مشكلات
السياسة العقابية في السودان
أحمد محمد عثمان قاضي
قاضي
المحكمة العليا
بكالوريوس القانون
من جامعة الخرطوم
ماجستير في
القوانين من جامعة انديانا بالولايات المتحدة الأمريكية
مقدمة
من الناحية
العلمية فإن توقيع العقاب بمن تمت إدانته من الأشخاص بجريمة أو مخالفة ما
يعتبر
أمراً صعباً وبالغ الأهمية وجزءاً هاماً للغاية في عملية العدالة الجنائية.
فالسؤال
الهام والذي يطرح نفسه بعد تقرير الإدانة ما هو العقاب الذي يتناسب وشخص
المدان
وفي نفس الوقت يجئ متناسباً ومدى خطورة الجرم الذي أتاه؟
الإجابة لا
شك تحف بها الصعاب لأنه لا قالب متفق عليه تصب فيه المعلومات المتوفرة حول
ظروف
ذلك الشخص وعوام الخطورة التي تكمن في الفعل الذي أتاه والذي أدين من أجله
حتى
نتحصل على نتيجة محددة معلومة. فالقاضي الذي يصدر العقاب أو الجزاء يفترض
أن يزن
في ميزان دقيق مستقبل حياة ذلك الفرد الذي جنح أو ارتكب الفعل المجرم ودوره
في
حماية المجتمع. فالأغراض التي يخدمها العقاب في النظام الجنائي قد تكون
الزجر في
نفسه والعظة والاعتبار للآخرين General
deterrence or specific deterrence أو
قد يكون الغرض القصاص أو جعله يدفع لما اقترف Retribution أو قد يكون الغرض الإصلاح والتهذيب Rehabilitation فلابد من النظر في أمر هذه الأغراض
والمفاضلة الواعية حتى يتم
التوصل إلى القرار السليم بشأن العقاب. فلا شك أن هذه العملية والتي يتولى
زمام
أمرها القاضي عملية شاقة وعسيرة وليست بالصورة السهلة التي يراها الآخرون.
فالقاضي
مثلاً حتى إذا اختار غرضاً من تلك الأغراض المذكورة باعتباره الغرض المناسب
للحالة
المعروضة عليه فما هو نوع العقاب الذي يخدم ذلك الغرض؟ فإذا اختار مثلاً
عقوبة
السجن بحسبانها الملائمة للغرض المختار فكم من المدة يكون فاعلاً ومحققاً
لذلك
الغرض؟
ولكي نسلط
بعض الضوء ونستبين أمر السياسة العقابية التي انتهجتها محاكمنا بالسودان
أري من
المناسب أن نتعرض لهذا الموضوع في مرحلتين – المرحلة الأولي مرحة القوانين
العقابية حتى 1983م ثم المرحلة التي بدت بأواخر 1983م والممتدة الآن.
المرحلة
الأولي:
في المرحلة
الأولي وعندما كان السودان يرزح تحت الحكم الإنجليزي المصري لم نجد
انتظاماً حتى
في تشريع القوانين الجنائية فقد بدأت تلك الفترة بتشريع الأوامر التي كانت
تعد
بمثابة القوانين وحتى الاختصاص المكاني كان محصوراً في أمكنة محدودة وبدأ
تحديد
المكان الذي يطبق فيه التشريع حتى شمل السودان كله ومن ثم بدأ عمل تشريع
جنائي
واحد للسودان يتمثل في قانون للعقوبات وآخر للإجراءات الجنائية بجانب
التشريعات
الجنائية الأخرى.
في تلك
الفترة لم نجد ما يشير إلى وجود سياسة عقابية موحدة وقد بدأت – الجهات
القضائية في
التغلب على هذا الأمر بإصدار المنشورات التي ترشد وتوجه القضاة لكي نقلل من
المفارقات الظاهرة في توقيع العقاب من قاضي لآخر.
وقد ظهرت
هذه المنشورات بداية من عام 1950م وفي علمي أن أول تلك المنشورات كان
المنشور
الجنائي رقم 9 الصادر في 19/6/1951م والمتعلق بالمعاملة الخاصة للمسجونين
ويبدو أن
ما دعي إليه بداية ليس رسم سياسة عقابية ولكن كان السبب في إصداره التعديل
الذي تم
للائحة السجون آنذاك لائحة السجون (تعديل) لسنة 1950م والتي بدأ العمل بها
في
15/6/1951م والتي جاءت مع التعديل الذي تم لقانون الإجراءات الجنائية.
قانون
الإجراءات الجنائية (تعديل) لسنة 1951م (قانون رقم 3).
لقد ألغى بموجب
التعديل الذي أدخل للائحة السجون المذكورة التقسيم أو – التصنيف الدرجي
للمسجونين
– فقد كانت درجات المسجونين قبل التعديل هي الأولي والثانية والثالثة وجاء
في هذا المنشور جواز التوصية بالمعاملة الخاصة وذلك بأن جوز للمحكمة عند
إصدار
العقوبة أن توصي بمعاملة خاصة للسجين وهذه المعاملة الخاصة تعادل المعاملة
التي
كان يتلقاها سجناء الدرجة الثانية وقد وجه المنشور بأن تدون هذه التوصية في
ورقة
العقوبة Sentence Form ثم
أمر في السجن المحرر والذي يرسل من المحكمة مع السجن.
