بسم الله الرحمن الرحيم
مسئولية القاضي
التقصيرية عن أخطائه المبدئية
[بقلم]
محمد صالح على
قاضي المحكمة العليا
الاتحادية
أحمد الله حمداً
كثيراً واصلي وأسلم على سيدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم الله عليه
وسلم) .
وبعد ,,,
فقد ظل القضاء السوداني
محصناً من المسئولية المدنية والجنائية عن أحكامه القضائية منذ ميلاده في
عهد
الاحتلال وظلت الدولة أيضاً محصنة من هذه المسئولية وذلك لما للقضاء من
مكانة
متميزة , وعلى الرغم من أن التساؤل حول هذه المسئولية كان يتلجلج في الصدور
دون
إبدائه إلا أنه برز الآن للوجود بعد صدور قانون المعاملات المدنية لسنة
1984م
وأصبح الآن يمكن التحدث عن مسئولية القاضي التقصيرية عن أخطائه التي تلازم
أحكامه
أحياناً ويترتب عليها ضرر بالمتقاضين على أن محاسبة القاضي لا تكون عن
أخطائه التي
يمكن أن يتصور وقوعها كما في حالة تفسير النص تفسيراً واسعاً أو ضيقاً
وإنما تكون
عن أخطائه المهنية الجسيمة التي لا يتصور وقوعها من مثله . ذلك لن أخطاء
القاضي
المهنية عادة ما يمكن تصحيحها عن طريق المحاكم الأعلى وذلك بتدرج الحكم
إليها .
أما إذا كان الخطأ مما يصعب تصحيحه كما إذا تم توقيع العقوبة خطأ بالقطع
حداً أو
القصاص أو بالجلد فإن الأصل أن يعوض المضرور من بيت المال أي من خزينة
الدولة على
إننا نجد في بعض أحكام القضاء ما يكون خطأ القاضي فيه فاحشاً يصعب وقوعه من
مثله
كما إذا وقع عقوبة غير منصوص عليها . وهذا ما دعاني إلي التساؤل عن مدى
مسئولية
القاضي عن أخطائه المهنية الفاحشة , ولعل دافعي في هذه المسألة ما لاحظته :
أولاً : أن القوانين
السودانية لا يشترط عند تعيين القاضي أية خبرة إلا في بعض الاستثناءات .
على أن
التعيين في أول السلم والوظيفي يكون دون اشتراط لأية خبرة وإنما يشترط في
هذه
الحالة المؤهل العلمي فقط مع اجتياز ما يسمى بامتحان تنظيم مهنة القانون .
ثانياً : أن سن القاضي
في بدء حياته العملية لا تتسم بالنضوج العقلي والعاطفي ولذلك نجد كثيرا من
هؤلاء
قد تبوءوا مركز القضاء وهو على بعد من الثالثة والعشرين من عمره ويكون بحكم
القانون متمتعاً بسلطة الحكم بالسجن والغرامة وبالفصل في الدعاوى المدنية
التي تصل
قيمتها إلي ثلاثة ملايين دينار .
إن الفقه الإسلامي لم يهمل هذه المسألة بل أولاها حقها كغيرها من الأمور
الأخرى
التي تهم المسلمين . فقد أبرز الإسلام مبدأ المسئولية الشخصية عن كل عمر
يصدر عن
الإنسان , بل قرر الفقهاء مبدأ المسئولية حتى بالنسبة للقصر والمجانين
ونحوهم عن
كل فعل يصدر عنهم ويترتب عليه ضرر . ولم يمنع وفاة الشخص من التعويض من
ماله فقد
تقرر أنه إذا سقطت جثة على شخص أو مال فأتلفته فإن المضرور يعوض من مال
المتوفى .
ولم يقف فقهاء الإسلام عند هذا الحد بل ذهبوا إلي إمكان التعويض عما يقع من
الأشياء من ضرر كالحيوان والبناء والآلة , وهذا لعمري عين العدل فالحقوق
كالدماء
لا تضيع هدرا تحت ظل حكم الإسلام , ولعل هذا ما يميز الإسلام عن غيره فإذا
نظرنا
إلي القوانين الوضعية لغالب دول العالم نجدها على الأقل لا تعترف بمسئولية
القاضي
التقصيرية فقد خلا القانون الإنجليزي مثلً مما يسمى بمسئولية القاضي
التقصيرية على
الرغم من أنه يعرف نظام المسئولية التقصيرية . وقد جاءت أحكام القضاء
الإنجليزي
خالية من ذلك إلا في حكم وحيد أشار إليه اللورد دينج في كتابه (الوسائل
القانونية
السليمة . ترجمة هنري رياض وعبد العزيز صفوت) في قضية مناجم الفحم والتي
طلب فيها
من القاضي الاستقالة لأنه يدس أفنه في كل صغيرة وكبيرة أثناء نظره
في هذه
الدعوى مما أثر على دفاع المدعى عليهم .
كما خلا القانون الألماني والتركي والصيني من مثل هذه المسئولية واكتفت بما
يسمى
(برد القاضي) أما القوانين العربية فيكفي أن نشير إلي أن القانون المصري
أوجد ما يسمى
"بعدم صلاحية القاضي" و (برد القاضي) ثم (بالمسئولية المدنية للقضاة)
وهي أقرب إلي ما ورد في القانون السوداني بشأن مسألة القضاة وهي تقوم في
حالة ما
إذا وقع من القاضي في عمله غش أو تدليس أو غدر أو خطأ
مهني جسيم .
لا أريد أن أتعمق كثيراً في البحث عما قررته قوانين البلدان الأخرى حول هذه
المسئولية وذلك لضيق الوقت أدخل مباشرة في البحث عن هذه المسئولية في
القانون
السوداني .
جاء بالفصل الخامس من الباب الثالث من قانون المعاملات المدنية تحت عنوان "
الإضرار الشخصي الوظيفي والمهني " في المادة 160 :[ (1) كل شخص يكون
مستخدماً
لدى أخر يتولى عملا لأخر يسبب أضرارا بالآخر أو بالغير استغلالاً
لوظيفته أو
استهتاراً بواجباتها أو إهمالاً غير مبرر في أدائها يلزم شخصياً بتعويض
الضرر
الذي سببه للغير .
(2) لأغراض هذا الفصل تشمل كلمة الغير الشخص الطبيعي والاعتباري] .
