الطبيعة
القانونية للمسؤولية السابقة على التعاقد
المقدمــــــة
إذا قام أحد أطراف التفاوض بسلوك معين ، وأخل بمبدأ حسن
النية أو أخل بأحد الألتزامات المتفرعة عن هذا المبدأ فأنه يكون بسلوكه هذا مخطىءً
ومسؤولاً عما سببه من ضرر للطرف الأخر , واذا كان لابد من أن يعاقب المتفاوض
مدنياً عن خطأه ، فأن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما طبيعة المسؤولية التي تقع على
عاتق المتفاوض ؟ هل هي مسؤولية عقدية أم مسؤولية تقصيرية أم مسؤولية متميزة ؟
للأجابة على هذا التساؤل سوف نبحث في هذا الصدد هذه الفكرة في مبحثين ، نبحث في المبحث
الأول الأتجاهات الفقهية في طبيعة المسؤولية السابقة على التعاقد وفي المبحث
الثاني نبحث في النظرية المختارة لطبيعة هذه المسؤولية .
المبحث الأول
الأتجاهات الفقهية في طبيعة
المسؤولية السابقة على التعاقد
في حقيقة الأمر عندما ظهرت المسؤولية المدنية السابقة
على التعاقد ولاسيما في مرحلة التفاوض أختلف الفقه بشأن تحديد طبيعتها([1]).
فمن الفقه من قال ان هذه المسؤولية هي عقدية دائماً ، ومنهم من قال بأنها لاتتعدى
كونها مسؤولية عن فعل ضار على اساس أن مرحلة التفاوض ماهي الا مرحلة عادية وما
يصدر خلالها لايعد الا من قبيل الأعمال المادية المحضة ، وهناك أتجاه يذهب الى
المناداة بجعلها مسؤولية متميزة أي مسؤولية خاصة تتلاءم مع طبيعة المرحلة السابقة
على التعاقد وعلى هذا الأساس سنقوم بدورنا في هذا المجال ببحث هذه الأتجاهات
والتعرف على مضمونها في مطلب مستقل لكل
منها وعلى النحو الاَتي :
المطلب الأول
نظرية المسؤولية العقدية عن الخطأ
قبل التعاقدي
يمكن القول إِنَّ هناك أتجاهين أثنين متفقين من وجه
ومختلفين من وجه أخر ، فوجه الأتفاق يتحدد في ان مضمونها واحد وهو أن المسؤولية
السابقة على التعاقد هي مسؤولية عقدية ، أما وجه الأختلاف فيتمثل في أختلافها من
حيث الأساس ، فالأتجاه الأول يرى أن أساس المسؤولية السابقة على التعاقد هو وجود
العقد الضمني المفترض بين أطراف التفاوض فالأخلال الحاصل في هذه المرحلة يكون
خطأًعقدياً وبالتالي يجب معالجة الضرر الناتج عنه وفق أحكام المسؤولية العقدية .
أما الأتجاه الثاني فيرى أن أساس المسؤولية السابقة على
التعاقد هو وجود عقود أولية ممهدة لأبرام العقد الأصلي ، وتكون هذه العقود مستقلة
عنه وغايتها التمهيد له والتحضير للعقد المنشود ، فأي خرق للألتزامات تحصل في هذه
المرحلة تعد مخالفة عقدية وبالتالي تجبر الأضرار وفق أحكام المسؤولية العقدية
.وعليه سوف نبحث هذين الأتجاهين وعلى النحو التالي:-
الأتجاه الأول
يعد الفقيه (أهرنج) من أهم أنصار هذا الأتجاه وذلك بفكرته عن "الخطأ
عند تكوين العقد "([2])
، إِذ يرى أن الخطأ في الفترة السابقة على التعاقد وسواء ترتب عليه عدم أنعقاد
العقد أم أدى الى بطلان هذا العقد هو خطأعقدي يثير المسؤولية العقدية على عاتق
مرتكبه بتعويض الضرر الذي لحق الطرف الأخر ويستخلص أهرنج في ضوء ذلك أن العقد
بالرغم من بطلانه ينشىء ألتزاماً بالتعويض كعقد لا كواقعة مادية وبذلك فأن دعوى
التعويض تستند الى دعوى العقد ذاتها([3]).
وينحصر الخطأ العقدي في نظر أهرنج في أقدام المتعاقد الذي أتى سبب البطلان
من جهته على التعاقد وكان واجباً عليه أن يعلم بذلك ، وحتى لوفرض أنه كان لا يعلم
بسبب البطلان ، فمن العدل أن يتحمل الضرر الذي أصاب المتعاقد الأخر حسن
النية،بمعنى أن الخطأ عند أهرنج هو وجود سبب البطلان في جانب أحد المتعاقدين مما
يتعين معه تعويض المتعاقد الأخر([4]).
وأما عن تكييف أهرنج لهذا الخطأ بأنه عقدي على الرغم من عدم أبرام العقد أو بطلانه
فأنه يستند الى أفتراض وجود عقد ضمني مقترن بكل تعاقد ، بمقتضاه يتعهد كل شخص مقدم
على التعاقد للطرف الأخر بصحة التصرف وبان لا يقوم من جانبه سبب يوجب بطلان العقد
وبذلك يكون رضاء المتعاقد الأخر في الوقت نفسه أيضاً قبولاً ضمنياً لهذا التعهد
فيتم عقد الضمان بأيجاب وقبول ضمنيين([5]).
