آثار عقد التأليف
أعداد
الدكتور
نصير صبار لفته
رئيس قسم القانون
الخاص
كلية
القانون_ جامعة القادسية
بحث منشور في العراق_بغداد،
مجلة القانون المقارن :العدد /42 سنة 2006 (مقبول للنشر في 26 / 3 /2005 )
المحتويات
المقدمة 1
المبحث
الأول: التزامات المؤلِف 3
المطلب الأول: الالتزام بتقديم المؤلَف
3
المطلب الثاني: الالتزام بالسرية 9
المبحث
الثاني:التزامات الناشر 15
المطلب الأول: الالتزام بدفع المقابل 15
المطلب الثاني: الالتزام بالتعاون 18
المطلب الثالث: التزام الناشر بعدم
الاعتداء
على الحقوق المقررة للمؤلِف 22
الخاتمة 35
قائمة
المراجع
37
المقدمة
يعد
عقد التأليف من العقود الملزمة لجانبين، إلى جانب كونه عقداً من عقود المعاوضة
.
فهو المصدر الأساسي لالتزامات إطرافه وإن هذه الالتزامات تجد قوتها الملزمة في
العقد ويتعين الوفاء بها طبقاً لمبدأ حسن النية وفي كافة مراحل تنفيذ العقد([sup][1])[/sup].
وتلك الالتزامات متنوعة يخرج بعضها عن مألوف التزامات الإطراف في العقود القانونية
الأخرى.
وتأسيساً
على ذلك فإن دراسة آثار عقد التأليف يقتضي منا بيان التزامات كل طرف فيه، هذه
الالتزامات التي تتقابل فيما بينها بحيث يمكن القول إن أداء كل طرف لالتزاماته
مرتبطة أشد الارتباط بأداء الطرف الآخر لالتزامه. وإذا كنا سنقف على هذه
الالتزامات الخاصة، فانه يمكننا القول أن ثمة التزاماً رئيسياً يقع على عاتق المؤلِف
هو ما يعبر عنه بالالتزام بالتأليف ((L’obligation de ouvrage)). هذا
الالتزام الذي لن يستطيع المؤلِف القيام به إلا إذا كان يقابله قيام الناشر
بالوفاء بالالتزام بالتعاون.
هذا
الالتزام الذي يقع على عاتق الناشر في اغلب الأحوال ينص عليه صراحة في هذا النوع
من العقود، إذ نلزمه بتقديم كل الوسائل اللازمة للمؤلِف خلال فترة أعداده للمؤلِف،
على النحو الذي سنعرض منه مضمون الالتزام بالتعاون ((L’obligation
de collaboration)).
والحديث
عن التزامات طرفي العقد يفرض علينا التعرض لأوليات هذه الالتزامات، إلا وهي التزام
الناشر بدفع المقابل لأداء المؤلِف. فعقد التأليف شأنه في هذا الصدد شأن سائر
العقود الملزمة لجانبين. والالتزام الرئيسي الذي يقع على الناشر هو دفع المقابل
النقدي لخدمة المؤلِف ، فالناشر يطلب المعرفة العلمية من المتخصص. وهو يرمي في أن
يستفيد من الخبرة والمعرفة والمعلومات التي ينفرد بها المؤلِف. وفي سبيل ذلك يقوم
بدفع ثمن تطبيق هذا الفن الذي يجهله. وليس معنى ذلك أن هذا الالتزام هو الالتزام
الوحيد الذي يقع على عاتق الناشر، فالمؤلِف
يمنح عميله معرفة علمية تعبر عن خلاصة فكره وتخصصه الفريدين. فهو ابتكار يعبر عن
خلاصة عمل ذهني مضنٍ. ومن ثم فهذه الطبيعة الخاصة لالتزام المؤلِف والذي هو جوهر عقد
التأليف، فإنه يلقى عليه من ناحية مجموعة من الالتزامات يقابلها على الصعيد الآخر
التزامات تقع على عاتق الناشر. ومن هنا كان التزام الناشر بعدم الاعتداء على
الحقوق المقررة للمؤلِف. من قبيل التزامات المؤلِف التي تفرضها طبيعة هذا العقد ما
يعرف بالالتزام بالسرية
L’obligations de
confidentialite”، حيث إننا إذا كنا نلزم الناشر بوجوب إعلام
المؤلِف بكافة المعطيات التي تساعده في إعداد المؤلِف، وهذا ما يعرف –أيضا-
بالالتزام بالأعلام L’obligation de d'information” والذي يعد تطبيقاً لالتزامه بالتعاون، فإن وفاءه بهذا الالتزام
يتضمن بالضرورة أن يطرح أمام المؤلِف كافة المعطيات الخاصة بالتأليف المطلوب أعداده
من المؤلِف مدعمة بالمستندات معتمداً في ذلك على الثقة التي تولدت في شخص المؤلِف
والتي كانت من احد سمات هذا العقد([sup][2])[/sup]،
والتي تتحقق من خلال عدم قيام هذا المؤلِف او مستخدميه بإفشاء محتويات هذه
المستندات في مكان عام أو لمنافسي الناشر. هذا الالتزام الذي يقع على عاتق المؤلِف
هو ما يعرف بالتزامه بضمان سرية التعامل.