وقد أشارت المادة 162 من القانون نفسه إلي نماذج من الإضرار الشخصي الوظيفي
والمهني , وسوف نركز فقط على ما ورد بالفقرتين (ب) و (ج) فالأولى تتحدث عن
تعطيل التحري
أو الإعلان أو الفصل في القضايا أو الإخلال بإجراءات العدالة دون سبب معقول
وإصدار
الأحكام ضد صريح النص استهتاراً بالقانون أو استهتاراً بقصد المشروع
وخروجاً
على ضوابط الاجتهاد الفقهي أو استخفافاً بحقوق المتقاضين .
أما الثانية فتتحدث عن استغلال المنصب أو الوظيفة أو المهنة لمضايقة الغير
أو
تعريضه لخسائر غير مشروعة أو إصدار تراخيص أو وثائق رسمية لغير مستحقيها
قانوناً
أو عرفاً لتحقيق منفعة شخصية غير مشروعة أو منفعة غير مشروعة للغير أو
لإلحاق
الضرر بالغير .
هذان النصان (160و162) من قانون المعاملات المدنية حسما مسالة مسئولية
القاضي وهما
متمشيان تماما مع تعريف المسئولية التقصيرية الوارد بالمادة 138 من القانون
نفسه
إذ ينص على أن (كل فعل سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض ولو كان غير
مميز)
.
وهذا النص أضبط في صياغته ومضمونه عما كنا نعرفه في الماضي من القانون
المصري
والذي كانت عبارة (كل خطأ) تحل محل عبارة (كل فعل ضار) إذ أن العبارة
الأخيرة أوسع
وأشمل في معناها فكلمة (خطأ) يقتصر معناها على ما يفهم منه أنه (غير عمدي)
في حين
أن عبارة (الفعل الضار) تمتد لتشمل الخطأ والعمد والحالات الأخرى التي تخلو
من
الخطأ والعمد ومع ذلك يترتب عليها الضرر كمن يسقط على غيره فيتلف عضواً فيه
أو
يتلف ماله , وكمن يرفع يديه أثناء الحديث فيتلف عين آخر أو يتلف مالاً من
أو ماله
. نحن الآن أمام تشريع متكامل حول المسئولية التقصيرية إذ لا يفلت شخص أياً
كان
منصبه أو رفعته من هذه المسئولية .
دعونا الآن نتناول كيف يمكن أن تطبق تلك الأحكام الواردة بنص المادتين 160 و
162
على القاضي سواء أكان ذلك على أفعاله خارج نطاق عمله أو داخله
؟
أولاً :
الأخطاء التي تقع من القاضي خارج نطاق عمله :
إن هذه الأخطاء كثيرة على نحو يصعب حصرها على أن بعضها فقط يمكن ان يحاسب
عليها من
ماله الخاص . ونمثل لذلك بالآتي :
1- القاضي يمر من الاتجاه
المعاكس في طريقه أو اتجاه واحد وعندما تستوقفه الشرطة لتتخذ ضده الإجراء
المناسب
يبرز لها بطاقته ويخطرها بأنه قاضي . كيف هذا يا أخي لقد ارتكبت مخالفة
يحاسب
عليها قانون بلادك فيجب أن تحاسب مثلك مثل الغير .
2- قاضي دخل عليه مواطن
وتوجه إليه بالسلام فيلقنه القاضي درساً في أدب الدخول على القاضي . وآخر
يأمر
بجلده . أنت أخطأت يا أخي في الحالين وتسأل في مالك الخاص عن الضرر الذي
لحق بذلك
الشخص من جلدك له .
3- قاضي يمر بأحد الأسواق
فيجد تاجراً مستلقياً أمام حانوته فيأمر بجلده والبقاء داخل حانوته – ما
هذا ؟ تحت
أي قانون أو أي لائحة تم الجلد وإذا كان في هذا مخالفة للائحة أو أمر محلي
لماذا
لم يتم فتح بلاغ ضده ؟ إن مثل هذا القاضي يجب أن يسأل في ماله الخاص عن
فعله هذا .
أخطاء تقع
من القاضي أثناء عمله :
ونكتفي هنا بالأخطاء التي أشار إليها نص المادة 162 من قانون المعاملات
المدنية .
1- تعطيل الفصل في
القضايا دونما سبب معقول
وهذه كثيرة ومتعددة , جاء في درر الحكام في
شرح مجلة الأحكام
العدلية ,على حيدر _ المجلد الرابع ص 663 في شرح المادة 1828 والتي تقول
(لا يجوز
للقاضى تأخير الحكم إذا حضرت أسباب الحكم وشروطه بتمامها ) .
يجب
في هذه الحالة على القاضي أن يحكم فوراً فإذا آخر ذلك يكون إثما ويستحق
العزل فيما
عدا أربع حالات (عددها الشارع ولا تخرج عن نطاق العذر المعقول ) .
فإذا كانت الدعوى مهيأة
للسير فيها فلا يجوز للقاضي أن يؤجل دون عذر مقبول وإذا فعل فإن هذا سوف
يقود
حتماُ إلي تعطيل الفصل في الدعوى وربما قاد ذلك في النهاية إلي انخفاض قيمة
النقود
المطالب بها بتدهور قيمة الجنيه أو الدينار السوداني وهناك أمثلة كثيرة
لذلك . ففي
إحدى الدعاوى التي صرحت عام 1982م كانت قيمة الدعوى 17.500 سبعة ألف جنيه
سوداني
عبارة عن قيمة منزل ودكان وقد ترتب على تأخير الفصل في الدعوى أن انخفضت
قيمة هذا
المبلغ عند الحكم به وقد رأى صاحب الرأي الأول في دائرة المحكمة العليا أن
الحل
يكمن في نص المادة السادسة من قانون المعاملات المدنية إلا أن صاحبي الرأي
الثاني
والثالث اختلفا معه وكان أن تخلي المحكوم له عن هذا المبلغ وما زال بخزينة
المحكمة
. لقد كان يمكن محاسبة من تسبب من القضاة في تأخير السير في هذه الدعوى في
مالهم
الخاص إلا أن هذا لم يحدث وكان هذا التأخير في الفصل في الدعوى سبباً مباشر
في
ضياع حق المدعى .
