أصول
التشريع الاسلامي
المبحث الأول: القرآن الكريم.
القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي وهو
كلام الله سبحانه وتعالى والموحى به إلى رسوله عليه الصلاة والسلام وهو المعجزة
البيانية الخالدة الذي لا يأتيه الباطل من حوله، ومن خلال هذا المبحث نتطرق لتعريف
القرآن الكريم ثم تبيان بعض خصائصه وأحكامه وحجيته عليها.
المطلب الأول: ماهية القرآن الكريم.
أولا: تعريف القرآن الكريم.
1-
القرآن في اللغة: مصدر قرأ بمعنة
تلا، أو بمعنى جمع، نقول قرأ فلان قراءة وفي هذا يقول عز وجل «وقرآن
الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا»[1]
فعلى
المعنى الأول تلا يكون مصدر بمعنى إسم المفعول، أي بمعنى متلو وعلى المعنى الثاني
جمع يكون مصدرا بمعنى إسم الفاعل أي بمعنى جامع لجمعه الأخبار والأحكام ويمكن أن
يكون بمعنى إسم المفعول أيضا، أي بمعنى مجموع، لأنه جمع في المصاحف والصدور[2].
2-
تعريف القرآن في الشرع: كلام الله تعالى
المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: «إنا
نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا» وباللغة العربية والمنقول عنه إلى يومنا هذا متواثرا بلا
شبهة، الموجود بين دفتي المصحف، المبدوء بسورة الفاتحة، والمختوم بسورة الناس. وقال
تعالى: «إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون[3]».
ورغم
أن القرآن الكريم غني عن التعريف فإنه عرف مجموعة من التعاريف نذكر البعض منها رغم
أنها لا تخرج عن التعريف أعلاه.
«القرآن كلام الله تعالى المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى
الله عليه وسلم المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس[4]»
«القرآن كلام الله الموحى به إلى محمد بن عبد الله عليه
الصلاة والسلام باللغة العربية، المنقول بالتواثر، المعجزة لفظا ومعنى، المتعبد بتلاوته
الموجود بين دفتي المصحف المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس[5]».
هذه التعاريف رغم إختلافها في الصياغة فهي لها نفس المعنى ومنها يمكن
إستخراج مجموعة من الخصائص التي يتميز بها القرآن الكريم.
ثانيا: خصائص القرآن الكريم.
يمتاز القرآن الكريم بخصائص عديدة منها:
1-
أنه كلام الله عز وجل الموحى به
إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: تعني هذه الخاصية أن القرآن
ومعانيه كلاهما منزل من عند الله تعالى فهو النظم والمعنى جميعا أي أن القرآن
الكريم إسم لكل من النظم المعجز والمعنى المستفاد وهو ما عليه الأئمة الأربع،
وظيفة الرسول إنما هي تلقيه عن الله تعالى وتبليغه إلى الناس وبيان ما يحتاج إلى
البيان[6].
أن القرآن الكريم وحي من عند الله بألفاظه وبمعانيه
العربية وهذا ثابت بالقرآن نفسه الذي جاء فيه: «وإنه
لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي
مبين[7]»
وقال
عز وجل: «وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن
حولها[8]»
فالرسول
صلى الله عليه وسلم ما كان إلا تاليا للقرآن الكريم ومبلغا له ومبينا ما يحتاج إلى
البيان وهذا يدل على أنه[9]:
- ما نزل على الرسول من وحي بالمعنى والمضمون دون اللفظ
لا يعتبر قرآنا بل يعتبر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
- تفسير القرآن الكريم لا يعد بقرآن مهما تم إحكام هذا
التفسير.
- ترجمة القرآن الكريم إلى لغة غير العربية لا تعد قرآن
كريم ولا يعتد بها ولا يصح الإعتماد عليها لإستنباط الأحكام ولا يمكن الصلاة بها.
·
حكم ترجمة القرآن الكريم[10].
قبل إعطاء حكمها لابد من الإشارة إلى أن الترجمة نوعان
ترجمة حرفية وترجمة معنوية.
الترجمة الحرفية هي ترجمة الآية كلمة بكلمة
وهذه الترجمة مستحيلة عند أهل العلم وهي ممنوعة شرعا.
الترجمة المعنوية: هي ترجمة معاني القرآن الكريم
فهي جائزة في الأصل لأنه لا محظور فيها، وقد تجب حيث تكون وسيلة إلى إبلاغ القرآن
والإسلام لغير الناطقين باللغة العربية، لأن إبلاغ ذلك واجب، وما لا يتم الواجب
إلا به فهو واجب، وهذا مع إشتراط.
Ø أن لا
تجعل بديلا للقرآن الكريم.
Ø أن
يكون المترجم عالما بمعاني الألفاظ الشرعية في القرآن.
Ø أن
يكون عالما بمدلولات الألفاظ في اللغتين المترجم منها وإليها.
ولا تقبل ترجمة معاني القرآن الكريم إلا من مأمون عليها
بحيث يكون مسلما مستقيما في دينه.
2- نزول القرآن كان منجما:
يعني أن القرآن الكريم نزل مفرق في مدى ثلاث وعشرين سنة
وهي سنوات الرسالة المحمدية التي بلغ فيها رسالته عليه السلام وقد نزل البعض في
مكة والبعض الآخر في المدينة المنورة[11].
الحكمة من نزول القرآن منجما أي مفرقا هي:
-
تتبث فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم.
-
تحدي المشركين والرد عليهم.
-
تيسير حفظ القرآن الكريم وفهمه.
-
مسايرة الحوادث والتدرج في التشريع ومراعاة
النسخ.
3- القرآن الكريم إبتدائي وسببي النزول.