وقد قال أهرنج إِنَّ التصرف القانوني (العقد) الذي يضفي
الطبيعة العقدية على المفاوضات هو عبارة عن عقد ضمني بين المتفاوضين يلتزم بمقتضاه
كل واحد من المتفاوضين تجاه الأخر بأن يجعله في وضع يسمح له بأبرام العقد محل
التفاوض ،كما يلتزم في الوقت ذاته بالأمتناع عن أي عمل من شأنه أعاقة عملية أبرام
العقد فإذا قطع المفاوضات دون عذر مشروع يكون قد أخل بالألتزام الذي يفرضه عليه
العقد الضمني وبالتالي يسأل مسؤولية عقدية عن تعويض الضرر الذي لحق الطرف الأخر([6]).
وأما الكيفية التي نشأ بها العقد الضمني حسب رأي أهرنج فهي: أن الأيجاب الصادر من
أحد المتفاوضين يتحلل الى أيجابين الأول موضوعه العقد الذي يجري التفاوض بشأنه
،أما الأيجاب الثاني فموضوعه عدم أعاقة أبرام هذا العقد .ولما كان هذا الأيجاب
الأخير يتمخض لمصلحة الموجب له فأن مجرد سكوته يعد قبولاً يقوم به العقد الضمني([7]).
الا أن هذا الرأي منتقد ،فهو يقوم على مجرد الأفتراض ، وذلك لأن أي عقد لكي ينشأ
لابد أن تنصرف إِليه الأرادة بشكل صريح وبات هذا من جهة ومن جهة أخرى فأن المتعاقد
عندما يعلن عن أرادته فهو يستهدف أبرام العقد الذي يجري التفاوض بشأنه ولا يخطر في
باله أبرام عقد أخر (العقد الضمني الذي يفرض عليه التزام بعدم أعاقة ابرام العقد)
ثم أن العقد الضمني يرتب الألتزام بعدم أعاقة ابرام العقد منذ لحظة الأيجاب ومن
باب مفهوم المخالفة فأن المتفاوض حر في قطع المفاوضات قبل توجيه الأيجاب([8]).
وقد ظهر الى جانب رأي أهرنج رأي أخر في تفسير نشوء
التصرف القانوني الذي يضفي الطبيعة العقدية على المفاوضات .وحسب هذا الرأي فأن
المفاوضات تتشابك ابتداءً بناءً على دعوة يتم قبولها .وهذا الأتفاق الأول هو
المصدر المباشر للضمان المتبادل في مرحلة المفاوضات ،ذلك أنه ينطوي على شرط ضمني
بمقتضاه يتعهد كل متفاوض قبل الأخر بأن يستمر في المفاوضات وأن لا يقوم بقطعها
تعسفاً حتى يتحقق الغرض النهائي منها والا التزم بتعويض المتفاوض الأخر عن فوات
هذا الغرض([9]).
وهذا الرأي منتقد أيضاً لأنه يغفل حقيقة العقد وهي ان هذا الأخير لا يبرم الا
بتلاقي أرادة الأطراف بشكل بات لا لبس فيه فلا يجوز أفتراض العقد أو فرضه ، كما ان
قبول الدعوة الى التفاوض لا ينشأ أتفاقاً يكون مصدراً للألتزام بالضمان لأن
الأرادة لم تنصرف الى أحداث مثل هذا الأثر القانوني (الألتزام بالضمان )([10]).
ومن الجدير بالأشارة الى أن هناك نظريات اخرى طرحها الفقه في بيان أساس المسؤولية
العقدية الناتجة عن الخطأ قبل التعاقدي ومن أهمها نظرية الوكالة التي نادى بها
الفقيه (شورل) الذي ذهب الى أن كل عقد يقترن بمجرد الدعوة الى ابرامه بتوكيل ضمني
للطرف الأخر بأتخاذ الأجراءات اللازمة لأبرام هذا العقد ومن ثم يلتزم الموجب اذا
لم يتم العقد بتعويض الطرف الأخر عن المصروفات التي أنفقها على أساس أحكام الوكالة
ومن ثم فأن مسؤوليته في هذا الصدد مسؤولية عقدية . وكذلك تقترب من هذه النظرية
أيضاً نظرية الفضالة التي قال بها الفقيه (تون) الذي نادى بتأسيس المسؤولية قبل
التعاقدية على فكرة الفضالة لتكون المسؤولية عقدية ، على أساس أن من يوجه الدعوة
الى التعاقد دون أن يكون مالكاً للشيء أو صاحب الحق ، موضوع العقد ولا واثقاً من
الحصول عليه دون أن يخطر بذلك الطرف الأخر يعد فضولياً ومن ثم يجب تعويض المتضرر
على أساس أسترداد ما أنفق بدعوى الفضالة([11]).
في الحقيقة وأن كانت النظرية التي اسسها (أهرنج) ماهي الا نتيجة الظروف
السائدة أنذاك([12]).
الا أنه يمكن الأعتراف وبكل صراحة أنه قد نجح في سد ثغرة من ثغرات القانون
الروماني الذي كان سارياً في المانيا أنذاك ،الا أنه لا يوجد مبرر للأخذ بها في
الوقت الحاضر.
الأتجاه الثاني
يعد الفقيه (سالي) من أبرز أنصار هذا الأتجاه ،اذ نادى بفكرة العقد التمهيدي
يرى أنه يوجد بجانب العقد الأصلي عقد تمهيدي عبارة عن وعد بالتعاقد يتضمن تعهداً
جدياً من جانب الواعد ويثير مسؤوليته العقدية اذا صادف قبولاً من الطرف الأخر،
وبالتالي تتحقق المسؤولية العقدية وأن لم يبرم العقد الأصلي([13]).