لذا
فإن بحث التزامات أطراف العقد يستلزم تقسيم هذا البحث على مبحثين نتناول في الأول
التزامات المؤلِف فيما نبحث في الثاني التزامات الناشر، أما الحقوق فلا داعي لإفرادها
بصورة مستقلة على اعتبار ان التزامات كل طرف في العقد تمثل حقوق الطرف الثاني.
المبحث الأول
التزامات المؤلِف
يلتزم
المؤلِف بمقتضى عقد التأليف بتقديم المؤلَف إلى الناشر والالتزام بضمان سرية
المعلومات المستحصلة بمناسبة العلاقة مع الناشر.
ونبحث
كل التزام من هذه الالتزامات في مطلبٍ مستقل وذلك كالآتي:-
المطلب الأول
الالتزام بتقديم المؤلَف
الالتزام
الرئيس الذي يترتب في ذمة المؤلِف هو الالتزام بإنجاز العمل المتفق عليه عن طريق
قيامه بإعداد المؤلِف وتقديمه للناشر. ولاشك في أن هذا الالتزام يعد جوهر عقد
التأليف وغايته، وأن الوفاء به يعتمد بالدرجة الأساس على كفاءة المؤلِف وخبرته
وتفوقه العلمي في مجال اختصاصه. وستقتصر دراستنا لهذا الالتزام على جوانبه
القانونية والمتمثلة في المضمون والطبيعة ومكان وزمان التسليم وذلك على النحو
الآتي:-
اولاً- مضمون الالتزام بتقديم المؤلَف:
يعد
الالتزام بتقديم المؤلَف التزاماً اصلياً ناشئاً عن العقد المبرم بين المؤلِف والناشر.
وليس مجرد التزام تابع أو واجب ملقى على عاتق المؤلِف فحسب. ويلزم المؤلِف بأن
يقدم للناشر مؤلَفاً يحتوي على مجموعة منسجمة من المعلومات، وهذه المعلومات ينبغي إن
تكون معبرة عن أداء متميز يتفق وأصول المهنة والقدرة التي ينفرد بها المؤلِف في
تخصصه. كذلك ينبغي أن يكون المؤلَف ملائم لحاجة الناشر ويعطيه الخيار الأفضل إزاء ما
يروم عمله من فعلٍ أو امتناع.
والوفاء
بهذا الالتزام يعد بحق نقلاً للمعرفة العلمية والإخلال به يؤدي إلى عدم تحقيق
نتائج هذه المعرفة. وهكذا فإن المعرفة العلمية إذا تم نقلها بحسن نية مع مراعاة
الشروط التعاقدية فإنها بلا شك تأتي بالنتائج المتوقعة في نشر المعرفة العلمية
للمجتمع.
كما
إن خصوصية هذا الالتزام تتمثل في إن عقد التأليف يعطي الحق للناشر في استغلال
المعرفة العلمية الخاصة بالمؤلَف. بيد أن الطبيعة المعنوية لهذا الحق تجعل من
المتعذر على المؤلِف استرداده عند انتهاء العقد بعد أن يكون الناشر قد علم بهذه
المعرفة.
ويثير
مدى تنفيذ المؤلِف لهذا الالتزام أساس الخلافات التي تثور مع الناشر، كما هو الشأن
في كل العقود، وبسبب الطابع المعنوي للمعرفة العلمية فإنه يصعب تحديد عناصرها بدقة
متناهية تحول دون أي خلاف يثور بشأنها. لذا يكون تطبيق مبدأ حسن النية ذا أهمية
كبيرة بل ضرورة لامناص منها لحسم النزاع على أساسها.