ينقسم نزول القرآن إلى قسمين:
إبتدائي: هو ما لم يتقدم نزوله سبب
يقتضيه، وهو غالب آيات القرآن ومنه قوله تعالى: «ومنهم من
عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين[12]»
سببي: وهو ما تقدم نزوله سبب يقتضيه ويكون إما سؤال يجيب عنه
عز وجل كقوله تعالى: «يسألونك غن الآهلة قل هي مواقيت للناس والحج[13]»
أو
حادثة وقعت تحتاج إلى بيان وتحذير مثل قوله تعالى: «ولئن
سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب[14]»
الآيتين
نزلتا في رجل من المنافقين قال في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء
أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله وأصحابه، فبلغ
ذلك رسول الله ونزل القرآن فجاء الرجل يعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبه:
«أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون» أو فعل وقع يحتاج إلى معرفة
حكمه مثل قول عز وجل «قد سمع قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى
الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير[15]».
بالإضافة إلى أنه إبتدائي وسببي النزول فهو مكي ومدني،
ما نزل على الرسول بمكة هو مكي وما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة
المنورة هو مدني. أي ما بعد الهجرة وقبل الهجرة.
4- القرآن الكريم منقول إلينا بالتواثر.
ومعنى التواثر في عرف فقهاء الإسلام القدامى والمحدثون
أن القرآن نقله إلينا جمع عن جمع يمنع العقل تواطؤهم على الكذب أو الوهم وبذلك هو
يفيد القطع واليقين بصحته دون أي خلاف أو شك ويعتبر عن هذا بأن القرآن قطعي الثبوت
بأنه مصدر أول وأصلي في بيان حكم الشريعة الإسلامية[16]،
كما أن الله عز وجل أراد إلى القرآن الحفظ من عنده من كل تحريف أو تغيير وقال أعز
قائل: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون[17]».
5- القرآن الكريم محكم ومتشابه.
يتنوع القرآن الكريم بإعتبار الإحكام والتشابه إلى ثلاث
أنواع:
أ-
الإحكام العام الذي وصف به القرآن
كله، مثله قوله تعالى: «ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من
لدن حكيم خبير[18]»
ومعنى
هنا الإحكام والإتقان والجودة في ألفاظه ومعانيه فهو في غاية الفصاحة والبلاغة،
أخباره كلها صدق نافعة، ليس فيها كذب ولا تناقض، ولا لغو، وأحكامه كلها عدل، وحكمه
ليس فيه جور ولا تعارض ولا حكم سفيه.
ب- التشابه العام الذي وصف به القرآن كله، مثل
قوله تعالى: « الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه
جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله[19]»
ومعنى
التشابه العام أن القرآن كله يشبه بعضه بعضا في الكمال والجودة والغايات الحميدة[20]
«ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافا كثيرا[21]».
ج- الإحكام الخاص ببعضه، والتشابه الخاص ببعضه،
مثل قوله تعالى: « هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن
أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء
الفتنة وإبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا
به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب[22]»
ومعنى
هذا الإحكام أن يكون معنى الآية واضحا جليا، لا خفاء فيه، مثل قوله تعالى: «وأحل
الله البيع وحرم الربا[23]».
ومعنى التشابه الخاص ببعضه: أن يكون معنى الآية مشتبها
خفيا بحيث يتوهم منه الواهم ما لا يليق بالله تعالى، أو كتابه أو رسوله، ويفهم منه
العالم الراسخ في العلم خلاف ذلك[24].
المطلب الثاني: أحكام القرآن وحجيته في التشريع.
أولا: أحكام القرآن الكريم.
يشمل القرآن، دستور الإسلام على العديد من أنواع الأحكام[25]:
-
الأحكام الإعتقادية: وهي أحكام تتعلق
بوجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما فيه من بعث ونشور
وبالقدر شره وخيره.
-
الأحكام الخلقية: هي الأحكام التي
تستلزم التحلي بالمكارم والتخلي عن الرذائل.
-
الأحكام العملية: وهي التي تتعلق
بأفعال وأقوال وتصرفات العباد وتنقسم بدورها إلى:
v أحكام
الأحوال الشخصية: وتهتم بالأسرة من بداية تكوينها بعقد الزواج وما سبقه،
وحياته من حقوق وواجبات متبادلة بين أفرادها وما قد يترتب على إنحلالها وإنفراد
عقدها.
v الأحكام
المدنية: وتتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيوع ورهون وتجارة وشركات وكفالة
ومدانيات.
v الأحكام
الجنائية، وتتعلق بما يصدر عن الإنسان من جرائم وما يستحق من عقوبات بقصد الحفاظ
على أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم وحماية الجماعة وحفظ أمنها.
v أحكام
المرافعات المدنية والتجارية والإجراءات الجنائية: تتعلق بالقضاء
والشهادة وكافة إجراءات إقامة العدل بين الناس وكيفية إثبات الحقوق.
v أحكام
دستورية: تتعلق بنظام الحكم أسسه وأصوله وتحديد علاقة الحاكم بالمحكومين وحقوق
الأفراد.
v الأحكام
المالية والإقتصادية: وتحدد مالية الدولة من إيرادات ونفقات وتنظيم العلاقة
الإقتصادية بين الأغنياء والفقراء وبين الدولة والأفراد.
وهذه الأحكام، القرآن الكريم لا يتناولها بنفس الطريقة
بحيث منها ما تم تناولها مفصلة كالعبادات والمواريث لغلبة التعبد فيها أو لصعوبة
إدراك حكمتها بالعقل وفي البعض الآخر إهتم بالقواعد الكلية والمبادئ الأساسية بهدف
ترك تفصيل الأحكام وتطبيق الكليات على الفروع لعلماء الأمة والمجتهدين من المسلمين
حتى يسايروا روح العصر وظروف البيئة فتبقى الشريعة الإسلامية شابة خالدة صالحة لكل
زمان ومكان[26].