2- تجاوز
إجراءات العدالة دون سبب معقول :
على الرغم من أن عبارة (إجراءات العدالة) عبارة مطاطة إلا أنها أمر وجداني
ووقائعي في نفس الوقت . فأمرها يرتبط بوجدان القاضي وحسه العدلي وهي الغاية
من
الحكم في النهاية . على أنها – أي العدالة – يمكن تحقيقها من واقع ما يعرض
على
القاضي من وقائع وما يطبق عليها من نصوص . فيجب على القاضي أن يسعى إليها
من خلال
ذلك , فإذا قصر في رد الحقوق وكان الحق ظاهراً إهمالا منه أو تقصيراً أو
تعسفاً أو
لأي دافع من الدوافع وترتب على ذلك ضرر لأحد المتقاضين فإنه يسأل في ماله
الخاص
ذلك لأن العدل يتفق مع الأخلاق والضمير .. والله تعالى يقول : [لقد
أرسلنا
رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا
الحديد
فيه بأس شديد ومنافع للناس]
(الحديد الآية
25) .
لقد صدق من قال (بان العدل فوق القانون) وذلك لأن المسلم الصحيح يشعر بأنه
مراقب
من ضميره ذلك الرقيب الذي وضعه الله داخل النفس البشرية ويرشدها إلي الحق
دائماً
ويلومها عند الشر والله تعالى يقول : [ يا أيها الذين آمنوا كونوا
قوامين
بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو
فقيراً
فالله أولى بهما , فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا , وإن تلووا أو تعرضوا فإن
الله كان
بما تعملون خبيراً ] . (النساء الآية 135) .
وعدم تطبيق القانون سليماً لعدم الاطلاع على النص اعتماداً على الذاكرة أو
اعتماداً على رأي قاض آخر يعد تجاوزاً للعدالة , كما أنه وفي الأحوال التي
يكون
فيها المال قابلاً للتلف فإن على المحكمة العليا أن تبيعه وتودع ثمنه
خزينة
المحكمة إلي أن يتم الفصل في الدعوى , وهناك الكثير من الإجراءات نص عليها
القانون
يمكن أن تساعد على حفظ المال ومنها تعيين حارس . ولذلك فإن التفريط في كل
هذا يمكن
أن يرتب ضرراً على المتقاضين وبالتالي يحق مساءلة القاضي حتى مع توفر طرق
الطعن
المختلفة.
والمتتبع لأحكام القضاء خاصة في فترة تكوين محاكم العدالة الناجزة يجد أن
التسرع
قد صاحب أحكام بعض هذه المحاكم مما أدى في كثير من الأحيان إلى مفاجأة
العدالة ,
وبيدي الآن عدة أحكام حزنت كثيراً على ضياع الحقوق فيها وهي حقوق ترتبط
بحريات
المواطنين وأموالهم وكانت هذه الأحكام رغم ذلك لا تخضع للاستئناف مما جعل
الكثيرين
يقضون عقوبات تتراوح بين السجن والجلد والغرامة أو كل ذلك مجتمعاً . وكان
للنقد
الشديد الذي وجه لهذه المحاكم أثر دعا إلي تكوين محاكم استئناف خاصة لنظر
أحكامها
فنجد من بين تلك الأحكام ما لم تسمع فيها البينة وذلك كما في محاكمة محمود
محمد (م
أ/ ع ن/223/84 الإقليم الشرقي) فقد ذكرت محكمة استئناف الطوارئ الآتي (لا
أجد
بالمحضر أقوال الشاكي أو شهوده أو أقوال شهود الدفاع ويبدو أن المحكمة
اعتبرت أن
المحاكمة إيجازية ولم تدون لنا ما يمكن الرجوع إليه لتقييم قرارها أو
للتأكد من
صحة وزنها ...) .
ونجد من القضايا ما لم يسمح فيها للمتهم بإبداء دفاعه وذلك كما في قضية علي
محمد
شنقول وقد ذكرت محكمة استئناف الطورائ الآتي (نخلص من كل هذا إلي أن
المحكمة أدانت
المتهمين تعسفاً دون أية بينة شرعية وأنها حرمتهما حتى من سماع أقوال
شهودهما رغم
إعلان شاهدي الدفاع وحضورهما في انتظار استدعائهما للإدلاء بأقوالهما ونفذت
على
المحكوم الأول عقوبة الجلد التي لا توجد في قانون الجمارك) .
ونجد من القضايا ما يخالف النص كما في قضية ماقيت شول فقد ذكرت محكمة
الاستئناف (لقد
وقع الظلم على المحكوم بإدانته بلا سند لا من الشرع أو القانون) .
وهكذا فلولا لطف الله جلت قدرته لكثرت ضحايا هذه المحاكم . وعلى الرغم من
السماح
باستئناف أحكام هذه المحاكم إلا أنها قيدت سلطة محكمة الاستئناف بحيث
اقتصرت على
مجرد التوصية لدي رئيس الجمهورية الذي له أن يقبل حكمها أو يرفضه .
ومع ذلك نجد من بين القضاة من هو أحرص على دينه فلم يكتف بالتوصية لدى رئيس
الجمهورية وإنما سعى لإطلاق سراح هؤلاء مباشرة وقام بإلغاء عشرات الأحكام
لمخالفتها الصريحة للعدالة والقانون . ونحن نسجل ذلك لهؤلاء القضاة بكل
الفخر
والاعتزاز .
إن ما يحز في النفس ويؤلمها أن هذه الأخطاء المهنية الجسيمة كان يمكن أن
يسأل
صاحبها في ماله الخاص لتعويض من تضرر منها إذ أن قانون المعاملات المدنية
كان
سارياً آن ذاك وقت تضمن النصوص التي يمكن أن يحاسب بها القاضي مدنياً .
3- إصدار
الأحكام ضد صريح النص استهتاراً بالقانون أو استهتاراً بقصد المشرع وخروجاً
على
ضوابط الاجتهاد الفقهي أو استخفافاً بحقوق المتقاضين :
إن إصدار الأحكام ضد صريح النص يفترض أن النص المعنى لا يخالف شرع الله
فإذا خالفه
وجب – في رأينا – مخالفته (راجع قانون الإثبات المادة 12 منه) .
ويكمن استخراج ضوابط هذه الفقرة والتي لا يستقيم مساءلة القاضي فيها إلا
إذا توفرت
في الآتي :
أن يصدر
القاضي حكمه ضد صريح النص :
1- إما استهتاراً بالقانون
أو
2- استهتاراً بقصد المشرع
أو
3- خروجاً على ضوابط الاجتهاد
أو
4- استخفافاً بحقوق
المتقاضين .
