بسم الله الرحمن
الرحيم
كتاب الطلاق
باب فيمن خبب امرأة على زوجها
حدثنا الحسن بن علي حدثنا زيد بن
الحباب حدثنا عمار بن رزيق عن
عبد الله بن عيسى عن عكرمة عن يحيى بن يعمر
عن أبي هريرة قال
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من خبب امرأة على زوجها أو عبدا
على سيده
( أخبرنا
عمار بن رزيق )
: بتقديم
الراء
المهملة على الزاي المعجمة مصغرا
( ليس منا )
: أي من
أتباعنا
( من خبب )
: بتشديد
الباء الأولى بعد الخاء المعجمة أي خدع وأفسد
( امرأة على
زوجها )
: بأن يذكر
مساوئ الزوج عند امرأته أو محاسن أجنبي عندها
( أو عبدا )
: أي أفسده
( على سيده )
: بأي نوع من
الإفساد . وفي معناهما إفساد الزوج على امرأته والجارية على
سيدها .
قال المنذري
وأخرجه النسائي
.
باب في المرأة تسأل زوجها
طلاق امرأة له
حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي
الزناد عن الأعرج عن أبي
هريرة قال
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها
( لا تسأل
المرأة طلاق أختها )
: أي في
كونها
من بنات آدم
( لتستفرغ
صحفتها )
: وفي رواية
البخاري : لتستفرغ ما في صحفتها . والصحفة إناء كالقصعة ,
يعني لتجعل تلك المرأة قصعة أختها خالية عما فيها , وهذا
كناية عن أن يصير لها ما كان يحصل لضرتها من النفقة وغيرها
( ولتنكح
)
: عطف على
لتستفرغ وكلاهما علة للنهي أي لتجعل صحفتها فارغة لتفوز بحظها
وتنكح زوجها . وقال العلامة ابن الملك في شرح المشارق قوله ولتنكح بالنصب بصيغة المعلوم يعني لتنكح طالبة الطلاق زوج تلك المطلقة , وإن
كانت الطالبة والمطلوبة تحت رجل يحتمل أن يعود ضميره
إلى المطلوبة يعني لتنكح ضرتها زوجا آخر , فلا تشترك معها فيه .
وروي على صيغة المجهول يعني لتجعل منكوحة له .
وروي ولتنكح بصيغة الأمر المعلوم المجهول عطفا على قوله لا تسأله يعني لتثبت
تلك المرأة المنكوحة على نكاحها الكائن مع الضرة قانعة
بما يحصل لها فيه , أو معناه ولتنكح تلك المرأة الغير
المنكوحة زوجا غير زوج أختها , ولتترك ذلك الزوج لها , أو معناه لتنكح تلك المخطوبة زوج أختها , ولتكن ضرة عليها إذا كانت صالحة للجمع معها
من غير أن تسأل طلاق أختها
( فإنما لها
ما قدر لها )
: يعني أن
الله تعالى يوصل إلى تلك المرأة ما قدر لها من
النفقة وغيرهما سواء كانت منفردة أو مع أخرى .
قال المنذري
: وأخرجه البخاري والنسائي وأخرجه مسلم من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة .
باب في كراهية الطلاق
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا معرف
عن محارب قال
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق
( أخبرنا
معرف )
: بكسر الراء
المشددة هو ابن واصل السعدي الكوفي ثقة من السادسة
( ما أحل
الله )
: ما نافية
( شيئا أبغض
إليه من الطلاق )
: فيه دليل
على أن ليس كل حلال محبوبا بل ينقسم إلى ما هو محبوب وإلى ما
هو مبغوض قال الخطابي في المعالم : معنى الكراهية فيه
منصرف إلى السبب الجالب للطلاق وهو سوء العشرة وقلة الموافقة الداعية إلى الطلاق , لا إلى نفس الطلاق , فقد أباح الله تعالى الطلاق , وقد ثبت
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه طلق بعض
نسائه ثم راجعها , وكانت لابن عمر امرأة يحبها وكان عمر يكره
صحبته إياها فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فدعا به , فقال يا عبد الله طلق امرأتك فطلقها , وهو لا يأمر بأمر يكرهه الله
سبحانه . انتهى
.
قال المنذري
: هذا مرسل .
تعليقات الحافظ ابن قيم الجوزية
قال
الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله : وقد روى الدارقطني من حديث معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أحل الله
شيئا أبغض إليه من الطلاق " , وفيه حميد بن مالك , وهو
ضعيف . وفي مسند البزار من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : " لا تطلق النساء إلا من ريبة , إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات " .
حدثنا كثير بن عبيد حدثنا محمد بن خالد عن
معرف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر
عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال أبغض الحلال إلى الله
تعالى الطلاق
( أبغض
الحلال إلى الله عز وجل الطلاق )
: قيل كون الطلاق مبغوضا مناف لكونه حلالا , فإن كونه مبغوضا يقتضي رجحان
تركه على فعله
, وكونه حلالا يقتضي مساواة تركه لفعله .
وأجيب بأن
المراد بالحلال ما ليس تركه بلازم الشامل للمباح
والواجب والمندوب والمكروه , وقد يقال الطلاق حلال لذاته , والأبغضية لما يترتب
عليه من انجراره إلى المعصية .
قال المنذري
: وأخرجه ابن ماجه , والمشهور فيه المرسل وهو غريب .
وقال البيهقي في رواية ابن أبي شيبة يعني محمد بن عثمان
عن عبد الله بن عمر ولا أراه يحفظه .
باب في طلاق السنة
قال
الإمام البخاري في صحيحه : طلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع ويشهد شاهدين انتهى . وقال الحافظ في الفتح : روى الطبري بسند
صحيح عن ابن مسعود في قوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن
} قال في الطهر من غير جماع . وأخرجه عن جمع من الصحابة
ومن بعدهم كذلك انتهى .
حدثنا القعنبي عن
مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر
أنه
طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن ذلك فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك
وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله
سبحانه أن تطلق لها النساء
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن نافع أن
ابن عمر طلق امرأة له وهي حائض تطليقة بمعنى حديث مالك
( أنه طلق
امرأته )
: اسمها آمنة
بنت غفار أو بنت عمار . وفي مسند أحمد أن اسمها
النوار . قال الحافظ فيمكن أن يكون اسمها آمنة ولقبها النوار
( وهي حائض )
: جملة حالية
معترضة
( على عهد )
: أي في عهد
( عن ذلك )
: أي عن حكم
طلاقه
( مره
فليراجعها )
: أمر
استحباب عند جمع من الحنفية . قال العيني : وبه
قال الشافعي وأحمد . وقال صاحب الهداية : الأصح أن المراجعة واجب عملا بحقيقة الأمر ورفعا للمعصية بالقدر الممكن
( ثم ليمسكها
حتى تطهر
)
: أي من
الحيضة التي طلقها فيها
( ثم تحيض )
: أي حيضة أخرى
( ثم تطهر )
: أي من
الحيضة الثانية
( ثم إن شاء أمسك بعد ذلك )
: أي بعد
الطهر من الحيضة الثانية
( وإن شاء طلق )
: أي في الطهر
الثاني
( قبل أن يمس
)
: أي قبل أن يجامع .
وقد اختلف في
الحكمة في الأمر بالإمساك كذلك , فقال الشافعي يحتمل أن يكون أراد
بذلك أي بما في رواية نافع أن يستبرئها بعد الحيضة التي طلقها فيها بطهر تام ثم حيض تام ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها إما بحمل أو بحيض أو
ليكون
تطليقها بعد علمه بالحمل وهو غير جاهل بما صنع , أو ليرغب
في الحمل إذا انكشفت حاملا فيمسكها لأجله .
وقيل الحكمة
في ذلك أن لا تصير الرجعة لغرض الطلاق فإذا أمسكها
زمانا يحل له فيه طلاقها ظهرت فائدة الرجعة لأنه قد يطول مقامه معها , فيجامعها , فيذهب ما في نفسه فيمسكها . كذا في النيل
( فتلك العدة
التي
أمر الله )
: أي في قوله
: { فطلقوهن لعدتهن }
( أن تطلق
لها
النساء )
: قال
الخطابي في المعالم ما حاصله أن اللام في قوله لها بمعنى في كما يقول
القائل : كتبت لخمس ليال خلون من الشهر أي في وقت خلا فيه من الشهر خمس ليال وقوله تلك إشارة إلى ما ولي الكلام المتقدم وهو الطهر أي فالأطهار
أو حالة الطهر العدة التي أمر الله أن تطلق فيها
النساء , ففي الحديث بيان أن الأقراء التي تعتد بها هي
الأطهار دون الحيض .
واعلم أنه
استدل الشافعية ومن وافقهم بقوله فتلك العدة إلخ
على أن عدة المطلقة هو ثلاثة أطهار قالوا لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلقها في الطهر وجعله العدة ونهاه أن يطلق في الحيض
وأخرجه من أن يكون عدة ثبت بذلك أن الأقراء هي
الأطهار وأجاب الطحاوي بأنه ليس المراد ههنا بالعدة هو
العدة المصطلحة الثابتة بالكتاب التي هي ثلاثة قروء بل عدة طلاق النساء أي وقته وليس أن ما يكون عدة تطلق لها النساء يجب أن يكون العدة التي
تعتد بها النساء , وقد جاءت العدة لمعان . وفيه ما
فيه .
قال المنذري
: وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي .
( طلق امرأة
له وهي حائض تطليقة )
: ظهر بهذه الرواية أنه إنما كان ابن عمر طلق امرأته في الحيض تطليقه واحدة .
حدثنا عثمان بن أبي
شيبة حدثنا وكيع عن سفيان
عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سالم عن ابن
عمر
أنه
طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى
الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها
ثم ليطلقها إذا طهرت أو وهي حامل
( فقال مره
فليراجعها ثم ليطلقها إذا طهرت )
: فيه
جواز الطلاق حال الطهر ولو كان هو الذي يلي الحيضة التي طلقها فيها , وبه قال أبو حنيفة وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد الوجهين عن الشافعية وذهب
أحمد في إحدى الروايتين عنه والشافعية في الوجه الآخر
وأبو يوسف ومحمد إلى المنع .
واستدل القائلون بالجواز بظاهر هذه الرواية وبأن المنع إنما كان لأجل الحيض ,
فإذا طهرت زال موجب التحريم فجاز الطلاق في ذلك
الطهر كما يجوز في غيره من الأطهار .
واستدل
المانعون بالرواية الأولى ففيها نص أنه لا يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي كان طلق فيها بل في الطهر التالي للحيضة الأخرى
( أو وهي
حامل )
: قال
الخطابي : فيه بيان أنه إذا طلقها وهي حامل فهو مطلق للسنة , ويطلقها في أي وقت شاء في الحمل , وهو قول كافة العلماء . واختلف أصحاب
الرأي فيها
, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف يجعل بين وقوع التطليقتين
شهرا حتى يستوفي التطليقات الثلاث . وقال محمد بن
الحسن وزفر : لا يوقع عليها وهي حامل أكثر من تطليقة واحدة ويتركها حتى تضع حملها ثم يوقع سائر التطليقات انتهى .