ثانيا: حجية القرآن في التشريع.
يبقى الكتاب (القرآن الكريم) هو المصدر الأول في التشريع
الإسلامي ودستور الأمة والرجوع إليه يبقى دائما ضروري من أجل إيجاد الحلول لأهم
الإشكالات التي يطرحها التعامل في كل المجالات حيث تجد حكما لكل نازلة إما نصا أو
إستنباطا، وحتى المصادر الأخرى فهي تستمد منه حجيتها على الأحكام.
القرآن الكريم قطعي التبوث بمعنى أننا لا يجب إبداء أدنى
شك بأن ما يوجد بين دفتي المصحف هو ما نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام دون
زيادة أو نقصان أو تغيير أو تحريف، وأما دلالته على الأحكام فقد تكون قطعية وقد
تكون ظنية كالشأن في السنة، وتكون دلالة اللفظ قطعية إذا دل على معنى لا يحتمل
غيره كدلالة لفظ النصف على معناه في قوله تعالى: «ولكم نصف
ما ترك أزواجكم[27]»
ولفظ المائة في قوله تعالى: «الزانية
والزاني فأجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة[28]».
أما إذا إحتمل اللفظ أكثر من معنى فإنه يكون ظني على كل
معنى من هذه المعاني كدلالته على لفظ القرء إما يدل على الطهر أو الحيض، وذلك في
قوله تعالى: «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» فإن القرء يحتمل أن
يكون هذا الحيض أو الطهر فدلالته على واحد منها دلالة ظنية[29].
ويعني أنه ما دل على معناه قطعا، لا يحتمل الإجتهاد أي
نص، (لاإجتهاد مع النص) وإما ما دل معناه ظاهرا أي ظنا فإنه يكون محلا للإجتهاد
وعمل المجتهد يقتصر على ترجيح الأدلة المقصود الشارع منها، وعليه فنصوص القرآن
الكريم إما أن تكون قطعية الثبوت والدلالة كلفظ المائة، وإما أن تكون قطعية الثبوت
وظنية الدلالة كلفظ القرء[30]،
وفي الحالة الأولى يقال أن النص في القرآن جاء قطعي الدلالة (عندما يكون اللفظ على
معنى واحد لا يحتاج إلى إجتهاد) أما الحالة الثانية يقال أن النص القرآني جاء بلفظ
عام أو مشترك أو بلفظ مطلق أي أن النص القرآني جاء بلفظ غير واضح يحتاج إلى تغيير
إما بالقرآن نفسه أو السنة أو القياس الذي يعتبر مصدر لا يفترق عن القرآن والسنة
أو إجتهاد علماء الأمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
السنة
السنة لغة: الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أم سيئة،
يقول تعالى: «سنة الله في الذين خلوا من قبل، ولن تجد لسنة الله
تبديل[31]» ويقول صلى الله عليه
وسلم: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة،
ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
أما في الإصطلاح الفقهي فيقصد بها ما صدر عن الرسول (ص)
مما ليس قرآنا، من أقوال أو أفعال أو تقريرات، مما يصلح أن يكون دليلا لحكم شرعي،
وعند علماء الحديث فبعضهم يوافق تعريف الأصوليين أما البعض الآخر فيضيف إلى ما سبق
ذكره أقوال الصحابة رضوان الله عليهم وأفعالهم، وذلك إستنادا إلى حديثه صلى الله
عليه وسلم الذي يقول فيه: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجد[32]»
وللحديث عن السنة النبوية كمصدر أساسي ومتفق عليه من مصادر
التشريع الإسلامي سنقسمها إلى قسمين، نتناول في القسم الأول أنواع السنة وأقسامها،
وفي القسم الثاني تدوينها وحجيتها ومنزلتها من القرآن الكريم.
القسم الأول: أنواع السنة وأقسامها.
الفرع الأول: أنواع السنة.
تنقسم السنة إلى ثلاثة أنواع: سنة قولية وسنة فعلية
وأخرى تقريرية.
1- السنة
القولية: هي ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أحاديث في مختلف المناسبات
والأغراض، ويطلق عليها مصطلح «الأحاديث النبوية» وهي بذلك أخص من السنة لأن هذه
الأخيرة تعني كل ما صدر عن الرسول (ص) من قول أو فعل أو تقرير أما الحديث فهو ما
صدر عنه عليه السلام من أقوال يريد بها الأمر أو النهي أو الإجبار[33]،
والأمثلة عن السنة القولية كثيرة وكثيرة جدا كقوله (ص): «إنما
الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمرئ ما نوى[34]»
وقوله
(ص): «لا ضرر ولا ضرار[35]» وقوله عليه السلام «من
رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك
أضعف الإيمان[36]» وقوله: «لا
يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه[37]».
2- السنة
الفعلية: تنقسم السنة الفعلية إلى نوعين:
النوع الأول: ما صدر منه بمقتضى الجهة الإنسانية
والطبيعة البشرية: كالقيام والقعود، والمشي والنوم، والأكل والشرب، وما فعله
بمقتضى خبرته وتجاربه في شؤون الدنيا من تجارة، وتدبير حربي، ووصف دواء لمريض إلى
غير ذلك ولا يدل وقوع مثل هذا منه صلى الله عليه وسلم إلا على الإباحة.
