعديل تشريعي لحماية الحرية الفردية خلال التحقيق (4) . وقد
أكد
ليوني في تقرير له منذ عام 1948ضرورة احترام الحرية الفردية علي إطلاقها
وابرز التنظيم الواجب سواء بالنسبة للحقوق الفردية التي يحميها الدستور أو
الحقوق
التي ينظمها تقنين الإجراءات الجنائية (5) . ويري بعض الفقهاء التقليديون
أن تقنين
الإجراءات يحمي مباشرة حقوق وسلطات الدولة وليس الحقوق الشخصية للأفراد .
الا أن
الفقه الحديث يكاد يتفق علي ضرورة أن تعمل القاعدة القانونية الجنائية علي
حماية
الحرية الفردية (6)ويحاول الفقه تحديد
الإطار
القانوني للحرية الفردية علي أساس أن هذا الحرية هي حق عمل كل ما يسمح به
القانون
، فالفرد حر في الانتقال من مكان إلي آخر مع احترام تلك القيود التي يحققها
القانون ، حر في مسكنه ، ماعدا تلك الحالات الاستثنائية التي تقيد الحرية _
حر في
التراسل مع الآخرين ماعدا تلك التي ترد علي هذه الحرية _ حر في الاجتماع
وتنظيم
الاجتماعات (1) ....الخ .
وقد
لاحظ الفقه أن افتراض براءة المتهم حتى صدور الحكم بالإدانة مبدأ لم يكن له
تطبيق
واضح في إيطاليا ولا اعتبار مؤثر لدي الجهة التحقيق بها ، حيث أن الحبس
الاحتياطي
يوقع آلياً علي اعتبار انه (مقدم ) يسبق العقوبة التي سيحكم بها علي أساس
العناصر
المؤكدة للإدانة . وما من شك في أن تنفيذ الحرية الفردية يجد تبريراَ له في
وجود
وحاجة التحقيق ما عدا الحالات الاستثنائية التي قد يؤدي إلي اتباع معيار
آخر كما
هو الحال في حالة خشية الهرب مثلاً . ومن هنا ظهرت الحاجة إلي التفرقة بين
الضمانات المرتبطة بالقبض ، والضمانات المرتبطة بنشاط المحقق . وحماية هذه
الضمانات
عن طريق الطعن فيها أمام المحكمة وأمام تنظيم خاص للإشراف والرقابة علي
قرار
النظام الإنجليزي Eabeas Corpusأو نظام المراقب البرلماني Ombudsman(2). ولقد قام كانيولوتي عند صياغته
لمشروعه باتباع نظام خاص
، ذلك انه أعترف بضرورة وضع المتهم تحت تدابير مقيدة خلال التحقيق misure coercitive بمعرفة
النيابه واعطى لهذه الأخيرة حتى إصدار وتطبيق هذه التدابير، ويرى
كارنيلوتى
انه بينما يعرف التقنين الحالى بالحبس الاحتياطى وبديله تحديد الاقامة
الاجبارى نجد أن مشروعه ينص ثلاثة انماط من التدابير المقيدة : رقابة
الشرطة
(م 98)، وتحديد الإقامة (م 99) والحبس الاحتياطي .
ويعطي المشروع لقاضي الموضوع سلطة تصديق أو تأييد Convalidazionهذه القرارات حيث نصت (م 101)علي انه ((تقرر
النيابة العامة التدابير الوقائية بقرارات مسببة وتحيلها في ظرف 24 ساعة
إلي قاضي
الموضوع الذي يقوم بالتصديق عليها ويجوز الطعن بالنقض في القرارات الصادرة
بالرفض
أو القبول ، وإذا لم يتم التصديق علي القرار يجب وقف التدبير الوقائي
مباشرة .))
وقد أهتم كارنيلوتي بمدة التدبير الوقائي نظر للهجوم علي التنظيم
الحالي
في التشريع الإيطالي حيث وصف بأنه تنظيم غير إنساني وغير حضاري ولذلك كانت
هناك
حدود للتحقيق الابتدائي عند كارنيلوتي حيث نصت (م 95) علي انه ((يجب أن
ينتهي
التحقيق الابتدائي بعد ثلاثة أشهر من يوم وصول البلاغ وإذا لم يتم ذلك
لاسباب
خطيرة يجوز للنيابة العامة أن تطلب من قاضي الموضوع مد الأجل مرة واحدة
والتي يجب
أن تحدد بثلاثة أشهر أخري ))ونص المشروع أيضا علي تنفيذ مدة الحبس
الاحتياطي
وتحديد الاحتياطي وتحديد الإقامة بحيث أوجب أن تنتهي هذه المدة بعد ثلاثة
أشهر منذ
اليوم الذي بدأ تنفيذها فيه ما دام لم تتم إدانة المتهم بحكم نهائي بعقوبة
سالبة للجزية تزيد عن هذه المدة .
(ب )-التقنين
النموذجي الأمريكي
لا
مفر من الاعترافات بأن هناك فرقاً بين النظرية والتطبيق ،فلقد رأينا أن
المجتمع
الأمريكي كان أول من وجه الأنظار نحو ضرورة تنظيم العدالة بمعناها الحديث
ولكن ما
زال هذا المجتمع ينتظر هذا الإصلاح حتى اليوم .
ودليلنا
على ذلك اهتمام بعض المجلات الأسبوعية بإصدار عدد خاص نيوز ويك 8 مارس
1971)
بعنوان (العدالة في الميزان ) JUSTICE ON Trialوهذا عنوان صارخ لفشل العدالة وتنظيمها
في مجتمع ديمقراطي . لقد اعترفوا بأنفسهم بهذا الفشل حين قالوا ، أن ما
لدينا هو
شبه نظام لا يعمل علي متابعة المجرمين والقبض عليهم ، ولا تقوم المحاكم
بمحاكمة
هذا الفريق الأخير ، ولا تعمل السجون علي إصلاحهم ). ووجهت سهام النقد
للشرطة
ونشاطها واعتدائها علي الحريات الفردية ، والي المحاكم وتأخرها في البت في
القضايا
، والي المؤسسات العقابية ونزلائها الذين وصفوا بأنهم (يتامي العدالة
الأمريكية ).
ولقد
كان دور الدراسات الحديثة في تقييم هذا الوضع المعيب ، فأجرت دراسة تجريبية
لقياس
الرأي العام في الولايات المتحدة علي عينة ممثلة لجميع قطاعات المجتمع
الأمريكي
(1717حالة ) تجاه العدالة وتنظيمها ، وأظهرت الدراسة أن المجتمع الأمريكي
يرغب في
إعادة النظر الكلية في النظام القائم ، وان التدهور مستمر في السنين الخمسة
الأخيرة . ولقد كانت الإجابات علي سؤال: ما الذي يثقل كاهل العدالة
الأمريكية ؟
))علي النحو التالي :
إطلاق
سراح المتهم قبل المحاكمة بسهولة 75%
مرور
فترة طويلة حتى يحال المتهم إلي المحكمة 67%
إذدحام
المؤسسات العقابية 43%
تعيين
القضاة لأسباب سياسية فقط 39%
عدم
استطاعة الرجل العادي تحمل نفقات المحامين 32%
انتشار
الرشوة والفساد بين رجال الشرطة 27%
تقرير
الكفالة المالية بصورة مجحفة علي الفقراء 21%
لا
يضع المحامي مصلحة العملاء في الاعتبار 20%
عدم
أهلية المحلفين أو تضليلهم 18%
انحياز
كثير من القضاة إلي أحد الجانين بصور غير عادلة 17%
عدم
وجود أعضاء نيابة متخصصين 13%
وإذا ما اقتصر تحليلنا علي أزمة تنظيم العدالة الجنائية
في المراحل السابقة علي المحاكمة ثم علي مرحلة المحاكمة نجد أن هذه الأزمة
في
الحالة الأولى تدور حول محور سلطة الشرطة في القبض . ومن المعروف أن جهاز
الشرطة
في المجتمع الأمريكي يضم حوالي (000/420) فرد موزعين علي (000/40)هيئة
مستقلة كل
منها عن الأخرى وينقسم المجتمع الأمريكي أمام نشاط الشرطة إلي فريقين :
فريق
يطالب بزيادة سلطة الشرطة للقضاء علي الجريمة وحفظ الأمن وفريق آخر يطالب
بوضع قيود علي هذا النشاط سعياً وراء حماية الحرية الفردية وحصر النشاط
التعسفي . ويقول الفريق الأول أن رجل الشرطة في إصدار الأوامر والقرارات
يقوم بعمل
روتيني . وفي ممارسته لهذه السلطة لا يعرض الحرية الفردية لأي تهديد أساسي
وهو
الأمر الذي تقبله هيئات السلطة والرأي العام ويعتبرونه منطقياً سليماً (1) .
وان
كانت سلطة القبض من أخطر السلطات علي الحرية الفرية فأنه يكون من المنطقي
تحليل أحكام
هذه السلطة في التشريع الأمريكي . أن القبض في الولايات المتحدة قد يتم
بناء علي
أمر القبض Warrant أو بدونه . والأمر بالقبض قد يصدر من
قاض بناء علي وجود سبب محتمل
يثير الاعتقاد بان المشتبه في أمره مذنب بارتكاب الجريمة . وقد يصدر الأمر
بالقبض
في غالبية الولايات بناء علي معلومات أو افتراضات ظنية . ويعتبر إصدار
أوامر القبض
نظرياً وظيفة إدارية شرطية يقوم بها كاتب بصورة روتينية بحيث لا يمكن القول
بأن
هناك احتمال في إعادة النظر في هذا القرار أو وجود أشراف قضائي علي إصداره
(2).