قال المنذري
: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه .
حدثنا أحمد بن صالح
حدثنا عنبسة حدثنا يونس
عن ابن شهاب أخبرني سالم بن عبد الله عن أبيه
أنه
طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثم قال مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر ثم إن شاء طلقها
طاهرا قبل أن يمس فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله عز وجل
( فتغيظ )
: فيه دليل
على حرمة الطلاق في الحيض لأنه صلى الله عليه وسلم لا يغضب
بغير حرام كذا قال علي القاري
( ثم إن شاء طلقها طاهرا )
: قال في
الفتح : اختلف الفقهاء في المراد بقوله طاهرا هل
المراد انقطاع الدم أو التطهر بالغسل على قولين وهما روايتان عن أحمد والراجح الثاني لما أخرجه النسائي بلفظ : " مر عبد الله فليراجعها
فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها وإن
شاء أن يمسكها فليمسكها "
( كما أمر الله تعالى )
: أي بقوله {
فطلقوهن لعدتهن } .
قال المنذري : وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي .
حدثنا الحسن بن علي
حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر
عن أيوب عن ابن سيرين أخبرني يونس بن جبير أنه سأل
ابن عمر فقال
كم
طلقت امرأتك فقال واحدة
( كم طلقت
امرأتك فقال واحدة )
: فيه نص على أنه طلقها واحدة وقد تظاهرت روايات مسلم بأنها طلقة واحدة .
والحديث سكت
عنه
المنذري .
حدثنا القعنبي
حدثنا يزيد يعني ابن إبراهيم عن
محمد بن سيرين حدثني يونس بن جبير قال سألت عبد الله بن عمر قال
قلت
رجل
طلق امرأته وهي حائض قال أتعرف عبد الله بن عمر قلت نعم قال فإن عبد الله بن عمر طلق
امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي
صلى الله عليه وسلم فسأله فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها في قبل
عدتها قال قلت فيعتد بها قال فمه أرأيت إن عجز واستحمق
( تعرف ابن
عمر )
: وفي بعض
النسخ أتعرف بذكر همزة الاستفهام
( فإن عبد
الله بن عمر طلق امرأته )
: حكى عن نفسه بلفظ الغيبة
( في قبل
عدتها )
: بضمتين أي
في إقباله وأوله
( فمه )
: أي فماذا
للاستفهام فأبدل الألف هاء للوقف أي فما يكون وإن لم
يحتسب بتلك الطلقة أو هو كلمة زجر أن انزجر عنه فإنه لا شك في وقوع الطلاق وكونه محسوبا في عدد الطلاق
( أرأيت )
: أي أخبرني
( إن عجز )
: أي عن فرض
فلم يقمه
( واستحمق )
: فلم يأت به
أيكون ذلك عذرا له . وقال النووي : الهمزة في أرأيت للاستفهام
الإنكاري أي نعم يحتسب الطلاق ولا يمنع احتسابه لعجزه وحماقته . وقال الخطابي في المعالم : فيه حذف وإضمار كأنه يقول أرأيت إن عجز واستحمق
أيسقط عنه الطلاق حمقه أو يبطله عجزه قال : وفي
الحديث بيان أن طلاق الحائض واقع ولولا أنه قد وقع لم يكن
لأمره في المراجعة معنى . وقال النووي : قد أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فلو طلقها أثم ووقع طلاقه ويؤمر بالرجعة ,
وشذ بعض أهل الظاهر فقال لا يقع طلاقه والصواب الأول
وبه قال العلماء كافة انتهى . قلت : قد أطال ابن القيم
في زاد المعاد في إثبات أن طلاق الحائض لا يقع فعليك أن تطالعه .
قال المنذري
: وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه .
حدثنا أحمد بن صالح
حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن
جريج أخبرني أبو الزبير
أنه
سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو
الزبير يسمع قال كيف ترى في رجل طلق امرأته
حائضا قال طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن عبد الله بن عمر طلق امرأته
وهي حائض قال عبد الله فردها علي ولم يرها شيئا
وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن
في قبل عدتهن
قال أبو داود روى هذا الحديث عن ابن عمر
يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم
وأبو الزبير ومنصور عن أبي وائل
معناهم كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك
وكذلك رواه محمد بن عبد الرحمن عن سالم عن ابن عمر وأما
رواية الزهري عن سالم ونافع
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى
تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء
طلق وإن شاء أمسك وروي عن عطاء الخراساني عن
الحسن عن ابن عمر نحو رواية نافع والزهري والأحاديث كلها
على خلاف ما قال أبو الزبير
( أنه )
: أي أبو
الزبير
( سمع عبد الرحمن بن أيمن )
: بنصب الدال
مفعول
( مولى عروة
)
: بدل
من عبد الرحمن
( يسأل )
: أي عبد
الرحمن
( ابن عمر )
: بالنصب
( وأبو
الزبير يسمع )
: جملة حالية
( قال )
: أي عبد
الرحمن
( كيف ترى )
: الخطاب
لابن عمر رضي الله عنهما
( ولم يرها
شيئا )
: أي لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك التطليقة شيئا يعتد به . وفيه دليل
لمن قال إن طلاق الحائض لا يقع . والقائلون بوقوع
طلاق الحائض قالوا إن قوله ولم يرها شيئا منكرا لم يقله
غير أبي الزبير . قال الخطابي : قال أهل الحديث لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا , وقد يحتمل أن يكون معناه أنه لم يره شيئا باتا
تحرم معه المراجعة ولا يحل له إلا بعد زوج , أو لم
يره شيئا جائزا في السنة ماضيا في حكم الاختيار وإن
كان لازما له على سبيل الكراهة والله أعلم انتهى . وأبو داود أيضا قد أشار إلى نكارة قوله ولم يرها شيئا حيث قال والأحاديث كلها على خلاف ما
قال أبو الزبير .
قال المنذري
: وأخرجه النسائي .
( قال أبو
داود وروي هذا الحديث عن ابن عمر إلخ )
: حاصل كلامه
أن هذا الحديث أي حديث ابن عمر في تطليقه
امرأته حائضا رواه عنه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم وأبو الزبير ومنصور , وفي روايات هؤلاء كلهم أن النبي صلى الله
عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر أي من الحيضة التي
طلقها فيها , ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك وليس في
رواياتهم ذكر حيضة أخرى سوى التي طلقها فيها . ومثل هؤلاء رواه محمد بن عبد الرحمن عن سالم عن ابن عمر . وروى هذا الحديث الزهري عن سالم عن ابن
عمر ونافع عنه
, وفي روايتهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن
يراجعها حتى تطهر أي من الحيضة التي طلقها
فيها ثم تحيض أي حيضة أخرى سوى التي طلقها فيها ثم تطهر أي من الحيضة الثانية ثم إن شاء طلق أو أمسك . ففي روايتهما زيادة وروي عن عطاء
الخراساني عن الحسن عن ابن عمر مثل روايتهما
( والأحاديث
كلها على خلاف ما قال أبو الزبير )
: أي في قوله
ولم يرها شيئا .
قال المنذري
: وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ونافع أثبت عن
ابن عمر من أبي الزبير , والأثبت من الحديثين أولى أن يقال
به إذا خالفه . وقال أبو سليمان الخطابي : حديث يونس بن جبير أثبت من هذا . وقال أهل الحديث : لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا . وقال
أبو عمر النمري : ولم يقله عنه أحد غير أبي
الزبير , وقد رواه عنه جماعة جلة فلم يقل ذلك واحد منهم .
وأبو الزبير ليس بحجة في من خالفه فيه مثله فكيف بخلاف من هو أثبت منه , وقد يحتمل أن يكون معناه أنه لم يره شيئا باتا تحرم معه المراجعة إلى
آخر ما نقلت كلام الخطابي تحت قوله ولم يرها شيئا .
تعليقات الحافظ ابن قيم الجوزية
قال الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله : وقد
أخرج مسلم في صحيحه " حديث أبي الزبير هذا بحروفه "
إلا أنه لم يقل " ولم يرها شيئا " بل قال : " فردها " , وقال " إذا طهرت " إلى آخره .
وقد دل حديث
ابن عمر هذا على أمور : منها : تحريم الطلاق في الحيض .
ومنها : أنه
حجة لمن قال بوقوعه , قالوا : لأن الرجعة إنما تكون بعد الطلاق , ونازعهم في ذلك آخرون .
وقالوا : لا
معنى لوقوع الطلاق , والأمر بالمراجعة , فإنه لو لم يعد الطلاق , لم يكن لأمره
بالرجعة معنى ,
بل أمره بارتجاعها , وهو ردها إلى حالها الأولى قبل تطليقها , دليل على أن الطلاق لم يقع .
قالوا : وقد
صرح بهذا في حديث أبي الزبير المذكور آنفا .
قالوا :
وأبو الزبير ثقة في نفسه صدوق حافظ , إنما تكلم في بعض ما رواه عن جابر معنعنا
لم يصرح بسماعه منه , وقد صرح في هذا الحديث بسماعه من ابن عمر , فلا وجه لرده .
قالوا : ولا
يناقض حديثه ما تقدم من قول ابن عمر فيه : " أرأيت إن عجز واستحمق " وقوله "
فحسبت من طلاقها " , لأنه ليس في ذلك لفظ مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله
" ولم يرها شيئا " مرفوع صريح في عدم الوقوع .
قالوا :
وهذا مقتضى قواعد الشريعة . فإن الطلاق لما كان منقسما إلى حلال وحرام , كان
قياس قواعد الشرع أن حرامه باطل غير معتد به , كالنكاح وسائر العقود التي تنقسم إلى حلال وحرام ,
ولا يرد على ذلك الظهار , فإنه لا يكون قط إلا حراما , لأنه منكر من القول وزور , فلو قيل لا
يصح , لم يكن للظهار حكم أصلا .
قالوا : وكما أن قواعد
الشريعة أن النهي يقتضي التحريم , فكذلك يقتضي الفساد , وليس معنا ما يستدل به
على فساد العقد إلا النهي عنه .
قالوا :
ولأن هذا طلاق منع منه صاحب الشرع , وحجر على العبد في اتباعه , فكما أفاد
منعه وحجره عدم جواز الإيقاع أفاد عدم نفوذه , وإلا لم يكن للحجر فائدة , وإنما فائدة الحجر عدم صحة ما
حجر على المكلف
فيه .
قالوا :
ولأن الزوج لو أذن له رجل بطريق الوكالة أن يطلق امرأته طلاقا معينا فطلق غير ما أذن له
فيه , لم ينفذ لعدم إذنه . والله سبحانه إنما أذن للعبد في الطلاق المباح , ولم يأذن له في المحرم ,
فكيف تصححون ما لم يأذن به
, وتوقعونه , وتجعلونه من صحيح أحكام الشرع ؟ !
قالوا :
ولأنه لو كان الطلاق
نافذا في الحيض لكان الأمر بالمراجعة والتطليق بعده تكثيرا من
الطلاق البغيض إلى الله , وتقليلا لما بقي من عدده الذي يتمكن من المراجعة معه . ومعلوم أنه
لا مصلحة في ذلك
.