ولكن ماهو العقد التمهيدي ؟ وماهو أساس الفصل بين العقد
الممهد والأتفاق الممهد في المرحلة السابقة على التعاقد ؟ للأجابة على هذه الأسئلة
نحاول التطرق لتعريف العقد التمهيدي في الفقرة الأولى وفي الفقرة الثانية نتكلم عن
اساس الفصل بين العقد الممهد والأتفاق الممهد في المرحلة السابقة على التعاقد وعلى
النحو الأتي:-
أولاً:-
تعريف العقد التمهيدي
يلجأ اطراف العلاقة التعاقدية في بعض الحالات الى أبرام
عقود من شأنها أن تمهد للعقد النهائي المقصود ومثال ذلك عقد القرض الذي يمهد لشراء
العقار أذ أن أبرام العقد النهائي هذا (شراء العقار)
غير ممكن عملياً ومادياً من دون أن يتوافر المبلغ اللازم لدفع الثمن ومن
خلال عقد القرض الذي يساهم بذلك في تحقيق أهم الوسائل اللازمة للتعاقد ومن ثم فأن
الخلط بين العقد التمهيدي وغيره من العقود التي تسهل التعاقد أمر وارد .فمن
الضروري أن يتم تمييز هذه الصورة من التعاقد مثلاً عن العقد المعلق على شرط
،فالأخير هو العقد النهائي، وهو مقصود لذاته فلا يمهد لعقد أخر وكل مافي الأمر أن
وجوده أو أستمراره معلقان على تحقق شرط معين[14]
.وعليه فأنه يمكن تعريف العقد التمهيدي بأنه(ذلك العقد الذي يسبق أبرام العقد
النهائي المنشود والذي يكون بدوره ممهداً للعقد النهائي ويترتب على مخالفته
المسؤولية العقدية وأن لم يبرم العقد النهائي).
ثانياً:-أساس
الفصل بين العقد الممهد والأتفاق الممهد
إِنَّ التطور الحديث للعقود وتقسيم بعضها الى مراحل تسبق
أبرامها يفتح الباب أمام أمكانية بحث هذا التقسيم على أساس ومبررات تشريعية وعملية
،فمن الناحية التشريعية فأن المشرع في بعض الدول نظم العقود التمهيدية وترك المجال
مفتوحاًأمام الفقه والقضاء لتأكيد وجود أتفاقيات ممهدة للعقود ،كما نظم أنواعاً من
هذه الأتفاقيات بنصوص خاصة،كأتفاقيات العمل الجماعية([15])
ويعود هذا التقسيم الى أمرين:-
1-
نية الأطراف :
إذ تتجه في حين الى أبرام عقد تمهيدي ، وفي حين أخر الى
مجرد الأتفاق وبشكل مبدئي على التفاوض تمهيداً للتعاقد ،من دون أن يكون لدى أي من
هذه الأطراف نية التعاقد حالياً،فتصر الأطراف في مثل تلك الحالات مع التأكيد
كتابةً على عدم قيام أي عقد في مرحلة التفاوض بل أن كل مايتم الأتفاق في شأنه في
هذه المرحلة لايعدو أن يكون أتفاقاً ممهداً([16])
2-المسؤولية
:
هذا الأمر يرتبط بالمسؤولية المترتبة على عدم الألتزام
بما تم التوصل إليه ،فأن كنا أمام عقد تمهيدي فأن المسؤولية تكون عقدية بكل
ماتعنيه هذه الصفة وما ترتبه من أثار في أثبات الخطأ والضرر وفي مدى التعويض، في
حين أن خرق الأتفاق التمهيدي لايثير المسؤولية العقدية، وأنما التقصيرية للطرف غير
الملتزم وبكل مايرتبه ذلك من أثار في أثبات وجود الألتزام والخطأ والضرر والرابطة
بينهما وفي مدى التعويض([17]).
ومن الناحية العملية ،فأن تقسيم التصرفات القانونية
السابقة على العقد الى عقود وأتفاقيات يتناسب مع متطلبات الكثير من العقود الحديثة
فكم من عقد في العمل يحتاج الى عقد أو عقود أخرى تمهد له ومن ذلك مثلاً شراء
العقار الذي يمهد له بعقد قرض يتم من خلاله توفير المبلغ أو جزء من المبلغ اللازم
للوفاء بثمن العقار،وكم من عقد يمهد له بأتفاق لا بعقد أخر ويكون مؤدى هذا الأتفاق
تأكيد ألتزام الأطراف بالتفاوض للوصول الى العقد النهائي(كعقود بيع المؤسسات
والشركات الكبرى) أو يكون هدفه تدوين أو تأكيد ماتم التوصل إليه في بعض مراحل
التفاوض ليكون ذلك أساساً ينطلق منه الى مراحل أخرى في سبيل الوصول في نهاية الأمر
الى العقد المقصود وهذا هو حال عقد دراسات الكومبيوتر والتزويد بالأنظمة
الألكترونية ،فلا تتوافر عناصر العقد المقصود الا من خلال هذه الأتفاقيات ،فقد لا
يبرم أي عقد في هذه المرحلة لأن الأطراف ذاتها ترغب في الحفاظ على حريتها خالية من
كل ألتزام عقدي([18]).
رأينا في الموضوع
نحن بدورنا نتفق مع هذا الأتجاه الذي يجعل المسؤولية
السابقة على التعاقد مسؤولية عقدية إذا وجدت عقود أولية ممهدة للعقد الأصلي
المنشود فأي أخلال أو خرق يقع في هذه المرحلة تحتضنه قواعد المسؤولية العقدية وأن
لم يبرم العقد الأصلي.