ثم أشار
المنشور إلى السلطة التقديرية للمحكمة في أن توصي أو لا توصي بالمعاملة
الخاصة
وعند ممارستها لهذه السلطة التقديرية لابد للمحكمة أن تأخذ في الاعتبار
طبيعة
الجريمة التي أتاها المدان والظروف المتعلقة به وأن تسترشد في سبيل ذلك
الآتي:
أولاً :
وكقاعدة عامة ووفقاً لتقدير المحكمة أن توصي بالمعاملة الخاصة في حالة
المسجونين
من الرعايا الأوربيين وكذلك في حالة الموظفين عموماً والذين تتجاوز أعمارهم
الثلاثين عاماً ومن هم في الدرجة الوظيفية H ودرجة أعلا.
كذلك في
حالة المسجونين من التجار الذين تتزايد أعمارهم عن الثلاثين عاماً بشرط أن
يكونوا من
الذين يدفعون ضريبة أرباح الأعمال والتي لا تقل عن العشرين جنيهاً.
ثانياً :
اشترط المنشور بأن لا تتم التوصية في حق من سبق أن عوقب بالسجن أو من يوصف
بأن
سلوكه وحشى ومن كان موظفاً ويقل عمره عن الثلاثين أو شخص تاجر بسيط وكذلك
من هم في
الدرجة الوظيفية فما دون.
وهذا
المنشور في حد ذاته لا (يسعف) كثيراً عند تقرير العقاب الذي يناسب المدان
فاعتباره
يأتي بعد تقرير العقوبة فما يؤديه هذا المنشور في عملية تقرير العقاب
ابتداء جزءاً
يسيراً جداً إذ أنه يكون في ذهن القاضي عند تحديد المدة وعندما ينظر في أمر
قضاء
مدة السجن بالنسبة للسجين هل ستكون فترة شاقة.
تبع ذلك
المنشور الجنائي رقم 12 والمتعلق بضرورة المحافظة على سرية التوصية
باستعمال حق
الرحمة بشأن المعاقبين بعقوبة الإعدام – بأن لا يكشف تلك التوصية المحكوم
عليه
بالإعدام شنقاً – وهذا المنشور أيضاً لا يساعد بشيء في عملية اتخاذ القرار
بشأن
توقيع العقاب.
ثم تبع ذلك
المنشورات الجنائية 13 و 16 و 24 فالأول يتعلق بضرورة تبيان الإنذار الذي
يوجه تحت
المادة 77 (أ) من قانون العقوبات لسنة 1925م لمعتادي الإجرام – وذلك
بتضمينه في
صورة صحيفة السوابق التي ترسل للسجن والتي ترسل منها صورة لقسم التشخيص
والثاني
(16) يتعلق بحالة الشخص الذي يدان بأكثر من جريمة في محاكمة واحدة بأن توقع
عليه
عقوبة واحدة.
والثالث
(24) يتعلق بمعاملة الأحداث وفي هذا الشأن أبان المنشور بأن المعاملة في
توقيع
العقاب تكون مع شخص الحدث لا مع جرمه ومن ثم لابد للمحكمة من ممارسة سلطة
تقديرية
عند التقرير في المعاملة التي تناسب الحدث المعني.
وقد جاء هذا
المنشور مساعداً في عملية إصدار العقاب على الحدث عندما أشار إلى ضرورة
التحقق قبل
إصدار القرار العقاب بشأن العقاب عما إذا كان للحدث إدانات سابقة وعقوباتها
وعما
إذا تم إنذاره من قبل ثم التحقق من (البيئة) التي كان يعيش فيها الحدث
وظروفه
الأسرية عما إذا كانت أسرة متماسكة أو أسرة مفككة فهذه الاعتبارات لا شك
تساعد
المحكمة أو القاضي في تقرير العقاب.
فقد تواصل
إصدار المنشورات بغرض التوجيه والترشيد بشأن العقاب إلا أنها وفي عمومها لم
تمس
جوهر المشكلة مشكلة كيفية الوصول إلى العقاب المناسب أو وضع الثوابت
للمحاكم
والقضاة لتعينهم في عملية تقرير العقاب حتى تقلل من المفارقات التي تحدث في
العقوبات من قاضي لآخر.
لقد ظل
القضاة ينتهجون طرقاً مختلفة لكي يتوصلوا بها أو لكي تعينهم على إصدار
العقاب
والسبب في ذلك ليس عدم توفر الضوابط الموحدة فحسب بل أن – البعض منهم لا
يعير
انتباهه لمسألة الغرض من العقاب وكل ما يعتمد عليه في تقرير العقاب وتقديره
التقدير الشخصي الذي ينبني علي عامل المعقولية التي يراها ومرد هذا الأخير
أن
القاضي عند تعيينه يلحق بمحكمة ما ويجلس مع قاض أو عدد منهم ويسترشد فقط
بخبرتهم
وممارستهم والتي لا تنبني على أسس متفق عليها لهذا تستمر تلك المفارقات في
مدة
العقوبة للقضايا متشابهة ارتكبها أفراد متشابهون في الظروف المتعلقة لكل
وتلك
المفارقات لا شك ضارة أولاً بأمر ثبات القانون من جانب ومن الجانب الآخر لا
يستطيع
المرء أن يتبصر المرء بصورة دقيقة مدققة القانون وما يمكن أن ينال من عقاب
إذا
ارتكب الفعل مجرم.