ونمثل للأولى والثانية في حالة ما إذا كان القاضي يحكم أفكاراً مغايرة لما
يحمله
المشرع . فقد صاحب صدور القوانين الإسلامية بالبلاد حملة شديدة من أعداء
الإسلام ,
وقد رأينا من بين القضاة أنفسهم من يجاهر بالرأي ضد هذه القوانين ولذلك فلا
يستبعد
أبداً أن يصدر أحد القضاة حكمه ضد صريح النص لعدم إقناعه به أو التعارض مع
ما
يحمله من أفكار , فإذا حدث هذا وترتب عليه ضرر فإن القاضي يسأل عن التعويض
في ماله
الخاص .
ونمثل للثالثة بما حدث في المحاكمة الشهيرة بمحاكمة محاسب وادي سيدنا (يتم
تلخيص
الوقائع أثناء المحاضرة) .
لنتساءل الآن ما هي الجريمة التي ارتكبها المدان وفقاً لهذه الوقائع .
الواضح أن المدان كان محاسباً صرّافاً في الوقت نفسه وهذا يعني أنه بصفته
تلك كان
مؤتمناً على أموال المدرسة , ولذلك فإن تصرفه في جزء من هذه الأموال يعد
(خيانة)
ويدخل هذا الفعل بالتالي تحت المادة 531 من قانون العقوبات السابق وهي تنص
على أنه
(كل من يؤتمن على ماله بصفته موظفاً أو صرافاً أو عميلاً أو سمساراً أو
نائباً أو
وكيلاً ويرتكب جريمة خيانة الأمانة بالنسبة لذلك المالك يعاقب بالجلد
والغرامة
والسجن) .
ويلاحظ على هذا النص أنه لم يتضمن عقوبة القطع كما وأن المادة 320/2 من
قانون
العقوبات السابق تنص على أنه (يعد مرتكباً جريمة السرقة الحدية من يأخذ
بسوء قصد
مالاً منقولاً لا تقل قيمته عن النصاب من حيازة شخص دون رضاه) .
فهل كان المال محل هذه الجريمة في حيازة شخص .
لقد كان هذا المبلغ بحيازة المدان بصفته صريفا أي مؤتمناً عليه ولم يأخذه
من حيازة
أي شخص فالمال محفوظ بخزينته وتحت تصرفه ولذلك فإن (الأخذ) المقصود هو أخذ
المال
من حيازة آخر كما وأن صرف هذا المبلغ كان بتصديق من مدير المدرسة برضاه فهل
يستقيم
وصف هذه الجريمة بالسرقة الحدية؟ لقد
أحاط المشرع (المسلم) جرائم الحدود بسياج متين من الحماية وجعل من الشبهات
سبباً
لاستبعاد العقوبة كما جعل نصابا للشهادة وذلك كله حتى لا يؤخذ الناس غلابا
لخطورة
العقوبة الحدية وعظمها وخاصة عقوبة القطع وكان نصيب السرقة من تلك الشبهات
الكثير
ومن الشهادة أن جعل نصابها شاهدين فإن قل العدد عن اثنين أو كان أحدهما
شاهد رؤية
والآخر شاهد سماع فلا قطع بشهادتها وهذا قول الأئمة الأربعة لا خلاف بينهم .
فكيف
كونت تلكم المحكمة عقيدتها من أقوال مساعد المراجع العام الذي لم ير المدان
وهو
يرتكب جريمته ولم يجزم إن كان هذا المبلغ قد فقد أم أخذه المدان .
إنني أجد في هذه المحاكمة مثالاً واضحاً لخطأ مهني جسيم يجب أن يطبق عليه
نص
المادة 162 معاملات مدنية .
وهنالك الكثير جداً مما يؤكد على خطأ هذا الحكم إلا أن المجال يضيق لذلك
واكتفى
فقط بالقول أنه حتى وعلى افتراض صحة اجتهاد المحكمة فإني أجد سداً منيعاً
يقف دون
ذلك فقد خالف الحكم الأسس التي رسمها قانون أصول الأحكام القضائية إذ لا
اجتهاد مع
وجود النص فهذا الحكم لم يأخذ بالكتاب والسنة ولم يهتد بالإجماع ولا القياس
ولا
اعتبار متا يجلب المصالح ويدرأ المفاسد ولم يستصحب البراءة ولم يسترشد بما
جرت
عليه السوابق القضائية . وكان هذا الحكم حرياً بالإلغاء لولا قفل باب
الاستئناف
وهو حكم لا تحميه المادة (45) من قانون العقوبات الملغي إذ أن هذا النص لا
يمتد
ليحمي القاضي من المساءلة أيضاً .
4- مخالفة
النص استخفافاً بحقوق المتقاضين :
فليس للقاضي رفض السير في الدعوى على أساس ان ما يطالب به تافه استخفافاً
بحق
المدعى ما لم يكن كذلك بالفعل او أن يذكر للشاكي أو المدعى بأن دعواه مالها
الرفض
وذلك قبل أن يصدر الحكم فيها . ولا أن يذكر له بأن قيمة الدعوى لا تساوي
الجهد
الذي يبذله فيها وإنما يجب عليه أن يتقيد بالنص .
5- شروط
جسامة الضرر لمساءلة شاغلي المناصب أو الوظيفة أو المهنة :
إن مسئولية القاضي المدنية تتحقق بمجرد وقوع ضرر سواء أكان بسيطاً أم
جسيماً طالما
توفرت شروط المساءلة المدنية على إنه إذا كان الضرر جسيماً بحيث لا يعقل
وقوعه دون
إهمال جسيم أو قصد فإن المسئولية تصبح مفترضة . وهذا يعني أنه ليس بالضرورة
أن
تبحث المحكمة عن الإهمال أو سوء القصد طالما أن الضرر كان جسيماً فيكفي
للمحكمة أن
تنظر في الضرر فقط لتقرر مسائلة القاضي .
رأي المحاضر
:
1- أن يعاد النظر في كيفية
اختيار القاضي على أن يلغى نظام اختياره من الخريجين مباشرة .
2- أن تكون إدارة الشكاوى
التابعة للهيئة القضائية مختصة بالنظر في الأخطاء المهنية الجسيمة وأن يتم
محاكمة
القاضي في شكل دائرة وداخل غرفة خالية من الحضور ما لم يكن للقاضي قد ارتكب
جريمة
جنائية .
3- أن يعوض المضرور من مال
القاضي الخاص في الحالات التي يتضح فيها بأن القاضي سبب ضرراً للغير
باستغلاله لمنصبه
أو باستهتاره بواجبات وظيفته أو بإهماله غير المبرر في أدائها .
4- أن تصدر الهيئة
القضائية المنشورات اللازمة بتفسير نص المادة 162 معاملات مدنية وطبيعة
الأخطاء
التي يسال عنها القاضي .