وقد
ينصب عقد التأليف على نقل ملكية المؤلَف إلى الناشر. كما ينصب على إعطاء الناشر حق
استغلاله، إذ يخول العقد الناشر حق استغلال المؤلَف. لذا يقع على المؤلِف التزام أساسي
هو تمكين الناشر من استغلال المؤلَف في ممارسة النشاط المتفق عليه في العقد وخلال
المدة المتفق عليها. كأن يتفق على أن تؤول حقوق الملكية للناشر ويحظر على المؤلِف
نشر المصنف والمؤلَف إلا بعد مرور مدة زمنية محددة([sup][3])[/sup].
وينبغي
أن يلاحظ هنا أن استعمال الناشر للمعلومات من المؤلَف ليس من شأنه سلب المؤلِف
الحق في استغلالها فلا يغل عقد التأليف يدَ المؤلِف من التصرف بالمعلومات بما يشاء
من التصرفات بأن ينقل ملكيتها للغير أو استغلالها في إعداد مؤلَف آخر، شريطة
احترام حقوق الناشر في عدم التجاوز على النطاق الذي يعملون فيه، بغية المحافظة على
سرية المعلومات([sup][4])[/sup].
كما
إن الالتزام بإعداد المؤلَف وتقديمه يمر بالمراحل الثلاث الآتية:-
1) مرحلة البحث عن المعرفة وإعداد تصور عام
للخيارات الأنسب للناشر. وتحديد النقاط الرئيسة والفرعية التي تشتمل عليها المشكلة([sup][5])[/sup].
ويجد المؤلِف نفسه في هذه المرحلة إزاء عدة خيارات وحلول يمكن طرحها. تكمن الصعوبة
في إيجاد الخيار الأنسب للناشر واستبعاد الخيارات التي لا تتوافق مع مصلحة الناشر.
ولا يقتصر واجب المؤلِف على وضع تصور مستند إلى ماهو موجود في علمه فحسب، وإنما
ينبغي عليه بذل الجهد المعقول في البحث والتقصي للوصول إلى الطرح الامثل للناشر.
2)
مرحلة تجميع البيانات والمعلومات اللازمة وتدوينها([sup][6])[/sup].
3) مرحلة تقديم المؤلِف والتي ينبغي أن
تكون مناسبة ودقيقة بحيث تمكن الناشر من الاعتماد عليها. ويلزم المؤلِف بأن يقدم المؤلَف
طبقاً لما تقرره بنود عقد التأليف والطريقة المتفق عليها فيه.
ويقتضي
التسليم في عقد المقاولة([sup][7])[/sup]،
تنفيذ إنجاز العمل المعهود به- إعداد المؤلِف- ومن ثم وضع هذا المؤلَف تحت تصرف الناشر-
رب العمل- على وجه يتمكن معه من حيازته والانتفاع به من دون أي حائل.
وأن
يكون المعقود عليه-المؤلَف- مطابقاً للمواصفات، وهذا يعني بالضرورة خضوع المؤلَف إلى
تقويم لقيمته العلمية والعملية من قبل الخبراء و المقومين لكتابة تقرير في صلاحية
هذا المؤلَف من عدمه مع الملاحظات. في ضوء مراعاة المؤلِف للنواحي الموضوعية
والشكلية في كتابة المؤلَف([sup][8])[/sup].
ثانياً-
طبيعة التزام المؤلِف بتقديم المؤلَف:-
إذ
يعتبر التزام المؤلِف بتقديم أو تسليم المؤلَف- محل العقد-، التزاماً بتحقيق نتيجة
وليس ببذل عناية فلا يكفي لإعفائه من المسؤولية عن عدم تقديم المؤلَف أو التأخر
فيه أن يثبت انه بذل العناية اللازمة في إنجاز البحث في الميعاد المحدد له ولكنه
لم يتمكن من ذلك. بل ينبغي عليه حتى تنتفي مسؤوليته أن يثبت السبب الأجنبي أو أن
البحث كان يتوقف على تقديم معلومات من الناشر. فإن استطاع ذلك انتفت علاقة السببية
ولم تتحقق المسؤولية([sup][9])[/sup].
وحجتنا في هذا الحكم إن المؤلِف ملزم بتقديم المؤلَف –محل العقد- من منظور الشخص
الممتهن الخبير وانه مسؤول عن تنفيذ عقد أبرمه ولم يدرك عدم قدرته على تنفيذه.
أما
عن الطبيعة القانونية لالتزام المؤلِف في عقد التأليف([sup][10])[/sup]،
والتي من خلالها يمكن تحديد مسؤولية المؤلِف، فيمكن القول انه وعلى الرغم من أن
طبيعة المؤلَف وطريقة أعداده لاتسمح دائماً بتحقيق رغبات واحتياجات الناشر بصورة
كاملة أو مطابقة، إلا إن من الصعوبة بمكان إعطاء تكييف واحد يحكم طبيعة التزام المؤلِف
بمطابقة المؤلَف- موضوع العقد- للمواصفات، وإنما يمكن الاعتماد على معيار
الاحتمالية ومدى دور أطراف العقد في تحقيق النتيجة المطلوبة.