قالوا : وإن
مفسدة الطلاق الواقع في الحيض , لو كان واقعا , لا يرتفع بالرجعة والطلاق بعدها , بل
إنما يرتفع بالرجعة المستمرة التي تلم شعث النكاح , وترقع خرقه . فأما رجعة يعقبها طلاق ,
فلا تزيل مفسدة الطلاق الأول , لو كان واقعا .
قالوا :
وأيضا فما حرمه الله سبحانه من العقود , فهو مطلوب الإعدام بكل طريق حتى يجعل وجوده كعدمه في
حكم الشرع , ولهذا كان ممنوعا من فعله , باطلا في حكم الشرع والباطل شرعا كالمعدوم . ومعلوم أن هذا
هو مقصود الشارع مما حرمه ونهى عنه , فالحكم ببطلان ما حرمه ومنع منه أدنى إلى تحصيل هذا المطلوب وأقرب ,
بخلاف ما إذا صحح
, فإنه يثبت له حكم الوجود .
قالوا :
ولأنه إذا صحح استوى هو والحلال في الحكم الشرعي , وهو الصحة . وإنما يفترقان في
موجب ذلك من الإثم والذم ومعلوم أن
الحلال المأذون فيه لا يساوي المحرم الممنوع منه البتة .
قالوا :
وأيضا فإنما حرم لئلا ينفذ ولا يصح , فإذا نفذ وصح , وترتب عليه حكم الصحيح , كان ذلك
عائدا على مقتضى
النهي بالإبطال .
قالوا :
وأيضا فالشارع إنما حرمه ونهى عنه لأجل المفسدة التي تنشأ من وقوعه , فإن
ما نهى عنه الشرع وحرمه لا يكون قط إلا مشتملا عن مفسدة خالصة أو راجحة , فنهى عنه قصدا لإعدام تلك
المفسدة . فلو حكم بصحته ونفوذه
لكان ذلك تحصيلا للمفسدة التي قصد الشارع إعدامها , وإثباتا لها .
قالوا : وأيضا فالعقد
الصحيح هو الذي يترتب عليه أثره , ويحصل منه مقصوده . وهذا إنما يكون في العقود
التي أذن فيها الشارع , وجعلها أسبابا لترتب آثارها عليها , فما لم يأذن فيه ولم يشرعه كيف يكون سببا
لترتب آثاره عليه , ويجعل كالمشروع المأذون فيه .
قالوا : وأيضا
فالشارع إنما جعل للمكلف مباشرة الأسباب فقط , وأما أحكامها المترتبة عليها فليست إلى المكلف
, وإنما هي إلى الشارع , فهو قد نصب الأسباب وجعلها مقتضيات لأحكامها , وجعل السبب مقدورا للعبد
, فإذا باشره رتب عليه الشارع أحكامه . فإذا كان السبب محرما كان ممنوعا منه ولم ينصبه الشارع مقتضيا
لآثار السبب المأذون
فيه , والحكم ليس إلى المكلف حتى يكون إيقاعه إليه غير مأذون فيه , ولا نصبه الشارع لترتب الآثار
عليه , فترتيبها عليه إنما هو بالقياس على السبب المباح المأذون فيه ! وهو قياس في غاية الفساد , إذ هو
قياس أحد النقيضين على الآخر في
التسوية بينهما في الحكم , ولا يخفى فساده .
قالوا :
وأيضا فصحة العقد هو
عبارة عن ترتب أثره المقصود للمكلف عليه , وهذا الترتب نعمة من
الشارع , أنعم بها على العبد , وجعل له طريقا إلى حصولها بمباشرة الأسباب التي أذن له فيها ,
فإذا كان السبب
محرما منهيا عنه كانت مباشرته معصية , فكيف تكون المعصية سببا لترتب النعمة التي قصد المكلف حصولها !
قالوا : وقد
علل من أوقع الطلاق , وأوجب الرجعة
, إيجاب الرجعة بهذه العلة بعينها وقالوا : أوجبنا عليه
الرجعة معاملة له بنقيض قصده , فإنه ارتكب أمرا محرما , يقصد به الخلاص من الزوجة , فعومل
بنقيض قصده , فأمر
برجعتها .
قالوا : فما
جعلتموه أنتم علة لإيجاب الرجعة , فهو بعينه علة لعدم وقوع الطلاق الذي قصده المكلف
بارتكابه ما حرم الله عليه . ولا ريب أن دفع وقوع الطلاق أسهل من دفعه بالرجعة , فإذا اقتضت هذه
العلة دفع أثر الطلاق بالرجعة , فلأن
تقتضي دفع وقوعه أولى وأحرى .
قالوا :
وأيضا فلله تعالى في الطلاق المباح حكمان : أحدهما : إباحته والإذن فيه , والثاني :
جعله سببا للتخلص من الزوجة . فإذا
لم يكن الطلاق مأذونا فيه انتفى الحكم الأول , وهو الإباحة , فما
الموجب لبقاء الحكم
الثاني , وقد ارتفع سببه . ومعلوم أن بقاء الحكم بدون سببه ممتنع ولا تصح دعوى أن الطلاق المحرم سبب
لما تقدم قالوا : وأيضا فليس في لفظ الشارع " يصح كذا ولا يصح " , وإنما يستفاد ذلك من إطلاقه ومنعه
, فما أطلقه وأباحه فباشره المكلف
حكم بصحته , بمعنى أنه وافق أمر الشارع . فصح , وما لم يأذن فيه ولم
يطلقه فباشره المكلف
حكم بعدم صحته , بمعنى أنه خالف أمر الشارع وحكمه . وليس معنا ما يستدل به على الصحة والفساد إلا موافقة
الأمر والإذن , وعدم موافقتهما . فإن حكمتم بالصحة مع مخالفة أمر الشارع وإباحته , لم يبق طريق إلى معرفة
الصحيح من الفاسد , إذ لم يأت من الشرع إخبار بأن هذا صحيح وهذا فاسد غير الإباحة والتحريم , فإذا جوزتم
ثبوت الصحة مع
التحريم , فبأي شيء تستدلون بعد ذلك على فساد العقد وبطلانه . قالوا : وأيضا فإن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " , وفي لفظ :
" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " , والرد فعل بمعنى المفعول , أي
فهو مردود , وعبر
عن المفعول بالمصدر مبالغة , حتى كأنه نفس الرد , وهذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده ,
وعدم اعتباره في حكمه المقبول , ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه , بل كونه ردا أبلغ من كونه باطلا ,
إذ الباطل قد يقال لما لا تقع فيه
أو لما منفعته قليلة جدا وقد يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه , وأما
المردود فهو الذي
لم يجعله شيئا ولم يترتب عليه مقصوده أصلا .
قالوا :
فالمطلق في الحيض
قد طلق طلاقا ليس عليه أمر الشارع , فيكون مردودا , فلو صح ولزم
لكان مقبولا منه , وهو خلاف النص .
قالوا :
وأيضا فالشارع أباح للمكلف من الطلاق قدرا معلوما في زمن مخصوص ولم يملكه أن يتعدى
القدر الذي حد له , ولا الزمن الذي عين له , فإذا تعدى ما حد له من العدد كان لغوا باطلا , فكذلك إذا
تعدى ما حد له من الزمان يكون لغوا باطلا , فكيف يكون عدوانه في الوقت صحيحا معتبرا لازما , وعدوانه أنه
في العدد لغوا
باطلا ؟
قالوا :
وهذا كما أن الشارع حد له عددا من النساء معينا في وقت معين , فلو تعدى ما حد له من
العدد كان لغوا وباطلا . وكذلك لو تعدى ما حد له من الوقت , بأن ينكحها قبل انقضاء العدة مثلا , أو في
وقت الإحرام , فإنه يكون لغوا باطلا . فقد شمل البطلان نوعي التعدي عددا أو وقتا .
قالوا :
وأيضا فالصحة إما أن تفسر بموافقة أمر الشارع , وإما أن تفسر بترتب أثر الفعل عليه ,
فإن فسرت بالأول
لم يكن تصحيح هذا الطلاق ممكنا , وإن فسرت بالثاني وجب أيضا أن لا يكون العقد المحرم صحيحا , لأن
ترتب الثمرة على العقد إنما هو بجعل الشارع العقد كذلك , ومعلوم أنه لم
يعتبر العقد المحرم , ولم يجعله مثمرا لمقصوده , كما مر تقديره .
قالوا :
وأيضا فوصف العقد المحرم بالصحة , مع كونه منشئا للمفسدة ومشتملا على الوصف
المقتضي لتحريمه وفساده , جمع بين النقيضين فإن الصحة إنما تنشأ عن المصلحة , والعقد المحرم
لا مصلحة فيه . بل هو منشئ لمفسدة خالصة أو راجحة . فكيف تنشأ الصحة من شيء هو
منشئ المفسدة .
قالوا :
وأيضا فوصف العقد المحرم بالصحة إما أن يعلم بنص من الشارع , أو من قياسه
, أو من توارد عرفه في مجال حكمه بالصحة , أو من إجماع الأمة . ولا يمكن إثبات شيء من ذلك في محل
النزاع , بل نصوص الشرع تقتضي رده
وبطلانه , كما تقدم , وكذلك قياس الشريعة كما ذكرناه , وكذلك
استقراء موارد عرف الشرع في مجال الحكم بالصحة , إنما يقتضي البطلان في العقد المحرم لا
الصحة , وكذلك الإجماع
, فإن الأمة لم تجمع قط , ولله الحمد , على صحة شيء حرمه الله ورسوله , لا في هذه المسألة ولا في غيرها
, فالحكم بالصحة فيها إلى أي دليل يستند .
قالوا : وأما قول النبي
صلى الله عليه وسلم : " مره فليراجعها " فهذا حجة لنا على عدم الوقوع ,
لأنه لما طلقها . والرجل من عادته إذا طلق امرأته أن يخرجها عنه , أمره بأن يراجعها ويمسكها , فإن
هذا الطلاق الذي أوقعه ليس بمعتبر شرعا , ولا تخرج المرأة عن الزوجية بسببه , فهو كقوله صلى الله عليه
وسلم لبشير بن سعد في قصة نحله ابنه النعمان غلاما " رده " .
ولا يدل
أمره إياه برده على أن الولد قد ملك الغلام , وأن الرد إنما يكون بعد الملك , فكذلك
أمره برد المرأة ورجعتها لا يدل على
أنه لا يكون إلا بعد نفوذ الطلاق , بل لما ظن ابن عمر جواز هذا
الطلاق فأقدم عليه قاصدا لوقوعه , رد إليه النبي صلى الله عليه وسلم امرأته , وأمره أن يردها
, ورد الشيء إلى
ملك من أخرجه لا يستلزم خروجه عن ملكه شرعا , كما ترد العين المغصوبة إلى مالكها , ويقال للغاصب : ردها
إليه ولا يدل ذلك على زوال ملك صاحبها عنها وكذلك إذا قيل : رد على فلان ضالته , ولما باع على أحد
الغلامين الأخوين قال له النبي صلى
الله عليه وسلم : " رده , رده " وهذا أمر بالرد حقيقة .