المطلب
الثاني
نظرية المسؤولية التقصيرية عن الخطأ
قبل التعاقدي
ذهب الكثير من الفقهاء الى أن فكرة المسؤولية التقصيرية
هي التي تحكم مرحلة التفاوض وتعد هي أسهل الوسائل وأيسرها تطبيقا على هذه المرحلة
لحجة مفادها أن أحكام هذه المسؤولية هي وحدها التي تطبق عند عدم وجود عقد([19]).
وحاول أنصار هذا الأتجاه تأسيس هذه النظرية على أساس فكرة التعسف([20]).
ولكن يبدو أن التمسك بالتعسف اساساً لهذه المسؤولية يستوجب وجود حق يتعسف المتفاوض
في استعماله وليس ثمة مثل هذا الحق([21]).
هذا وأن هذه النظرية ظهرت عندما لم يكتب لنظرية (الخطأ عند تكوين العقد)
النجاح في الفقه المعاصر وكان تكييفها للخطأ السابق على التعاقد بأنه خطأ عقدي
يثير المسؤولية العقدية لمرتكبه محل أعتراضات فمن ناحية أولى فأن هذه النظرية تجعل
قيام سبب البطلان في جانب المتعاقد خطأ حتماً رغم أن هذا المتعاقد قد يكون جاهلاً
كل الجهل قيام سبب البطلان في جانبه فالخطأ هنا أقرب الى فكرة تحمل التبعة([22]).
الا يجب أثباته طبقا لقواعد الخطأ التقصيري وفي الحالتين لن يكون خطأ عقدياً، ومن
ناحية ثانية أن هذه النظرية تجعل الألتزام بالتعويض موضوع تعهد ثانوي يقترن
بالتصرف الباطل ويبقى رغم بطلان هذا التصرف ليكون اساسا اراديا لتعويض الغير عن
الضرر الناشىء عن البطلان وهي تفترض بذلك قيام تعهد بالصحة في جميع العقود دون أن
يقوم دليل على ذلك([23]).
ومن ناحية ثالثة حتى لو سلمنا بأفتراض وجود هذا التعهد الثانوي بضمان صحة التصرف
الأصلي، فلا شك أن بطلان التصرف الأصلي سيؤدي الى بطلان هذا التعهد الثانوي أيضا
فينعدم بذلك سند تكييف المسؤولية بأنها عقدية والا فأن تجزئة البطلان في هذا الصدد
والقول بأنه ينصرف الى التعهد الأصلي فقط دون الثانوي هي تجزئة تحكمية غير مقبولة([24]).
وأخيراً فأنه حتى في الحالات التي يتضمن فيها القانون نصاً خاصاً يقرر المسؤولية
القانونية بالتعويض عن بطلان العقد فان المسؤولية ستكون قائمة بحكم القانون لا على
اساس التصرف الباطل([25]).
وفي ضوء هذه الأنتقادات نخلص الى أن المسؤولية قبل التعاقدية الناشئة عن الخطأ قبل
التعاقدي هي مسؤولية تقصيرية تستوجب التعويض ومن ثم يجب أن تستكمل دعوى التعويض
هنا أثبات عناصرالمسؤولية التقصيرية كافة من خطأ وضرر وعلاقة سببية ، وعلى هذا
أستقر الرأي السائد في الفقه الحديث لدى الشراح المصريين([26]).
وعلى هذا الأساس فأن المسؤولية التقصيرية للعقد في كل مرة يثبت فيها أقتران العدول
عن التعاقد أو مصاحبة بطلان العقد لخطأ أرتكبه أحد الأطراف المتفاوضة وألحق ضررا
بالأخر ، وعليه فأن الأعمال التحضيرية للعقد أو(مشروع العقد) التي تشمل مرحلة
المفاوضة ومرحلة أبرامه لاتعدوأن تكون عملاً مادياً ليس له أي أثر قانوني . أذن أن
هذه النظرية قد عدت مرحلة المفاوضات مجرد أعمال مادية ليست لها أي أثر قانوني أي
لا ترتب أي التزام على طرفي التفاوض ،فهي لا تلزمهم بضرورة التوصل الى أبرام العقد
محل التفاوض ، الا اذا قام أحد الأطراف بأرتكاب خطأ ونتج عنه ضرر لحق بالطرف الأخر
فأنه هنا تقوم المسؤولية التقصيرية عليه .
وهذه النظرية منتقدة أيضا لانها تجاهلت بأن ثمة ألتزامات
يمكن أن تنشأ في هذه المرحلة ناتجة عن مبدأحسن النية الذي يسيطر على هذه المرحلة([27]).
او ناتجة عن العديد من العقود التي قد تبرم بين أطراف التفاوض ويكون الغرض منها
تنظيم عملية التفاوض وأسباغ الصفة العقدية على مجرياتها وأبعد من ذلك قديتم توقيع
عقد الأتفاق على التفاوض بحيث تصبح عملية التفاوض ذات صفة عقدية بحتة([28]).
وبناءً على الأنتقادات التي وجهت لنظرية المسؤولية العقدية وكذلك نظرية
المسؤولية التقصيرية اندفع بعض الفقه للقول بوجود مسؤولية خاصة تلائم طبيعة
المرحلة السابقة على التعاقد ، وعليه سوف نتكلم عن هذا الأتجاه في المطلب الثالث .
([1]) د.صبري حمد خاطر ، قطع المفاوضات العقدية ،بحث منشور في مجلة كلية الحقوق ،جامعة
النهرين،المجلد الاول،العدد الثالث،1997 ص 130 .