النوع الثاني: ما صدر عنه بمقتضى رسالته: وهو أنواع:
أ-
ما دل الدليل على أنه خاص به، فلا تكون الأمة فيه
مثله موجوب التهجد من قوله تعالى: «ومن الليل
فتجهد به نافلة لك» وجواز مواصلة الصوم من قوله صلى الله عليه وسلم حين نهاهم عن الوصال فقالوا
إنك تواصل: «فأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» وإباحة التزوج بأكثر
من أربع من فعله صلى الله عليه وسلم مع نهي غيره عن الزيادة وإباحته له بغير مهر
من قوله تعالى: «وإمرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي...[38]»
ب- ما
ثبت أنه بيان للكتاب، فيكون متمما له، ويكون حكمه كحكم ما بينه، ويعرف كون الفعل
بيانا إما بدليل قولي، كقوله صلى الله عليه وسلم في شأن الصلاة «
صلوا كما رأيتموني أصلي» وقوله في الحج «خذوا عني
مناسككم» أو بقرينة حال، كأي يرد في المتاب لفظ مجمل فيقع عند الحاجة إلى بيانه أو
تطبيقه عملا، كالقطع من الكوع عند تنفيذ حد السرقة والتيمم إلى المرفقين عند
الحاجة إلى التيمم. ومنه ما روى أن أنصاريا قبل إمرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجدا
شديدا: فأرسل إمرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة أم المؤمنين فأخبرتها فقالت
أم سلمة، فرداه ذلك شرا وقال: لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء فرجعت
المرأة إلى أم سلمة فوجدت رسول الله عندها فقال: ما بال هذه المرأة؟ فأخبرته أم
سلمة فقال ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ فقالت أم سلمة قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها
فأخبرته فزاده ذلك شرا وقال لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء، فغضب
رسول الله وقال: والله إنني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده.
ج- ما عدا النوعين السابقين وهذا إن عرفت صفته الشرعية
بالإضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فعلينا التأسي به لقوله تعالى «لقد
كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر[39]».
وقد كان الصحابة أحرص الناس على متابعة الرسول صلى الله
عليه وسلم يفعلون مثل فعله ويحتجون بعمله[40]
ومن ذلك قول عمر حينما قبل الحجر الأسود ( لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقبلك ما قبلتك).
3- السنة التقريرية: هي ما أقره الرسول صلى الله
عليه وسلم مما صدر عن بعض أصحابه أو حتى ما جاء في بعض الأمم السابقة مثل صيام
عاشوراء.بحضوره أو في غيبته وعلم به، من أقوال أو أفعال، وذلك إما بسكوته عليه
السلام وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار إستحسانه، فيعتبر بهذا الإقرار والموافقة
عليه صادرا عن الرسول نفسه.
ومن أمثلة السنة التقريرية ما روى أن صحابيين خرجا في
سفر فحضرتهما الصلاة ولم يجدا ماء فتيمما وصليا ثم وجدا الماء بعد ذلك فأعاد
أحدهما صلاته ولم يعدها الآخر فلما قصا أمرهما على الرسول (ص) أقر كلا منهما على
ما فعل فقال للذي لم يعد أصبت السنة وأجزأتك صلاتك وقال للذي أعاد لك الأجر مرتين[41].
كذلك روى أنه لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن
قال له
بم تقضي؟ قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله
(ص) قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله قال أجتهد رأيي ولا آلو[42]
فضرب رسول الله (ص) صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله[43].
[1] -
[2] - محمد بن صالح العثيمين، تفسير القرآن الكريم، الفاتحة، البقرة، المجلد الأول.WWW.attasmeem.com
[3] - سورة يوسف، الآية 2 المصحف الكريم.
[4] - محمد بن صالح العثيمين.م.س.
[5] - محمد بن صالح العثيمين، م.س. WWW.attasmeem.com
[6] - عبد اللطيف الحلفي، المدخل لدراسة الشريعة
الإسلامية.ص: 113.
[7] - سورة الشعراء، الآيات من 192 إلى 195.
[8] - سورة الشورى، الآية 7.
[9] -
عبد اللطيف الخلفي، م.س،
ص: 115.
[10] - - محمد بن صالح العثيمين، م.س. WWW.attasmeem.com
[11] - عبد اللطيف الخلفي. م.س. ص: 117.
[12] سورة
التوبة، الآية: 75.
[13] - سورة البقرة، الآية: 189.
[14] - سورة التوبة، من الآية 65.
[15] - سورة المجادلة. الآية 1.
[16] - علي عمي: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، دار
النشر الجسور، الطبعة الأولى 1998.
[17] -
[18] - سورة هود، الآية: 1.
[19] - سورة الزمر، الآية 23.
[20] - محمد بن صالح العثيمين، م.س. WWW.attasmeem.com
[21] - سورة النساء، الآية: 82.
[22] - سورة آل عمران، الآية: 7.
[23] - سورة البقرة، الآية: 275.
[24] - محمد بن صالح العثيمين.م.س.
[25] - أمحمد الأمراني زنطار، المدخل لدراسة الفقه
الإسلامي، طبعة 1998 ص: 137.
[26] - أمحمد الآمراني زنطار، مرجع سابق، ص: 138.
[27] - سورة النساء الآية: 12.
[28] - سورة النور الآية: 2.
[29] - أمحمد الأمراني زنطار.م.س.ص: 144.
[30] - أمحمد الأمراني زنطار.م.س.ص: 144
[31] - سورة الأحزاب: الآية: 62.
[32] - رواه أبو داوود والترمذي، وهو الحديث الثامن
والعشرون من الأحاديث النبوية.
[33] - عبد اللطيف خالفي: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية
الطبعة الأولى 98- 99 ص: 139.
[34] - رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
[35] -
رواه أحمد وإبن ماجة.
[36] - رواه مسلم.
[37] - رواه البخاري ومسلم.
[38] - سورة الأحزاب الآية: 50.
[39] - سورة الأحزاب الآية: 21.
[40] - علي حسب الله: أصول التشريع الإسلامي، الطبعة
الخامسة 1976 ص: 69 وما بعدها.
[41] - رواه أبو داوود والنسائي.
[42] - أي لا أقصر.
[43] - رواه أبو داوود.