قالوا : فقد
وفينا اللفظ حقيقته التي وضع لها .
قالوا :
وأيضا فقد صرح ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه ولم
يرها شيئا " وتعلقكم على أبي الزبير مما لا متعلق فيه , فإن أبا الزبير
إنما يخاف من تدليسه , وقد صرح هذا بالسماع كما تقدم , فدل على أن الأمر
بمراجعتها لا يستلزم نفوذ الطلاق .
قالوا :
والذي يدل عليه أن ابن عمر قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض : " لا
يعتد بذلك " , ذكره الإشبيلي في الأحكام من طريق محمد بن عبد السلام الخشني قال : حدثنا
محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب بن
عبد المجيد الثقفي حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه
قال , في الرجل يطلق
امرأته وهي حائض , قال ابن عمر : لا يعتد بذلك " , وذكره ابن حزم في كتاب المحلى بإسناده من طريق
الخشني . وهذا إسناد صحيح .
قالوا : وقد
روى الدارقطني في سننه بإسناد شيعي عن أبي الزبير قال : " سألت ابن عمر
عن رجل طلق امرأته
ثلاثا , وهي حائض ؟ فقال لي : أتعرف عبد الله بن عمر ؟ قلت : نعم , قال : طلقت امرأتي
ثلاثا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فردها رسول الله إلى السنة " , قال
الدارقطني : كلهم شيعة , ولم يزد على هذا . ولكن هذا الحديث باطل قطعا , ولا تحتج به ,
وإنما ذكرناه للتعريف بحاله ولو كان إسناده ثقات لكان غلطا , فإن المعروف من رواية الإثبات عن ابن عمر
أنه إنما طلق تطليقة واحدة , كما رواه مسلم في الصحيح من حديث يونس بن جبير , ولكن لو حاكمنا منازعينا
إلى ما يقرون به من أن رواية أهل
البدع مقبولة , فكم في الصحيح من رواية الشيعة الغلاة , والقدرية ,
والخوارج , والمرجئة , وغيرهم , لم يتمكنوا من الطعن في هذا الحديث بأن
رواته شيعة , إذ مجرد
كونهم شيعة لا يوجب رد حديثهم .
وبعد ففي
معارضته بحديث يونس بن جبير " أنه طلقها تطليقة " كلام ليس هذا
موضعه , فإن من جعل الثلاث واحدة قال هي ثلاث في اللفظ , وهي واحدة في
الحكم , على ما في حديث أبي الصهباء عن ابن عباس . والله أعلم .
قالوا :
وأما قولكم إن نافعا أثبت في ابن عمر وأولى به من أبي الزبير وأخص , فروايته أولى أن
نأخذ بها , فهذا إنما يحتاج إليه عند التعارض , فكيف ولا تعارض بينهما ؟
فإن رواية أبي الزبير صريحة في أنها لم تحسب عليه , وأما نافع فرواياته ليس فيها شيء صريح قط , أن
النبي صلى الله عليه وسلم حسبها عليه , بل مرة قال " فمه " أي فما
يكون ؟ وهذا ليس بإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حسبها , ومرة قال " أرأيت إن
عجز واستحمق ؟ " وهذا رأي محض , ومعناه أنه ركب خطة عجز , واستحمق , أي ركب أحموقة
وجهالة , فطلق في زمن لم يؤذن له في الطلاق فيه , ومعلوم أنه لو كان عند ابن عمر أنه صلى الله عليه
وسلم حسبها عليه لم يحتج أن يقول للسائل " أرأيت إن عجز واستحمق ؟ " , فإن هذا ليس بدليل على وقوع
الطلاق , فإن من عجز واستحمق يرد إلى
العلم والسنة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكيف يظن
بابن عمر أنه يكتم نصا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتداد بتلك الطلقة , ثم يحتج
بقوله " أرأيت إن عجز واستحمق " , وقد سأله مرة رجل عن شيء فأجابه
بالنص , فقال السائل : أرأيت إن كان كذا وكذا ؟ قال : " اجعل أرأيت باليمن
" , ومرة قال " تحسب من طلاقها " , وهذا قول نافع , ليس قول ابن
عمر , كذلك جاء مصرحا به في هذا الحديث في الصحيحين , قال عبد الله لنافع
" ما فعلت التطليقة ؟ قال : واحدة أعتد بها " , وفي بعض ألفاظه : " فحسبت
تطليقة " , وفي لفظ للبخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عمر : " فحسبت علي
بتطليقة " , ولكن هذه اللفظة انفرد بها سعيد بن جبير عنه , وخالف نافع وأنس بن
سيرين ويونس بن جبير وسائر الرواة عن ابن عمر , فلم يذكروا " فحسبت علي " , وانفراد
ابن جبير بها , كانفراد أبي الزبير بقوله " ولم يرها شيئا " , فإن
تساقطت الروايتان لم يكن في سائر الألفاظ دليل على الوقوع , وإن رجح إحداهما على
الأخرى فرواية
أبي الزبير صريحة في الرفع , ورواية سعيد بن جبير غير صريحة في الرفع , فإنه لم يذكر فاعل الحساب , فلعل
أباه حسبها عليه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ألزم الناس فيه بالطلاق الثلاث , وحسبه
عليهم , اجتهادا منه , ومصلحة رآها للأمة , لئلا يتتابعوا في الطلاق المحرم , فإذا علموا أنه يلزمهم
وينفذ عليهم أمسكوا
عنه , وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتسب عليهم به ثلاثا في لفظ واحد فلما رأى عمر الناس
قد أكثروا منه رأى إلزامهم به , والاحتساب عليهم به .
قالوا :
وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة في هذا الباب , ويتبين وجهها , ويزول عنها
التناقض والاضطراب , ويستغنى عن تكلف التأويلات المستكرهة لها , ويتبين موافقتها لقواعد الشرع وأصوله
.
قالوا :
وهذا الظن بعمر رضي الله عنه أنه إذا احتسب على الناس بالطلاق الثلاث
احتسب على ابنه بتطليقته التي طلقها في الحيض , وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم
يرها شيئا مثل كون الطلاق الثلاث على عهده كان واحدة . وإلزام عمر الناس بذلك ,
كإلزامه له بهذا , وأداه اجتهاده رضي الله عنه إلى أن ذلك كان تخفيفا ورفقا بالأمة , لعلة إيقاعهم
الطلاق وعدم تتابعهم فيه , فلما
أكثروا منه وتتابعوا فيه ألزمهم بما التزموه , وهذا كما أداه
اجتهاده في الجلد في الخمر ثمانين , وحلق الرأس فيه والنفي , والنبي صلى الله عليه وسلم إنما
جلد فيه أربعين ,
ولم يحلق فيه رأسا , ولم يغرب , فلما رأى الناس قد أكثروا منه واستهانوا بالأربعين ضاعفها عليهم ,
وحلق ونفى . ولهذا نظائر كثيرة ستذكر في موضع آخر إن شاء الله .
قالوا :
وتوهم من توهم أنا خالفنا الإجماع في هذه المسألة غلط , فإن الخلاف فيها أشهر من أن يجحد ,
وأظهر من أن يستر . وإذا كانت المسألة من موارد النزاع فالواجب فيها امتثال ما أمر الله به ورسوله
, من رد ما تنازع فيه العلماء إلى الله ورسوله , وتحكيم الله ورسوله , دون تحكيم أحد من الخلق , قال
تعالى { فإن تنازعتم
في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } .
فهذه بعض
كلمات المانعين من الوقوع . ولو استوفينا الكلام في المسألة لاحتملت سفرا كبيرا ,
فلنقتصر على فوائد الحديث .
قال
الموقعون : وفيه دليل على أن الرجعة يستقل بها الزوج دون الولي ورضا المرأة , لأنه
جعل ذلك إليه , دون غيره , ودلالة القرآن على هذا أظهر من هذه الدلالة . قال تعالى { وبعولتهن أحق
بردهن في ذلك } فجعل الأزواج أحق بالرجعة من المرأة والولي . واختلفوا في قوله
" مره فليراجعها " : هل الأمر بالرجعة على الوجوب أو الاستحباب ؟ فقال الشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي
وابن أبي ليلى وسفيان الثوري وأحمد في إحدى الروايتين بل أشهرهما عنه : الأمر بالرجعة استحباب . قال
بعضهم : لأن ابتداء النكاح إذا لم
يكن واجبا فاستدامته كذلك , وقال مالك في الأشهر عنه , وداود وأحمد
في الرواية الأخرى
: الرجعة واجبة الأمر بها , ولأن الطلاق لما كان محرما في هذا الزمن كان بقاء النكاح واستدامته فيه
واجبا , وبهذا يبطل قولهم إذا لم يجب ابتداء النكاح لم تجب استدامته , فإن الاستدامة ها هنا واجبة لأجل
الوقت , فإنه لا يجوز فيه الطلاق .
قالوا :
ولأن الرجعة إمساك , بدليل قوله { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح
بإحسان } فالإمساك مراجعتها في العدة , والتسريح تركها حتى تنقضي عدتها . وإذا كانت
الرجعة إمساكا , فلا ريب في وجوب إمساكها في زمن الحيض , وتحريم طلاقها , فتكون واجبة .
ثم اختلف
الموجبون للرجعة في علة ذلك : فقالت طائفة : إنما أمره برجعتها ليقع الطلاق الذي
أراده في زمن الإباحة , وهو الطهر الذي لم يمسها فيه , فلو لم يرتجعها لكان الطلاق الذي
ترتبت عليه الأحكام هو الطلاق المحرم , والشارع لا يرتب الأحكام على طلاق محرم ,
فأمر برجعتها , ليطلقها طلاقا مباحا , يترتب عليه أحكام الطلاق .
وقالت طائفة
: بل أمره برجعتها عقوبة له على طلاقها في زمن الحيض , فعاقبه بنقيض قصده ,
وأمره بارتجاعها , عكس مقصوده .
وقالت طائفة : بل العلة في ذلك
أن تحريم الطلاق في زمن الحيض معلل بتطويل العدة فأمره برجعتها ليزول
المعنى الذي حرم الطلاق في الحيض لأجله .
وقال بعض
الموجبين إن أبى
رجعتها أجبر عليها . فإن امتنع ضرب وحبس , فإن أصر حكم عليه برجعتها
وأشهد أنه قد ردها
عليه , فتكون امرأته , يتوارثان , ويلزمه جميع حقوقها , حتى يفارقها فراقا ثانيا , قاله أصبغ وغيره من
المالكية . ثم اختلفوا .
فقال مالك :
يجبر على الرجعة , إن طهرت , ما دامت في العدة , لأنه وقت للرجعة .