كذلك من
النتائج الضارة التي تترتب على المفارقات بأنها قد لا تجعل من أمر الردع
أمراً
فعالاً طالما كان العقاب غير محدد ومعلوم لأنه يجئ متفارقاً من محكمة لأخرى
أو من
قاض لآخر.
ويمتد أثر
المفارقات إلى حسابات الجناة قبل ارتكابهم لأفعالهم – فالمعلوم أن المجرم
خصوصاً
من كان متفتحاً في عالم الإجرام فإنه وقبل الإقدام على فعله يجرى بعض
الحسابات.
بداية مثلاً إذا ارتكب هذا هل سيكشف أمره وإذا انكشف أمره ما مدى نجاحه في
الإفلات
من القبض وإذا تم قبضه وقدم للمحاكمة ما مدى العقاب الذي سيناله وفي
الأخيرة هذه
إذا خمره الشك بأنه قد يقدم لقاضي ينزل العقاب الخفيف فإنه لاشك سيقوم على
ارتكاب
فعله – أما لو كان العقاب معلوماً بمعنى أن لا دخل في اختلاف المحكمة أو
القاضي في
أمر تقرير العقاب فإنه لا شك قد يعيد النظر في أمر إقلاعه أو عدوله عن
ارتكاب
الفعل.
ولا يفوتنا
أن نشير إلى أن مسألة المفارقات في العقاب تواجه وتعاني منها معظم الدول
التي تتسع
في تشريعاتها الجنائية السلطات التقديرية للمحكمة أو القاضي في العقاب –
ولا أعنى
هنا أنني ضد تلك السلطات التقديرية الواسعة فهي في اعتقادي أمراً سليماً
لاختلاف
قياس درجة خطورة الجريمة ومن جانب آخر امتداد واختلاف الظروف من شخص مدان
لآخر.
وهناك سبب
آخر لهذه المفارقات يكمن في مفهوم واعتبار المجرم أو الجاني حسب تطور
الثاني –
فهناك مدارس مختلفة في هذا الشأن فهناك من يرى المجرم بأن لا يد له فيما
سلك من
سلوك لأن تكوينه الجسماني هو الذي يكيف سلوكه الإجرامي وقد بلغ الحد ببعض
الجهات
أن ترسم مثلاً وتضع وضعاً لمن يحتج مثلاً لارتكاب جرائم الاغتصاب أو لمن
يرتكب
جرائم القتل الجماعي أو لمن يرتكب جرائم السرقات فهؤلاء لا يرون في العقاب
ما يمكن
أن يمنع مثل ذلك الشخص من ارتكاب جرائمه لأن العقاب لا يغير من تكوينه
البيولوجي
والجسماني ذلك.
وهناك مدرسة
أخرى أو آخرون يرون في المجرم بأنه شخص مريض يحتاج – للعلاج أكثر منه
للعقاب وهكذا
– فاختلاف الرؤى تقود إلى المفارقات.
المرحلة
الثانية:
هذه المرحلة
تبدأ بمرحلة تطبيق قانون العقوبات لسنة 1983م (والقوانين الإسلامية) وهنا
نجد أن
الجرائم تنقسم إلى ثلاث جرائم الحدود – والجرائم القصاصية ثم الجرائم
التعزيرية.
فيما يتعلق
بالقسم الأول فالسياسة العقابية هنا محددة أو قل لا حاجة إلى ضوابط أو
قواعد لتعين
في تقرير العقوبة – لأن العقوبات هنا جاءت محددة ومعلومة النوع والكم فهي
مقدرة حق
الله سبحانه وتعالى فليس لها حد أدنى أو حد أعلى وهي لا تقبل الزيادة أو
النقصان –
فإذا قامت الجريمة فيها لا سلطة تقديرية للقاضي فيها إذ لا ينقص فيها شيئاً
أو يزيد
فيها فلا بد من إنزالها بنوعها وكمها – فسلطة القاضي في هذا الشأن النطق
بالعقوبة
المحددة المعلومة – فينتفي تماماً هنا أعمال أي إجراء أو إعمال أي عملية –
لاختيار
أو تحديد العقاب.
وفيما يتعلق
بالقسم الثاني منها – جرائم القصاص- فسلطة القاضي فيها قاصرة على توقيع
العقوبة
المقررة لها. فعقوبات الجرائم القصاصية أما قصاص أو دية ولذلك هي عقوبات
ذات حد
واحد فليس لها حد أعلى أو حد أدنى حتى تكون للقاضي سلطة تقديرية فيها
فمعلوم أن
سلطات القاضي أو المحكمة التقديرية تمارس عندما تكون للجريمة مثلاً حد أدنى
وحد
أعلى ، وعقوبة القصاص مقدرة حقاً للأفراد ولا تدخل سلطات القاضي التقديرية
إلا إذا
عفا مستحقها واقتضت الظروف أن يوقع القاضي أو المحكمة عقوبة تقديرية ففي
هذه
الحالة وحدها يجئ الحديث عن السلطات التقديرية ومن ثم تدخل في عملية اختيار
وتقدير
العقوبة المناسبة بقرض التقدير.