أما بالنسبة للقبض بدون أمر قبض فهناك تفرقة بين القبض بسبب الجناية Felonyوالقبض بسبب
المخالفة MISDEMEANOURويقال أن القبض بسبب الجناية يتم عندما يكون لدي رجل الشرطة
بواعث منطقية Reasonable Grounds تدعو
إلي الاعتقاد بأن جناية قد أرتكبت ،أو ان شخصاً معيناً
بالذات هو المطلوب القبض عليه لارتكابها .وفي في بعض التشريعات نجد أن
القبض في
هذه الحالة بغض النظر عن وجود معلومات لدي رجل الشرطة تؤدي به منطقياً إلي
اعتبار
أن هذا الشخص قد ارتكب الجريمة . ومن الصعب بالنسبة للقبض بسبب مخالفة وضع
قاعدة
عامة ولكن هناك ثلاثة احتمالات بارزة :
(أ) حالة ارتكاب المخالفة
في وجود رجل الشرطة .
(ب) تعطي
التشريعات حقاً
مطلقاً في القبض لارتكاب مخالفة ولو في غير حضور رجل الشرطة
(ج)
تعطي بعض التشريعات الأخرى هذا الحق إذا كانت هناك بواعث منطقية تؤدي إلي
الاعتقاد
بان المخالفة ارتكبت .
وتقف لجنة رئيس الجمهورية في تقريرها عن تنظيم العدالة إلي جانب تدعيم سلطة
رجل
الشرطة حيث أوصت علي انه (يجب علي تشريعات الولايات ان تعمل علي تنظيم سلطة
رجال
الشرطة في استيقاف الأفراد لمجرد السؤال وذلك بتحديد ظروف وحدود الاستيقاف
المسموح
به (1) . وقد عمل مشروع تقنين المراحل السابقة علي المحاكمة الذي قدمه معهد
القانون الأمريكي ومشروع قواعد الحد الأدنى للعدالة الجنائية بجامعة نيو
يورك عام
1966 لكي يكون تقنيناً نموذجاً يحكم الاستيقافStoppingفي الفقرة
الثانية من المادة الثانية حيث نص علي :
(1) استيقاف أشخاص
لديهم علم بالجريمة
(
يجوز لرجل الشرطة الذي يوجد في أي مكان بصورة قانونية أن يأمر المتهم بأن
يظل أو
بالقرب من المكان الذي يتواجد فيه رجل الشرطة لمدة تزيد عن عشرين دقيقة إذا
كان
لديه سبب معقول لكي يعتقد بأن جناية أو مخالفة قد ارتكبت وان هذا الشخص
لديه
معلومات قد تساعده مادياً في التحقيق.)
2- استيقاف أشخاص في ظروف مريبة
(
يجوز لأي رجل شرطة يوجد في أي مكان بصورة قانونية إذا ما شاهد شخصاً في
ظروف توحي
إليه بأنه قد ارتكب أو في سبيل ارتكاب جناية أو مخالفة ، أن يأمر هذا الشخص
بان
يظل في أو بالقرب من المكان الذي يتواجد فيه لمدة لا تزيد عن عشرين دقيقة
بشرط أن
يكون ذلك ضروريا لمساعدة ضابط الشرطة لتحقيق من مشروعية سلوك هذا الشخص .)
3-
الأعمال التي يجوز
القيام بها خلال مرحلة الاستيقاف
(
لرجل الشرطة أن يطلب من المتهم أن يظل في حضرته طبقا للبندين (1،2) من
الفقرة
السابقة إذا كان ذلك ضرورياً لكي:-
(أ) يتم له التعرف علي
المتهم
(ب) للحصول علي
معلومات جاهزة تساعد علي التعرف علي شخص ما
(ت) لطلب
المساعدة طبقاً لما ورد في نص المادة الثانية الفقرة الأولى .
(ث) للحصول علي معلومات
جاهزة تجاه وجود المتهم أو سلوكه أو أي معلومات أخري يحصل عليها من هذا
الشخص
.)(1)
وهناك فريق آخر
يقف موقفاً معادياً لنشاط الشرطة وذلك بعد اتفاق الدراسات علي أن نشاط
الشرطة يعد
قيداً علي الحرية لا حامياً لها .لقد أظهرت الدراسات التجريبية أن الشرطة
تستخدم
القوة غير المشروعة علي نطاق واسع ، وأن القائمين علي تنظيم الشرطة لا
يستطيعون بل
لا يرغبون في توقيع الجزاء علي من يستخدم هذه القوة غير المشروعة من
زملائهم وان
هؤلاء يرفضون صراحة هذا الأمر الذي يشجع هذا الفريق علي الماضي فيه . وكانت
إجابات
تبرير استخدام القوة علي النحو التالي :-
(أ)استخدام القوة بسبب
احتقار المواطنين لرجال الشرطة
37%
(ب)استخدام القوة عند
استحالة تجنبها
23%
(ج) استخدام القوة
للحصول علي معلومات
19%
(د)استخدام القوة للقيام
بالقبض
8%
(ه) استخدام القوة عند
معرفة أن الجاني مذنب
3%
(و)استخدام القوة مع
الجناة الشرسين
5%
(ز) استخدام القوة تجاه
الجناة الذين يرتكبون جرائم جنسية
3%
وقد أجري مركز بحوث الرأي العام الأمريكي دراسة علي قياس اتجاهات المواطنين
تجاه
الشرطة لمعرفة رأي الاقليات بصفة خاصة ، وقد كانت نتيجة الإجابة علي السؤال
:-
هل تقوم الشرطة
بوظائفها بصورة حسنة ؟ الإجابة 38% موزعة علي النحو التالي :
للبيض 23% لغير البيض
15% . وكان من نتيجة في سبيل ممارسة السلطات التي خولت له بناء علي 1،2 من
الفقرة
السابقة أن يستخدم القوة غير المميتة إذا ما كان ذلك ضرورياً وبصورة معقولة
لاجبار
المتهم علي أن يظل في حضرته .
وقد حاولت الدراسات معرفة سبب انعزال الشرطة عن المجتمع ، وانصبت هذه
الدراسات علي
أسباب العزلة الاجتماعية لرجل الشرطة ومدي تفاعل الشرطة مع المجتمع وخالصة
الوكالات الأخرى للضبط الاجتماعي ، وقياس بعض المواقف الأخلاقية لدي الرأي
العام
ورجال الشرطة (1).
وكان من نتيجة هذه الدراسات أن أوصت لجنة رئيس الجمهورية علي انه من
الضروري لكل
هيئة للشرطة أن تعد رجالها من رجال العلاقات الاجتماعية ، وان تحصل وحداتها
علي
برامج تدريبية في هذا الخصوص ، ومن الضروري لكي وحدة أو هيئة يوجد بها
لجنة
استشارية تعمل بانتظام علي حل المشاكل التي تثار بين الشرطة والمجتمع (2)
ويعاني الأمريكيون من
الحجز غير الشرعي illegal detintion
الذي تمارسه الشرطة . ولقد اجري الاتحاد الأمريكي للحريات
المدنية دراسة علي حالات الحجز (2038حالة) في شيكاغو وتبين أن 50% من حالات
القبض
التي قدمت إلي محكمة الجنايات قد ظلت 17 ساعة بدون توجيه اتهام ، وبلغت
الحالات
التي تم فيها الحجز بصورة شرعية20% ن وظهر أن متهم واحد بين كل عشرة متهمين
أمام
محكمة الجنايات يتم حجزه 60 ساعة فاكثر وان كل واحد من 40 متهماً قضي 3
أيام في
الحجز قبل توجيه الاتهام إليه وقد أثبتت هذه الدراسة أن الحجز في مركز
الشرطة بدون اتهام قد اصبح إجراء عادياً في شيكاغو وكذلك في الولايات
الأخرى (1).
ولقد عني التقنين النموذجي لمعهد القانون الأمريكي بفترة الإيداع حيث نصت
المادة
4/4 علي انه (إذا صدر أمر تطبيقياً لنص م 4/2 يجوز مد فترة الإيداع بدون
استصدار
أمر القبض وذلك بغرض إتاحة الفرصة لاتخاذ قراراً فيماً إذا كان هناك ما
يبرر أمرا
باتهامه لارتكاب الجنايات المنصوص عليها في م 4/4 وتبدأ فترة الإيداع
الجديدة من تاريخ صدور الأمر تطبيقا لنص م 4/4 . وتنتهي بإيداع الشخص طبقاً
لاحكام
الفرقتين 2،5 من هذه المادة . ويتعين علي رجل الشرطة أن يجري الإيداع في
موعد لا
يتجاوز المدة المنصوص عليها في الفقرات من أ إلي ج التالية:-
(أ)إذا احضر الشخص إلي
مقر الشرطة فيما بين منتصف الليل والساعة الثامنة صباحاً يتعين أن يتم
الإيداع قبل
الساعة الرابعة من مساء اليوم ذاته .
(ب)إذا أحضر الشخص إلي
مقر الشرطة فيما بين الثامنة صباحاً والساعة الثامنة مساء يتعين أن يتم
الإيداع قبل الساعة العاشرة من مساء اليوم ذاته .
(ج)إذا احضر
الشخص إلي مقر الشرطة فيما بين الساعة الثامنة مساء وبين منتصف الليل يتعين
أن يتم
الإيداع قبل الساعة الثانية عشر صباح اليوم التالي .(2)
وهكذا
نجد أن الفقه الأمريكي يحاول تحديد الضمانات التي تقف دون إساءة استخدام
السلطة من
جانب الشرطة . لقد ثبت أن التعويضات المدنية عن الأضرار لم تعد سلاحاً
كافياً لمنع
الشرطة عن إساءة استخدام السلطة .
واذا ماتم أبطال الإجراء الذي اتخذه رجل الشرطة وتقرر إطلاق سراح المتهم
فان ذلك
في نظر البعض انتهاك لمبدأ انه يجب إدانة المتهم وانه بقبول ذلك الأبطال
فأننا
نعاقب المجتمع لا رجل الشرطة ، نكافئ المتهم ونحبط جهود العدالة . ولذلك
نجد أن
لجنة قانون العقوبات والإجراءات المدنية التي تعمل علي تعويض المخطئ وتغريم
الوحدة
التي قام رجل الشرطة بها علي انتهاك الحقوق الفردية للمقبوض عليه سواء كان
هذا
الأخير مذنباً أو برياً.(1)
واذا كان
التقنين النموذجي قد ركز اهتمامه علي المراحل السابقة علي المحاكمة فأنه
علاوة علي
مرحلة جمع الاستدلالات (م 2) , ومرحلة القبض(م 2)،ومرحلة الإيداع (م 4 )نظم
شروط
التحقيق (م 5) وبداية الإجراءات (م 6) والظهور لأول مرة لسماع الأقوال (م
7),
والكفالة والإفراج المؤقت (م .