([2]) ينظر في تسمية هذه
النظرية (بنظرية التقصير عند انعقاد العقد )(د.حلمي بهجت بدوي ،أثار التصرفات
الباطلة ،مجلة القانون والأقتصاد ،صادرة عن جامعة القاهرة ،السنة الثالثة ،رقم
11،ص386).وينظر في تسميتها (بنظرية الخطأ عند تكوين العقد )د.نزيه محمد الصادق
المهدي ، الألتزام قبل التعاقدي بالأدلاء بالبيانات العقدية،الطبعة
الأولى، دار النهضة العربية ،1982.
([3]) د.نزيه محمد الصادق
المهدي ،مصدر سابق ،ص302 ومابعدها .
([4]) د.نزيه محمد الصادق
المهدي ،المصدرأعلاه ،ص303.
([5]) د.عبد الرزاق
السنهوري ، الوسيط ، ،ص67 ، وكذلك د.جميل الشرقاوي ،النظرية العامة للألتزام ،
الكتاب الأول ، مصادر الألتزام ، دار النهضة العربية ،القاهرة ،1981،ص361..
([6]) د.سعد حسين الحلبوسي
، التفاوض في العقود عبر شبكة الأنترنيت بين القواعد
العامة في نظرية الالتزام،الضرورات العملية ، الطبعة الأولى،بغداد،2004.،ص37.
([7]) د.سعد حسين الحلبوسي
،المصدرأعلاه ،ص37.
([8]) ولمزيد من التفصيل
ينظر في هذه الأنتقادات ، د.سعد حسين الحلبوسي ،المصدر السابق ،ص 38 وكذلك ينظر د. سليمان براك ، المفاوضات العقدية، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية الحقوق،جامعة
النهرين،1998,،ص44،43.
([9]) د.سعد حسين الحلبوسي
،مصدر سابق ،ص39.
([10]) د.صبري حمد خاطر ،المصدر السابق ،ص130
([11]) ارتأينا عدم الذهاب
تفصيلاً في بحث هذه النظريات وأكتفينا بالأشارة اليها ولمزيد من التفصيل في شرح
هذه النظريات ينظر :د.نزيه محمد الصادق المهدي ،المصدر السابق ،ص304
د.محمود جمال الدين زكي ، مشكلات المسؤولية المدنية،الجزء الأول،مطبعة جامعة القاهرة،1978.،ص132،فقرة 29،هامش
60..
([12]) كانت أحكام المسؤولية التقصيرية في القانون الروماني لا
تغطي ما ينشأ من مسؤولية قبل أتمام العقد ،فما كان أمام أيرنج سوى أن يقوم بتغطية
هذه المرحلة بأحكام المسؤولية العقدية بفرض وجود عقد ضمني بين الأطراف خلال هذه المرحلة
.
يقول الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري أن هذه النظرية تعد من نظريات
الضرورة أضطراراً لما ضاق به القانون الروماني عن أن يتسع لحاجات التعامل ولم يعد
للتمسك بها مايبرره الأن ،مؤلفه الوسيط ، المصدر السابق ،ص677.
([13]) د.نزيه محمد الصادق المهدي ،مصدر سابق،ص304.
(1) د.جمال فاخر النكاس،العقود والأتفاقات
الممهدة للتعاقد واهمية التفرقة بين العقد والاتفاق في المرحلة السابقة على
العقد،مجلة الحقوق الكويتية، مارس ،1996،ص15،14.
([15]) كالقوانين ،الفرنسي والمصري والكويتي والعراقي التي تنظم أتفاقية العمل
الجماعية وأن أختلفت في تسميتها.
ينظر د.جمال فاخر
النكاس ،قانون العمل الكويتي المقارن ،1993،ص27.
([16])
د.جمال فاخر النكاس،المصدر
السابق،ص18.
([17]) د.سليمان مرقس ،الوافي في شرح القانون المدني ،ج2،الألتزامات،المجلد
الأول،نظرية العقد والأرادة المنفردة ،ط4،القاهرة ،1987،ص540ومابعدها
وكذلك ينظر:
د.فيصل زكي عبد الواحد ،المسؤولية المدنية في أطار الأسرة العقدية ،ط2،1992،ص147.
([18]) ينظر في تفصيل ذلك،هيلان عدنان الجبوري ، الأتفاقات السابقة على التعاقد،رسالة ماجستير مقدمة الى كلية الحقوق جامعة
النهرين،2004،ص44-45.
([19]) د.محمد حسام لطفي
،المصدر السابق ،ص58، وينظر أيضأ د.صبري حمد خاطر ،المصدر السابق ،ص131 وكذلك
د.جمال الدين زكي ،المصدر السابق ،ص135.
([20]) محمود جمال الدين
زكي ،مصدر سابق ،ص154،153.
([21]) د.صبري حمد خاطر
،مصدر سابق ،الصفحة نفسها .
([22]) د.عبد الرزاق
السنهوري ،الوسيط ،المصدر السابق ،رقم 311،ص38.
([23]) د.جميل الشرقاوي
،مصادر الألتزام ،المصدرالسابق ،ص261.
([24]) وهو ماذهب اليه
الفقه المصري من أن التفرقة بين العناصر الجوهرية للعقد والعناصر الثانوية وربط كل
عنصر بما يترتب عليه من أثر يكاد يكون مستحيلا ً،أذليس لتلك العناصر كم محدد
فالعقد أما أن يكون صحيحا تترتب عليه كل أثاره وأما أن يكون باطلا فلا يترتب عليه
أي أثر .