وقال أشهب :
إذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت لم تجب رجعتها في هذه الحال , وإن كانت في العدة ,
لأنه لا يجب عليه
إمساكها في هذه الحال لجواز طلاقها فيه , فلا يجب عليه رجعتها فيه , إذ لو وجبت الرجعة في هذا الوقت
لحرم الطلاق فيه . وقوله ص
الرحيم
كتاب الطلاق
باب فيمن خبب امرأة على زوجها
حدثنا الحسن بن علي حدثنا زيد بن
الحباب حدثنا عمار بن رزيق عن
عبد الله بن عيسى عن عكرمة عن يحيى بن يعمر
عن أبي هريرة قال
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من خبب امرأة على زوجها أو عبدا
على سيده
( أخبرنا
عمار بن رزيق )
: بتقديم
الراء
المهملة على الزاي المعجمة مصغرا
( ليس منا )
: أي من
أتباعنا
( من خبب )
: بتشديد
الباء الأولى بعد الخاء المعجمة أي خدع وأفسد
( امرأة على
زوجها )
: بأن يذكر
مساوئ الزوج عند امرأته أو محاسن أجنبي عندها
( أو عبدا )
: أي أفسده
( على سيده )
: بأي نوع من
الإفساد . وفي معناهما إفساد الزوج على امرأته والجارية على
سيدها .
قال المنذري
وأخرجه النسائي
.
باب في المرأة تسأل زوجها
طلاق امرأة له
حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي
الزناد عن الأعرج عن أبي
هريرة قال
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها
( لا تسأل
المرأة طلاق أختها )
: أي في
كونها
من بنات آدم
( لتستفرغ
صحفتها )
: وفي رواية
البخاري : لتستفرغ ما في صحفتها . والصحفة إناء كالقصعة ,
يعني لتجعل تلك المرأة قصعة أختها خالية عما فيها , وهذا
كناية عن أن يصير لها ما كان يحصل لضرتها من النفقة وغيرها
( ولتنكح
)
: عطف على
لتستفرغ وكلاهما علة للنهي أي لتجعل صحفتها فارغة لتفوز بحظها
وتنكح زوجها . وقال العلامة ابن الملك في شرح المشارق قوله ولتنكح بالنصب بصيغة المعلوم يعني لتنكح طالبة الطلاق زوج تلك المطلقة , وإن
كانت الطالبة والمطلوبة تحت رجل يحتمل أن يعود ضميره
إلى المطلوبة يعني لتنكح ضرتها زوجا آخر , فلا تشترك معها فيه .
وروي على صيغة المجهول يعني لتجعل منكوحة له .
وروي ولتنكح بصيغة الأمر المعلوم المجهول عطفا على قوله لا تسأله يعني لتثبت
تلك المرأة المنكوحة على نكاحها الكائن مع الضرة قانعة
بما يحصل لها فيه , أو معناه ولتنكح تلك المرأة الغير
المنكوحة زوجا غير زوج أختها , ولتترك ذلك الزوج لها , أو معناه لتنكح تلك المخطوبة زوج أختها , ولتكن ضرة عليها إذا كانت صالحة للجمع معها
من غير أن تسأل طلاق أختها
( فإنما لها
ما قدر لها )
: يعني أن
الله تعالى يوصل إلى تلك المرأة ما قدر لها من
النفقة وغيرهما سواء كانت منفردة أو مع أخرى .
قال المنذري
: وأخرجه البخاري والنسائي وأخرجه مسلم من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة .
باب في كراهية الطلاق
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا معرف
عن محارب قال
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق
( أخبرنا
معرف )
: بكسر الراء
المشددة هو ابن واصل السعدي الكوفي ثقة من السادسة
( ما أحل
الله )
: ما نافية
( شيئا أبغض
إليه من الطلاق )
: فيه دليل
على أن ليس كل حلال محبوبا بل ينقسم إلى ما هو محبوب وإلى ما
هو مبغوض قال الخطابي في المعالم : معنى الكراهية فيه
منصرف إلى السبب الجالب للطلاق وهو سوء العشرة وقلة الموافقة الداعية إلى الطلاق , لا إلى نفس الطلاق , فقد أباح الله تعالى الطلاق , وقد ثبت
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه طلق بعض
نسائه ثم راجعها , وكانت لابن عمر امرأة يحبها وكان عمر يكره
صحبته إياها فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فدعا به , فقال يا عبد الله طلق امرأتك فطلقها , وهو لا يأمر بأمر يكرهه الله
سبحانه . انتهى
.
قال المنذري
: هذا مرسل .
تعليقات الحافظ ابن قيم الجوزية
قال
الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله : وقد روى الدارقطني من حديث معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أحل الله
شيئا أبغض إليه من الطلاق " , وفيه حميد بن مالك , وهو
ضعيف . وفي مسند البزار من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : " لا تطلق النساء إلا من ريبة , إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات " .
حدثنا كثير بن عبيد حدثنا محمد بن خالد عن
معرف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر
عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال أبغض الحلال إلى الله
تعالى الطلاق
( أبغض
الحلال إلى الله عز وجل الطلاق )
: قيل كون الطلاق مبغوضا مناف لكونه حلالا , فإن كونه مبغوضا يقتضي رجحان
تركه على فعله
, وكونه حلالا يقتضي مساواة تركه لفعله .
وأجيب بأن
المراد بالحلال ما ليس تركه بلازم الشامل للمباح
والواجب والمندوب والمكروه , وقد يقال الطلاق حلال لذاته , والأبغضية لما يترتب
عليه من انجراره إلى المعصية .
قال المنذري
: وأخرجه ابن ماجه , والمشهور فيه المرسل وهو غريب .
وقال البيهقي في رواية ابن أبي شيبة يعني محمد بن عثمان
عن عبد الله بن عمر ولا أراه يحفظه .
باب في طلاق السنة
قال
الإمام البخاري في صحيحه : طلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع ويشهد شاهدين انتهى . وقال الحافظ في الفتح : روى الطبري بسند
صحيح عن ابن مسعود في قوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن
} قال في الطهر من غير جماع . وأخرجه عن جمع من الصحابة
ومن بعدهم كذلك انتهى .
حدثنا القعنبي عن
مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر
أنه
طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن ذلك فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك
وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله
سبحانه أن تطلق لها النساء
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن نافع أن
ابن عمر طلق امرأة له وهي حائض تطليقة بمعنى حديث مالك
( أنه طلق
امرأته )
: اسمها آمنة
بنت غفار أو بنت عمار . وفي مسند أحمد أن اسمها
النوار . قال الحافظ فيمكن أن يكون اسمها آمنة ولقبها النوار
( وهي حائض )
: جملة حالية
معترضة
( على عهد )
: أي في عهد
( عن ذلك )
: أي عن حكم
طلاقه
( مره
فليراجعها )
: أمر
استحباب عند جمع من الحنفية . قال العيني : وبه
قال الشافعي وأحمد . وقال صاحب الهداية : الأصح أن المراجعة واجب عملا بحقيقة الأمر ورفعا للمعصية بالقدر الممكن
( ثم ليمسكها
حتى تطهر
)
: أي من
الحيضة التي طلقها فيها
( ثم تحيض )
: أي حيضة أخرى
( ثم تطهر )
: أي من
الحيضة الثانية
( ثم إن شاء أمسك بعد ذلك )
: أي بعد
الطهر من الحيضة الثانية
( وإن شاء طلق )
: أي في الطهر
الثاني
( قبل أن يمس
)
: أي قبل أن يجامع .
وقد اختلف في
الحكمة في الأمر بالإمساك كذلك , فقال الشافعي يحتمل أن يكون أراد
بذلك أي بما في رواية نافع أن يستبرئها بعد الحيضة التي طلقها فيها بطهر تام ثم حيض تام ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها إما بحمل أو بحيض أو
ليكون
تطليقها بعد علمه بالحمل وهو غير جاهل بما صنع , أو ليرغب
في الحمل إذا انكشفت حاملا فيمسكها لأجله .
وقيل الحكمة
في ذلك أن لا تصير الرجعة لغرض الطلاق فإذا أمسكها
زمانا يحل له فيه طلاقها ظهرت فائدة الرجعة لأنه قد يطول مقامه معها , فيجامعها , فيذهب ما في نفسه فيمسكها . كذا في النيل
( فتلك العدة
التي
أمر الله )
: أي في قوله
: { فطلقوهن لعدتهن }
( أن تطلق
لها
النساء )
: قال
الخطابي في المعالم ما حاصله أن اللام في قوله لها بمعنى في كما يقول
القائل : كتبت لخمس ليال خلون من الشهر أي في وقت خلا فيه من الشهر خمس ليال وقوله تلك إشارة إلى ما ولي الكلام المتقدم وهو الطهر أي فالأطهار
أو حالة الطهر العدة التي أمر الله أن تطلق فيها
النساء , ففي الحديث بيان أن الأقراء التي تعتد بها هي
الأطهار دون الحيض .
واعلم أنه
استدل الشافعية ومن وافقهم بقوله فتلك العدة إلخ
على أن عدة المطلقة هو ثلاثة أطهار قالوا لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلقها في الطهر وجعله العدة ونهاه أن يطلق في الحيض
وأخرجه من أن يكون عدة ثبت بذلك أن الأقراء هي
الأطهار وأجاب الطحاوي بأنه ليس المراد ههنا بالعدة هو
العدة المصطلحة الثابتة بالكتاب التي هي ثلاثة قروء بل عدة طلاق النساء أي وقته وليس أن ما يكون عدة تطلق لها النساء يجب أن يكون العدة التي
تعتد بها النساء , وقد جاءت العدة لمعان . وفيه ما
فيه .
قال المنذري
: وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي .
( طلق امرأة
له وهي حائض تطليقة )
: ظهر بهذه الرواية أنه إنما كان ابن عمر طلق امرأته في الحيض تطليقه واحدة .
حدثنا عثمان بن أبي
شيبة حدثنا وكيع عن سفيان
عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سالم عن ابن
عمر
أنه
طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى
الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها
ثم ليطلقها إذا طهرت أو وهي حامل
( فقال مره
فليراجعها ثم ليطلقها إذا طهرت )
: فيه
جواز الطلاق حال الطهر ولو كان هو الذي يلي الحيضة التي طلقها فيها , وبه قال أبو حنيفة وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد الوجهين عن الشافعية وذهب
أحمد في إحدى الروايتين عنه والشافعية في الوجه الآخر
وأبو يوسف ومحمد إلى المنع .
واستدل القائلون بالجواز بظاهر هذه الرواية وبأن المنع إنما كان لأجل الحيض ,
فإذا طهرت زال موجب التحريم فجاز الطلاق في ذلك
الطهر كما يجوز في غيره من الأطهار .
واستدل
المانعون بالرواية الأولى ففيها نص أنه لا يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي كان طلق فيها بل في الطهر التالي للحيضة الأخرى
( أو وهي
حامل )
: قال
الخطابي : فيه بيان أنه إذا طلقها وهي حامل فهو مطلق للسنة , ويطلقها في أي وقت شاء في الحمل , وهو قول كافة العلماء . واختلف أصحاب
الرأي فيها
, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف يجعل بين وقوع التطليقتين
شهرا حتى يستوفي التطليقات الثلاث . وقال محمد بن
الحسن وزفر : لا يوقع عليها وهي حامل أكثر من تطليقة واحدة ويتركها حتى تضع حملها ثم يوقع سائر التطليقات انتهى .