مسئولية القاضي
التقصيرية عن أخطائه المبدئية
[بقلم]
محمد صالح على
قاضي المحكمة العليا
الاتحادية
أحمد الله حمداً
كثيراً واصلي وأسلم على سيدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم الله عليه
وسلم) .
وبعد ,,,
فقد ظل القضاء السوداني
محصناً من المسئولية المدنية والجنائية عن أحكامه القضائية منذ ميلاده في
عهد
الاحتلال وظلت الدولة أيضاً محصنة من هذه المسئولية وذلك لما للقضاء من
مكانة
متميزة , وعلى الرغم من أن التساؤل حول هذه المسئولية كان يتلجلج في الصدور
دون
إبدائه إلا أنه برز الآن للوجود بعد صدور قانون المعاملات المدنية لسنة
1984م
وأصبح الآن يمكن التحدث عن مسئولية القاضي التقصيرية عن أخطائه التي تلازم
أحكامه
أحياناً ويترتب عليها ضرر بالمتقاضين على أن محاسبة القاضي لا تكون عن
أخطائه التي
يمكن أن يتصور وقوعها كما في حالة تفسير النص تفسيراً واسعاً أو ضيقاً
وإنما تكون
عن أخطائه المهنية الجسيمة التي لا يتصور وقوعها من مثله . ذلك لن أخطاء
القاضي
المهنية عادة ما يمكن تصحيحها عن طريق المحاكم الأعلى وذلك بتدرج الحكم
إليها .
أما إذا كان الخطأ مما يصعب تصحيحه كما إذا تم توقيع العقوبة خطأ بالقطع
حداً أو
القصاص أو بالجلد فإن الأصل أن يعوض المضرور من بيت المال أي من خزينة
الدولة على
إننا نجد في بعض أحكام القضاء ما يكون خطأ القاضي فيه فاحشاً يصعب وقوعه من
مثله
كما إذا وقع عقوبة غير منصوص عليها . وهذا ما دعاني إلي التساؤل عن مدى
مسئولية
القاضي عن أخطائه المهنية الفاحشة , ولعل دافعي في هذه المسألة ما لاحظته :
أولاً : أن القوانين
السودانية لا يشترط عند تعيين القاضي أية خبرة إلا في بعض الاستثناءات .
على أن
التعيين في أول السلم والوظيفي يكون دون اشتراط لأية خبرة وإنما يشترط في
هذه
الحالة المؤهل العلمي فقط مع اجتياز ما يسمى بامتحان تنظيم مهنة القانون .
ثانياً : أن سن القاضي
في بدء حياته العملية لا تتسم بالنضوج العقلي والعاطفي ولذلك نجد كثيرا من
هؤلاء
قد تبوءوا مركز القضاء وهو على بعد من الثالثة والعشرين من عمره ويكون بحكم
القانون متمتعاً بسلطة الحكم بالسجن والغرامة وبالفصل في الدعاوى المدنية
التي تصل
قيمتها إلي ثلاثة ملايين دينار .
إن الفقه الإسلامي لم يهمل هذه المسألة بل أولاها حقها كغيرها من الأمور
الأخرى
التي تهم المسلمين . فقد أبرز الإسلام مبدأ المسئولية الشخصية عن كل عمر
يصدر عن
الإنسان , بل قرر الفقهاء مبدأ المسئولية حتى بالنسبة للقصر والمجانين
ونحوهم عن
كل فعل يصدر عنهم ويترتب عليه ضرر . ولم يمنع وفاة الشخص من التعويض من
ماله فقد
تقرر أنه إذا سقطت جثة على شخص أو مال فأتلفته فإن المضرور يعوض من مال
المتوفى .
ولم يقف فقهاء الإسلام عند هذا الحد بل ذهبوا إلي إمكان التعويض عما يقع من
الأشياء من ضرر كالحيوان والبناء والآلة , وهذا لعمري عين العدل فالحقوق
كالدماء
لا تضيع هدرا تحت ظل حكم الإسلام , ولعل هذا ما يميز الإسلام عن غيره فإذا
نظرنا
إلي القوانين الوضعية لغالب دول العالم نجدها على الأقل لا تعترف بمسئولية
القاضي
التقصيرية فقد خلا القانون الإنجليزي مثلً مما يسمى بمسئولية القاضي
التقصيرية على
الرغم من أنه يعرف نظام المسئولية التقصيرية . وقد جاءت أحكام القضاء
الإنجليزي
خالية من ذلك إلا في حكم وحيد أشار إليه اللورد دينج في كتابه (الوسائل
القانونية
السليمة . ترجمة هنري رياض وعبد العزيز صفوت) في قضية مناجم الفحم والتي
طلب فيها
من القاضي الاستقالة لأنه يدس أفنه في كل صغيرة وكبيرة أثناء نظره
في هذه
الدعوى مما أثر على دفاع المدعى عليهم .
كما خلا القانون الألماني والتركي والصيني من مثل هذه المسئولية واكتفت بما
يسمى
(برد القاضي) أما القوانين العربية فيكفي أن نشير إلي أن القانون المصري
أوجد ما يسمى
"بعدم صلاحية القاضي" و (برد القاضي) ثم (بالمسئولية المدنية للقضاة)
وهي أقرب إلي ما ورد في القانون السوداني بشأن مسألة القضاة وهي تقوم في
حالة ما
إذا وقع من القاضي في عمله غش أو تدليس أو غدر أو خطأ
مهني جسيم .
لا أريد أن أتعمق كثيراً في البحث عما قررته قوانين البلدان الأخرى حول هذه
المسئولية وذلك لضيق الوقت أدخل مباشرة في البحث عن هذه المسئولية في
القانون
السوداني .
جاء بالفصل الخامس من الباب الثالث من قانون المعاملات المدنية تحت عنوان "
الإضرار الشخصي الوظيفي والمهني " في المادة 160 :[ (1) كل شخص يكون
مستخدماً
لدى أخر يتولى عملا لأخر يسبب أضرارا بالآخر أو بالغير استغلالاً
لوظيفته أو
استهتاراً بواجباتها أو إهمالاً غير مبرر في أدائها يلزم شخصياً بتعويض
الضرر
الذي سببه للغير .
(2) لأغراض هذا الفصل تشمل كلمة الغير الشخص الطبيعي والاعتباري] .