وجدير
بالذكر أن هذا التقنين النموذجي قد قرر وجوب تنبيه المتهم لحقوقه عند القبض
عليه
فتنص م 4/1 علي انه (يخبر الضابط المسؤول المقبوض عليه بالفترة التي سيحجز
فيها
قبل الإفراج عنه أو نسب الجريمة إليه وينصحه بشكل واضح وبلغة مفهومة .
(أ ) انه إذا ما نسبت إليه الجريمة فسيطلق سراحه بعد دفع الكفالة أو يقتاد
إلي
القاضي بأسرع وقت ممكن .
(ت) انه ليس ملزما بأن يقول
شيئاً وان أقواله ستستخدم كدليل ضده .
(ث) انه
يستطيع الاتصال
فوراً بمحاميه أو أقاربه أو أصحابه وانه في حالة الضرورة سيزود بالمال
اللازم
للقيام بذلك .
(ج) انه
سيسمح للمحامي أو القريب أو الصديق
بالاتصال به علي النحو الوارد في الفقرة 7 من المادة .
وعالج
التقنين كذلك تنبيه الأمين في المادة 4/3 حيث نص علي انه( إذا كان المقبوض
عليه
أميا فان الضابط المسؤول يلقي عليه شفاهه التنبيه المطلوب في البند 2 من
هذه
الفقرة في حضور شاهد , ويسجل الضابط ذلك كتابة بعد أن يوقع هو والشاهد بأنه
قد قرأ التنبيه المطلوب وانه لم يقدم بياناً مكتوباً بسبب أن المقبوض
عليه أمياً . وجاء هذا التقنين النموذجي بحكم جديد في م 5/8 حيث
(
قرر لا يجوز للضابط المسؤول استجواب المقبوض عليه أو أن يحاول أثناء العرض
الابتدائي في الحصول منه علي أقوال ما لم يكن هذا المتهم قد استعان بمحام
وبشرط أن
يكون هذا المحامي موجوداً ويقبل هو وموكله الاستجواب .
وحرم
التقنين النموذجي استخدام المواد المخدرة والتنويم المغناطيسي واستخدام
جهاز كشف
الكذب أو أي أساليب فنية أخرى خلال سؤال المتهم المقبوض عليه . ولكن جاء
هذا
التحريم مشروطاً إذا نصت المادة نفسها إلا إذا ارتضي المتهم استخدام مثل
هذه
الأساليب وبعد أن يوضع له الضابط انه غير ملزم بقبولها ).
وتمر العدالة الجنائية بالولايات المتحدة بأزمة رهيبة تنصب علي مرحلة
المحاكمة , وإذ1 ما أردنا تصوير هذه الأزمة لا بد أن نشير إلي مركز المحاكم
بصفة
عامة في هذا البلد . ويري الفقه أن للمحاكم هدفين : الأول تنظيمي
باعتبارها
وكالة تعمل علي تطبيق القانون , والثاني تربوي باعتبارها مؤسسات تعمل علي
تنظيم العلاقة بين الفرد والمجتمع ويحكم تنظيم المحاكم في الولايات المتحدة
معايير
ثلاثة :
(أ) أن المحاكم تعمل تجاه
أفعال إجرامية محددة ولاشان لها بالكشف عن المستقبل بالنسبة للظ
الجنائية في السبعينات
الدكتور محمد إبراهيم
زيد *·
في هذا الوقت
بالذات ما تزال هناك أصوات تنادي بالتعديلات الجزئية في مجال تنظيم العدالة
الجنائية ، فتدعو لابقاء أو إلغاء مستشار الإحالة وتنسي بل لا تتناسي أن
العدالة
لن تتحقق بدون تغيير جذري شمولي للنظام الإجرائي التقليدي للدعوة الجنائية .
ومن
العجيب أن يتكلم البعض عن مسح فكرة الإجرائي التقليدي للدعوة الجنائية .
ومن
العجيب أن يتكلم البعض عن مسح فكرة الخصومة الجنائية ولا يحدد لنا بصورة
علمية
واضحة ماهي الخصومة ، وماهي أهدافها وما هو دور الدولة فيها ومامدي رقابة
الشعب
عليها ، وماهي درجة مساهمة المواطنين في إدارتها أن العدالة الجنائية لا
تقتصر علي
ابقاء أو إلغاء مستشار الإحالة . أن العدالة الجنائية لا تقف عند حد مرحلة
التحقيق
والضوابط القضائية لها ، أن العدالة الجنائية لا ينبغي أن تكون عدالة
تقليدية ، بل
هي عدالة اجتماعية تضع في الاعتبار التطورات الحديثة والحاجات الإقليمية في
إطار
قانوني ذي أهداف وغاية .
وقد كان من
الصعب علي الفقهاء التقليديين أن يتقبلوا مثل هذا التطور الطبيعي ، ذلك
لأنهم
حددوا نطاق تحاليلهم بحيث بدت مجردة عن واقع تدور في نطاقه فكرة العدالة
الجنائية
. أن دور القانون في نظر هؤلاء هو القضاء علي الجريمة عن طريق تطبيق عقوبة
رادعة
زاجرة تحقق الردع العام والردع الخاص . وعلي هذا الأساس يكون الإطار
الإجرائي
للدعوى الجنائية الذي يعمل علي تحقيق غايات القانوني الموضوعي . ولذلك جاءت
هذه
العبارات الخالية المضمون أفلاطونية التفكير . يقولون : ( يجب علي الدولة
في علاقاتها
مع منتهك القاعدة القانونية أن تطبق عن طريق القاضي شق الجزاء ). والي هنا
يقف
تفكير المشرع والقاضي بل والجاني ، ويتصور الجميع أن الظاهرة الإجرامية قد
تم
القضاء عليها وان المجتمع ككل قد حقق النجاح في الضرب علي أيدي الجناة ،وان
الجاني
قد تم زجره ولن يرتكب السلوك غير الاجتماعي في المستقبل . وكان الواقع علي
طول
الزمن يناقض ذلك التفكير كله ، ودليلنا علي ذلك الزيادة المطردة في الظاهرة
الإجرامية وبصفة خاصة نسبة العود في المجتمع .
ولقد كان لتطور النظم القانونية في مجال العقوبات أثر في ظهور عيد من
المشاكل في
رحاب تطبيق العدالة الجنائية سواء بالنسبة للمراحل السابقة علي الحكم أو
لمرحلة
الحكم واخيراً بالنسبة لمرحلة التنفيذ العقابي ، وكان هناك مظهر تشريعي
لهذه
المشاكل يبدو واضحاً في التعديلات المستمرة الكلية والجزئية لتقنين
الإجراءات
الجنائية في الدول المختلفة . وكان كل تعديل يراد به توفير ضمانات الدفاع
عن
المتهم ، وحماية المواطنين وإزالة العيوب الجوهرية في مسار الدعوة الجنائية
،
وتوفير الضمانات المرتبطة بحقوق الإنسان في الدعوى وبصفة خاصة خلال المراحل
السابقة علي الحكم (1)[1] ولقد كانت العدالة الجنائية في الماضي تدور
حول محورين :
الجريمة والعقوبة ، أما
اليوم فأنها تتبلور حول ثلاثة : الجريمة والجاني والمعاملة . وكان للدولة
دور في
هذا المجال فأذا ما انصب اهتمام الدولة علي الجريمة وقرر المشرع العقوبة
علي أساس
تحديد للمسؤولية وعلاقة السببية والأهلية الجنائية فان العدالة هنا تكون
عدالة
تقليدية . أما إذا وضع المشرع في اعتباره دراسة شخصية الجاني مع تفريد
المعاملة
تبعاً لحاجته فان هذه العدالة إذن هي عدالة اجتماعية . وبمعني أخر يجب
علي الدولة في تحقيقها للعدالة الجنائية إصلاح حال المتهم واقلمته علي
الحياة
الاجتماعية بدلاً من معاقبته وزجره وردعه . والهدف الأساسي هنا هو التوفيق
بين
مقتضيات العدالة الواقعة التي يمثلها سد حاجات الجاني وتحقيق الدفاع عن
المجتمع .
أن الركيزة الأساسية التي تدور حولها الدعوى الجنائية بمعناها الحديث هو
تحديد
مسؤولية الجاني ودراسة شخصيته . ومن هنا ظهرت الدعوة إلي التغيير الجوهري
لشكل
الدعوى الجنائية، فبدلاً من أن تكون مركزة في مرحلة واحدة اصبح لها مرحلتين
وبمعني
آخر اتباع نظام التقسيم الثنائي للدعوى الجنائية . أن الانتقاء في نظام
الاختبار
الفضائي ، والإشراف في نظام البارول ، وضرورات المعاملة في العقوبة غير
محددة
المدة كل ذلك يتطلب دراسة لشخصية الجاني وتوجب هذه الدراسة ملاحظة للجاني
سابقة
علي اختيار المعاملة الاجتماعية والإنسانية ، ومتابعة دائمة للجاني خلال
خضوعه
للمعاملة الاجتماعية ، ومرونة في تطبيق هذه المعاملة بحيث يمكن تغييرها
واستبدالها
وتعديلها واعادة النظر فيها علي ضوء الظروف التي تقابل عملية إعادة الأقلمة
علي
الحياة الاجتماعية . ومن هنا ظهرت ضرورات التقسيم الثنائي للدعوى الجنائية،
أي
تقسيم الدعوى إلي مرحلتين : الأولى لتحديد الأذناب والثانية لتقرير
المعاملة
الاجتماعية الواجبة (1)[2]
ولايعد هذا
الاتجاه جديداً بل كان تطوراً للأطر الإجرائية الجنائية بعد الحرب العالمية
الثانية وهو مابدأ واضحاً من مؤتمر سان مارتن 1950، والحلقة الدراسية التي
عقدت في
لندن عام 1952، ومؤتمر انفرس 1954، ومؤتمر سيراكوزا 1969 ومؤتمر روما 1969،
وحلقة
تنظيم العدالة الجنائية التي نظمها المركز القومي للبحوث الاجتماعية
والجنائية عام
1969، والحلقة العربية الثانية للدفاع الاجتماعي 1970.