والقسم الثالث
– الجرائم (التعذيرية) وعقوباتها غير محددة كما في القسمين السابقين ومن ثم
متروك
المجال للمحكمة أو القاضي في أن يقدر العقاب الذي يوقع على مرتكبي هذه
الجرائم –
مما يعنى أن هذا القسم من الجرائم يدخل في دائرة السلطة التقديرية للقاضي
أو
المحكمة في تقرير نوع وكم العقاب ومن ثم يتدرج تحت موضوعنا المتعلق
بالسياسة
العقابية بالمعني الذي عنيناه في حديثنا السابق فسلطة القاضي هنا واسعة في
تحديد
نوع العقاب وكمه وتدخل في هذه العملية الظروف المخففة والظروف التي تستدعى
التشدد.
في هذا الشأن ينسحب كل ما قلناه سابقاً عن عملية تحديد العقاب والصعاب التي
(تواجه) القاضي في هذا الخصوص – وما يعتري أيضاً العقوبة فيها من مفارقات
من قاض
لآخر.
من هذا
العرض جاز لنا أن نقول بأن ليس بالسودان سياسة عقابية محددة تتبعها جميع
المحاكم
والقضاة – فغياب السياسة العقابية الموحدة تشكل المشكلة الرئيسية التي
تكتنف أمر
العقاب – ويمكن تقسيم فئات المحاكم أو القضاة إلى ثلاث في هذا الشأن الفئة
الأولي
تتعامل مع أمر العقاب حسب ما يؤمنون به وما يعتقدون فيه من أمر الغرض من
العقاب
حسب التجربة التي اكتسبوها من قضاة قدامي نالوا معهم تدريبهم.
والفئة
الثالثة يتعاملون مع أمر العقاب لا من منظور فلسفة يؤمنون بها في الغرض من
العقاب
لا من خلال تجربة اكتسبوها من زملاء قدامي بل يعتمدون في ذلك على حسب
إحساسهم بما
هو عدل ومعقول وهم قلة. Accord
to
their Understanding of Faness and Justice وحيال
هذا كله أرى أن تجربة الدراسة العملية لمسألة السياسة
العقابية والتي لابد أن تبنى على أسس علمية واضحة المعالم حتى يهتدي بها
القضاة
والمحاكم ويجدر أن نشير أن مجتمعنا يسير أو قد بدأ خطواته من قبل في السير
نحو
الإصلاح والتهذيب مما يعنى إمكانية إعادة أغلب من جنحوا للإجرام إلى حظيرة
المجتمع
كأعضاء صالحين - وهذا لا شك يتطلب تكثيف العمل على التعرف إلى – شخصية
المجرم
والظروف المحيطة به وذلك عن طريق الباحث الاجتماعي – فالباحث الاجتماعي
يستطيع أن
يضع أمام القاضي أو المحكمة تقريراً مفصلاً وبصورة موجزة دون أن تكون مخلة –
كي
يستعين القاضي أو المحكمة به في تقرير العقاب – فالباحث الاجتماعي عندنا
يعملون أو
ينحصر عملهم الآن في مجال الأحداث فقط – وقد يبدو أن السبب في ذلك قلة
الكادر الذي
يعمل في هذا المجال وكذلك شح إمكانياتهم – فجهدهم هذا مطلوب في مجال
البالغين من
الجناة بنفس القدر والأهمية للوصول إلى العقوبة التقويمية والتي يتحقق من
خلالها
غرض الإصلاح والتهذيب.
الاستعانة
بالباحث الاجتماعي لا أعنى أن لابد أن تجري دراسة ويقوم تقرير فيه عن كل
مدان ولكن
نقصر ذلك إلى القضايا التي جنح فيها الأفراد إلى طريق الجريمة وهناك بارقة
أمل
لردهم عن ذلك الطريق وإصلاح شأنهم حتى يعودوا أعضاء صالحين في مجتمعهم.
ومن جانب
آخر لا يفوتني أن أذكر أننا حتى إذا كان اتجاهنا للصلاح والتهذيب فإننا لا
ننسي
غرض العقاب الآخر وهو الزجر والردع Deterrence
فهناك
من المواقف
والظروف ما يتطلب أعمال ذلك الغرض حتى يرعوى الجاني ويرعوى الآخرون –
فالإصلاح
والتهذيب لا يعنى الالتفات تماماً عن غرض الردع وكذلك في بعض الحالات عن
القصاص من
الجرم بمعنى لابد في بعض الحالات عن القصاص من المجرم بمعنى لابد في بعض
الحالات
أن يكون الغرض أيضاً من العقاب هو أن يدفع المجرم لما اغترف من ذنب في حق
هذا
المجتمع.
ومع كل هذا
لا ننسي أن يكون ديدن العقوبة في كل الحالات هو التدرج في العقاب فيمن كان
حالهم
يسمح بأن يترك لهم الأمر في إصلاح طريقهم بأنفسهم – فهناك من جنح لارتكاب
جريمة ما
ولكن الو اعز في نفسه وضميره ما زال يرجى منه ومن ثم تتاح له الفرصة لكي
يصحح
مساره بنفسه.
من كل هذا
أخلص إلى الآتي :
أ- لابد من
إخضاع مسألة السياسة العقابية إلى دراسة يشارك فيها كل المعنيين بالأمر من
قانونيين وأطباء شرعيين ونفسيين وباحثين اجتماعيين وعلماء الدين وقضاة
ورجال شرطة
وسجون ليضعوا أطراً لسياسة عقابية تنبني على أسس علمية واضحة.