قال المنذري
: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه .
حدثنا أحمد بن صالح
حدثنا عنبسة حدثنا يونس
عن ابن شهاب أخبرني سالم بن عبد الله عن أبيه
أنه
طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثم قال مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر ثم إن شاء طلقها
طاهرا قبل أن يمس فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله عز وجل
( فتغيظ )
: فيه دليل
على حرمة الطلاق في الحيض لأنه صلى الله عليه وسلم لا يغضب
بغير حرام كذا قال علي القاري
( ثم إن شاء طلقها طاهرا )
: قال في
الفتح : اختلف الفقهاء في المراد بقوله طاهرا هل
المراد انقطاع الدم أو التطهر بالغسل على قولين وهما روايتان عن أحمد والراجح الثاني لما أخرجه النسائي بلفظ : " مر عبد الله فليراجعها
فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها وإن
شاء أن يمسكها فليمسكها "
( كما أمر الله تعالى )
: أي بقوله {
فطلقوهن لعدتهن } .
قال المنذري : وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي .
حدثنا الحسن بن علي
حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر
عن أيوب عن ابن سيرين أخبرني يونس بن جبير أنه سأل
ابن عمر فقال
كم
طلقت امرأتك فقال واحدة
( كم طلقت
امرأتك فقال واحدة )
: فيه نص على أنه طلقها واحدة وقد تظاهرت روايات مسلم بأنها طلقة واحدة .
والحديث سكت
عنه
المنذري .
حدثنا القعنبي
حدثنا يزيد يعني ابن إبراهيم عن
محمد بن سيرين حدثني يونس بن جبير قال سألت عبد الله بن عمر قال
قلت
رجل
طلق امرأته وهي حائض قال أتعرف عبد الله بن عمر قلت نعم قال فإن عبد الله بن عمر طلق
امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي
صلى الله عليه وسلم فسأله فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها في قبل
عدتها قال قلت فيعتد بها قال فمه أرأيت إن عجز واستحمق
( تعرف ابن
عمر )
: وفي بعض
النسخ أتعرف بذكر همزة الاستفهام
( فإن عبد
الله بن عمر طلق امرأته )
: حكى عن نفسه بلفظ الغيبة
( في قبل
عدتها )
: بضمتين أي
في إقباله وأوله
( فمه )
: أي فماذا
للاستفهام فأبدل الألف هاء للوقف أي فما يكون وإن لم
يحتسب بتلك الطلقة أو هو كلمة زجر أن انزجر عنه فإنه لا شك في وقوع الطلاق وكونه محسوبا في عدد الطلاق
( أرأيت )
: أي أخبرني
( إن عجز )
: أي عن فرض
فلم يقمه
( واستحمق )
: فلم يأت به
أيكون ذلك عذرا له . وقال النووي : الهمزة في أرأيت للاستفهام
الإنكاري أي نعم يحتسب الطلاق ولا يمنع احتسابه لعجزه وحماقته . وقال الخطابي في المعالم : فيه حذف وإضمار كأنه يقول أرأيت إن عجز واستحمق
أيسقط عنه الطلاق حمقه أو يبطله عجزه قال : وفي
الحديث بيان أن طلاق الحائض واقع ولولا أنه قد وقع لم يكن
لأمره في المراجعة معنى . وقال النووي : قد أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فلو طلقها أثم ووقع طلاقه ويؤمر بالرجعة ,
وشذ بعض أهل الظاهر فقال لا يقع طلاقه والصواب الأول
وبه قال العلماء كافة انتهى . قلت : قد أطال ابن القيم
في زاد المعاد في إثبات أن طلاق الحائض لا يقع فعليك أن تطالعه .
قال المنذري
: وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه .
حدثنا أحمد بن صالح
حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن
جريج أخبرني أبو الزبير
أنه
سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو
الزبير يسمع قال كيف ترى في رجل طلق امرأته
حائضا قال طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن عبد الله بن عمر طلق امرأته
وهي حائض قال عبد الله فردها علي ولم يرها شيئا
وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن
في قبل عدتهن
قال أبو داود روى هذا الحديث عن ابن عمر
يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم
وأبو الزبير ومنصور عن أبي وائل
معناهم كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك
وكذلك رواه محمد بن عبد الرحمن عن سالم عن ابن عمر وأما
رواية الزهري عن سالم ونافع
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى
تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء
طلق وإن شاء أمسك وروي عن عطاء الخراساني عن
الحسن عن ابن عمر نحو رواية نافع والزهري والأحاديث كلها
على خلاف ما قال أبو الزبير
( أنه )
: أي أبو
الزبير
( سمع عبد الرحمن بن أيمن )
: بنصب الدال
مفعول
( مولى عروة
)
: بدل
من عبد الرحمن
( يسأل )
: أي عبد
الرحمن
( ابن عمر )
: بالنصب
( وأبو
الزبير يسمع )
: جملة حالية
( قال )
: أي عبد
الرحمن
( كيف ترى )
: الخطاب
لابن عمر رضي الله عنهما
( ولم يرها
شيئا )
: أي لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك التطليقة شيئا يعتد به . وفيه دليل
لمن قال إن طلاق الحائض لا يقع . والقائلون بوقوع
طلاق الحائض قالوا إن قوله ولم يرها شيئا منكرا لم يقله
غير أبي الزبير . قال الخطابي : قال أهل الحديث لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا , وقد يحتمل أن يكون معناه أنه لم يره شيئا باتا
تحرم معه المراجعة ولا يحل له إلا بعد زوج , أو لم
يره شيئا جائزا في السنة ماضيا في حكم الاختيار وإن
كان لازما له على سبيل الكراهة والله أعلم انتهى . وأبو داود أيضا قد أشار إلى نكارة قوله ولم يرها شيئا حيث قال والأحاديث كلها على خلاف ما
قال أبو الزبير .
قال المنذري
: وأخرجه النسائي .
( قال أبو
داود وروي هذا الحديث عن ابن عمر إلخ )
: حاصل كلامه
أن هذا الحديث أي حديث ابن عمر في تطليقه
امرأته حائضا رواه عنه يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم وأبو الزبير ومنصور , وفي روايات هؤلاء كلهم أن النبي صلى الله
عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر أي من الحيضة التي
طلقها فيها , ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك وليس في
رواياتهم ذكر حيضة أخرى سوى التي طلقها فيها . ومثل هؤلاء رواه محمد بن عبد الرحمن عن سالم عن ابن عمر . وروى هذا الحديث الزهري عن سالم عن ابن
عمر ونافع عنه
, وفي روايتهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن
يراجعها حتى تطهر أي من الحيضة التي طلقها
فيها ثم تحيض أي حيضة أخرى سوى التي طلقها فيها ثم تطهر أي من الحيضة الثانية ثم إن شاء طلق أو أمسك . ففي روايتهما زيادة وروي عن عطاء
الخراساني عن الحسن عن ابن عمر مثل روايتهما
( والأحاديث
كلها على خلاف ما قال أبو الزبير )
: أي في قوله
ولم يرها شيئا .
قال المنذري
: وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ونافع أثبت عن
ابن عمر من أبي الزبير , والأثبت من الحديثين أولى أن يقال
به إذا خالفه . وقال أبو سليمان الخطابي : حديث يونس بن جبير أثبت من هذا . وقال أهل الحديث : لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا . وقال
أبو عمر النمري : ولم يقله عنه أحد غير أبي
الزبير , وقد رواه عنه جماعة جلة فلم يقل ذلك واحد منهم .
وأبو الزبير ليس بحجة في من خالفه فيه مثله فكيف بخلاف من هو أثبت منه , وقد يحتمل أن يكون معناه أنه لم يره شيئا باتا تحرم معه المراجعة إلى
آخر ما نقلت كلام الخطابي تحت قوله ولم يرها شيئا .
تعليقات الحافظ ابن قيم الجوزية
قال الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله : وقد
أخرج مسلم في صحيحه " حديث أبي الزبير هذا بحروفه "
إلا أنه لم يقل " ولم يرها شيئا " بل قال : " فردها " , وقال " إذا طهرت " إلى آخره .
وقد دل حديث
ابن عمر هذا على أمور : منها : تحريم الطلاق في الحيض .
ومنها : أنه
حجة لمن قال بوقوعه , قالوا : لأن الرجعة إنما تكون بعد الطلاق , ونازعهم في ذلك آخرون .
وقالوا : لا
معنى لوقوع الطلاق , والأمر بالمراجعة , فإنه لو لم يعد الطلاق , لم يكن لأمره
بالرجعة معنى ,
بل أمره بارتجاعها , وهو ردها إلى حالها الأولى قبل تطليقها , دليل على أن الطلاق لم يقع .
قالوا : وقد
صرح بهذا في حديث أبي الزبير المذكور آنفا .
قالوا :
وأبو الزبير ثقة في نفسه صدوق حافظ , إنما تكلم في بعض ما رواه عن جابر معنعنا
لم يصرح بسماعه منه , وقد صرح في هذا الحديث بسماعه من ابن عمر , فلا وجه لرده .
قالوا : ولا
يناقض حديثه ما تقدم من قول ابن عمر فيه : " أرأيت إن عجز واستحمق " وقوله "
فحسبت من طلاقها " , لأنه ليس في ذلك لفظ مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله
" ولم يرها شيئا " مرفوع صريح في عدم الوقوع .
قالوا :
وهذا مقتضى قواعد الشريعة . فإن الطلاق لما كان منقسما إلى حلال وحرام , كان
قياس قواعد الشرع أن حرامه باطل غير معتد به , كالنكاح وسائر العقود التي تنقسم إلى حلال وحرام ,
ولا يرد على ذلك الظهار , فإنه لا يكون قط إلا حراما , لأنه منكر من القول وزور , فلو قيل لا
يصح , لم يكن للظهار حكم أصلا .
قالوا : وكما أن قواعد
الشريعة أن النهي يقتضي التحريم , فكذلك يقتضي الفساد , وليس معنا ما يستدل به
على فساد العقد إلا النهي عنه .
قالوا :
ولأن هذا طلاق منع منه صاحب الشرع , وحجر على العبد في اتباعه , فكما أفاد
منعه وحجره عدم جواز الإيقاع أفاد عدم نفوذه , وإلا لم يكن للحجر فائدة , وإنما فائدة الحجر عدم صحة ما
حجر على المكلف
فيه .
قالوا :
ولأن الزوج لو أذن له رجل بطريق الوكالة أن يطلق امرأته طلاقا معينا فطلق غير ما أذن له
فيه , لم ينفذ لعدم إذنه . والله سبحانه إنما أذن للعبد في الطلاق المباح , ولم يأذن له في المحرم ,
فكيف تصححون ما لم يأذن به
, وتوقعونه , وتجعلونه من صحيح أحكام الشرع ؟ !
قالوا :
ولأنه لو كان الطلاق
نافذا في الحيض لكان الأمر بالمراجعة والتطليق بعده تكثيرا من
الطلاق البغيض إلى الله , وتقليلا لما بقي من عدده الذي يتمكن من المراجعة معه . ومعلوم أنه
لا مصلحة في ذلك
.