وكان من أهم الأسباب التي دعت إلي الآخذ بهذا النظام هو أن التقسيم الثنائي
فائدة
في نطاق التطور الحديث لمعني العقوبة والتدبير الاجتماعي ، وان التشريعات
الحديثة
تبتعد اليوم عن التطبيق الآلي للنصوص القانونية والنطق بالحكم علي قرار
الأساليب
التقليدية . لقد سار الفقه والقضاء في الماضي علي أن الأذناب شرط العقوبة ،
وان
علي القاضي أن يستشير النص القانوني فور ذلك النطق بالحكم . ولكن مبدأ
تفريد
المعاملة أدي إلي عدم اتباع الآلية في إصدار الأحكام . أن المعاملة الحديثة
تعمل
علي تصفية الحالة الخطرة التي لا علاقة لها بالإسناد بمعناه التقليدي أو
بمادية
الأفعال المرتكبة . ولا ادري كيف يري البعض إلي أن مثل تلك النظام غير
مقبول علي
إطلاقه وغير لازم ، وان الدول التي أخذت به يستحسن أن تتركه ، وانه يجب أن
لاتهجر
تقاليدنا الإجرائية المستقلة إلا إذا كانت ثمة فائدة موجودة .لقد كان من
الأولى
علي هذا الفريق أن يقول ما هو واقعنا اليوم لا تقاليد ألامس وان يظهر لنا
عيوب هذا
التطور لا أن يدعو الدول لهجرة . ماهي الدراسات العلمية التي قام بها هؤلاء
حتى
يرتكزوا عليها ويطلقوا مثل هذه الأحكام ؟ ماهي الأسانيد الواقعية التي تدل
علي أن
تقاليدنا الإجرائية مستقرة؟ أين هي دراسة الشخصية في واقع محاكمنا الجنائية
اليوم
؟ أين هو تفريد المعاملة القضائية والتنفيذية الحائر بين المحاكم والمؤسسات
العقابية ؟
يقولون أن فحص الشخصية
يمكن أن يجري في نفس الوقت مع بحث الوقائع ، وان الجريمة ليست امراً نفسياً
بحتاً
فهناك أيضا الخطيئة أو الآثم وهي كلها أمور لا يمكن تجزئتها علي أساس بحث
الوقائع
في مرحلة وبحث الجوانب المعنوية في مرحلة أخري . وهذا القول فيه مغالطة
واضحة .أن
دراسة الشخصية مسالة علمية للبحث عن أسباب السلوك الاجتماعي وتحديد
المعاملة
المناسبة، أما إسناد السلوك وتحديد العلاقة بين النتيجة والسلوك فمسالة
قانونية
تحكمها نصوص لنسب الجريمة إلي مرتكب آثم خاطئ. وقد نتفق علي أن الجريمة
ليست
نتاجاً لحالة نفسية بحت بل هي جماع لتفاعل بيولوجي نفسي اجتماعي ، ولكن أين
دور
الأثم والخطأ في مثل هذا التفاعل. أن مشكلات العدالة الجنائية لا تقتصر
عالي
مستشار الإحالة بل تحيط بمراحل الدعوى الثلاثة : المراحل السابقة علي
المحاكمة –
مرحلة المحاكمة – مرحلة التنفيذ .
وما من شك
في أن من أهم المراحل الأولى مرحلة القبض والتحقيق وما يتم فيها من إجراءات
وتدابير تقيد من حرية الحركة بالنسبة للمتهمين والمشتبه في أمرهم . وهاتان
المرحلتان هما في الواقع من اخطر المراحل حيث تجد التنظيمات القانونية
صعوبة
لاحد لها في تنظيم عمليات الاستيقاف والقبض والتفتيش والتحقيق ، ومايلي ذلك
من
إجراءات من كالحبس الاحتياطي والافراج بكفالة . وهنا تبدو مشكلة
النظام الإجرائي الذي يتبعه المشرع عند تنظيمه لمرحلة التحقيق وتوفير
الضمانات
القانونية والقضائية والشعبية بحيث تتوفر الرقابة والاشراف . وفي هذا الشأن
يتكلمون عن دور المفوض البرلماني ombudsman
ومدي اتصاله بمسالة الاشراف والرقابة تجاه الافعال التي ترتكبها الأدارة
والقضاء وتعد قيداً علي حرية المواطن .
ولقد تبين
لنا في دراسة الواقع في عمليات القبض في جمهورية مصر العربية أن 66% من
حالات
القبض التي تمت بواسطة الشرطة قد أطلق سراح المقبوض عليهم بعد اصطحابهم
إلي
قسم الشرطة . لو ان النيابة العامة أمرت بحبس 31% من حالات القبض حبساً
احتياطياً
وطلقت سراح 69% التي تمثل الباقي سواء بكفالة أو بدون كفالة أو بدون ضمان
أو بضمان
شخص . وقد تم سؤال اعضاء النيابة العامة السؤال التالي : هل تعتقد أن احوال
القبض
التي تعرض عليك تكون سليمة في تقريرها في غالبية الاحوال ؟ وكانت الاجابات
نعم 72%
،لا 73%(1).[3]
أما مشاكل
المحكمة فترتبط بتنظيم المشرع لكل من نوعية المحاكمة ،هدف المحاكمة ،اصدار
الحكم .
يثور بالنسبة لنوعية المحاكمة موضوع مساهمة المواطنين في تنظيم العدالة
الجنائية
وهو النظام المعروف بأسم (نظام المحلفين )في الدول الغربية ، و(قضاة الشعب
في
الدول الاشتراكية ) ولقد كانت هناك دعوات لدراسة هذا النظام ومعرفة مدي
تطبيقه في
واقع حياتنا العربية ، ولكن ذهبت هذه الصيحات في غمار الفنية القانونية
والشرح علي
المتون . وبالنسبة لهدف المحاكمة فان العدالة ليس لها مطمع سوى إعادة إدماج
الجاني
في الحياة الاجتماعية ، وعلي هذا يجب أن تهدف المحاكمة إلي معرفة الجاني .
وتتم
هذه المعرفة عن طريق دراسة الشخصية بالطرق العلمية . ومن هنا تظهر أهمية
(دوسيه
الشخصية ) الذي يعد إجراء جوهرياً في الدعوى الجنائية بمعناها الحديث أما
إصدار الحكم فقد اصبح علي القاضي أن يبحث عن صياغة مرضية للحكم بحيث تتفق
مع
متطلبات وحاجات شخصية الجاني .
وينتهي بنا
المطاف إلي مرحلة التنفيذ العقابي والتي تعد أهم مرحلة تعمل علي تدعيم
أهداف
الدفاع عن المجتمع ، ورقابة من يخضع إلي المعاملة والأشراف عليه للتحقيق من
إصلاحه
واعادة إدماجه في الحياة الاجتماعية . وهنا تبدو مشكلتين أساسيتين : شكل
الجهاز
الذي يقرر له حق الأشراف علي عملية التنفيذ (قاضي الإشراف علي التنفيذ ) ،
والضمانات التي تقرر للفرد خلال هذه المرحلة (قواعد الحد الأدنى لمعاملة
المذنبين
).(1)[4]
هذه قلة من المشاكل التي تقابل تنظيم العدالة الجنائية ، والتي لن تحل عن
طريق
دعوات جزئية للإصلاح أو تقديم مشروعات لقوانين لا تختلف في صورتها عن تلك
التي
تبين انها عاجزة عن السير مع التقدم العلمي والفقهي . أن الدراسة العلمية
المقارنة
يجب أن تكون ركيزة المشرع في تخطيطه لاهداف وغايات الأطر القانونية
الإجرائية
للمجتمع ولن تكون لهذه الدراسة العلمية قيمة إلا عن طريق التحام المشرع
العربي
بها . وإذا ما استعرضنا تيارات الإصلاح في السبعينات نجد انها شملت
الغالبية سواء
بالنسبة للقانون الموضوعي أو القانون الإجرائي . وهناك ملاحظة عامة علي هذا
التيار
انه قد أصبح لأول مرة ينظر إلي تنظيم العدالة الجنائية بجناحيها الموضوعي
والإجرائي حيث فشلت عملية الفصل التحكيمي بين الموضوع والشكل في السياسة
الجنائية
الحديثة . لقد أظهرت النظم الإجرائية المعمول بها فشلاً واضحاً في الوصول
إلي
الحقيقة ، واصبحت هذه النظم في حالة عسر دائم ، تسير بالدفع الذاتي ويحيط
بها
عدداً من العقبات والصعاب . أن الوصول إلي الحقيقة قد اصبح اليوم مشكلة في
أي نظام
إجرائي ، وأمست معاملة الجاني تعاني كذلك من نقص في الخبرات والأدوات بل
ومن
النظريات أيضاً . وتحسس سمات تنظيم العدالة في السبعينات يتطلب منا اتباع
منهج عام
قوامه تحديد اتجاهات تنظيم العدالة في القانون المقارن ، ثم مواجهة ومقارنة
هذه الاتجاهات
بالمعايير الدولية التي تنادي بها المؤسسات والهيئات الدولية لحماية المتهم
وتوفير
محاكمة عادلة له .