وأسأل الله التوفيق
والسداد على طريق الحق والعدل
السياسة العقابية في السودان
أحمد محمد عثمان قاضي
قاضي
المحكمة العليا
بكالوريوس القانون
من جامعة الخرطوم
ماجستير في
القوانين من جامعة انديانا بالولايات المتحدة الأمريكية
مقدمة
من الناحية
العلمية فإن توقيع العقاب بمن تمت إدانته من الأشخاص بجريمة أو مخالفة ما
يعتبر
أمراً صعباً وبالغ الأهمية وجزءاً هاماً للغاية في عملية العدالة الجنائية.
فالسؤال
الهام والذي يطرح نفسه بعد تقرير الإدانة ما هو العقاب الذي يتناسب وشخص
المدان
وفي نفس الوقت يجئ متناسباً ومدى خطورة الجرم الذي أتاه؟
الإجابة لا
شك تحف بها الصعاب لأنه لا قالب متفق عليه تصب فيه المعلومات المتوفرة حول
ظروف
ذلك الشخص وعوام الخطورة التي تكمن في الفعل الذي أتاه والذي أدين من أجله
حتى
نتحصل على نتيجة محددة معلومة. فالقاضي الذي يصدر العقاب أو الجزاء يفترض
أن يزن
في ميزان دقيق مستقبل حياة ذلك الفرد الذي جنح أو ارتكب الفعل المجرم ودوره
في
حماية المجتمع. فالأغراض التي يخدمها العقاب في النظام الجنائي قد تكون
الزجر في
نفسه والعظة والاعتبار للآخرين General
deterrence or specific deterrence أو
قد يكون الغرض القصاص أو جعله يدفع لما اقترف Retribution أو قد يكون الغرض الإصلاح والتهذيب Rehabilitation فلابد من النظر في أمر هذه الأغراض
والمفاضلة الواعية حتى يتم
التوصل إلى القرار السليم بشأن العقاب. فلا شك أن هذه العملية والتي يتولى
زمام
أمرها القاضي عملية شاقة وعسيرة وليست بالصورة السهلة التي يراها الآخرون.
فالقاضي
مثلاً حتى إذا اختار غرضاً من تلك الأغراض المذكورة باعتباره الغرض المناسب
للحالة
المعروضة عليه فما هو نوع العقاب الذي يخدم ذلك الغرض؟ فإذا اختار مثلاً
عقوبة
السجن بحسبانها الملائمة للغرض المختار فكم من المدة يكون فاعلاً ومحققاً
لذلك
الغرض؟
ولكي نسلط
بعض الضوء ونستبين أمر السياسة العقابية التي انتهجتها محاكمنا بالسودان
أري من
المناسب أن نتعرض لهذا الموضوع في مرحلتين – المرحلة الأولي مرحة القوانين
العقابية حتى 1983م ثم المرحلة التي بدت بأواخر 1983م والممتدة الآن.
المرحلة
الأولي:
في المرحلة
الأولي وعندما كان السودان يرزح تحت الحكم الإنجليزي المصري لم نجد
انتظاماً حتى
في تشريع القوانين الجنائية فقد بدأت تلك الفترة بتشريع الأوامر التي كانت
تعد
بمثابة القوانين وحتى الاختصاص المكاني كان محصوراً في أمكنة محدودة وبدأ
تحديد
المكان الذي يطبق فيه التشريع حتى شمل السودان كله ومن ثم بدأ عمل تشريع
جنائي
واحد للسودان يتمثل في قانون للعقوبات وآخر للإجراءات الجنائية بجانب
التشريعات
الجنائية الأخرى.
في تلك
الفترة لم نجد ما يشير إلى وجود سياسة عقابية موحدة وقد بدأت – الجهات
القضائية في
التغلب على هذا الأمر بإصدار المنشورات التي ترشد وتوجه القضاة لكي نقلل من
المفارقات الظاهرة في توقيع العقاب من قاضي لآخر.
وقد ظهرت
هذه المنشورات بداية من عام 1950م وفي علمي أن أول تلك المنشورات كان
المنشور
الجنائي رقم 9 الصادر في 19/6/1951م والمتعلق بالمعاملة الخاصة للمسجونين
ويبدو أن
ما دعي إليه بداية ليس رسم سياسة عقابية ولكن كان السبب في إصداره التعديل
الذي تم
للائحة السجون آنذاك لائحة السجون (تعديل) لسنة 1950م والتي بدأ العمل بها
في
15/6/1951م والتي جاءت مع التعديل الذي تم لقانون الإجراءات الجنائية.
قانون
الإجراءات الجنائية (تعديل) لسنة 1951م (قانون رقم 3).
لقد ألغى بموجب
التعديل الذي أدخل للائحة السجون المذكورة التقسيم أو – التصنيف الدرجي
للمسجونين
– فقد كانت درجات المسجونين قبل التعديل هي الأولي والثانية والثالثة وجاء
في هذا المنشور جواز التوصية بالمعاملة الخاصة وذلك بأن جوز للمحكمة عند
إصدار
العقوبة أن توصي بمعاملة خاصة للسجين وهذه المعاملة الخاصة تعادل المعاملة
التي
كان يتلقاها سجناء الدرجة الثانية وقد وجه المنشور بأن تدون هذه التوصية في
ورقة
العقوبة Sentence Form ثم
أمر في السجن المحرر والذي يرسل من المحكمة مع السجن.