فإذا
كانت هذه النتيجة محتملة الوقوع أو أن تحقيقها يتوقف على دور الناشر في تقديم
المعلومات، فإن الالتزام يكون التزاماً ببذل عناية، كما إذا تعلق الأمر بإعداد مؤلَف
وفقاً للمعلومات التي قدمها الناشر وتلبية لاحتياجاته وتطلعاته. إذ أن الوصول إلى
هذه النتيجة يعتمد على دقة هذا الناشر في توضيح احتياجاته من جهة، ومن جهة أخرى
على الجهد الذهني والإبداع الفكري للمؤلِف في إعداد المؤلَف المطلوب وليس على
الجهد البدني، مما لا يسمح بالسيطرة على جميع نتائج البحث بصورة كاملة ودقيقة، مما
يجعل تحقيق النتيجة المبتغاة أمراً محتملاً، وبالتالي يكون التزام المؤلِف بتسليم
و أنجاز بحث مطابق لتطلعات الناشر التزاماً ببذل عناية([sup][11])[/sup].
ويعتبر انه قد أوفى بالتزامه إذا بذل في تنفيذه من العناية ما يبذله الشخص المعتاد
حتى وان لم يتحقق الغرض المقصود([sup][12])[/sup]،
وفي غير حالة الغش أو الخطأ الجسيم([sup][13])[/sup].
أما
إذا كانت النتيجة المطلوبة أو الغرض المقصود مؤكد الوقوع، كما إذا تعلق الأمر
بتسليم بحث معد سلفاً وكان المؤلِف قد أعلن صراحة عن مواصفات وكفاءة هذا البحث،
فإن التزام المؤلِف في هذه الحالة بتسليم بحث مطابق للمواصفات المعلن عنها، يعتبر
التزاماً بتحقيق نتيجة، وذلك لعدم توقف توفر هذه المواصفات على دور الناشر، أو على
ما سيتم بذله من جهد ذهني في تحقيقها- إذ أن العقد ورد على بحث جاهز معد سلفاً-
وبالتالي يسأل المؤلِف عن عدم مطابقة المواصفات حتى وان بذل من العناية ما يبذله
الشخص المعتاد، وكذلك الأمر إذا نص العقد على ضرورة تحقيق نتيجة ما، إلا إذا وجد
سبب أجنبي حال دون ذلك.
ثالثاً-
مكان وزمان تسليم المؤلَف:-
ينبغي
أن يتم التسليم في المكان المتفق عليه أو بما ينص عليه القانون، وباعتبار أن
معلومات المؤلَف ذات طبيعة غير مادية، فإن تسليمها وتداولها يتطلب تثبيتها على
وسيط مادي كالأوراق والأقراص الليزرية أو الضوئية والممغنطة (C.D or Disk)، كما من الممكن
تسليم المؤلَف من دون الحاجة إلى الوسيط المادي وذلك من خلال نقله عبر شبكة
المعلومات (الانترنت)، أو رسائل البريد الالكتروني أو أية وسيلة الكترونية أخرى.
مع ضرورة إعطاء الناشر مفتاح الرسالة الالكترونية حتى يستطيع الوصول إلى المؤلَف
(موضوع العقد). لذا ينبغي أن يتضمن اتفاق المتعاقدين تحديد وسيلة تسليم البحث
صراحةً أو ضمناً، وبخلاف ذلك تنعقد مسؤولية المؤلِف العقدية.
أما
فيما يتعلق بزمان تقديم المؤلَف فالأصل أن المؤلِف يُلزم بتقديمه في الزمان المتفق
عليه. فإن لم يكن هناك اتفاق على مدة معينة فيلزم المؤلِف بالإنجاز في المدة
المعقولة التي يقررها العرف تبعاً لمقدرة المؤلِف ووسائله وبمراعاة طبيعة العمل
ومقدار ما يقتضيه من دقة وحسب عرف المهنة.
وفي
حالة تأخر المؤلِف في البدء بالعمل أو تأخره في أنجاز المؤلَف تأخراً لا يتوقع معه
مطلقاً أن يتمكن من القيام به كما ينبغي في المدة المتفق عليها، فيجوز للناشر
عندئذٍ أن يطلب فسخ العقد من دون انتظار حلول اجل التسليم.