التشريع الاسلامي
المبحث الأول: القرآن الكريم.
القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي وهو
كلام الله سبحانه وتعالى والموحى به إلى رسوله عليه الصلاة والسلام وهو المعجزة
البيانية الخالدة الذي لا يأتيه الباطل من حوله، ومن خلال هذا المبحث نتطرق لتعريف
القرآن الكريم ثم تبيان بعض خصائصه وأحكامه وحجيته عليها.
المطلب الأول: ماهية القرآن الكريم.
أولا: تعريف القرآن الكريم.
1-
القرآن في اللغة: مصدر قرأ بمعنة
تلا، أو بمعنى جمع، نقول قرأ فلان قراءة وفي هذا يقول عز وجل «وقرآن
الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا»[1]
فعلى
المعنى الأول تلا يكون مصدر بمعنى إسم المفعول، أي بمعنى متلو وعلى المعنى الثاني
جمع يكون مصدرا بمعنى إسم الفاعل أي بمعنى جامع لجمعه الأخبار والأحكام ويمكن أن
يكون بمعنى إسم المفعول أيضا، أي بمعنى مجموع، لأنه جمع في المصاحف والصدور[2].
2-
تعريف القرآن في الشرع: كلام الله تعالى
المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: «إنا
نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا» وباللغة العربية والمنقول عنه إلى يومنا هذا متواثرا بلا
شبهة، الموجود بين دفتي المصحف، المبدوء بسورة الفاتحة، والمختوم بسورة الناس. وقال
تعالى: «إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون[3]».
ورغم
أن القرآن الكريم غني عن التعريف فإنه عرف مجموعة من التعاريف نذكر البعض منها رغم
أنها لا تخرج عن التعريف أعلاه.
«القرآن كلام الله تعالى المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى
الله عليه وسلم المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس[4]»
«القرآن كلام الله الموحى به إلى محمد بن عبد الله عليه
الصلاة والسلام باللغة العربية، المنقول بالتواثر، المعجزة لفظا ومعنى، المتعبد بتلاوته
الموجود بين دفتي المصحف المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس[5]».
هذه التعاريف رغم إختلافها في الصياغة فهي لها نفس المعنى ومنها يمكن
إستخراج مجموعة من الخصائص التي يتميز بها القرآن الكريم.
ثانيا: خصائص القرآن الكريم.
يمتاز القرآن الكريم بخصائص عديدة منها:
1-
أنه كلام الله عز وجل الموحى به
إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: تعني هذه الخاصية أن القرآن
ومعانيه كلاهما منزل من عند الله تعالى فهو النظم والمعنى جميعا أي أن القرآن
الكريم إسم لكل من النظم المعجز والمعنى المستفاد وهو ما عليه الأئمة الأربع،
وظيفة الرسول إنما هي تلقيه عن الله تعالى وتبليغه إلى الناس وبيان ما يحتاج إلى
البيان[6].
أن القرآن الكريم وحي من عند الله بألفاظه وبمعانيه
العربية وهذا ثابت بالقرآن نفسه الذي جاء فيه: «وإنه
لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي
مبين[7]»
وقال
عز وجل: «وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن
حولها[8]»
فالرسول
صلى الله عليه وسلم ما كان إلا تاليا للقرآن الكريم ومبلغا له ومبينا ما يحتاج إلى
البيان وهذا يدل على أنه[9]:
- ما نزل على الرسول من وحي بالمعنى والمضمون دون اللفظ
لا يعتبر قرآنا بل يعتبر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
- تفسير القرآن الكريم لا يعد بقرآن مهما تم إحكام هذا
التفسير.
- ترجمة القرآن الكريم إلى لغة غير العربية لا تعد قرآن
كريم ولا يعتد بها ولا يصح الإعتماد عليها لإستنباط الأحكام ولا يمكن الصلاة بها.
·
حكم ترجمة القرآن الكريم[10].
قبل إعطاء حكمها لابد من الإشارة إلى أن الترجمة نوعان
ترجمة حرفية وترجمة معنوية.
الترجمة الحرفية هي ترجمة الآية كلمة بكلمة
وهذه الترجمة مستحيلة عند أهل العلم وهي ممنوعة شرعا.
الترجمة المعنوية: هي ترجمة معاني القرآن الكريم
فهي جائزة في الأصل لأنه لا محظور فيها، وقد تجب حيث تكون وسيلة إلى إبلاغ القرآن
والإسلام لغير الناطقين باللغة العربية، لأن إبلاغ ذلك واجب، وما لا يتم الواجب
إلا به فهو واجب، وهذا مع إشتراط.
Ø أن لا
تجعل بديلا للقرآن الكريم.
Ø أن
يكون المترجم عالما بمعاني الألفاظ الشرعية في القرآن.
Ø أن
يكون عالما بمدلولات الألفاظ في اللغتين المترجم منها وإليها.
ولا تقبل ترجمة معاني القرآن الكريم إلا من مأمون عليها
بحيث يكون مسلما مستقيما في دينه.
2- نزول القرآن كان منجما:
يعني أن القرآن الكريم نزل مفرق في مدى ثلاث وعشرين سنة
وهي سنوات الرسالة المحمدية التي بلغ فيها رسالته عليه السلام وقد نزل البعض في
مكة والبعض الآخر في المدينة المنورة[11].
الحكمة من نزول القرآن منجما أي مفرقا هي:
-
تتبث فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم.
-
تحدي المشركين والرد عليهم.
-
تيسير حفظ القرآن الكريم وفهمه.
-
مسايرة الحوادث والتدرج في التشريع ومراعاة
النسخ.
3- القرآن الكريم إبتدائي وسببي النزول.