([25]) د.جميل الشرقاوي
،مصادر الألتزام ،مصدر سابق ،ص262.
([26]) د.عبد الرزاق
السنهوري ،الوسيط ،مصدر سابق ،ص678،محمود جمال الدين زكي ،المصدر السابق
،ص137،جميل الشرقاوي ،مصدر سابق ،ص262.
([27]) ينظر بهذا الموضوع
في مبدأحسن النية وتحديد الألتزامات الناشئة أثناء الفترة السابقة على التعاقد ,
د. نزيه محمد الصادق , المصدر السابق , ص 301
([28]) عدنان السرحان ونوري
حمد خاطر ،المصدر السابق ،ص91 وكذلك ممدوح مبارك ،المصدر السابق ،ص201.
القانونية للمسؤولية السابقة على التعاقد
المقدمــــــة
إذا قام أحد أطراف التفاوض بسلوك معين ، وأخل بمبدأ حسن
النية أو أخل بأحد الألتزامات المتفرعة عن هذا المبدأ فأنه يكون بسلوكه هذا مخطىءً
ومسؤولاً عما سببه من ضرر للطرف الأخر , واذا كان لابد من أن يعاقب المتفاوض
مدنياً عن خطأه ، فأن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما طبيعة المسؤولية التي تقع على
عاتق المتفاوض ؟ هل هي مسؤولية عقدية أم مسؤولية تقصيرية أم مسؤولية متميزة ؟
للأجابة على هذا التساؤل سوف نبحث في هذا الصدد هذه الفكرة في مبحثين ، نبحث في المبحث
الأول الأتجاهات الفقهية في طبيعة المسؤولية السابقة على التعاقد وفي المبحث
الثاني نبحث في النظرية المختارة لطبيعة هذه المسؤولية .
المبحث الأول
الأتجاهات الفقهية في طبيعة
المسؤولية السابقة على التعاقد
في حقيقة الأمر عندما ظهرت المسؤولية المدنية السابقة
على التعاقد ولاسيما في مرحلة التفاوض أختلف الفقه بشأن تحديد طبيعتها([1]).
فمن الفقه من قال ان هذه المسؤولية هي عقدية دائماً ، ومنهم من قال بأنها لاتتعدى
كونها مسؤولية عن فعل ضار على اساس أن مرحلة التفاوض ماهي الا مرحلة عادية وما
يصدر خلالها لايعد الا من قبيل الأعمال المادية المحضة ، وهناك أتجاه يذهب الى
المناداة بجعلها مسؤولية متميزة أي مسؤولية خاصة تتلاءم مع طبيعة المرحلة السابقة
على التعاقد وعلى هذا الأساس سنقوم بدورنا في هذا المجال ببحث هذه الأتجاهات
والتعرف على مضمونها في مطلب مستقل لكل
منها وعلى النحو الاَتي :
المطلب الأول
نظرية المسؤولية العقدية عن الخطأ
قبل التعاقدي
يمكن القول إِنَّ هناك أتجاهين أثنين متفقين من وجه
ومختلفين من وجه أخر ، فوجه الأتفاق يتحدد في ان مضمونها واحد وهو أن المسؤولية
السابقة على التعاقد هي مسؤولية عقدية ، أما وجه الأختلاف فيتمثل في أختلافها من
حيث الأساس ، فالأتجاه الأول يرى أن أساس المسؤولية السابقة على التعاقد هو وجود
العقد الضمني المفترض بين أطراف التفاوض فالأخلال الحاصل في هذه المرحلة يكون
خطأًعقدياً وبالتالي يجب معالجة الضرر الناتج عنه وفق أحكام المسؤولية العقدية .
أما الأتجاه الثاني فيرى أن أساس المسؤولية السابقة على
التعاقد هو وجود عقود أولية ممهدة لأبرام العقد الأصلي ، وتكون هذه العقود مستقلة
عنه وغايتها التمهيد له والتحضير للعقد المنشود ، فأي خرق للألتزامات تحصل في هذه
المرحلة تعد مخالفة عقدية وبالتالي تجبر الأضرار وفق أحكام المسؤولية العقدية
.وعليه سوف نبحث هذين الأتجاهين وعلى النحو التالي:-
الأتجاه الأول
يعد الفقيه (أهرنج) من أهم أنصار هذا الأتجاه وذلك بفكرته عن "الخطأ
عند تكوين العقد "([2])
، إِذ يرى أن الخطأ في الفترة السابقة على التعاقد وسواء ترتب عليه عدم أنعقاد
العقد أم أدى الى بطلان هذا العقد هو خطأعقدي يثير المسؤولية العقدية على عاتق
مرتكبه بتعويض الضرر الذي لحق الطرف الأخر ويستخلص أهرنج في ضوء ذلك أن العقد
بالرغم من بطلانه ينشىء ألتزاماً بالتعويض كعقد لا كواقعة مادية وبذلك فأن دعوى
التعويض تستند الى دعوى العقد ذاتها([3]).
وينحصر الخطأ العقدي في نظر أهرنج في أقدام المتعاقد الذي أتى سبب البطلان
من جهته على التعاقد وكان واجباً عليه أن يعلم بذلك ، وحتى لوفرض أنه كان لا يعلم
بسبب البطلان ، فمن العدل أن يتحمل الضرر الذي أصاب المتعاقد الأخر حسن
النية،بمعنى أن الخطأ عند أهرنج هو وجود سبب البطلان في جانب أحد المتعاقدين مما
يتعين معه تعويض المتعاقد الأخر([4]).