بيد
أن إنهاء عقد التأليف سواء بتقديم المؤلَف للناشر أو بفسخه بسبب عدم التنفيذ، لا
يعفي المؤلِف من ضرورة مراعاة الالتزام بالمحافظة على سرية التعامل مع الناشر.
وهذا ما سنحاول بيانه في المطلب الآتي:-
المطلب الثاني
الالتزام بالسرية
يتطلب
عقد التأليف الكشف عن بعض المعلومات والعناصر للمؤلِف: أما أثناء المفاوضات لإقناعه
بجدوى هذه المعلومات لبحثه وليتمكن من تقدير قيمتها ومدى احتياجه لها أثناء إعداد المؤلَف،
أو بعد إبرام العقد في إطار تنفيذ التزامه بإعداد المؤلَف. وهنا يتعرض الناشر لخطر
إمكانية قيام المؤلِف بإفشاء هذه الأسرار للآخرين على نحو يضر بمصالحه. وقد يقوم
باستخدامها بنفسه- أي المؤلِف- لأغراض أخرى أو بعد انتهاء مدة العقد على نحو يشكل
منافسة جدية للناشر.
ومن
هنا برزت أهمية الالتزام بالسرية والذي يقصد به ذلك الالتزام الذي يفرض على المؤلِف
عدم البوح بخصوص كل ما يصل إلى علمه أو يكتشفه خلال إعداد المؤلَف([sup][14])[/sup].
ولم يستقر الفقه القانوني في تحديد مصدر هذا الالتزام وذلك لتحول هذا الالتزام
الذي بدأ كواجب أخلاقي إلى التزام قانوني، فمنهم من يرى أن مصدر هذا الالتزام هو
الاتفاق بين طرفي العقد سواء كان هذا الاتفاق صريحاً أو ضمنياً([sup][15])[/sup].
ومنهم من يذهب إلى أن هذا الالتزام يجد مصدره خارج العقد وعلى أساس فكرة النظام
العام التي تحتم على المتعاقد أن يراعي في كل الظروف خلال ممارسته لمهنته الالتزام
بالسرية، لذا فإن هذا الالتزام سابق في وجوده على العقد وملازم له في كافة مراحله،
فهو التزام قانوني مباشر([sup][16])[/sup].
ونرى
رجاحة التحليل الذي يسند هذا الالتزام إلى العقد المبرم بين المؤلِف والناشر، سواء
عن طريق وجود اتفاق صريح أو ضمني في هذا العقد يلزم المؤلِف بعدم إفشاء المعلومات إلى
الغير. وذلك لأننا نبحث هذا الالتزام في إطار آثار عقد التأليف، وهذا العقد الذي
نشأ صحيحاً ونافذاً وبالتالي فإننا لا نحتاج إلى الرجوع إلى أي مصدر مادام هذا
العقد موجوداً وساري المفعول باعتباره المصدر المباشر لهذا الالتزام.
إلى
جانب ذلك إن مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود هو الذي يفرض هذا الالتزام، وحسن
النية في هذا الصدد يتمثل من خلال القول إن الأسرار التي تصل الى علم المؤلِف وذلك
من خلال عمله أو بمناسبته، عليه (أي المؤلِف) التكتم عليها وعدم الإفصاح عنها
حفاظاً على مصالح الناشر([sup][17])[/sup].
وأخيراً؛
إن الالتزام بسرية المعلومات ينشأ حتى في الحالات التي لا يرد بشأنها نص. فالعقد
يرتب هذا الالتزام بذمة المؤلِف، ويجد هذا الحل أساسه في نص المادة (150) من
القانون المدني العراقي التي تقضي بأنه: ((2- ولا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد
بما ورد فيه، ولكن يتناول أيضا ماهو من مستلزماته وفقاً للقانون والعرف والعدالة
بحسب طبيعة الالتزام)). فلما كانت المعلومات تتسم بطابع السرية فإن إفشاءها يؤدي إلى
الأضرار بالناشر، لذا يمكن القول إن مثل هذا الالتزام يعتبر من مستلزمات العقد.
فطبيعة هذا العقد تقضي بوجود هذا الالتزام كونه من العقود التي تقوم على الثقة
والاعتبار الشخصي([sup][18])[/sup].
فهو إذن من الالتزامات اللصيقة بعقد التأليف يتعين الوفاء به من قبل المؤلِف حتى
ولو لم يرد بشأنه نص في العقد.