ينقسم نزول القرآن إلى قسمين:
إبتدائي: هو ما لم يتقدم نزوله سبب
يقتضيه، وهو غالب آيات القرآن ومنه قوله تعالى: «ومنهم من
عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين[12]»
سببي: وهو ما تقدم نزوله سبب يقتضيه ويكون إما سؤال يجيب عنه
عز وجل كقوله تعالى: «يسألونك غن الآهلة قل هي مواقيت للناس والحج[13]»
أو
حادثة وقعت تحتاج إلى بيان وتحذير مثل قوله تعالى: «ولئن
سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب[14]»
الآيتين
نزلتا في رجل من المنافقين قال في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء
أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله وأصحابه، فبلغ
ذلك رسول الله ونزل القرآن فجاء الرجل يعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبه:
«أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون» أو فعل وقع يحتاج إلى معرفة
حكمه مثل قول عز وجل «قد سمع قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى
الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير[15]».
بالإضافة إلى أنه إبتدائي وسببي النزول فهو مكي ومدني،
ما نزل على الرسول بمكة هو مكي وما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة
المنورة هو مدني. أي ما بعد الهجرة وقبل الهجرة.
4- القرآن الكريم منقول إلينا بالتواثر.
ومعنى التواثر في عرف فقهاء الإسلام القدامى والمحدثون
أن القرآن نقله إلينا جمع عن جمع يمنع العقل تواطؤهم على الكذب أو الوهم وبذلك هو
يفيد القطع واليقين بصحته دون أي خلاف أو شك ويعتبر عن هذا بأن القرآن قطعي الثبوت
بأنه مصدر أول وأصلي في بيان حكم الشريعة الإسلامية[16]،
كما أن الله عز وجل أراد إلى القرآن الحفظ من عنده من كل تحريف أو تغيير وقال أعز
قائل: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون[17]».
5- القرآن الكريم محكم ومتشابه.
يتنوع القرآن الكريم بإعتبار الإحكام والتشابه إلى ثلاث
أنواع:
أ-
الإحكام العام الذي وصف به القرآن
كله، مثله قوله تعالى: «ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من
لدن حكيم خبير[18]»
ومعنى
هنا الإحكام والإتقان والجودة في ألفاظه ومعانيه فهو في غاية الفصاحة والبلاغة،
أخباره كلها صدق نافعة، ليس فيها كذب ولا تناقض، ولا لغو، وأحكامه كلها عدل، وحكمه
ليس فيه جور ولا تعارض ولا حكم سفيه.
ب- التشابه العام الذي وصف به القرآن كله، مثل
قوله تعالى: « الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه
جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله[19]»
ومعنى
التشابه العام أن القرآن كله يشبه بعضه بعضا في الكمال والجودة والغايات الحميدة[20]
«ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافا كثيرا[21]».
ج- الإحكام الخاص ببعضه، والتشابه الخاص ببعضه،
مثل قوله تعالى: « هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن
أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء
الفتنة وإبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا
به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب[22]»
ومعنى
هذا الإحكام أن يكون معنى الآية واضحا جليا، لا خفاء فيه، مثل قوله تعالى: «وأحل
الله البيع وحرم الربا[23]».
ومعنى التشابه الخاص ببعضه: أن يكون معنى الآية مشتبها
خفيا بحيث يتوهم منه الواهم ما لا يليق بالله تعالى، أو كتابه أو رسوله، ويفهم منه
العالم الراسخ في العلم خلاف ذلك[24].
المطلب الثاني: أحكام القرآن وحجيته في التشريع.
أولا: أحكام القرآن الكريم.
يشمل القرآن، دستور الإسلام على العديد من أنواع الأحكام[25]:
-
الأحكام الإعتقادية: وهي أحكام تتعلق
بوجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما فيه من بعث ونشور
وبالقدر شره وخيره.
-
الأحكام الخلقية: هي الأحكام التي
تستلزم التحلي بالمكارم والتخلي عن الرذائل.
-
الأحكام العملية: وهي التي تتعلق
بأفعال وأقوال وتصرفات العباد وتنقسم بدورها إلى:
v أحكام
الأحوال الشخصية: وتهتم بالأسرة من بداية تكوينها بعقد الزواج وما سبقه،
وحياته من حقوق وواجبات متبادلة بين أفرادها وما قد يترتب على إنحلالها وإنفراد
عقدها.
v الأحكام
المدنية: وتتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيوع ورهون وتجارة وشركات وكفالة
ومدانيات.
v الأحكام
الجنائية، وتتعلق بما يصدر عن الإنسان من جرائم وما يستحق من عقوبات بقصد الحفاظ
على أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم وحماية الجماعة وحفظ أمنها.
v أحكام
المرافعات المدنية والتجارية والإجراءات الجنائية: تتعلق بالقضاء
والشهادة وكافة إجراءات إقامة العدل بين الناس وكيفية إثبات الحقوق.
v أحكام
دستورية: تتعلق بنظام الحكم أسسه وأصوله وتحديد علاقة الحاكم بالمحكومين وحقوق
الأفراد.
v الأحكام
المالية والإقتصادية: وتحدد مالية الدولة من إيرادات ونفقات وتنظيم العلاقة
الإقتصادية بين الأغنياء والفقراء وبين الدولة والأفراد.
وهذه الأحكام، القرآن الكريم لا يتناولها بنفس الطريقة
بحيث منها ما تم تناولها مفصلة كالعبادات والمواريث لغلبة التعبد فيها أو لصعوبة
إدراك حكمتها بالعقل وفي البعض الآخر إهتم بالقواعد الكلية والمبادئ الأساسية بهدف
ترك تفصيل الأحكام وتطبيق الكليات على الفروع لعلماء الأمة والمجتهدين من المسلمين
حتى يسايروا روح العصر وظروف البيئة فتبقى الشريعة الإسلامية شابة خالدة صالحة لكل
زمان ومكان[26].