ثم أشار
المنشور إلى السلطة التقديرية للمحكمة في أن توصي أو لا توصي بالمعاملة
الخاصة
وعند ممارستها لهذه السلطة التقديرية لابد للمحكمة أن تأخذ في الاعتبار
طبيعة
الجريمة التي أتاها المدان والظروف المتعلقة به وأن تسترشد في سبيل ذلك
الآتي:
أولاً :
وكقاعدة عامة ووفقاً لتقدير المحكمة أن توصي بالمعاملة الخاصة في حالة
المسجونين
من الرعايا الأوربيين وكذلك في حالة الموظفين عموماً والذين تتجاوز أعمارهم
الثلاثين عاماً ومن هم في الدرجة الوظيفية H ودرجة أعلا.
كذلك في
حالة المسجونين من التجار الذين تتزايد أعمارهم عن الثلاثين عاماً بشرط أن
يكونوا من
الذين يدفعون ضريبة أرباح الأعمال والتي لا تقل عن العشرين جنيهاً.
ثانياً :
اشترط المنشور بأن لا تتم التوصية في حق من سبق أن عوقب بالسجن أو من يوصف
بأن
سلوكه وحشى ومن كان موظفاً ويقل عمره عن الثلاثين أو شخص تاجر بسيط وكذلك
من هم في
الدرجة الوظيفية فما دون.
وهذا
المنشور في حد ذاته لا (يسعف) كثيراً عند تقرير العقاب الذي يناسب المدان
فاعتباره
يأتي بعد تقرير العقوبة فما يؤديه هذا المنشور في عملية تقرير العقاب
ابتداء جزءاً
يسيراً جداً إذ أنه يكون في ذهن القاضي عند تحديد المدة وعندما ينظر في أمر
قضاء
مدة السجن بالنسبة للسجين هل ستكون فترة شاقة.
تبع ذلك
المنشور الجنائي رقم 12 والمتعلق بضرورة المحافظة على سرية التوصية
باستعمال حق
الرحمة بشأن المعاقبين بعقوبة الإعدام – بأن لا يكشف تلك التوصية المحكوم
عليه
بالإعدام شنقاً – وهذا المنشور أيضاً لا يساعد بشيء في عملية اتخاذ القرار
بشأن
توقيع العقاب.
ثم تبع ذلك
المنشورات الجنائية 13 و 16 و 24 فالأول يتعلق بضرورة تبيان الإنذار الذي
يوجه تحت
المادة 77 (أ) من قانون العقوبات لسنة 1925م لمعتادي الإجرام – وذلك
بتضمينه في
صورة صحيفة السوابق التي ترسل للسجن والتي ترسل منها صورة لقسم التشخيص
والثاني
(16) يتعلق بحالة الشخص الذي يدان بأكثر من جريمة في محاكمة واحدة بأن توقع
عليه
عقوبة واحدة.
والثالث
(24) يتعلق بمعاملة الأحداث وفي هذا الشأن أبان المنشور بأن المعاملة في
توقيع
العقاب تكون مع شخص الحدث لا مع جرمه ومن ثم لابد للمحكمة من ممارسة سلطة
تقديرية
عند التقرير في المعاملة التي تناسب الحدث المعني.
وقد جاء هذا
المنشور مساعداً في عملية إصدار العقاب على الحدث عندما أشار إلى ضرورة
التحقق قبل
إصدار القرار العقاب بشأن العقاب عما إذا كان للحدث إدانات سابقة وعقوباتها
وعما
إذا تم إنذاره من قبل ثم التحقق من (البيئة) التي كان يعيش فيها الحدث
وظروفه
الأسرية عما إذا كانت أسرة متماسكة أو أسرة مفككة فهذه الاعتبارات لا شك
تساعد
المحكمة أو القاضي في تقرير العقاب.
فقد تواصل
إصدار المنشورات بغرض التوجيه والترشيد بشأن العقاب إلا أنها وفي عمومها لم
تمس
جوهر المشكلة مشكلة كيفية الوصول إلى العقاب المناسب أو وضع الثوابت
للمحاكم
والقضاة لتعينهم في عملية تقرير العقاب حتى تقلل من المفارقات التي تحدث في
العقوبات من قاضي لآخر.
لقد ظل
القضاة ينتهجون طرقاً مختلفة لكي يتوصلوا بها أو لكي تعينهم على إصدار
العقاب
والسبب في ذلك ليس عدم توفر الضوابط الموحدة فحسب بل أن – البعض منهم لا
يعير
انتباهه لمسألة الغرض من العقاب وكل ما يعتمد عليه في تقرير العقاب وتقديره
التقدير الشخصي الذي ينبني علي عامل المعقولية التي يراها ومرد هذا الأخير
أن
القاضي عند تعيينه يلحق بمحكمة ما ويجلس مع قاض أو عدد منهم ويسترشد فقط
بخبرتهم
وممارستهم والتي لا تنبني على أسس متفق عليها لهذا تستمر تلك المفارقات في
مدة
العقوبة للقضايا متشابهة ارتكبها أفراد متشابهون في الظروف المتعلقة لكل
وتلك
المفارقات لا شك ضارة أولاً بأمر ثبات القانون من جانب ومن الجانب الآخر لا
يستطيع
المرء أن يتبصر المرء بصورة دقيقة مدققة القانون وما يمكن أن ينال من عقاب
إذا
ارتكب الفعل مجرم.