1-
اتجاهات تنظيم العدالة
الجنائية في القانون المقارن
لم تكن
دراسات تنظيم العدالة الجنائية تعتمد في أول الأمر إلا علي منهج الملاحظة
الشخصية
المبني علي الاستنباط والتحليل .وما تزال هذه الدراسات حتى اليوم قائمة
وخاصة بين
فقهاء التشريعات التي تتبع النمط اللاتيني . وكان هنري ويجمور أول الداعين
في عام
1909 إلي تغير هذه المنهج في مؤتمر قانون العقوبات وعلم الإجرام بجامعة
نورث وست
بشيكاغو وجاءت الحرب العالمية الثانية ألقت الضوء الساطع علي دراسات تنظيم
العدالة
الجنائية التي تتبع منهج علم الاجتماع القانوني في التحليل واللإستنتاج
والتقييم
وهو ما تأكد بصورة خاصة علي التنظيم والتطبيق العلمي لوقائع القبض . ولقد
كان هذا التحول منطلقاً للغضب الشعبي وعدم الرضاء بعجلة العدالة الجنائية
وإذا ما
حاولنا تحليل عدم الرضاء الشعبي في ذلك الوقت نجد انه مرتبط بالعوامل
التالية (1).
(أ) التطبيق
الآلي للقواعد والقوانين التي
تحكم تنظيم العدالة الجنائية .
(ب)
الاختلاف
في معدل التطور بين القانون والرأي العام .
(ت) الافتراض
السائد بأن تنظيم العدالة مهمة سهلة يستطيع غير المتخصص القيام بها .
(ث) الارتباط
الشديد بين إدارة تنظيم العدالة والسياسة .
(ج)الرغبة الزائدة في
الانتقام عند اقتراف الجاني للسلوك الإجرامي وضرورة تعبير القانون عن هذه
الرغبة.
واهتمت
الجامعات والمراكز العلمية بهذا النوع الجديد من الدراسات بل وظهرت عدة
معاهد
متخصصة في هذا المجال (2) وبدأت أوربا بالاهتمام بدراسة تنظيم العدالة حيث
ظهرت
عدة دراسات منها دراسة ريجلنسون بهولندا عن قياس اتجاه النزلاء تجاه تنظيم
العدالة
الجنائية . ودراسة هنري بيسوتيه عن التنظيم الإجرائي لمحاكم الأحداث ،
ودراسة
المعهد الفيدرالي للجريمة بألمانيا عن طريق المستخدمة في الكشف عن الجريمة
،ودراسة كلاى ليتهنر عن دور النيابة العامة في السويد ،ودراسة ليفاسير عن
قياس اتجاهات
المواطنين تجاه العدالة الجنائية في فرنسا .
وواكبت
جمهورية مصر العربية هذا التطور العلمي في دراسات تنظيم العدالة الجنائية
،ولم يكن
اهتمام مشروع قواعد الحد الأدنى لتنظيم العدالة الجنائية بالمركز القومي
للبحوث
الاجتماعية والجنائية عارضاَ . وقد قام المشرع بنشر ثلاثة دراسات في معايير
القبض
: دراسة المساواة في تنظيم العدالة القضائية ودراسة دور القاضي في تنفيذ
الجزاء
الجنائي .
ويقوم المشروع حالياً بالانتهاء من دراسة مساهمة المواطنين في تنظيم
العدالة
الجنائية
: نظام المحلفين وقضاة الشعب ، ودراسة الإشراف القضائي علي التحقيق (دراسة
ميدانية
)وكان لهذه الدراسات جميعها تأثير علي المشرع وسياسته تجاه تنظيم العدالة
وخاصة في مشروعات القوانين المطروحة حالياً علي بساط البحث والمناقشة . وقد
يكون
من المفيد اختيار مجموعة منتقاة من المشروعات الجديدة لتحديد الاتجاهات
الحديثة بها
. وفي هذا الشأن سنتعرض لمشروع تقنين الإجراءات الجنائية في إيطاليا (مشروع
مانيلوتي) علي أساس انه يمثل المدرسة الوضعية وتطورها ، ومشروع تقنين
المراحل
السابقة علي المحاكمة الذي قدمه معهد القانون الأمريكي لكي يكون نواة لآي
تشريع في
الولايات المتحدة الأمريكية ، ومشروع تقنين الإجراءات الجنائية في جمهورية
مصر
العربية (مشروع حافظ سابق ).
(أ) مشروع الإجراءات
الإيطالي
(مشروع كارنيلوتي)
عهد إلي
كارنيلوتي بصياغة تقنين الإجراءات الجنائية الإيطالي الجديد وذلك بعد أن
شعر الفقه
والقضاء بأن تنظيم العدالة الجنائية في حاجة إلي التعديل بعد تغيير المبادئ
والغايات في الثلاثين سنة الأخيرة . ولقد تمثل هذا الانطباع في المؤتمرات
المحلية
التي عقدت في إيطاليا ابتداء من مؤتمر مركز الثقافة والحضارة تحت عنوان
(مشاكل
تعديل الدعوى الجنائية فينسيا 1961ومؤتمر انريكودي نيكولا (المعايير
الموجهة
لتعديل الدعوى الجنائية ) ليتشي 1964 إلي المؤتمر القومي السابع لقانون
العقوبات
السابع لقانون العقوبات ((في خطوط إصلاح مرحلة التحقيق الجنائي ))
كانتزارو1965.
ولقد ظهر من هذه المؤتمرات بصورة واضحة في العدالة الجنائية مازالت في
حاجة
إلي نظام Ordineمحدد حديث
(1).وكان من الواضح أن الهدف الأول في
هذا الإصلاح لا بد أن ينصب علي توحيد الأنماط المتعددة لنظم التحقيق الذي
تقوم به
النيابة sommaria 1.ويلاحظ أن
هناك تياراً قوياً في الفقه الإيطالي يري أن النظام الاتهامي المعمول به في
التشريعات الانجلوسكسونية لا يجد قبولاً في إيطاليا ، وذلك لان هذا النظام
يتعارض
مع التقاليد والعادات البيئية (2) .ولهذا فان الإصلاح لا بد أن يضع في
الاعتبار
ضرورة تركيز عمليات التحقيق بين يدي النيابة العامة . لكن في مقابل ذلك
التيار
السابق يوجد أيضا تيار آخر يري ضرورة أن يكون التوحيد لنظم التحقيق في صالح
قاضي
التحقيق وليس النيابة العامة . فإذا كانت للنيابة العامة سمة قضائية فإن
ذلك لا
ينفي انها طرف parte في
الدعوى
(3)أن النيابة العامة
جهاز للدولة التي بجانب قيامها بمهمة المحاكمة تقف في مركز الاتهام accusa ، وهذا الموقف (الحكم والاتهام ) لا
يعد حياداً وهو النقد
الذي وجه لمشروع كارنيلوتي الذي لم يضع علي قدم المساواة سلطات النيابة
العامة في
التحقيق والدفاع الذي يكون في هذه المرحلة مجرد من أي سلاح . ومن المعروف
أن
كارنيلوتي يفضل نظام النيابة العامة ، ويؤكد انه يستخدم اصطلاح (التحقيق
الابتدائي
) بدلاً من (التحقيق) ذلك لان هذا الاصطلاح يعد ملائماً لتحديد معني
التحقيق
ووظائفه حيث انه يستخدم لتوفير العناصر الضرورية للمحاكمة لا تلك الضرورية
للإدانة
أو البراءة . وهو ما نصت عليه م 86/1 من مشروعه (يجب أن يعمل التحقيق
الابتدائي
علي تحديد احتمال أن يكون الجريمة قد ارتكبت ، لا ارتكاب الجريمة بصورة
مؤكدة )
وفي نظر كارنيلوتي أن ذلك تجنباً للخطأ الذي وقع فيه القانون الحالي في م
299
والتي ينص علي أن التحقيق الذي يقوم به القاضي يجب أن يعمل علي الوصول إلي
الحقيقة
.ويري كارنيلوتي أن التحقيق الابتدائي يعادل التحقيق بواسطة النيابة
المعمول به
حالياً I..S.ولكنه يختلف
عنه بصورة جذرية بالنسبة لوظائفه حيث أن النظام الحالي يرمي إلي عرض نتائجه
مباشرة
علي قاضي الموضوع لا ستخدامها في المحاكمة .
بينما
التحقيق الابتدائي يعطي نتائجه فقط للنيابة العامة لاستخدامها في المحاكمة
ومن هنا
يعلم القاضي بها عن طريق النيابة العامة . وتنص م 131 من المشروع الجديد
علي ان
تقوم النيابة بالكشف عن وثائقها في حالة الضرورة القصوى قبل المحاكمة ،
وذلك بهدف
ضمان سمة الخصومة CONTRADITTCRIOبالنسبة
للأدلة التي يعتمد عليها القاضي في تحديد اقتناعه .
ويري البعض انه من الضروري في الدعوى الجنائية الاحتفاظ بسمة الخصومة بين
الأطراف
نظراً لان الدعوى في ذاتها ماهي إلا صراع بين المصالح وصراع بين الأشخاص .
والقول
بأن النيابة العامة طرف في الدعوى يوجب التمسك بفكرة المساواة بين الأطراف
أمام
القانون . الأمر الذي له أهمية في النظام الذي يتبع نظرية الفصل بين
السلطات (1).
ولقد أدي النقاش الدائر حول توحيد نظم التحقيق إلي ثلاثة طرق يجب علي
المشروع
الحديث أن يختار أحدهما :
(1) وجوب أن يكون التحقيق
بصورة خالصة لقاضي التحقيق .
(2) أن يعهد
بالتحقيق إلي النيابة مع توفير ضمانات
مناسبة للدفاع .
(3) استبدال
التحقيق بنظام جديد للتحريات وجمع
الأدلة .
ويسود
الاعتقاد بين الفقهاء في إيطاليا انه علي الرغم من أن الدعوى بمعناها
الحديث خليط
بين النظام الاتهامي ونظام التنقيب والتحري إلا انه يجب هيمنة سمات النظام
الأول .