ثانيا: حجية القرآن في التشريع.
يبقى الكتاب (القرآن الكريم) هو المصدر الأول في التشريع
الإسلامي ودستور الأمة والرجوع إليه يبقى دائما ضروري من أجل إيجاد الحلول لأهم
الإشكالات التي يطرحها التعامل في كل المجالات حيث تجد حكما لكل نازلة إما نصا أو
إستنباطا، وحتى المصادر الأخرى فهي تستمد منه حجيتها على الأحكام.
القرآن الكريم قطعي التبوث بمعنى أننا لا يجب إبداء أدنى
شك بأن ما يوجد بين دفتي المصحف هو ما نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام دون
زيادة أو نقصان أو تغيير أو تحريف، وأما دلالته على الأحكام فقد تكون قطعية وقد
تكون ظنية كالشأن في السنة، وتكون دلالة اللفظ قطعية إذا دل على معنى لا يحتمل
غيره كدلالة لفظ النصف على معناه في قوله تعالى: «ولكم نصف
ما ترك أزواجكم[27]»
ولفظ المائة في قوله تعالى: «الزانية
والزاني فأجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة[28]».
أما إذا إحتمل اللفظ أكثر من معنى فإنه يكون ظني على كل
معنى من هذه المعاني كدلالته على لفظ القرء إما يدل على الطهر أو الحيض، وذلك في
قوله تعالى: «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» فإن القرء يحتمل أن
يكون هذا الحيض أو الطهر فدلالته على واحد منها دلالة ظنية[29].
ويعني أنه ما دل على معناه قطعا، لا يحتمل الإجتهاد أي
نص، (لاإجتهاد مع النص) وإما ما دل معناه ظاهرا أي ظنا فإنه يكون محلا للإجتهاد
وعمل المجتهد يقتصر على ترجيح الأدلة المقصود الشارع منها، وعليه فنصوص القرآن
الكريم إما أن تكون قطعية الثبوت والدلالة كلفظ المائة، وإما أن تكون قطعية الثبوت
وظنية الدلالة كلفظ القرء[30]،
وفي الحالة الأولى يقال أن النص في القرآن جاء قطعي الدلالة (عندما يكون اللفظ على
معنى واحد لا يحتاج إلى إجتهاد) أما الحالة الثانية يقال أن النص القرآني جاء بلفظ
عام أو مشترك أو بلفظ مطلق أي أن النص القرآني جاء بلفظ غير واضح يحتاج إلى تغيير
إما بالقرآن نفسه أو السنة أو القياس الذي يعتبر مصدر لا يفترق عن القرآن والسنة
أو إجتهاد علماء الأمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
السنة
السنة لغة: الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أم سيئة،
يقول تعالى: «سنة الله في الذين خلوا من قبل، ولن تجد لسنة الله
تبديل[31]» ويقول صلى الله عليه
وسلم: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة،
ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
أما في الإصطلاح الفقهي فيقصد بها ما صدر عن الرسول (ص)
مما ليس قرآنا، من أقوال أو أفعال أو تقريرات، مما يصلح أن يكون دليلا لحكم شرعي،
وعند علماء الحديث فبعضهم يوافق تعريف الأصوليين أما البعض الآخر فيضيف إلى ما سبق
ذكره أقوال الصحابة رضوان الله عليهم وأفعالهم، وذلك إستنادا إلى حديثه صلى الله
عليه وسلم الذي يقول فيه: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجد[32]»
وللحديث عن السنة النبوية كمصدر أساسي ومتفق عليه من مصادر
التشريع الإسلامي سنقسمها إلى قسمين، نتناول في القسم الأول أنواع السنة وأقسامها،
وفي القسم الثاني تدوينها وحجيتها ومنزلتها من القرآن الكريم.
القسم الأول: أنواع السنة وأقسامها.
الفرع الأول: أنواع السنة.
تنقسم السنة إلى ثلاثة أنواع: سنة قولية وسنة فعلية
وأخرى تقريرية.
1- السنة
القولية: هي ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أحاديث في مختلف المناسبات
والأغراض، ويطلق عليها مصطلح «الأحاديث النبوية» وهي بذلك أخص من السنة لأن هذه
الأخيرة تعني كل ما صدر عن الرسول (ص) من قول أو فعل أو تقرير أما الحديث فهو ما
صدر عنه عليه السلام من أقوال يريد بها الأمر أو النهي أو الإجبار[33]،
والأمثلة عن السنة القولية كثيرة وكثيرة جدا كقوله (ص): «إنما
الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمرئ ما نوى[34]»
وقوله
(ص): «لا ضرر ولا ضرار[35]» وقوله عليه السلام «من
رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك
أضعف الإيمان[36]» وقوله: «لا
يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه[37]».
2- السنة
الفعلية: تنقسم السنة الفعلية إلى نوعين:
النوع الأول: ما صدر منه بمقتضى الجهة الإنسانية
والطبيعة البشرية: كالقيام والقعود، والمشي والنوم، والأكل والشرب، وما فعله
بمقتضى خبرته وتجاربه في شؤون الدنيا من تجارة، وتدبير حربي، ووصف دواء لمريض إلى
غير ذلك ولا يدل وقوع مثل هذا منه صلى الله عليه وسلم إلا على الإباحة.