بيد
انه لما كان كشف سرية المعلومات قد يسبق مرحلة أبرام العقد، مما يثير مسألة البحث
عن مصدر هذا الالتزام في مرحلة التفاوض. فإنه يمكن القول بوجود التزام عقدي في عدم
إفشاء ما اطلع عليه المؤلِف من معلومات لأن إطلاع المتفاوض على السر قد قام على أساس
التراضي بين الطرفين([sup][19])[/sup].
إلا إن الفقه اختلف في تحديد طبيعة هذا العقد، فذهب جانب منه إلى اعتباره عقد
وديعة([sup][20])[/sup]،
بينما يرى آخرون انه عقد غير مسمى([sup][21])[/sup].
أما
عن المقصود بأسرار المؤلَف- موضوع العقد- فيلاحظ انه ليس كل ما يصل إلى المؤلِف من
معلومات أثناء إعداده للمؤلَف يعدّ واحداً من أسرار العقد، وإنما ينبغي فوق ذلك إن
تكون هذه المعلومات غير معروفة لدى الكافة، أي غير معروفة على وجه الخصوص لدى
منافسي الناشر، لأنهم الوحيدون الذين يمكن أن يحققوا المنافع إذا توصلوا إليها،
فهذه المعلومات التي تصل إلى علم المؤلِف أثناء عمله هي التي ينبغي إلا تكون
معلومة لدى الغير لكي تعد سراً من أسرار العقد([sup][22])[/sup].
وعليه يمكن القول أن المقصود بأسرار المؤلَف –موضوع العقد- تلك المعلومات غير
المعروفة لدى منافسي الناشر، لأنهم المستفيدون من كشف هذه المعلومات لذا ينبغي أن
تكون المعلومات غير معروفة لدى الغير لكي تعدّ أسرارا ينبغي المحافظة عليها.
ومن
جهة أخرى فإن تساؤلاً يمكن أن يطرح في هذا السياق عن النطاق الزماني للالتزام
المتمثل بالحفاظ على سرية المعلومات، أي عن الفترة التي ينبغي فيها المحافظة على
هذه السرية أو ما قد يصل إلى المؤلِف من معلومات، وهل تشمل هذه الفترة فترة تنفيذ
العقد أو إنها تشمل كذلك ما بعد فترة التنفيذ وانقضاء العقد ؟
وللإجابة
عن هذا السؤال لابد أن نبين إن الالتزامات الناشئة عن العقود بصورة عامة يقتصر
نطاقها من حيث الزمان على المدة المحددة لتنفيذ العقد، فمتى ماتم تنفيذ العقد انقضت
الالتزامات الناشئة عنه.
ولكن
لا يؤخذ ذلك على إطلاقه إذ تتصف بعض الالتزامات بخصوصية تجعلها تأبى الانقضاء
بمجرد انتهاء تنفيذ العقد. ولقد استقر الفقه الحديث على أن الالتزام بالسرية في
العقود المهنية بصورة عامة يتصف بالتأبيد ولا يقتصر على مدة العقد المبرم بين
الطرفين، وذلك لأن من موجبات الالتزام بالسرية هو حماية مصالح الناشر المادية و الأدبية،
وهذا الأمر لن يتحقق إلا إذا ظلت السرية ملازمة للمعلومات التي بحوزة المهني
المتخصص إلى الأبد([sup][23])[/sup].
وعليه
فإن الفترة التي يسري فيها هذا الالتزام لا تمتد فقط إلى فترة تنفيذ العقد، وإنما
تشمل كذلك الفترة التي تلحق تنفيذ العقد، إذ يسأل المؤلِف عن أي ضرر قد يصيب الناشر
في حالة ما إذا خالف المؤلِف هذا الالتزام وقام بإفشاء المعلومات بأية طريقة كانت،
إذ أن امتداد هذا الالتزام إلى ما بعد انقضاء العقد فيه حماية لمصلحة الناشر، ذلك إن
عدم إفشاء أسرار العقد، له أهمية كبيرة بالنسبة لهذا الأخير سواء أكانت العلاقة
العقدية قائمة أم لا([sup][24])[/sup]،
مادام هذا الإفشاء يمكن أن يلحق به ضرراً جسيماً([sup][25])[/sup]،
وفي هذا الصدد يمكن قياس عقد التأليف بعقد المحامي، إذ يلزم المحامي بالحفاظ على
سرية المعلومات التي يحصل عليها من عمله مع موكله حتى بعد انتهاء علاقته بموكله([sup][26])[/sup].