كذلك من
النتائج الضارة التي تترتب على المفارقات بأنها قد لا تجعل من أمر الردع
أمراً
فعالاً طالما كان العقاب غير محدد ومعلوم لأنه يجئ متفارقاً من محكمة لأخرى
أو من
قاض لآخر.
ويمتد أثر
المفارقات إلى حسابات الجناة قبل ارتكابهم لأفعالهم – فالمعلوم أن المجرم
خصوصاً
من كان متفتحاً في عالم الإجرام فإنه وقبل الإقدام على فعله يجرى بعض
الحسابات.
بداية مثلاً إذا ارتكب هذا هل سيكشف أمره وإذا انكشف أمره ما مدى نجاحه في
الإفلات
من القبض وإذا تم قبضه وقدم للمحاكمة ما مدى العقاب الذي سيناله وفي
الأخيرة هذه
إذا خمره الشك بأنه قد يقدم لقاضي ينزل العقاب الخفيف فإنه لاشك سيقوم على
ارتكاب
فعله – أما لو كان العقاب معلوماً بمعنى أن لا دخل في اختلاف المحكمة أو
القاضي في
أمر تقرير العقاب فإنه لا شك قد يعيد النظر في أمر إقلاعه أو عدوله عن
ارتكاب
الفعل.
ولا يفوتنا
أن نشير إلى أن مسألة المفارقات في العقاب تواجه وتعاني منها معظم الدول
التي تتسع
في تشريعاتها الجنائية السلطات التقديرية للمحكمة أو القاضي في العقاب –
ولا أعنى
هنا أنني ضد تلك السلطات التقديرية الواسعة فهي في اعتقادي أمراً سليماً
لاختلاف
قياس درجة خطورة الجريمة ومن جانب آخر امتداد واختلاف الظروف من شخص مدان
لآخر.
وهناك سبب
آخر لهذه المفارقات يكمن في مفهوم واعتبار المجرم أو الجاني حسب تطور
الثاني –
فهناك مدارس مختلفة في هذا الشأن فهناك من يرى المجرم بأن لا يد له فيما
سلك من
سلوك لأن تكوينه الجسماني هو الذي يكيف سلوكه الإجرامي وقد بلغ الحد ببعض
الجهات
أن ترسم مثلاً وتضع وضعاً لمن يحتج مثلاً لارتكاب جرائم الاغتصاب أو لمن
يرتكب
جرائم القتل الجماعي أو لمن يرتكب جرائم السرقات فهؤلاء لا يرون في العقاب
ما يمكن
أن يمنع مثل ذلك الشخص من ارتكاب جرائمه لأن العقاب لا يغير من تكوينه
البيولوجي
والجسماني ذلك.
وهناك مدرسة
أخرى أو آخرون يرون في المجرم بأنه شخص مريض يحتاج – للعلاج أكثر منه
للعقاب وهكذا
– فاختلاف الرؤى تقود إلى المفارقات.
المرحلة
الثانية:
هذه المرحلة
تبدأ بمرحلة تطبيق قانون العقوبات لسنة 1983م (والقوانين الإسلامية) وهنا
نجد أن
الجرائم تنقسم إلى ثلاث جرائم الحدود – والجرائم القصاصية ثم الجرائم
التعزيرية.
فيما يتعلق
بالقسم الأول فالسياسة العقابية هنا محددة أو قل لا حاجة إلى ضوابط أو
قواعد لتعين
في تقرير العقوبة – لأن العقوبات هنا جاءت محددة ومعلومة النوع والكم فهي
مقدرة حق
الله سبحانه وتعالى فليس لها حد أدنى أو حد أعلى وهي لا تقبل الزيادة أو
النقصان –
فإذا قامت الجريمة فيها لا سلطة تقديرية للقاضي فيها إذ لا ينقص فيها شيئاً
أو يزيد
فيها فلا بد من إنزالها بنوعها وكمها – فسلطة القاضي في هذا الشأن النطق
بالعقوبة
المحددة المعلومة – فينتفي تماماً هنا أعمال أي إجراء أو إعمال أي عملية –
لاختيار
أو تحديد العقاب.
وفيما يتعلق
بالقسم الثاني منها – جرائم القصاص- فسلطة القاضي فيها قاصرة على توقيع
العقوبة
المقررة لها. فعقوبات الجرائم القصاصية أما قصاص أو دية ولذلك هي عقوبات
ذات حد
واحد فليس لها حد أعلى أو حد أدنى حتى تكون للقاضي سلطة تقديرية فيها
فمعلوم أن
سلطات القاضي أو المحكمة التقديرية تمارس عندما تكون للجريمة مثلاً حد أدنى
وحد
أعلى ، وعقوبة القصاص مقدرة حقاً للأفراد ولا تدخل سلطات القاضي التقديرية
إلا إذا
عفا مستحقها واقتضت الظروف أن يوقع القاضي أو المحكمة عقوبة تقديرية ففي
هذه
الحالة وحدها يجئ الحديث عن السلطات التقديرية ومن ثم تدخل في عملية اختيار
وتقدير
العقوبة المناسبة بقرض التقدير.