قالوا : وإن
مفسدة الطلاق الواقع في الحيض , لو كان واقعا , لا يرتفع بالرجعة والطلاق بعدها , بل
إنما يرتفع بالرجعة المستمرة التي تلم شعث النكاح , وترقع خرقه . فأما رجعة يعقبها طلاق ,
فلا تزيل مفسدة الطلاق الأول , لو كان واقعا .
قالوا :
وأيضا فما حرمه الله سبحانه من العقود , فهو مطلوب الإعدام بكل طريق حتى يجعل وجوده كعدمه في
حكم الشرع , ولهذا كان ممنوعا من فعله , باطلا في حكم الشرع والباطل شرعا كالمعدوم . ومعلوم أن هذا
هو مقصود الشارع مما حرمه ونهى عنه , فالحكم ببطلان ما حرمه ومنع منه أدنى إلى تحصيل هذا المطلوب وأقرب ,
بخلاف ما إذا صحح
, فإنه يثبت له حكم الوجود .
قالوا :
ولأنه إذا صحح استوى هو والحلال في الحكم الشرعي , وهو الصحة . وإنما يفترقان في
موجب ذلك من الإثم والذم ومعلوم أن
الحلال المأذون فيه لا يساوي المحرم الممنوع منه البتة .
قالوا :
وأيضا فإنما حرم لئلا ينفذ ولا يصح , فإذا نفذ وصح , وترتب عليه حكم الصحيح , كان ذلك
عائدا على مقتضى
النهي بالإبطال .
قالوا :
وأيضا فالشارع إنما حرمه ونهى عنه لأجل المفسدة التي تنشأ من وقوعه , فإن
ما نهى عنه الشرع وحرمه لا يكون قط إلا مشتملا عن مفسدة خالصة أو راجحة , فنهى عنه قصدا لإعدام تلك
المفسدة . فلو حكم بصحته ونفوذه
لكان ذلك تحصيلا للمفسدة التي قصد الشارع إعدامها , وإثباتا لها .
قالوا : وأيضا فالعقد
الصحيح هو الذي يترتب عليه أثره , ويحصل منه مقصوده . وهذا إنما يكون في العقود
التي أذن فيها الشارع , وجعلها أسبابا لترتب آثارها عليها , فما لم يأذن فيه ولم يشرعه كيف يكون سببا
لترتب آثاره عليه , ويجعل كالمشروع المأذون فيه .
قالوا : وأيضا
فالشارع إنما جعل للمكلف مباشرة الأسباب فقط , وأما أحكامها المترتبة عليها فليست إلى المكلف
, وإنما هي إلى الشارع , فهو قد نصب الأسباب وجعلها مقتضيات لأحكامها , وجعل السبب مقدورا للعبد
, فإذا باشره رتب عليه الشارع أحكامه . فإذا كان السبب محرما كان ممنوعا منه ولم ينصبه الشارع مقتضيا
لآثار السبب المأذون
فيه , والحكم ليس إلى المكلف حتى يكون إيقاعه إليه غير مأذون فيه , ولا نصبه الشارع لترتب الآثار
عليه , فترتيبها عليه إنما هو بالقياس على السبب المباح المأذون فيه ! وهو قياس في غاية الفساد , إذ هو
قياس أحد النقيضين على الآخر في
التسوية بينهما في الحكم , ولا يخفى فساده .
قالوا :
وأيضا فصحة العقد هو
عبارة عن ترتب أثره المقصود للمكلف عليه , وهذا الترتب نعمة من
الشارع , أنعم بها على العبد , وجعل له طريقا إلى حصولها بمباشرة الأسباب التي أذن له فيها ,
فإذا كان السبب
محرما منهيا عنه كانت مباشرته معصية , فكيف تكون المعصية سببا لترتب النعمة التي قصد المكلف حصولها !
قالوا : وقد
علل من أوقع الطلاق , وأوجب الرجعة
, إيجاب الرجعة بهذه العلة بعينها وقالوا : أوجبنا عليه
الرجعة معاملة له بنقيض قصده , فإنه ارتكب أمرا محرما , يقصد به الخلاص من الزوجة , فعومل
بنقيض قصده , فأمر
برجعتها .
قالوا : فما
جعلتموه أنتم علة لإيجاب الرجعة , فهو بعينه علة لعدم وقوع الطلاق الذي قصده المكلف
بارتكابه ما حرم الله عليه . ولا ريب أن دفع وقوع الطلاق أسهل من دفعه بالرجعة , فإذا اقتضت هذه
العلة دفع أثر الطلاق بالرجعة , فلأن
تقتضي دفع وقوعه أولى وأحرى .
قالوا :
وأيضا فلله تعالى في الطلاق المباح حكمان : أحدهما : إباحته والإذن فيه , والثاني :
جعله سببا للتخلص من الزوجة . فإذا
لم يكن الطلاق مأذونا فيه انتفى الحكم الأول , وهو الإباحة , فما
الموجب لبقاء الحكم
الثاني , وقد ارتفع سببه . ومعلوم أن بقاء الحكم بدون سببه ممتنع ولا تصح دعوى أن الطلاق المحرم سبب
لما تقدم قالوا : وأيضا فليس في لفظ الشارع " يصح كذا ولا يصح " , وإنما يستفاد ذلك من إطلاقه ومنعه
, فما أطلقه وأباحه فباشره المكلف
حكم بصحته , بمعنى أنه وافق أمر الشارع . فصح , وما لم يأذن فيه ولم
يطلقه فباشره المكلف
حكم بعدم صحته , بمعنى أنه خالف أمر الشارع وحكمه . وليس معنا ما يستدل به على الصحة والفساد إلا موافقة
الأمر والإذن , وعدم موافقتهما . فإن حكمتم بالصحة مع مخالفة أمر الشارع وإباحته , لم يبق طريق إلى معرفة
الصحيح من الفاسد , إذ لم يأت من الشرع إخبار بأن هذا صحيح وهذا فاسد غير الإباحة والتحريم , فإذا جوزتم
ثبوت الصحة مع
التحريم , فبأي شيء تستدلون بعد ذلك على فساد العقد وبطلانه . قالوا : وأيضا فإن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " , وفي لفظ :
" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " , والرد فعل بمعنى المفعول , أي
فهو مردود , وعبر
عن المفعول بالمصدر مبالغة , حتى كأنه نفس الرد , وهذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده ,
وعدم اعتباره في حكمه المقبول , ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه , بل كونه ردا أبلغ من كونه باطلا ,
إذ الباطل قد يقال لما لا تقع فيه
أو لما منفعته قليلة جدا وقد يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه , وأما
المردود فهو الذي
لم يجعله شيئا ولم يترتب عليه مقصوده أصلا .
قالوا :
فالمطلق في الحيض
قد طلق طلاقا ليس عليه أمر الشارع , فيكون مردودا , فلو صح ولزم
لكان مقبولا منه , وهو خلاف النص .
قالوا :
وأيضا فالشارع أباح للمكلف من الطلاق قدرا معلوما في زمن مخصوص ولم يملكه أن يتعدى
القدر الذي حد له , ولا الزمن الذي عين له , فإذا تعدى ما حد له من العدد كان لغوا باطلا , فكذلك إذا
تعدى ما حد له من الزمان يكون لغوا باطلا , فكيف يكون عدوانه في الوقت صحيحا معتبرا لازما , وعدوانه أنه
في العدد لغوا
باطلا ؟
قالوا :
وهذا كما أن الشارع حد له عددا من النساء معينا في وقت معين , فلو تعدى ما حد له من
العدد كان لغوا وباطلا . وكذلك لو تعدى ما حد له من الوقت , بأن ينكحها قبل انقضاء العدة مثلا , أو في
وقت الإحرام , فإنه يكون لغوا باطلا . فقد شمل البطلان نوعي التعدي عددا أو وقتا .
قالوا :
وأيضا فالصحة إما أن تفسر بموافقة أمر الشارع , وإما أن تفسر بترتب أثر الفعل عليه ,
فإن فسرت بالأول
لم يكن تصحيح هذا الطلاق ممكنا , وإن فسرت بالثاني وجب أيضا أن لا يكون العقد المحرم صحيحا , لأن
ترتب الثمرة على العقد إنما هو بجعل الشارع العقد كذلك , ومعلوم أنه لم
يعتبر العقد المحرم , ولم يجعله مثمرا لمقصوده , كما مر تقديره .
قالوا :
وأيضا فوصف العقد المحرم بالصحة , مع كونه منشئا للمفسدة ومشتملا على الوصف
المقتضي لتحريمه وفساده , جمع بين النقيضين فإن الصحة إنما تنشأ عن المصلحة , والعقد المحرم
لا مصلحة فيه . بل هو منشئ لمفسدة خالصة أو راجحة . فكيف تنشأ الصحة من شيء هو
منشئ المفسدة .
قالوا :
وأيضا فوصف العقد المحرم بالصحة إما أن يعلم بنص من الشارع , أو من قياسه
, أو من توارد عرفه في مجال حكمه بالصحة , أو من إجماع الأمة . ولا يمكن إثبات شيء من ذلك في محل
النزاع , بل نصوص الشرع تقتضي رده
وبطلانه , كما تقدم , وكذلك قياس الشريعة كما ذكرناه , وكذلك
استقراء موارد عرف الشرع في مجال الحكم بالصحة , إنما يقتضي البطلان في العقد المحرم لا
الصحة , وكذلك الإجماع
, فإن الأمة لم تجمع قط , ولله الحمد , على صحة شيء حرمه الله ورسوله , لا في هذه المسألة ولا في غيرها
, فالحكم بالصحة فيها إلى أي دليل يستند .
قالوا : وأما قول النبي
صلى الله عليه وسلم : " مره فليراجعها " فهذا حجة لنا على عدم الوقوع ,
لأنه لما طلقها . والرجل من عادته إذا طلق امرأته أن يخرجها عنه , أمره بأن يراجعها ويمسكها , فإن
هذا الطلاق الذي أوقعه ليس بمعتبر شرعا , ولا تخرج المرأة عن الزوجية بسببه , فهو كقوله صلى الله عليه
وسلم لبشير بن سعد في قصة نحله ابنه النعمان غلاما " رده " .
ولا يدل
أمره إياه برده على أن الولد قد ملك الغلام , وأن الرد إنما يكون بعد الملك , فكذلك
أمره برد المرأة ورجعتها لا يدل على
أنه لا يكون إلا بعد نفوذ الطلاق , بل لما ظن ابن عمر جواز هذا
الطلاق فأقدم عليه قاصدا لوقوعه , رد إليه النبي صلى الله عليه وسلم امرأته , وأمره أن يردها
, ورد الشيء إلى
ملك من أخرجه لا يستلزم خروجه عن ملكه شرعا , كما ترد العين المغصوبة إلى مالكها , ويقال للغاصب : ردها
إليه ولا يدل ذلك على زوال ملك صاحبها عنها وكذلك إذا قيل : رد على فلان ضالته , ولما باع على أحد
الغلامين الأخوين قال له النبي صلى
الله عليه وسلم : " رده , رده " وهذا أمر بالرد حقيقة .