وأما عن تكييف أهرنج لهذا الخطأ بأنه عقدي على الرغم من عدم أبرام العقد أو بطلانه
فأنه يستند الى أفتراض وجود عقد ضمني مقترن بكل تعاقد ، بمقتضاه يتعهد كل شخص مقدم
على التعاقد للطرف الأخر بصحة التصرف وبان لا يقوم من جانبه سبب يوجب بطلان العقد
وبذلك يكون رضاء المتعاقد الأخر في الوقت نفسه أيضاً قبولاً ضمنياً لهذا التعهد
فيتم عقد الضمان بأيجاب وقبول ضمنيين([5]).
وقد قال أهرنج إِنَّ التصرف القانوني (العقد) الذي يضفي
الطبيعة العقدية على المفاوضات هو عبارة عن عقد ضمني بين المتفاوضين يلتزم بمقتضاه
كل واحد من المتفاوضين تجاه الأخر بأن يجعله في وضع يسمح له بأبرام العقد محل
التفاوض ،كما يلتزم في الوقت ذاته بالأمتناع عن أي عمل من شأنه أعاقة عملية أبرام
العقد فإذا قطع المفاوضات دون عذر مشروع يكون قد أخل بالألتزام الذي يفرضه عليه
العقد الضمني وبالتالي يسأل مسؤولية عقدية عن تعويض الضرر الذي لحق الطرف الأخر([6]).
وأما الكيفية التي نشأ بها العقد الضمني حسب رأي أهرنج فهي: أن الأيجاب الصادر من
أحد المتفاوضين يتحلل الى أيجابين الأول موضوعه العقد الذي يجري التفاوض بشأنه
،أما الأيجاب الثاني فموضوعه عدم أعاقة أبرام هذا العقد .ولما كان هذا الأيجاب
الأخير يتمخض لمصلحة الموجب له فأن مجرد سكوته يعد قبولاً يقوم به العقد الضمني([7]).
الا أن هذا الرأي منتقد ،فهو يقوم على مجرد الأفتراض ، وذلك لأن أي عقد لكي ينشأ
لابد أن تنصرف إِليه الأرادة بشكل صريح وبات هذا من جهة ومن جهة أخرى فأن المتعاقد
عندما يعلن عن أرادته فهو يستهدف أبرام العقد الذي يجري التفاوض بشأنه ولا يخطر في
باله أبرام عقد أخر (العقد الضمني الذي يفرض عليه التزام بعدم أعاقة ابرام العقد)
ثم أن العقد الضمني يرتب الألتزام بعدم أعاقة ابرام العقد منذ لحظة الأيجاب ومن
باب مفهوم المخالفة فأن المتفاوض حر في قطع المفاوضات قبل توجيه الأيجاب([8]).
وقد ظهر الى جانب رأي أهرنج رأي أخر في تفسير نشوء
التصرف القانوني الذي يضفي الطبيعة العقدية على المفاوضات .وحسب هذا الرأي فأن
المفاوضات تتشابك ابتداءً بناءً على دعوة يتم قبولها .وهذا الأتفاق الأول هو
المصدر المباشر للضمان المتبادل في مرحلة المفاوضات ،ذلك أنه ينطوي على شرط ضمني
بمقتضاه يتعهد كل متفاوض قبل الأخر بأن يستمر في المفاوضات وأن لا يقوم بقطعها
تعسفاً حتى يتحقق الغرض النهائي منها والا التزم بتعويض المتفاوض الأخر عن فوات
هذا الغرض([9]).
وهذا الرأي منتقد أيضاً لأنه يغفل حقيقة العقد وهي ان هذا الأخير لا يبرم الا
بتلاقي أرادة الأطراف بشكل بات لا لبس فيه فلا يجوز أفتراض العقد أو فرضه ، كما ان
قبول الدعوة الى التفاوض لا ينشأ أتفاقاً يكون مصدراً للألتزام بالضمان لأن
الأرادة لم تنصرف الى أحداث مثل هذا الأثر القانوني (الألتزام بالضمان )([10]).
ومن الجدير بالأشارة الى أن هناك نظريات اخرى طرحها الفقه في بيان أساس المسؤولية
العقدية الناتجة عن الخطأ قبل التعاقدي ومن أهمها نظرية الوكالة التي نادى بها
الفقيه (شورل) الذي ذهب الى أن كل عقد يقترن بمجرد الدعوة الى ابرامه بتوكيل ضمني
للطرف الأخر بأتخاذ الأجراءات اللازمة لأبرام هذا العقد ومن ثم يلتزم الموجب اذا
لم يتم العقد بتعويض الطرف الأخر عن المصروفات التي أنفقها على أساس أحكام الوكالة
ومن ثم فأن مسؤوليته في هذا الصدد مسؤولية عقدية . وكذلك تقترب من هذه النظرية
أيضاً نظرية الفضالة التي قال بها الفقيه (تون) الذي نادى بتأسيس المسؤولية قبل
التعاقدية على فكرة الفضالة لتكون المسؤولية عقدية ، على أساس أن من يوجه الدعوة
الى التعاقد دون أن يكون مالكاً للشيء أو صاحب الحق ، موضوع العقد ولا واثقاً من
الحصول عليه دون أن يخطر بذلك الطرف الأخر يعد فضولياً ومن ثم يجب تعويض المتضرر
على أساس أسترداد ما أنفق بدعوى الفضالة([11]).
في الحقيقة وأن كانت النظرية التي اسسها (أهرنج) ماهي الا نتيجة الظروف
السائدة أنذاك([12]).