والقسم الثالث
– الجرائم (التعذيرية) وعقوباتها غير محددة كما في القسمين السابقين ومن ثم
متروك
المجال للمحكمة أو القاضي في أن يقدر العقاب الذي يوقع على مرتكبي هذه
الجرائم –
مما يعنى أن هذا القسم من الجرائم يدخل في دائرة السلطة التقديرية للقاضي
أو
المحكمة في تقرير نوع وكم العقاب ومن ثم يتدرج تحت موضوعنا المتعلق
بالسياسة
العقابية بالمعني الذي عنيناه في حديثنا السابق فسلطة القاضي هنا واسعة في
تحديد
نوع العقاب وكمه وتدخل في هذه العملية الظروف المخففة والظروف التي تستدعى
التشدد.
في هذا الشأن ينسحب كل ما قلناه سابقاً عن عملية تحديد العقاب والصعاب التي
(تواجه) القاضي في هذا الخصوص – وما يعتري أيضاً العقوبة فيها من مفارقات
من قاض
لآخر.
من هذا
العرض جاز لنا أن نقول بأن ليس بالسودان سياسة عقابية محددة تتبعها جميع
المحاكم
والقضاة – فغياب السياسة العقابية الموحدة تشكل المشكلة الرئيسية التي
تكتنف أمر
العقاب – ويمكن تقسيم فئات المحاكم أو القضاة إلى ثلاث في هذا الشأن الفئة
الأولي
تتعامل مع أمر العقاب حسب ما يؤمنون به وما يعتقدون فيه من أمر الغرض من
العقاب
حسب التجربة التي اكتسبوها من قضاة قدامي نالوا معهم تدريبهم.
والفئة
الثالثة يتعاملون مع أمر العقاب لا من منظور فلسفة يؤمنون بها في الغرض من
العقاب
لا من خلال تجربة اكتسبوها من زملاء قدامي بل يعتمدون في ذلك على حسب
إحساسهم بما
هو عدل ومعقول وهم قلة. Accord
to
their Understanding of Faness and Justice وحيال
هذا كله أرى أن تجربة الدراسة العملية لمسألة السياسة
العقابية والتي لابد أن تبنى على أسس علمية واضحة المعالم حتى يهتدي بها
القضاة
والمحاكم ويجدر أن نشير أن مجتمعنا يسير أو قد بدأ خطواته من قبل في السير
نحو
الإصلاح والتهذيب مما يعنى إمكانية إعادة أغلب من جنحوا للإجرام إلى حظيرة
المجتمع
كأعضاء صالحين - وهذا لا شك يتطلب تكثيف العمل على التعرف إلى – شخصية
المجرم
والظروف المحيطة به وذلك عن طريق الباحث الاجتماعي – فالباحث الاجتماعي
يستطيع أن
يضع أمام القاضي أو المحكمة تقريراً مفصلاً وبصورة موجزة دون أن تكون مخلة –
كي
يستعين القاضي أو المحكمة به في تقرير العقاب – فالباحث الاجتماعي عندنا
يعملون أو
ينحصر عملهم الآن في مجال الأحداث فقط – وقد يبدو أن السبب في ذلك قلة
الكادر الذي
يعمل في هذا المجال وكذلك شح إمكانياتهم – فجهدهم هذا مطلوب في مجال
البالغين من
الجناة بنفس القدر والأهمية للوصول إلى العقوبة التقويمية والتي يتحقق من
خلالها
غرض الإصلاح والتهذيب.
الاستعانة
بالباحث الاجتماعي لا أعنى أن لابد أن تجري دراسة ويقوم تقرير فيه عن كل
مدان ولكن
نقصر ذلك إلى القضايا التي جنح فيها الأفراد إلى طريق الجريمة وهناك بارقة
أمل
لردهم عن ذلك الطريق وإصلاح شأنهم حتى يعودوا أعضاء صالحين في مجتمعهم.
ومن جانب
آخر لا يفوتني أن أذكر أننا حتى إذا كان اتجاهنا للصلاح والتهذيب فإننا لا
ننسي
غرض العقاب الآخر وهو الزجر والردع Deterrence
فهناك
من المواقف
والظروف ما يتطلب أعمال ذلك الغرض حتى يرعوى الجاني ويرعوى الآخرون –
فالإصلاح
والتهذيب لا يعنى الالتفات تماماً عن غرض الردع وكذلك في بعض الحالات عن
القصاص من
الجرم بمعنى لابد في بعض الحالات عن القصاص من المجرم بمعنى لابد في بعض
الحالات
أن يكون الغرض أيضاً من العقاب هو أن يدفع المجرم لما اغترف من ذنب في حق
هذا
المجتمع.
ومع كل هذا
لا ننسي أن يكون ديدن العقوبة في كل الحالات هو التدرج في العقاب فيمن كان
حالهم
يسمح بأن يترك لهم الأمر في إصلاح طريقهم بأنفسهم – فهناك من جنح لارتكاب
جريمة ما
ولكن الو اعز في نفسه وضميره ما زال يرجى منه ومن ثم تتاح له الفرصة لكي
يصحح
مساره بنفسه.
من كل هذا
أخلص إلى الآتي :
أ- لابد من
إخضاع مسألة السياسة العقابية إلى دراسة يشارك فيها كل المعنيين بالأمر من
قانونيين وأطباء شرعيين ونفسيين وباحثين اجتماعيين وعلماء الدين وقضاة
ورجال شرطة
وسجون ليضعوا أطراً لسياسة عقابية تنبني على أسس علمية واضحة.
وأسأل الله التوفيق
والسداد على طريق الحق والعدل