النوع الثاني: ما صدر عنه بمقتضى رسالته: وهو أنواع:
أ-
ما دل الدليل على أنه خاص به، فلا تكون الأمة فيه
مثله موجوب التهجد من قوله تعالى: «ومن الليل
فتجهد به نافلة لك» وجواز مواصلة الصوم من قوله صلى الله عليه وسلم حين نهاهم عن الوصال فقالوا
إنك تواصل: «فأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» وإباحة التزوج بأكثر
من أربع من فعله صلى الله عليه وسلم مع نهي غيره عن الزيادة وإباحته له بغير مهر
من قوله تعالى: «وإمرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي...[38]»
ب- ما
ثبت أنه بيان للكتاب، فيكون متمما له، ويكون حكمه كحكم ما بينه، ويعرف كون الفعل
بيانا إما بدليل قولي، كقوله صلى الله عليه وسلم في شأن الصلاة «
صلوا كما رأيتموني أصلي» وقوله في الحج «خذوا عني
مناسككم» أو بقرينة حال، كأي يرد في المتاب لفظ مجمل فيقع عند الحاجة إلى بيانه أو
تطبيقه عملا، كالقطع من الكوع عند تنفيذ حد السرقة والتيمم إلى المرفقين عند
الحاجة إلى التيمم. ومنه ما روى أن أنصاريا قبل إمرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجدا
شديدا: فأرسل إمرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة أم المؤمنين فأخبرتها فقالت
أم سلمة، فرداه ذلك شرا وقال: لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء فرجعت
المرأة إلى أم سلمة فوجدت رسول الله عندها فقال: ما بال هذه المرأة؟ فأخبرته أم
سلمة فقال ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ فقالت أم سلمة قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها
فأخبرته فزاده ذلك شرا وقال لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء، فغضب
رسول الله وقال: والله إنني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده.
ج- ما عدا النوعين السابقين وهذا إن عرفت صفته الشرعية
بالإضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فعلينا التأسي به لقوله تعالى «لقد
كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر[39]».
وقد كان الصحابة أحرص الناس على متابعة الرسول صلى الله
عليه وسلم يفعلون مثل فعله ويحتجون بعمله[40]
ومن ذلك قول عمر حينما قبل الحجر الأسود ( لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقبلك ما قبلتك).
3- السنة التقريرية: هي ما أقره الرسول صلى الله
عليه وسلم مما صدر عن بعض أصحابه أو حتى ما جاء في بعض الأمم السابقة مثل صيام
عاشوراء.بحضوره أو في غيبته وعلم به، من أقوال أو أفعال، وذلك إما بسكوته عليه
السلام وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار إستحسانه، فيعتبر بهذا الإقرار والموافقة
عليه صادرا عن الرسول نفسه.
ومن أمثلة السنة التقريرية ما روى أن صحابيين خرجا في
سفر فحضرتهما الصلاة ولم يجدا ماء فتيمما وصليا ثم وجدا الماء بعد ذلك فأعاد
أحدهما صلاته ولم يعدها الآخر فلما قصا أمرهما على الرسول (ص) أقر كلا منهما على
ما فعل فقال للذي لم يعد أصبت السنة وأجزأتك صلاتك وقال للذي أعاد لك الأجر مرتين[41].
كذلك روى أنه لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن
قال له
بم تقضي؟ قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله
(ص) قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله قال أجتهد رأيي ولا آلو[42]
فضرب رسول الله (ص) صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله[43].
[1] -
[2] - محمد بن صالح العثيمين، تفسير القرآن الكريم، الفاتحة، البقرة، المجلد الأول.WWW.attasmeem.com
[3] - سورة يوسف، الآية 2 المصحف الكريم.
[4] - محمد بن صالح العثيمين.م.س.
[5] - محمد بن صالح العثيمين، م.س. WWW.attasmeem.com
[6] - عبد اللطيف الحلفي، المدخل لدراسة الشريعة
الإسلامية.ص: 113.
[7] - سورة الشعراء، الآيات من 192 إلى 195.
[8] - سورة الشورى، الآية 7.
[9] -
عبد اللطيف الخلفي، م.س،
ص: 115.
[10] - - محمد بن صالح العثيمين، م.س. WWW.attasmeem.com
[11] - عبد اللطيف الخلفي. م.س. ص: 117.
[12] سورة
التوبة، الآية: 75.
[13] - سورة البقرة، الآية: 189.
[14] - سورة التوبة، من الآية 65.
[15] - سورة المجادلة. الآية 1.
[16] - علي عمي: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، دار
النشر الجسور، الطبعة الأولى 1998.
[17] -
[18] - سورة هود، الآية: 1.
[19] - سورة الزمر، الآية 23.
[20] - محمد بن صالح العثيمين، م.س. WWW.attasmeem.com
[21] - سورة النساء، الآية: 82.
[22] - سورة آل عمران، الآية: 7.
[23] - سورة البقرة، الآية: 275.
[24] - محمد بن صالح العثيمين.م.س.
[25] - أمحمد الأمراني زنطار، المدخل لدراسة الفقه
الإسلامي، طبعة 1998 ص: 137.
[26] - أمحمد الآمراني زنطار، مرجع سابق، ص: 138.
[27] - سورة النساء الآية: 12.
[28] - سورة النور الآية: 2.
[29] - أمحمد الأمراني زنطار.م.س.ص: 144.
[30] - أمحمد الأمراني زنطار.م.س.ص: 144
[31] - سورة الأحزاب: الآية: 62.
[32] - رواه أبو داوود والترمذي، وهو الحديث الثامن
والعشرون من الأحاديث النبوية.
[33] - عبد اللطيف خالفي: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية
الطبعة الأولى 98- 99 ص: 139.
[34] - رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
[35] -
رواه أحمد وإبن ماجة.
[36] - رواه مسلم.
[37] - رواه البخاري ومسلم.
[38] - سورة الأحزاب الآية: 50.
[39] - سورة الأحزاب الآية: 21.
[40] - علي حسب الله: أصول التشريع الإسلامي، الطبعة
الخامسة 1976 ص: 69 وما بعدها.
[41] - رواه أبو داوود والنسائي.
[42] - أي لا أقصر.
[43] - رواه أبو داوود.