وعلى
ضوء المعطيات سالفة الذكر، نستطيع القول إن التزام المؤلِف بعدم إفشاء أسرار المؤلَف
–موضوع العقد-، (ومن ضمنها المعلومات التي تصل إلى علمه استناداً إلى هذا العقد)،
يمكن أن يوصف بأنه التزام بالامتناع عن عمل ويعد التزاماً بتحقيق نتيجة مقتضاها
عدم إفشاء أسرار البحث، لأن إفشاء سرية هذه المعلومات تكفي لإثارة خطأ المؤلِف
وبالتالي تحقق المسؤولية العقدية في جانبه. ذلك أن الناشر عندما دخل بعلاقة عقدية
مع المؤلِف فإن ذلك كان مؤسساً على الثقة التي وضعها في هذا المؤلِف فأطلعه على أسرار
البحث([sup][27])[/sup]،
لذلك فإن التزام المؤلِف بالمحافظة على أسرار البحث أثناء العقد وبعد انقضائه ما
يحقق الحماية المادية والمعنوية للناشر لأن عمله مرتكز على بقاء المعرفة العلمية
محتفظة بطبيعتها السرية، فالضرر الذي سوف يصيب الناشر من جراء الإفشاء بالأسرار هو
في الأغلب غير ممكن إصلاحه، عليه ينبغي احترام هذا السر من قبل المؤلِف طيلة فترة
العقد وبعد انتهاء الرابطة العقدية.
كما
إن تضمين عقد التأليف أثناء إبرام العقد أو حتى بعد إبرامه شرطاً يقضي من المؤلِف
الالتزام بالمحافظة على الأسرار التي تصل إليه نتيجة بحثه لدى الناشر يعد امراً
مقبولاً، هذا بالإضافة إلى أن تمكين الناشر للمؤلِف من الحصول على المعلومات التي
قد يكون بعضها سرياً يعبر عن الثقة التي يوليها الناشر للمؤلِف التي تعد أحد دعائم
عقد التأليف الذي يتميز بكونه عقداً قائماً على الاعتبار الشخصي، ويتعين على المؤلِف
أن يكون أهلاً لهذه الثقة بالتزامه بعدم إفشاء هذه المعلومات للغير.
كما
أنه قد تؤدي عملية إفشاء الأسرار من قبل المؤلِف إلى نشوء المسؤولية الجنائية بحقه
إذا ما توفرت أركانها. ويعرف الفقه الجنائي جريمة إفشاء الأسرار بأنها كشف عن
واقعة لها صفة السر صادر ممن علم بها بمقتضى مهنته ومقترن بالقصد الجنائي([sup][28])[/sup].
([1])
أنظر المادة (150) من القانون المدني العراقي.
([2])يعد
عقد التأليف من العقود القائمة على الاعتبار الشخصي كالسمعة و الكفاءة العلمية
والأمانة و ما قام به المؤلِف سابقاً من أعمال تكسبه تجربة علمية كافية.
([3])
أنظر أنموذج عقد التأليف الخاص ببيت الحكمة، ملحق رقم (1) مع هذا البحث.كما أنظر
نص المادة (42) من قانون حماية حق المؤلِف العراقي.
([4])
أنظر المطلب الثاني من هذا المبحث، الخاص بالالتزام بالسرية.
([5])
أنظر: د. عصمت عبد المجيد بكر، المدخل الىالبحث العلمي،الموسوعة الصغيرة،دار
الشؤون الثقافية،بغداد،2001، ص 95.
([6])
المصدر السابق، ص 96.
([7])اذ
لا يخرج عقد التأليف عن كونه، في واقع الحال،إلا عقد مقاولة بالمفهوم المتداول
المعروف به.
([8])
أنظر: د. عصمت عبد المجيد بكر، مصدر سابق، ص 130 وما بعدها.
([9])
بموجب نص المادة (168) من القانون المدني العراقي، تقابلها المادة (215) من
القانون المدني المصري.
([10])
بمعنى ضرورة مطابقة المؤلِف- محل العقد- لرغبات الناشر أو للمواصفات المتفق عليها
والتي يتطلع الناشر لتحققها.
([11])
كما يمكن اعتبار التزام المؤلِف التزاماً ببذل عناية في نطاق عقد المقاولة قياساً
على طبيعة التزام المحامي مع عملية والتزام الطبيب عند علاج المرضى، وبالتالي يكتف
ببذل الجهد الكافي والعناية الضرورية في ضوء المعطيات العلمية. أنظر في ذلك: د,
محمد لبيب شنب، شرح أحكام عقد المقاولة،القاهرة،1962، ص97. د. محمد عبد الظاهر
حسين، المسؤولية المدنية للمحامي اتجاه العميل، القاهرة، 1993، ص313.