ومن الصعب بمكان تحديد أفضلية نظام علي آخر ، ولكن من المؤكد أن اختلاف
النظامين
يرجع إلي اختلاف النظام السياسي المعمول به . إذ يقال أن النظام الاتهامي
يرتبط
بالنظم الديمقراطية والجمهورية ، أما نظام التنقيب والتحري فانه مرتبط
بالنظم
الملكية . وقد نوه كارميناني بارتباط الديمقراطية والنظام التهامي ، وأعتبر
هذا
الارتباط نتيجة طبيعية مباشرة للسلطة السائدة والسيطرة علي أعضاء الجماعة
السياسية
.(2)وعلي الرغم من أن الفقه يقاوم وبشدة في إيطاليا سمات الدعوى الاتهامية
عن طريق
الوقوف موقفاً وسطاً ، إلا أن هناك اتجاه كبير نحو النظام الاتهامي في
مرحلة
التحقيق ومرحلة المحاكمة ظهر أثره واضحاً في موافقة البرلمان أل إيطالي علي
المعايير التي يجب أن توضع في الاعتبار في أيى تعديل جديد لتنظيم العدالة
الجنائية
ومن بينها وجوب أن تتخذ الدعوى الجنائية سمات النظام الاتهامي .
ويقولون
أن مبدأ الخصومة لا يتم عندما يصدر القاضي حكمه علي أساس محاضر التحقيق الا
إذا
كان المراد هو نزع قيمة المرافعة في حد ذاتها ولا يكون هناك محل للقول
بأنه
يوجد في إجراءات التحقيق الحالية ضمان لمحاكمات لا معني لها ، وإنها تعمل
بلا شك
في إطار الضمانات المحولة للمواطن ، ذلك لأن علانية الإجراءات خلال التحقيق
مع
الاحتفاظ بوحدة الزمن وضمانه أفضل من التحقيق الطويل الأمد الذي تعقده
السرية
المطلقة أو النسبية (1) وذا كان النظام الاتهامي من وجهة النظر الاجتماعية
يشكل
وسيلة قانونية لمواجهة الكراهية والعداء من جانب منتكهي القاعدة القانونية
إلا انه
يحتاج إلي مناخ حضاري متقدم سليم من إيحاءات الخداع والأحابيل الشخصية ولقد
تأكد بصورة واضحة من اتجاه القانون الإنجليزي إلي تدعيم سلطات جهاز المدعي
العام . وعلي اساس هذه الحجة يري بعض الفقهاء وعلي رأسهم جوفاني ليوني انه
من الصعب
قبول النظام الاتهامي في مرحلة التحقيق نظراً لعدم تجاوبه مع العادات
الاجتماعية
والسياسية في إيطاليا .(2)
ونتيجة
لاتجاه توحيد نظم التحقيق في إيطاليا ثارت مشكلتان أساسيتان الأولي تتعلق
بجمع
الأدلة ، والثانية بالحرية الفردية للمتهم .
لقد
حاول كارنيلوتي في مشروعه (تنظيم الأدلة ) وضمان حرية المتهم في المواد من
65 –73
. وجدير بالذكر هنا أن المادة 67 تحكم سؤال المتهم الشهود حيث تعترف للمتهم
بحق
السكوت والصمت وعدم الإجابة ، ولكن تضع علي عاتقه التزام بالظهور أمام
القاضي حيث
تنص علي انه (يلتزم المتهم بالظهور عند دعوته ولكن لا يلتزم بالإجابة ) .
وفي تنظيمه للأدلة نجد أن المادة 72 تقرر : (لا يكون لتقارير ضباط الشرطة
ورجال
القضائية ومحاضر الاستدلالات أية قيمة في الإثبات ولا تعتبر من الدلائل )
وفي هذا
الإطار لجمع أدلة تثور مشكلة السرية ، فلقد تم تبرير صفة السرية لاعمال
التحقيق
بضمان حسن سيره لتسهيل الوصول إلي الحقيقة (1) . ويجمع معضدو السرية بين
ضرورتها
وبين مبدأ حرية القاضي في الاقتناع . ويؤكد الفقه التقليدي السرية لمحاولة
تجنب أن
يقوم بإثارة عناصر قريبة عن الدعوى تعمل علي بلبلة أفكار القاضي وتضليله في
أن
يلحق الضرر باقتناعه . ومن الواضح أنم مبدأ سرية التحقيق في مواجهة أطراف
الدعوى
ومبدأ الخصومة الجنائية لا يتفقان ،ذلك لان هذا المبدأ الأخير يعمل علي
المساواة
بين الأطراف بحيث يسمح إلي كل منهما التأثير في القرار النهائي لجهة
الاختصاص في
التحقيق . ولذلك نجد أن هناك محاولات للوقوف موقفاً وسطاً . إذ يري بعض
الفقهاء
وعلي رأسهم دي مارسيكو انه لابد من وجود علاقة بين التوسع في السرية
والمرحلة التي
تباشر فيها إجراءات التحقيق . فبالنسبة لاعمال الشرطة التي لها سمة السرعة
لا يجوز
مساهمة الدفاع وتكون لها سرية مطلقة أما بالنسبة لتحقيق النيابة العامة
فيكون هناك
احتمال مساهمة الدفاع حتى نهاية التحقيق.(2). ولذلك نجد أن مؤتمر سان
جورجيو يؤكد
منح الدفاع حق حضور استجواب المتهم ، وان يعطي للدفاع حق توجيه الأسئلة في
المحضر لخدمة التحقيق (3).
أما بالنسبة للحرية الفردية للمتهم فأن البعض يري أن هناك عدم
مساواة بين
شكل التحقيق وتقييد الحرية الشخصية باعتبار أن كل منهما أداة للبحث في
الحقيقة .
ويثور هنا سؤال : كيف يمكن تحقيق الحماية القانونية لحق الحرية الفردية ؟
لقد ظهر
في دراسات الفقه الإيطالي اهتمام كبير بشكل التحقيق دون الاهتمام بتنظيم
الحقوق
الفردية . وقد داى ذلك الشباب من الفقهاء إلي القيام بحملة واسعة للدعوة
لهذا
التنظيم ، وقد ظهرت كتابات قوية انعكس رد فعلها علي مؤتمر كالابريا بالذات
حيث
أدعى إلي إصدار تعديل تشريعي لحماية الحرية الفردية خلال التحقيق (4) . وقد
أكد
ليوني في تقرير له منذ عام 1948ضرورة احترام الحرية الفردية علي إطلاقها
وابرز التنظيم الواجب سواء بالنسبة للحقوق الفردية التي يحميها الدستور أو
الحقوق
التي ينظمها تقنين الإجراءات الجنائية (5) . ويري بعض الفقهاء التقليديون
أن تقنين
الإجراءات يحمي مباشرة حقوق وسلطات الدولة وليس الحقوق الشخصية للأفراد .
الا أن
الفقه الحديث يكاد يتفق علي ضرورة أن تعمل القاعدة القانونية الجنائية علي
حماية
الحرية الفردية (6)ويحاول الفقه تحديد
الإطار
القانوني للحرية الفردية علي أساس أن هذا الحرية هي حق عمل كل ما يسمح به
القانون
، فالفرد حر في الانتقال من مكان إلي آخر مع احترام تلك القيود التي يحققها
القانون ، حر في مسكنه ، ماعدا تلك الحالات الاستثنائية التي تقيد الحرية _
حر في
التراسل مع الآخرين ماعدا تلك التي ترد علي هذه الحرية _ حر في الاجتماع
وتنظيم
الاجتماعات (1) ....الخ .
وقد
لاحظ الفقه أن افتراض براءة المتهم حتى صدور الحكم بالإدانة مبدأ لم يكن له
تطبيق
واضح في إيطاليا ولا اعتبار مؤثر لدي الجهة التحقيق بها ، حيث أن الحبس
الاحتياطي
يوقع آلياً علي اعتبار انه (مقدم ) يسبق العقوبة التي سيحكم بها علي أساس
العناصر
المؤكدة للإدانة . وما من شك في أن تنفيذ الحرية الفردية يجد تبريراَ له في
وجود
وحاجة التحقيق ما عدا الحالات الاستثنائية التي قد يؤدي إلي اتباع معيار
آخر كما
هو الحال في حالة خشية الهرب مثلاً . ومن هنا ظهرت الحاجة إلي التفرقة بين
الضمانات المرتبطة بالقبض ، والضمانات المرتبطة بنشاط المحقق . وحماية هذه
الضمانات
عن طريق الطعن فيها أمام المحكمة وأمام تنظيم خاص للإشراف والرقابة علي
قرار
النظام الإنجليزي Eabeas Corpusأو نظام المراقب البرلماني Ombudsman(2). ولقد قام كانيولوتي عند صياغته
لمشروعه باتباع نظام خاص
، ذلك انه أعترف بضرورة وضع المتهم تحت تدابير مقيدة خلال التحقيق misure coercitive بمعرفة
النيابه واعطى لهذه الأخيرة حتى إصدار وتطبيق هذه التدابير، ويرى
كارنيلوتى
انه بينما يعرف التقنين الحالى بالحبس الاحتياطى وبديله تحديد الاقامة
الاجبارى نجد أن مشروعه ينص ثلاثة انماط من التدابير المقيدة : رقابة
الشرطة
(م 98)، وتحديد الإقامة (م 99) والحبس الاحتياطي .
ويعطي المشروع لقاضي الموضوع سلطة تصديق أو تأييد Convalidazionهذه القرارات حيث نصت (م 101)علي انه ((تقرر
النيابة العامة التدابير الوقائية بقرارات مسببة وتحيلها في ظرف 24 ساعة
إلي قاضي
الموضوع الذي يقوم بالتصديق عليها ويجوز الطعن بالنقض في القرارات الصادرة
بالرفض
أو القبول ، وإذا لم يتم التصديق علي القرار يجب وقف التدبير الوقائي
مباشرة .))