وقد أشارت المادة 162 من القانون نفسه إلي نماذج من الإضرار الشخصي الوظيفي
والمهني , وسوف نركز فقط على ما ورد بالفقرتين (ب) و (ج) فالأولى تتحدث عن
تعطيل التحري
أو الإعلان أو الفصل في القضايا أو الإخلال بإجراءات العدالة دون سبب معقول
وإصدار
الأحكام ضد صريح النص استهتاراً بالقانون أو استهتاراً بقصد المشروع
وخروجاً
على ضوابط الاجتهاد الفقهي أو استخفافاً بحقوق المتقاضين .
أما الثانية فتتحدث عن استغلال المنصب أو الوظيفة أو المهنة لمضايقة الغير
أو
تعريضه لخسائر غير مشروعة أو إصدار تراخيص أو وثائق رسمية لغير مستحقيها
قانوناً
أو عرفاً لتحقيق منفعة شخصية غير مشروعة أو منفعة غير مشروعة للغير أو
لإلحاق
الضرر بالغير .
هذان النصان (160و162) من قانون المعاملات المدنية حسما مسالة مسئولية
القاضي وهما
متمشيان تماما مع تعريف المسئولية التقصيرية الوارد بالمادة 138 من القانون
نفسه
إذ ينص على أن (كل فعل سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض ولو كان غير
مميز)
.
وهذا النص أضبط في صياغته ومضمونه عما كنا نعرفه في الماضي من القانون
المصري
والذي كانت عبارة (كل خطأ) تحل محل عبارة (كل فعل ضار) إذ أن العبارة
الأخيرة أوسع
وأشمل في معناها فكلمة (خطأ) يقتصر معناها على ما يفهم منه أنه (غير عمدي)
في حين
أن عبارة (الفعل الضار) تمتد لتشمل الخطأ والعمد والحالات الأخرى التي تخلو
من
الخطأ والعمد ومع ذلك يترتب عليها الضرر كمن يسقط على غيره فيتلف عضواً فيه
أو
يتلف ماله , وكمن يرفع يديه أثناء الحديث فيتلف عين آخر أو يتلف مالاً من
أو ماله
. نحن الآن أمام تشريع متكامل حول المسئولية التقصيرية إذ لا يفلت شخص أياً
كان
منصبه أو رفعته من هذه المسئولية .
دعونا الآن نتناول كيف يمكن أن تطبق تلك الأحكام الواردة بنص المادتين 160 و
162
على القاضي سواء أكان ذلك على أفعاله خارج نطاق عمله أو داخله
؟
أولاً :
الأخطاء التي تقع من القاضي خارج نطاق عمله :
إن هذه الأخطاء كثيرة على نحو يصعب حصرها على أن بعضها فقط يمكن ان يحاسب
عليها من
ماله الخاص . ونمثل لذلك بالآتي :
1- القاضي يمر من الاتجاه
المعاكس في طريقه أو اتجاه واحد وعندما تستوقفه الشرطة لتتخذ ضده الإجراء
المناسب
يبرز لها بطاقته ويخطرها بأنه قاضي . كيف هذا يا أخي لقد ارتكبت مخالفة
يحاسب
عليها قانون بلادك فيجب أن تحاسب مثلك مثل الغير .
2- قاضي دخل عليه مواطن
وتوجه إليه بالسلام فيلقنه القاضي درساً في أدب الدخول على القاضي . وآخر
يأمر
بجلده . أنت أخطأت يا أخي في الحالين وتسأل في مالك الخاص عن الضرر الذي
لحق بذلك
الشخص من جلدك له .
3- قاضي يمر بأحد الأسواق
فيجد تاجراً مستلقياً أمام حانوته فيأمر بجلده والبقاء داخل حانوته – ما
هذا ؟ تحت
أي قانون أو أي لائحة تم الجلد وإذا كان في هذا مخالفة للائحة أو أمر محلي
لماذا
لم يتم فتح بلاغ ضده ؟ إن مثل هذا القاضي يجب أن يسأل في ماله الخاص عن
فعله هذا .
أخطاء تقع
من القاضي أثناء عمله :
ونكتفي هنا بالأخطاء التي أشار إليها نص المادة 162 من قانون المعاملات
المدنية .
1- تعطيل الفصل في
القضايا دونما سبب معقول
وهذه كثيرة ومتعددة , جاء في درر الحكام في
شرح مجلة الأحكام
العدلية ,على حيدر _ المجلد الرابع ص 663 في شرح المادة 1828 والتي تقول
(لا يجوز
للقاضى تأخير الحكم إذا حضرت أسباب الحكم وشروطه بتمامها ) .
يجب
في هذه الحالة على القاضي أن يحكم فوراً فإذا آخر ذلك يكون إثما ويستحق
العزل فيما
عدا أربع حالات (عددها الشارع ولا تخرج عن نطاق العذر المعقول ) .
فإذا كانت الدعوى مهيأة
للسير فيها فلا يجوز للقاضي أن يؤجل دون عذر مقبول وإذا فعل فإن هذا سوف
يقود
حتماُ إلي تعطيل الفصل في الدعوى وربما قاد ذلك في النهاية إلي انخفاض قيمة
النقود
المطالب بها بتدهور قيمة الجنيه أو الدينار السوداني وهناك أمثلة كثيرة
لذلك . ففي
إحدى الدعاوى التي صرحت عام 1982م كانت قيمة الدعوى 17.500 سبعة ألف جنيه
سوداني
عبارة عن قيمة منزل ودكان وقد ترتب على تأخير الفصل في الدعوى أن انخفضت
قيمة هذا
المبلغ عند الحكم به وقد رأى صاحب الرأي الأول في دائرة المحكمة العليا أن
الحل
يكمن في نص المادة السادسة من قانون المعاملات المدنية إلا أن صاحبي الرأي
الثاني
والثالث اختلفا معه وكان أن تخلي المحكوم له عن هذا المبلغ وما زال بخزينة
المحكمة
. لقد كان يمكن محاسبة من تسبب من القضاة في تأخير السير في هذه الدعوى في
مالهم
الخاص إلا أن هذا لم يحدث وكان هذا التأخير في الفصل في الدعوى سبباً مباشر
في
ضياع حق المدعى .