([12])
بموجب نص الفقرة الأولى من المادة (251) من القانون المدني العراقي والتي تقابل
الفقرة الأولى من المادة (211) من القانون المدني المصري.
([13])
إذ يبقى المدين مسؤولاً عما يأتيه من غش أو خطأ جسيم وهو ما نصت عليه الفقرة
الثانية من المادة (211) من القانون المدني المصري.
([14])
انظر قريب من ذلك:- د. عبد الرشيد مأمون، عقد العلاج بين النظرية والتطبيق،
القاهرة، بدون سنة طبع، ص75. والذي أشار بدوره إلى رأي الفقه الفرنسي بهذا الصدد.
([15])
أنظر في مجال السر الطبي: محمود مصطفى، مدى المسؤولية الجنائية للطبيب إذا أفشى
سراً من أسرار مهنته، بحث منشور في مجلة القانون والاقتصاد، السنة 11، العدد الأول،
عام 1945، ص657.
([16])
أنظر في هذا المعنى:-
N. Reboul, Les contrats des conseil, Paris, 1, 1997, P.470.
([17])
إذ تنص الفقرة الأولى من المادة (150) من القانون المدني العراقي على انه: ((يجب
تنفيذ العقد طبقاً لما أشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية)).
([18])
أنظر في ذلك:- د. محسن شفيق، نقل التكنولوجيا من الناحية القانونية،القاهرة،1984،
ص62. د. محمود الكيلاني، عقود التجارة الدولية في مجال نقل التكنولوجيا، مطبعة
عبير،حلوان،1988، ص279.
([19])
ويوصف هذا الالتزام قبل التعاقد بالالتزام الأخلاقي، انظر: د. محسن شفيق، مصدر
سابق، ص 85.
([20])
أنظر في ذلك: حسن محمد علوب، استعانة المتهم بمحام في القانون المقارن، دار النشر
للجامعات المصرية، القاهرة، 1970، ص96.
([21])
إن التزام المحافظة على سرية المعلومات التي يحصل عليها احد الطرفين أثناء
المفاوضات قد تحكمه قواعد المسؤولية العقدية إذا كان قد أبرم بين الطرفين عقد يلزم
احدهما بالمحافظة على ما يعلم به من السرية أثناء فترة المفاوضات. أنظر: د. محمود
الكيلاني، مصدر سابق، ص 279. وانظر كذلك رأي الفقه الفرنسي الذي أشار إليه، حسن
محمود علوب، مصدر سابق، ص 96.
([22])
انظر قريب من ذلك: أستاذنا د.عدنان العابد ود. يوسف الياس، قانون العمل، ط1،
بغداد، 1980، ص252.
([23])
أنظر: د. احمد محمود سعد،نحو إرساء نظام قانوني لعقد المشورة
المعلوماتية،القاهرة،1995، ص178.
([24])
أنظر في هذا المعنى: د. عدنان العابد ود. يوسف الياس، مصدر سابق، ص252، د. حسن
كيره، أصول قانون العمل، عقد العمل، ط3، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1979، ص320.
([25])
أنظر في هذا المعنى: د. أحمد عبد الكريم أبو شنب إذ يقول: ((إن الالتزام بالمحافظة
على أسرار العمل يخضع أثناء سريان العقد لمبدأ وجوب تنفيذ العقد بحسن نية وبالتالي
لأحكام المسؤولية العقدية، وبعد انتهاء العقد لمبدأ عدم جواز الأضرار بالغير
المقرر في القانون المدني وبالتالي لأحكام المسؤولية التقصيرية بغض النظر عما إذا
كان هناك اتفاق أو عرف يقضي بالمحافظة على هذه الأسرار أو لم يكن، وذلك على ضوء
الحكمة من تقرير هذا الالتزام والمتمثلة بدفع الضرر عن صاحب العمل نتيجة إفشاء الأسرار
من قبل العامل)). شرح قانون العمل الجديد، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع،
عمان، 1999، ص156.
([26])
أنظر نصوص المواد (44 و45 و46 و47) من قانون المحاماة العراقي المرقم 173 لسنة
1965 المعدل. وانظر كذلك: د. طلبة وهبة خطاب، المسؤولية المدنية للمحامي،القاهرة،1986،
ص193.
([27])
أنظر في هذا المعنى: د. صالح بن بكر الطيار، العقود الدولية لنقل التكنولوجيا، ط2،
مركز الدراسات العربية، الأوربي، 1999م، ص228.
([28])
أنظر د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، ط2، القاهرة، 1994،
ص722.