وقد أهتم كارنيلوتي بمدة التدبير الوقائي نظر للهجوم علي التنظيم
الحالي
في التشريع الإيطالي حيث وصف بأنه تنظيم غير إنساني وغير حضاري ولذلك كانت
هناك
حدود للتحقيق الابتدائي عند كارنيلوتي حيث نصت (م 95) علي انه ((يجب أن
ينتهي
التحقيق الابتدائي بعد ثلاثة أشهر من يوم وصول البلاغ وإذا لم يتم ذلك
لاسباب
خطيرة يجوز للنيابة العامة أن تطلب من قاضي الموضوع مد الأجل مرة واحدة
والتي يجب
أن تحدد بثلاثة أشهر أخري ))ونص المشروع أيضا علي تنفيذ مدة الحبس
الاحتياطي
وتحديد الاحتياطي وتحديد الإقامة بحيث أوجب أن تنتهي هذه المدة بعد ثلاثة
أشهر منذ
اليوم الذي بدأ تنفيذها فيه ما دام لم تتم إدانة المتهم بحكم نهائي بعقوبة
سالبة للجزية تزيد عن هذه المدة .
(ب )-التقنين
النموذجي الأمريكي
لا
مفر من الاعترافات بأن هناك فرقاً بين النظرية والتطبيق ،فلقد رأينا أن
المجتمع
الأمريكي كان أول من وجه الأنظار نحو ضرورة تنظيم العدالة بمعناها الحديث
ولكن ما
زال هذا المجتمع ينتظر هذا الإصلاح حتى اليوم .
ودليلنا
على ذلك اهتمام بعض المجلات الأسبوعية بإصدار عدد خاص نيوز ويك 8 مارس
1971)
بعنوان (العدالة في الميزان ) JUSTICE ON Trialوهذا عنوان صارخ لفشل العدالة وتنظيمها
في مجتمع ديمقراطي . لقد اعترفوا بأنفسهم بهذا الفشل حين قالوا ، أن ما
لدينا هو
شبه نظام لا يعمل علي متابعة المجرمين والقبض عليهم ، ولا تقوم المحاكم
بمحاكمة
هذا الفريق الأخير ، ولا تعمل السجون علي إصلاحهم ). ووجهت سهام النقد
للشرطة
ونشاطها واعتدائها علي الحريات الفردية ، والي المحاكم وتأخرها في البت في
القضايا
، والي المؤسسات العقابية ونزلائها الذين وصفوا بأنهم (يتامي العدالة
الأمريكية ).
ولقد
كان دور الدراسات الحديثة في تقييم هذا الوضع المعيب ، فأجرت دراسة تجريبية
لقياس
الرأي العام في الولايات المتحدة علي عينة ممثلة لجميع قطاعات المجتمع
الأمريكي
(1717حالة ) تجاه العدالة وتنظيمها ، وأظهرت الدراسة أن المجتمع الأمريكي
يرغب في
إعادة النظر الكلية في النظام القائم ، وان التدهور مستمر في السنين الخمسة
الأخيرة . ولقد كانت الإجابات علي سؤال: ما الذي يثقل كاهل العدالة
الأمريكية ؟
))علي النحو التالي :
إطلاق
سراح المتهم قبل المحاكمة بسهولة 75%
مرور
فترة طويلة حتى يحال المتهم إلي المحكمة 67%
إذدحام
المؤسسات العقابية 43%
تعيين
القضاة لأسباب سياسية فقط 39%
عدم
استطاعة الرجل العادي تحمل نفقات المحامين 32%
انتشار
الرشوة والفساد بين رجال الشرطة 27%
تقرير
الكفالة المالية بصورة مجحفة علي الفقراء 21%
لا
يضع المحامي مصلحة العملاء في الاعتبار 20%
عدم
أهلية المحلفين أو تضليلهم 18%
انحياز
كثير من القضاة إلي أحد الجانين بصور غير عادلة 17%
عدم
وجود أعضاء نيابة متخصصين 13%
وإذا ما اقتصر تحليلنا علي أزمة تنظيم العدالة الجنائية
في المراحل السابقة علي المحاكمة ثم علي مرحلة المحاكمة نجد أن هذه الأزمة
في
الحالة الأولى تدور حول محور سلطة الشرطة في القبض . ومن المعروف أن جهاز
الشرطة
في المجتمع الأمريكي يضم حوالي (000/420) فرد موزعين علي (000/40)هيئة
مستقلة كل
منها عن الأخرى وينقسم المجتمع الأمريكي أمام نشاط الشرطة إلي فريقين :
فريق
يطالب بزيادة سلطة الشرطة للقضاء علي الجريمة وحفظ الأمن وفريق آخر يطالب
بوضع قيود علي هذا النشاط سعياً وراء حماية الحرية الفردية وحصر النشاط
التعسفي . ويقول الفريق الأول أن رجل الشرطة في إصدار الأوامر والقرارات
يقوم بعمل
روتيني . وفي ممارسته لهذه السلطة لا يعرض الحرية الفردية لأي تهديد أساسي
وهو
الأمر الذي تقبله هيئات السلطة والرأي العام ويعتبرونه منطقياً سليماً (1) .
وان
كانت سلطة القبض من أخطر السلطات علي الحرية الفرية فأنه يكون من المنطقي
تحليل أحكام
هذه السلطة في التشريع الأمريكي . أن القبض في الولايات المتحدة قد يتم
بناء علي
أمر القبض Warrant أو بدونه . والأمر بالقبض قد يصدر من
قاض بناء علي وجود سبب محتمل
يثير الاعتقاد بان المشتبه في أمره مذنب بارتكاب الجريمة . وقد يصدر الأمر
بالقبض
في غالبية الولايات بناء علي معلومات أو افتراضات ظنية . ويعتبر إصدار
أوامر القبض
نظرياً وظيفة إدارية شرطية يقوم بها كاتب بصورة روتينية بحيث لا يمكن القول
بأن
هناك احتمال في إعادة النظر في هذا القرار أو وجود أشراف قضائي علي إصداره
(2).
أما بالنسبة للقبض بدون أمر قبض فهناك تفرقة بين القبض بسبب الجناية Felonyوالقبض بسبب
المخالفة MISDEMEANOURويقال أن القبض بسبب الجناية يتم عندما يكون لدي رجل الشرطة
بواعث منطقية Reasonable Grounds تدعو
إلي الاعتقاد بأن جناية قد أرتكبت ،أو ان شخصاً معيناً
بالذات هو المطلوب القبض عليه لارتكابها .وفي في بعض التشريعات نجد أن
القبض في
هذه الحالة بغض النظر عن وجود معلومات لدي رجل الشرطة تؤدي به منطقياً إلي
اعتبار
أن هذا الشخص قد ارتكب الجريمة . ومن الصعب بالنسبة للقبض بسبب مخالفة وضع
قاعدة
عامة ولكن هناك ثلاثة احتمالات بارزة :
(أ) حالة ارتكاب المخالفة
في وجود رجل الشرطة .
(ب) تعطي
التشريعات حقاً
مطلقاً في القبض لارتكاب مخالفة ولو في غير حضور رجل الشرطة
(ج)
تعطي بعض التشريعات الأخرى هذا الحق إذا كانت هناك بواعث منطقية تؤدي إلي
الاعتقاد
بان المخالفة ارتكبت .
وتقف لجنة رئيس الجمهورية في تقريرها عن تنظيم العدالة إلي جانب تدعيم سلطة
رجل
الشرطة حيث أوصت علي انه (يجب علي تشريعات الولايات ان تعمل علي تنظيم سلطة
رجال
الشرطة في استيقاف الأفراد لمجرد السؤال وذلك بتحديد ظروف وحدود الاستيقاف
المسموح
به (1) . وقد عمل مشروع تقنين المراحل السابقة علي المحاكمة الذي قدمه معهد
القانون الأمريكي ومشروع قواعد الحد الأدنى للعدالة الجنائية بجامعة نيو
يورك عام
1966 لكي يكون تقنيناً نموذجاً يحكم الاستيقافStoppingفي الفقرة
الثانية من المادة الثانية حيث نص علي :
(1) استيقاف أشخاص
لديهم علم بالجريمة
(
يجوز لرجل الشرطة الذي يوجد في أي مكان بصورة قانونية أن يأمر المتهم بأن
يظل أو
بالقرب من المكان الذي يتواجد فيه رجل الشرطة لمدة تزيد عن عشرين دقيقة إذا
كان
لديه سبب معقول لكي يعتقد بأن جناية أو مخالفة قد ارتكبت وان هذا الشخص
لديه
معلومات قد تساعده مادياً في التحقيق.)
2- استيقاف أشخاص في ظروف مريبة
(
يجوز لأي رجل شرطة يوجد في أي مكان بصورة قانونية إذا ما شاهد شخصاً في
ظروف توحي
إليه بأنه قد ارتكب أو في سبيل ارتكاب جناية أو مخالفة ، أن يأمر هذا الشخص
بان
يظل في أو بالقرب من المكان الذي يتواجد فيه لمدة لا تزيد عن عشرين دقيقة
بشرط أن
يكون ذلك ضروريا لمساعدة ضابط الشرطة لتحقيق من مشروعية سلوك هذا الشخص .)
3-
الأعمال التي يجوز
القيام بها خلال مرحلة الاستيقاف
(
لرجل الشرطة أن يطلب من المتهم أن يظل في حضرته طبقا للبندين (1،2) من
الفقرة
السابقة إذا كان ذلك ضرورياً لكي:-
(أ) يتم له التعرف علي
المتهم
(ب) للحصول علي
معلومات جاهزة تساعد علي التعرف علي شخص ما
(ت) لطلب
المساعدة طبقاً لما ورد في نص المادة الثانية الفقرة الأولى .