2- تجاوز
إجراءات العدالة دون سبب معقول :
على الرغم من أن عبارة (إجراءات العدالة) عبارة مطاطة إلا أنها أمر وجداني
ووقائعي في نفس الوقت . فأمرها يرتبط بوجدان القاضي وحسه العدلي وهي الغاية
من
الحكم في النهاية . على أنها – أي العدالة – يمكن تحقيقها من واقع ما يعرض
على
القاضي من وقائع وما يطبق عليها من نصوص . فيجب على القاضي أن يسعى إليها
من خلال
ذلك , فإذا قصر في رد الحقوق وكان الحق ظاهراً إهمالا منه أو تقصيراً أو
تعسفاً أو
لأي دافع من الدوافع وترتب على ذلك ضرر لأحد المتقاضين فإنه يسأل في ماله
الخاص
ذلك لأن العدل يتفق مع الأخلاق والضمير .. والله تعالى يقول : [لقد
أرسلنا
رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا
الحديد
فيه بأس شديد ومنافع للناس]
(الحديد الآية
25) .
لقد صدق من قال (بان العدل فوق القانون) وذلك لأن المسلم الصحيح يشعر بأنه
مراقب
من ضميره ذلك الرقيب الذي وضعه الله داخل النفس البشرية ويرشدها إلي الحق
دائماً
ويلومها عند الشر والله تعالى يقول : [ يا أيها الذين آمنوا كونوا
قوامين
بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو
فقيراً
فالله أولى بهما , فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا , وإن تلووا أو تعرضوا فإن
الله كان
بما تعملون خبيراً ] . (النساء الآية 135) .
وعدم تطبيق القانون سليماً لعدم الاطلاع على النص اعتماداً على الذاكرة أو
اعتماداً على رأي قاض آخر يعد تجاوزاً للعدالة , كما أنه وفي الأحوال التي
يكون
فيها المال قابلاً للتلف فإن على المحكمة العليا أن تبيعه وتودع ثمنه
خزينة
المحكمة إلي أن يتم الفصل في الدعوى , وهناك الكثير من الإجراءات نص عليها
القانون
يمكن أن تساعد على حفظ المال ومنها تعيين حارس . ولذلك فإن التفريط في كل
هذا يمكن
أن يرتب ضرراً على المتقاضين وبالتالي يحق مساءلة القاضي حتى مع توفر طرق
الطعن
المختلفة.
والمتتبع لأحكام القضاء خاصة في فترة تكوين محاكم العدالة الناجزة يجد أن
التسرع
قد صاحب أحكام بعض هذه المحاكم مما أدى في كثير من الأحيان إلى مفاجأة
العدالة ,
وبيدي الآن عدة أحكام حزنت كثيراً على ضياع الحقوق فيها وهي حقوق ترتبط
بحريات
المواطنين وأموالهم وكانت هذه الأحكام رغم ذلك لا تخضع للاستئناف مما جعل
الكثيرين
يقضون عقوبات تتراوح بين السجن والجلد والغرامة أو كل ذلك مجتمعاً . وكان
للنقد
الشديد الذي وجه لهذه المحاكم أثر دعا إلي تكوين محاكم استئناف خاصة لنظر
أحكامها
فنجد من بين تلك الأحكام ما لم تسمع فيها البينة وذلك كما في محاكمة محمود
محمد (م
أ/ ع ن/223/84 الإقليم الشرقي) فقد ذكرت محكمة استئناف الطوارئ الآتي (لا
أجد
بالمحضر أقوال الشاكي أو شهوده أو أقوال شهود الدفاع ويبدو أن المحكمة
اعتبرت أن
المحاكمة إيجازية ولم تدون لنا ما يمكن الرجوع إليه لتقييم قرارها أو
للتأكد من
صحة وزنها ...) .
ونجد من القضايا ما لم يسمح فيها للمتهم بإبداء دفاعه وذلك كما في قضية علي
محمد
شنقول وقد ذكرت محكمة استئناف الطورائ الآتي (نخلص من كل هذا إلي أن
المحكمة أدانت
المتهمين تعسفاً دون أية بينة شرعية وأنها حرمتهما حتى من سماع أقوال
شهودهما رغم
إعلان شاهدي الدفاع وحضورهما في انتظار استدعائهما للإدلاء بأقوالهما ونفذت
على
المحكوم الأول عقوبة الجلد التي لا توجد في قانون الجمارك) .
ونجد من القضايا ما يخالف النص كما في قضية ماقيت شول فقد ذكرت محكمة
الاستئناف (لقد
وقع الظلم على المحكوم بإدانته بلا سند لا من الشرع أو القانون) .
وهكذا فلولا لطف الله جلت قدرته لكثرت ضحايا هذه المحاكم . وعلى الرغم من
السماح
باستئناف أحكام هذه المحاكم إلا أنها قيدت سلطة محكمة الاستئناف بحيث
اقتصرت على
مجرد التوصية لدي رئيس الجمهورية الذي له أن يقبل حكمها أو يرفضه .
ومع ذلك نجد من بين القضاة من هو أحرص على دينه فلم يكتف بالتوصية لدى رئيس
الجمهورية وإنما سعى لإطلاق سراح هؤلاء مباشرة وقام بإلغاء عشرات الأحكام
لمخالفتها الصريحة للعدالة والقانون . ونحن نسجل ذلك لهؤلاء القضاة بكل
الفخر
والاعتزاز .
إن ما يحز في النفس ويؤلمها أن هذه الأخطاء المهنية الجسيمة كان يمكن أن
يسأل
صاحبها في ماله الخاص لتعويض من تضرر منها إذ أن قانون المعاملات المدنية
كان
سارياً آن ذاك وقت تضمن النصوص التي يمكن أن يحاسب بها القاضي مدنياً .
3- إصدار
الأحكام ضد صريح النص استهتاراً بالقانون أو استهتاراً بقصد المشرع وخروجاً
على
ضوابط الاجتهاد الفقهي أو استخفافاً بحقوق المتقاضين :
إن إصدار الأحكام ضد صريح النص يفترض أن النص المعنى لا يخالف شرع الله
فإذا خالفه
وجب – في رأينا – مخالفته (راجع قانون الإثبات المادة 12 منه) .
ويكمن استخراج ضوابط هذه الفقرة والتي لا يستقيم مساءلة القاضي فيها إلا
إذا توفرت
في الآتي :
أن يصدر
القاضي حكمه ضد صريح النص :
1- إما استهتاراً بالقانون
أو
2- استهتاراً بقصد المشرع
أو
3- خروجاً على ضوابط الاجتهاد
أو
4- استخفافاً بحقوق
المتقاضين .