قالوا : فقد
وفينا اللفظ حقيقته التي وضع لها .
قالوا :
وأيضا فقد صرح ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه ولم
يرها شيئا " وتعلقكم على أبي الزبير مما لا متعلق فيه , فإن أبا الزبير
إنما يخاف من تدليسه , وقد صرح هذا بالسماع كما تقدم , فدل على أن الأمر
بمراجعتها لا يستلزم نفوذ الطلاق .
قالوا :
والذي يدل عليه أن ابن عمر قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض : " لا
يعتد بذلك " , ذكره الإشبيلي في الأحكام من طريق محمد بن عبد السلام الخشني قال : حدثنا
محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب بن
عبد المجيد الثقفي حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه
قال , في الرجل يطلق
امرأته وهي حائض , قال ابن عمر : لا يعتد بذلك " , وذكره ابن حزم في كتاب المحلى بإسناده من طريق
الخشني . وهذا إسناد صحيح .
قالوا : وقد
روى الدارقطني في سننه بإسناد شيعي عن أبي الزبير قال : " سألت ابن عمر
عن رجل طلق امرأته
ثلاثا , وهي حائض ؟ فقال لي : أتعرف عبد الله بن عمر ؟ قلت : نعم , قال : طلقت امرأتي
ثلاثا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فردها رسول الله إلى السنة " , قال
الدارقطني : كلهم شيعة , ولم يزد على هذا . ولكن هذا الحديث باطل قطعا , ولا تحتج به ,
وإنما ذكرناه للتعريف بحاله ولو كان إسناده ثقات لكان غلطا , فإن المعروف من رواية الإثبات عن ابن عمر
أنه إنما طلق تطليقة واحدة , كما رواه مسلم في الصحيح من حديث يونس بن جبير , ولكن لو حاكمنا منازعينا
إلى ما يقرون به من أن رواية أهل
البدع مقبولة , فكم في الصحيح من رواية الشيعة الغلاة , والقدرية ,
والخوارج , والمرجئة , وغيرهم , لم يتمكنوا من الطعن في هذا الحديث بأن
رواته شيعة , إذ مجرد
كونهم شيعة لا يوجب رد حديثهم .
وبعد ففي
معارضته بحديث يونس بن جبير " أنه طلقها تطليقة " كلام ليس هذا
موضعه , فإن من جعل الثلاث واحدة قال هي ثلاث في اللفظ , وهي واحدة في
الحكم , على ما في حديث أبي الصهباء عن ابن عباس . والله أعلم .
قالوا :
وأما قولكم إن نافعا أثبت في ابن عمر وأولى به من أبي الزبير وأخص , فروايته أولى أن
نأخذ بها , فهذا إنما يحتاج إليه عند التعارض , فكيف ولا تعارض بينهما ؟
فإن رواية أبي الزبير صريحة في أنها لم تحسب عليه , وأما نافع فرواياته ليس فيها شيء صريح قط , أن
النبي صلى الله عليه وسلم حسبها عليه , بل مرة قال " فمه " أي فما
يكون ؟ وهذا ليس بإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حسبها , ومرة قال " أرأيت إن
عجز واستحمق ؟ " وهذا رأي محض , ومعناه أنه ركب خطة عجز , واستحمق , أي ركب أحموقة
وجهالة , فطلق في زمن لم يؤذن له في الطلاق فيه , ومعلوم أنه لو كان عند ابن عمر أنه صلى الله عليه
وسلم حسبها عليه لم يحتج أن يقول للسائل " أرأيت إن عجز واستحمق ؟ " , فإن هذا ليس بدليل على وقوع
الطلاق , فإن من عجز واستحمق يرد إلى
العلم والسنة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكيف يظن
بابن عمر أنه يكتم نصا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتداد بتلك الطلقة , ثم يحتج
بقوله " أرأيت إن عجز واستحمق " , وقد سأله مرة رجل عن شيء فأجابه
بالنص , فقال السائل : أرأيت إن كان كذا وكذا ؟ قال : " اجعل أرأيت باليمن
" , ومرة قال " تحسب من طلاقها " , وهذا قول نافع , ليس قول ابن
عمر , كذلك جاء مصرحا به في هذا الحديث في الصحيحين , قال عبد الله لنافع
" ما فعلت التطليقة ؟ قال : واحدة أعتد بها " , وفي بعض ألفاظه : " فحسبت
تطليقة " , وفي لفظ للبخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عمر : " فحسبت علي
بتطليقة " , ولكن هذه اللفظة انفرد بها سعيد بن جبير عنه , وخالف نافع وأنس بن
سيرين ويونس بن جبير وسائر الرواة عن ابن عمر , فلم يذكروا " فحسبت علي " , وانفراد
ابن جبير بها , كانفراد أبي الزبير بقوله " ولم يرها شيئا " , فإن
تساقطت الروايتان لم يكن في سائر الألفاظ دليل على الوقوع , وإن رجح إحداهما على
الأخرى فرواية
أبي الزبير صريحة في الرفع , ورواية سعيد بن جبير غير صريحة في الرفع , فإنه لم يذكر فاعل الحساب , فلعل
أباه حسبها عليه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ألزم الناس فيه بالطلاق الثلاث , وحسبه
عليهم , اجتهادا منه , ومصلحة رآها للأمة , لئلا يتتابعوا في الطلاق المحرم , فإذا علموا أنه يلزمهم
وينفذ عليهم أمسكوا
عنه , وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتسب عليهم به ثلاثا في لفظ واحد فلما رأى عمر الناس
قد أكثروا منه رأى إلزامهم به , والاحتساب عليهم به .
قالوا :
وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة في هذا الباب , ويتبين وجهها , ويزول عنها
التناقض والاضطراب , ويستغنى عن تكلف التأويلات المستكرهة لها , ويتبين موافقتها لقواعد الشرع وأصوله
.
قالوا :
وهذا الظن بعمر رضي الله عنه أنه إذا احتسب على الناس بالطلاق الثلاث
احتسب على ابنه بتطليقته التي طلقها في الحيض , وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم
يرها شيئا مثل كون الطلاق الثلاث على عهده كان واحدة . وإلزام عمر الناس بذلك ,
كإلزامه له بهذا , وأداه اجتهاده رضي الله عنه إلى أن ذلك كان تخفيفا ورفقا بالأمة , لعلة إيقاعهم
الطلاق وعدم تتابعهم فيه , فلما
أكثروا منه وتتابعوا فيه ألزمهم بما التزموه , وهذا كما أداه
اجتهاده في الجلد في الخمر ثمانين , وحلق الرأس فيه والنفي , والنبي صلى الله عليه وسلم إنما
جلد فيه أربعين ,
ولم يحلق فيه رأسا , ولم يغرب , فلما رأى الناس قد أكثروا منه واستهانوا بالأربعين ضاعفها عليهم ,
وحلق ونفى . ولهذا نظائر كثيرة ستذكر في موضع آخر إن شاء الله .
قالوا :
وتوهم من توهم أنا خالفنا الإجماع في هذه المسألة غلط , فإن الخلاف فيها أشهر من أن يجحد ,
وأظهر من أن يستر . وإذا كانت المسألة من موارد النزاع فالواجب فيها امتثال ما أمر الله به ورسوله
, من رد ما تنازع فيه العلماء إلى الله ورسوله , وتحكيم الله ورسوله , دون تحكيم أحد من الخلق , قال
تعالى { فإن تنازعتم
في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } .
فهذه بعض
كلمات المانعين من الوقوع . ولو استوفينا الكلام في المسألة لاحتملت سفرا كبيرا ,
فلنقتصر على فوائد الحديث .
قال
الموقعون : وفيه دليل على أن الرجعة يستقل بها الزوج دون الولي ورضا المرأة , لأنه
جعل ذلك إليه , دون غيره , ودلالة القرآن على هذا أظهر من هذه الدلالة . قال تعالى { وبعولتهن أحق
بردهن في ذلك } فجعل الأزواج أحق بالرجعة من المرأة والولي . واختلفوا في قوله
" مره فليراجعها " : هل الأمر بالرجعة على الوجوب أو الاستحباب ؟ فقال الشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي
وابن أبي ليلى وسفيان الثوري وأحمد في إحدى الروايتين بل أشهرهما عنه : الأمر بالرجعة استحباب . قال
بعضهم : لأن ابتداء النكاح إذا لم
يكن واجبا فاستدامته كذلك , وقال مالك في الأشهر عنه , وداود وأحمد
في الرواية الأخرى
: الرجعة واجبة الأمر بها , ولأن الطلاق لما كان محرما في هذا الزمن كان بقاء النكاح واستدامته فيه
واجبا , وبهذا يبطل قولهم إذا لم يجب ابتداء النكاح لم تجب استدامته , فإن الاستدامة ها هنا واجبة لأجل
الوقت , فإنه لا يجوز فيه الطلاق .
قالوا :
ولأن الرجعة إمساك , بدليل قوله { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح
بإحسان } فالإمساك مراجعتها في العدة , والتسريح تركها حتى تنقضي عدتها . وإذا كانت
الرجعة إمساكا , فلا ريب في وجوب إمساكها في زمن الحيض , وتحريم طلاقها , فتكون واجبة .
ثم اختلف
الموجبون للرجعة في علة ذلك : فقالت طائفة : إنما أمره برجعتها ليقع الطلاق الذي
أراده في زمن الإباحة , وهو الطهر الذي لم يمسها فيه , فلو لم يرتجعها لكان الطلاق الذي
ترتبت عليه الأحكام هو الطلاق المحرم , والشارع لا يرتب الأحكام على طلاق محرم ,
فأمر برجعتها , ليطلقها طلاقا مباحا , يترتب عليه أحكام الطلاق .
وقالت طائفة
: بل أمره برجعتها عقوبة له على طلاقها في زمن الحيض , فعاقبه بنقيض قصده ,
وأمره بارتجاعها , عكس مقصوده .
وقالت طائفة : بل العلة في ذلك
أن تحريم الطلاق في زمن الحيض معلل بتطويل العدة فأمره برجعتها ليزول
المعنى الذي حرم الطلاق في الحيض لأجله .
وقال بعض
الموجبين إن أبى
رجعتها أجبر عليها . فإن امتنع ضرب وحبس , فإن أصر حكم عليه برجعتها
وأشهد أنه قد ردها
عليه , فتكون امرأته , يتوارثان , ويلزمه جميع حقوقها , حتى يفارقها فراقا ثانيا , قاله أصبغ وغيره من
المالكية . ثم اختلفوا .
فقال مالك :
يجبر على الرجعة , إن طهرت , ما دامت في العدة , لأنه وقت للرجعة .
وقال أشهب :
إذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت لم تجب رجعتها في هذه الحال , وإن كانت في العدة ,
لأنه لا يجب عليه
إمساكها في هذه الحال لجواز طلاقها فيه , فلا يجب عليه رجعتها فيه , إذ لو وجبت الرجعة في هذا الوقت
لحرم الطلاق فيه . وقوله ص