(ث) للحصول علي معلومات
جاهزة تجاه وجود المتهم أو سلوكه أو أي معلومات أخري يحصل عليها من هذا
الشخص
.)(1)
وهناك فريق آخر
يقف موقفاً معادياً لنشاط الشرطة وذلك بعد اتفاق الدراسات علي أن نشاط
الشرطة يعد
قيداً علي الحرية لا حامياً لها .لقد أظهرت الدراسات التجريبية أن الشرطة
تستخدم
القوة غير المشروعة علي نطاق واسع ، وأن القائمين علي تنظيم الشرطة لا
يستطيعون بل
لا يرغبون في توقيع الجزاء علي من يستخدم هذه القوة غير المشروعة من
زملائهم وان
هؤلاء يرفضون صراحة هذا الأمر الذي يشجع هذا الفريق علي الماضي فيه . وكانت
إجابات
تبرير استخدام القوة علي النحو التالي :-
(أ)استخدام القوة بسبب
احتقار المواطنين لرجال الشرطة
37%
(ب)استخدام القوة عند
استحالة تجنبها
23%
(ج) استخدام القوة
للحصول علي معلومات
19%
(د)استخدام القوة للقيام
بالقبض
8%
(ه) استخدام القوة عند
معرفة أن الجاني مذنب
3%
(و)استخدام القوة مع
الجناة الشرسين
5%
(ز) استخدام القوة تجاه
الجناة الذين يرتكبون جرائم جنسية
3%
وقد أجري مركز بحوث الرأي العام الأمريكي دراسة علي قياس اتجاهات المواطنين
تجاه
الشرطة لمعرفة رأي الاقليات بصفة خاصة ، وقد كانت نتيجة الإجابة علي السؤال
:-
هل تقوم الشرطة
بوظائفها بصورة حسنة ؟ الإجابة 38% موزعة علي النحو التالي :
للبيض 23% لغير البيض
15% . وكان من نتيجة في سبيل ممارسة السلطات التي خولت له بناء علي 1،2 من
الفقرة
السابقة أن يستخدم القوة غير المميتة إذا ما كان ذلك ضرورياً وبصورة معقولة
لاجبار
المتهم علي أن يظل في حضرته .
وقد حاولت الدراسات معرفة سبب انعزال الشرطة عن المجتمع ، وانصبت هذه
الدراسات علي
أسباب العزلة الاجتماعية لرجل الشرطة ومدي تفاعل الشرطة مع المجتمع وخالصة
الوكالات الأخرى للضبط الاجتماعي ، وقياس بعض المواقف الأخلاقية لدي الرأي
العام
ورجال الشرطة (1).
وكان من نتيجة هذه الدراسات أن أوصت لجنة رئيس الجمهورية علي انه من
الضروري لكل
هيئة للشرطة أن تعد رجالها من رجال العلاقات الاجتماعية ، وان تحصل وحداتها
علي
برامج تدريبية في هذا الخصوص ، ومن الضروري لكي وحدة أو هيئة يوجد بها
لجنة
استشارية تعمل بانتظام علي حل المشاكل التي تثار بين الشرطة والمجتمع (2)
ويعاني الأمريكيون من
الحجز غير الشرعي illegal detintion
الذي تمارسه الشرطة . ولقد اجري الاتحاد الأمريكي للحريات
المدنية دراسة علي حالات الحجز (2038حالة) في شيكاغو وتبين أن 50% من حالات
القبض
التي قدمت إلي محكمة الجنايات قد ظلت 17 ساعة بدون توجيه اتهام ، وبلغت
الحالات
التي تم فيها الحجز بصورة شرعية20% ن وظهر أن متهم واحد بين كل عشرة متهمين
أمام
محكمة الجنايات يتم حجزه 60 ساعة فاكثر وان كل واحد من 40 متهماً قضي 3
أيام في
الحجز قبل توجيه الاتهام إليه وقد أثبتت هذه الدراسة أن الحجز في مركز
الشرطة بدون اتهام قد اصبح إجراء عادياً في شيكاغو وكذلك في الولايات
الأخرى (1).
ولقد عني التقنين النموذجي لمعهد القانون الأمريكي بفترة الإيداع حيث نصت
المادة
4/4 علي انه (إذا صدر أمر تطبيقياً لنص م 4/2 يجوز مد فترة الإيداع بدون
استصدار
أمر القبض وذلك بغرض إتاحة الفرصة لاتخاذ قراراً فيماً إذا كان هناك ما
يبرر أمرا
باتهامه لارتكاب الجنايات المنصوص عليها في م 4/4 وتبدأ فترة الإيداع
الجديدة من تاريخ صدور الأمر تطبيقا لنص م 4/4 . وتنتهي بإيداع الشخص طبقاً
لاحكام
الفرقتين 2،5 من هذه المادة . ويتعين علي رجل الشرطة أن يجري الإيداع في
موعد لا
يتجاوز المدة المنصوص عليها في الفقرات من أ إلي ج التالية:-
(أ)إذا احضر الشخص إلي
مقر الشرطة فيما بين منتصف الليل والساعة الثامنة صباحاً يتعين أن يتم
الإيداع قبل
الساعة الرابعة من مساء اليوم ذاته .
(ب)إذا أحضر الشخص إلي
مقر الشرطة فيما بين الثامنة صباحاً والساعة الثامنة مساء يتعين أن يتم
الإيداع قبل الساعة العاشرة من مساء اليوم ذاته .
(ج)إذا احضر
الشخص إلي مقر الشرطة فيما بين الساعة الثامنة مساء وبين منتصف الليل يتعين
أن يتم
الإيداع قبل الساعة الثانية عشر صباح اليوم التالي .(2)
وهكذا
نجد أن الفقه الأمريكي يحاول تحديد الضمانات التي تقف دون إساءة استخدام
السلطة من
جانب الشرطة . لقد ثبت أن التعويضات المدنية عن الأضرار لم تعد سلاحاً
كافياً لمنع
الشرطة عن إساءة استخدام السلطة .
واذا ماتم أبطال الإجراء الذي اتخذه رجل الشرطة وتقرر إطلاق سراح المتهم
فان ذلك
في نظر البعض انتهاك لمبدأ انه يجب إدانة المتهم وانه بقبول ذلك الأبطال
فأننا
نعاقب المجتمع لا رجل الشرطة ، نكافئ المتهم ونحبط جهود العدالة . ولذلك
نجد أن
لجنة قانون العقوبات والإجراءات المدنية التي تعمل علي تعويض المخطئ وتغريم
الوحدة
التي قام رجل الشرطة بها علي انتهاك الحقوق الفردية للمقبوض عليه سواء كان
هذا
الأخير مذنباً أو برياً.(1)
واذا كان
التقنين النموذجي قد ركز اهتمامه علي المراحل السابقة علي المحاكمة فأنه
علاوة علي
مرحلة جمع الاستدلالات (م 2) , ومرحلة القبض(م 2)،ومرحلة الإيداع (م 4 )نظم
شروط
التحقيق (م 5) وبداية الإجراءات (م 6) والظهور لأول مرة لسماع الأقوال (م
7),
والكفالة والإفراج المؤقت (م .
وجدير
بالذكر أن هذا التقنين النموذجي قد قرر وجوب تنبيه المتهم لحقوقه عند القبض
عليه
فتنص م 4/1 علي انه (يخبر الضابط المسؤول المقبوض عليه بالفترة التي سيحجز
فيها
قبل الإفراج عنه أو نسب الجريمة إليه وينصحه بشكل واضح وبلغة مفهومة .
(أ ) انه إذا ما نسبت إليه الجريمة فسيطلق سراحه بعد دفع الكفالة أو يقتاد
إلي
القاضي بأسرع وقت ممكن .
(ت) انه ليس ملزما بأن يقول
شيئاً وان أقواله ستستخدم كدليل ضده .
(ث) انه
يستطيع الاتصال
فوراً بمحاميه أو أقاربه أو أصحابه وانه في حالة الضرورة سيزود بالمال
اللازم
للقيام بذلك .
(ج) انه
سيسمح للمحامي أو القريب أو الصديق
بالاتصال به علي النحو الوارد في الفقرة 7 من المادة .
وعالج
التقنين كذلك تنبيه الأمين في المادة 4/3 حيث نص علي انه( إذا كان المقبوض
عليه
أميا فان الضابط المسؤول يلقي عليه شفاهه التنبيه المطلوب في البند 2 من
هذه
الفقرة في حضور شاهد , ويسجل الضابط ذلك كتابة بعد أن يوقع هو والشاهد بأنه
قد قرأ التنبيه المطلوب وانه لم يقدم بياناً مكتوباً بسبب أن المقبوض
عليه أمياً . وجاء هذا التقنين النموذجي بحكم جديد في م 5/8 حيث
(
قرر لا يجوز للضابط المسؤول استجواب المقبوض عليه أو أن يحاول أثناء العرض
الابتدائي في الحصول منه علي أقوال ما لم يكن هذا المتهم قد استعان بمحام
وبشرط أن
يكون هذا المحامي موجوداً ويقبل هو وموكله الاستجواب .
وحرم
التقنين النموذجي استخدام المواد المخدرة والتنويم المغناطيسي واستخدام
جهاز كشف
الكذب أو أي أساليب فنية أخرى خلال سؤال المتهم المقبوض عليه . ولكن جاء
هذا
التحريم مشروطاً إذا نصت المادة نفسها إلا إذا ارتضي المتهم استخدام مثل
هذه
الأساليب وبعد أن يوضع له الضابط انه غير ملزم بقبولها ).
وتمر العدالة الجنائية بالولايات المتحدة بأزمة رهيبة تنصب علي مرحلة
المحاكمة , وإذ1 ما أردنا تصوير هذه الأزمة لا بد أن نشير إلي مركز المحاكم
بصفة
عامة في هذا البلد . ويري الفقه أن للمحاكم هدفين : الأول تنظيمي
باعتبارها
وكالة تعمل علي تطبيق القانون , والثاني تربوي باعتبارها مؤسسات تعمل علي
تنظيم العلاقة بين الفرد والمجتمع ويحكم تنظيم المحاكم في الولايات المتحدة
معايير
ثلاثة :
(أ) أن المحاكم تعمل تجاه
أفعال إجرامية محددة ولاشان لها بالكشف عن المستقبل بالنسبة للظ