ونمثل للأولى والثانية في حالة ما إذا كان القاضي يحكم أفكاراً مغايرة لما
يحمله
المشرع . فقد صاحب صدور القوانين الإسلامية بالبلاد حملة شديدة من أعداء
الإسلام ,
وقد رأينا من بين القضاة أنفسهم من يجاهر بالرأي ضد هذه القوانين ولذلك فلا
يستبعد
أبداً أن يصدر أحد القضاة حكمه ضد صريح النص لعدم إقناعه به أو التعارض مع
ما
يحمله من أفكار , فإذا حدث هذا وترتب عليه ضرر فإن القاضي يسأل عن التعويض
في ماله
الخاص .
ونمثل للثالثة بما حدث في المحاكمة الشهيرة بمحاكمة محاسب وادي سيدنا (يتم
تلخيص
الوقائع أثناء المحاضرة) .
لنتساءل الآن ما هي الجريمة التي ارتكبها المدان وفقاً لهذه الوقائع .
الواضح أن المدان كان محاسباً صرّافاً في الوقت نفسه وهذا يعني أنه بصفته
تلك كان
مؤتمناً على أموال المدرسة , ولذلك فإن تصرفه في جزء من هذه الأموال يعد
(خيانة)
ويدخل هذا الفعل بالتالي تحت المادة 531 من قانون العقوبات السابق وهي تنص
على أنه
(كل من يؤتمن على ماله بصفته موظفاً أو صرافاً أو عميلاً أو سمساراً أو
نائباً أو
وكيلاً ويرتكب جريمة خيانة الأمانة بالنسبة لذلك المالك يعاقب بالجلد
والغرامة
والسجن) .
ويلاحظ على هذا النص أنه لم يتضمن عقوبة القطع كما وأن المادة 320/2 من
قانون
العقوبات السابق تنص على أنه (يعد مرتكباً جريمة السرقة الحدية من يأخذ
بسوء قصد
مالاً منقولاً لا تقل قيمته عن النصاب من حيازة شخص دون رضاه) .
فهل كان المال محل هذه الجريمة في حيازة شخص .
لقد كان هذا المبلغ بحيازة المدان بصفته صريفا أي مؤتمناً عليه ولم يأخذه
من حيازة
أي شخص فالمال محفوظ بخزينته وتحت تصرفه ولذلك فإن (الأخذ) المقصود هو أخذ
المال
من حيازة آخر كما وأن صرف هذا المبلغ كان بتصديق من مدير المدرسة برضاه فهل
يستقيم
وصف هذه الجريمة بالسرقة الحدية؟ لقد
أحاط المشرع (المسلم) جرائم الحدود بسياج متين من الحماية وجعل من الشبهات
سبباً
لاستبعاد العقوبة كما جعل نصابا للشهادة وذلك كله حتى لا يؤخذ الناس غلابا
لخطورة
العقوبة الحدية وعظمها وخاصة عقوبة القطع وكان نصيب السرقة من تلك الشبهات
الكثير
ومن الشهادة أن جعل نصابها شاهدين فإن قل العدد عن اثنين أو كان أحدهما
شاهد رؤية
والآخر شاهد سماع فلا قطع بشهادتها وهذا قول الأئمة الأربعة لا خلاف بينهم .
فكيف
كونت تلكم المحكمة عقيدتها من أقوال مساعد المراجع العام الذي لم ير المدان
وهو
يرتكب جريمته ولم يجزم إن كان هذا المبلغ قد فقد أم أخذه المدان .
إنني أجد في هذه المحاكمة مثالاً واضحاً لخطأ مهني جسيم يجب أن يطبق عليه
نص
المادة 162 معاملات مدنية .
وهنالك الكثير جداً مما يؤكد على خطأ هذا الحكم إلا أن المجال يضيق لذلك
واكتفى
فقط بالقول أنه حتى وعلى افتراض صحة اجتهاد المحكمة فإني أجد سداً منيعاً
يقف دون
ذلك فقد خالف الحكم الأسس التي رسمها قانون أصول الأحكام القضائية إذ لا
اجتهاد مع
وجود النص فهذا الحكم لم يأخذ بالكتاب والسنة ولم يهتد بالإجماع ولا القياس
ولا
اعتبار متا يجلب المصالح ويدرأ المفاسد ولم يستصحب البراءة ولم يسترشد بما
جرت
عليه السوابق القضائية . وكان هذا الحكم حرياً بالإلغاء لولا قفل باب
الاستئناف
وهو حكم لا تحميه المادة (45) من قانون العقوبات الملغي إذ أن هذا النص لا
يمتد
ليحمي القاضي من المساءلة أيضاً .
4- مخالفة
النص استخفافاً بحقوق المتقاضين :
فليس للقاضي رفض السير في الدعوى على أساس ان ما يطالب به تافه استخفافاً
بحق
المدعى ما لم يكن كذلك بالفعل او أن يذكر للشاكي أو المدعى بأن دعواه مالها
الرفض
وذلك قبل أن يصدر الحكم فيها . ولا أن يذكر له بأن قيمة الدعوى لا تساوي
الجهد
الذي يبذله فيها وإنما يجب عليه أن يتقيد بالنص .
5- شروط
جسامة الضرر لمساءلة شاغلي المناصب أو الوظيفة أو المهنة :
إن مسئولية القاضي المدنية تتحقق بمجرد وقوع ضرر سواء أكان بسيطاً أم
جسيماً طالما
توفرت شروط المساءلة المدنية على إنه إذا كان الضرر جسيماً بحيث لا يعقل
وقوعه دون
إهمال جسيم أو قصد فإن المسئولية تصبح مفترضة . وهذا يعني أنه ليس بالضرورة
أن
تبحث المحكمة عن الإهمال أو سوء القصد طالما أن الضرر كان جسيماً فيكفي
للمحكمة أن
تنظر في الضرر فقط لتقرر مسائلة القاضي .
رأي المحاضر
:
1- أن يعاد النظر في كيفية
اختيار القاضي على أن يلغى نظام اختياره من الخريجين مباشرة .
2- أن تكون إدارة الشكاوى
التابعة للهيئة القضائية مختصة بالنظر في الأخطاء المهنية الجسيمة وأن يتم
محاكمة
القاضي في شكل دائرة وداخل غرفة خالية من الحضور ما لم يكن للقاضي قد ارتكب
جريمة
جنائية .
3- أن يعوض المضرور من مال
القاضي الخاص في الحالات التي يتضح فيها بأن القاضي سبب ضرراً للغير
باستغلاله لمنصبه
أو باستهتاره بواجبات وظيفته أو بإهماله غير المبرر في أدائها .
4- أن تصدر الهيئة
القضائية المنشورات اللازمة بتفسير نص المادة 162 معاملات مدنية وطبيعة
الأخطاء
التي يسال عنها القاضي .