الا أنه يمكن الأعتراف وبكل صراحة أنه قد نجح في سد ثغرة من ثغرات القانون
الروماني الذي كان سارياً في المانيا أنذاك ،الا أنه لا يوجد مبرر للأخذ بها في
الوقت الحاضر.
الأتجاه الثاني
يعد الفقيه (سالي) من أبرز أنصار هذا الأتجاه ،اذ نادى بفكرة العقد التمهيدي
يرى أنه يوجد بجانب العقد الأصلي عقد تمهيدي عبارة عن وعد بالتعاقد يتضمن تعهداً
جدياً من جانب الواعد ويثير مسؤوليته العقدية اذا صادف قبولاً من الطرف الأخر،
وبالتالي تتحقق المسؤولية العقدية وأن لم يبرم العقد الأصلي([13]).
ولكن ماهو العقد التمهيدي ؟ وماهو أساس الفصل بين العقد
الممهد والأتفاق الممهد في المرحلة السابقة على التعاقد ؟ للأجابة على هذه الأسئلة
نحاول التطرق لتعريف العقد التمهيدي في الفقرة الأولى وفي الفقرة الثانية نتكلم عن
اساس الفصل بين العقد الممهد والأتفاق الممهد في المرحلة السابقة على التعاقد وعلى
النحو الأتي:-
أولاً:-
تعريف العقد التمهيدي
يلجأ اطراف العلاقة التعاقدية في بعض الحالات الى أبرام
عقود من شأنها أن تمهد للعقد النهائي المقصود ومثال ذلك عقد القرض الذي يمهد لشراء
العقار أذ أن أبرام العقد النهائي هذا (شراء العقار)
غير ممكن عملياً ومادياً من دون أن يتوافر المبلغ اللازم لدفع الثمن ومن
خلال عقد القرض الذي يساهم بذلك في تحقيق أهم الوسائل اللازمة للتعاقد ومن ثم فأن
الخلط بين العقد التمهيدي وغيره من العقود التي تسهل التعاقد أمر وارد .فمن
الضروري أن يتم تمييز هذه الصورة من التعاقد مثلاً عن العقد المعلق على شرط
،فالأخير هو العقد النهائي، وهو مقصود لذاته فلا يمهد لعقد أخر وكل مافي الأمر أن
وجوده أو أستمراره معلقان على تحقق شرط معين[14]
.وعليه فأنه يمكن تعريف العقد التمهيدي بأنه(ذلك العقد الذي يسبق أبرام العقد
النهائي المنشود والذي يكون بدوره ممهداً للعقد النهائي ويترتب على مخالفته
المسؤولية العقدية وأن لم يبرم العقد النهائي).
ثانياً:-أساس
الفصل بين العقد الممهد والأتفاق الممهد
إِنَّ التطور الحديث للعقود وتقسيم بعضها الى مراحل تسبق
أبرامها يفتح الباب أمام أمكانية بحث هذا التقسيم على أساس ومبررات تشريعية وعملية
،فمن الناحية التشريعية فأن المشرع في بعض الدول نظم العقود التمهيدية وترك المجال
مفتوحاًأمام الفقه والقضاء لتأكيد وجود أتفاقيات ممهدة للعقود ،كما نظم أنواعاً من
هذه الأتفاقيات بنصوص خاصة،كأتفاقيات العمل الجماعية([15])
ويعود هذا التقسيم الى أمرين:-
1-
نية الأطراف :
إذ تتجه في حين الى أبرام عقد تمهيدي ، وفي حين أخر الى
مجرد الأتفاق وبشكل مبدئي على التفاوض تمهيداً للتعاقد ،من دون أن يكون لدى أي من
هذه الأطراف نية التعاقد حالياً،فتصر الأطراف في مثل تلك الحالات مع التأكيد
كتابةً على عدم قيام أي عقد في مرحلة التفاوض بل أن كل مايتم الأتفاق في شأنه في
هذه المرحلة لايعدو أن يكون أتفاقاً ممهداً([16])
2-المسؤولية
:
هذا الأمر يرتبط بالمسؤولية المترتبة على عدم الألتزام
بما تم التوصل إليه ،فأن كنا أمام عقد تمهيدي فأن المسؤولية تكون عقدية بكل
ماتعنيه هذه الصفة وما ترتبه من أثار في أثبات الخطأ والضرر وفي مدى التعويض، في
حين أن خرق الأتفاق التمهيدي لايثير المسؤولية العقدية، وأنما التقصيرية للطرف غير
الملتزم وبكل مايرتبه ذلك من أثار في أثبات وجود الألتزام والخطأ والضرر والرابطة
بينهما وفي مدى التعويض([17]).
ومن الناحية العملية ،فأن تقسيم التصرفات القانونية
السابقة على العقد الى عقود وأتفاقيات يتناسب مع متطلبات الكثير من العقود الحديثة
فكم من عقد في العمل يحتاج الى عقد أو عقود أخرى تمهد له ومن ذلك مثلاً شراء
العقار الذي يمهد له بعقد قرض يتم من خلاله توفير المبلغ أو جزء من المبلغ اللازم
للوفاء بثمن العقار،وكم من عقد يمهد له بأتفاق لا بعقد أخر ويكون مؤدى هذا الأتفاق
تأكيد ألتزام الأطراف بالتفاوض للوصول الى العقد النهائي(كعقود بيع المؤسسات
والشركات الكبرى) أو يكون هدفه تدوين أو تأكيد ماتم التوصل إليه في بعض مراحل
التفاوض ليكون ذلك أساساً ينطلق منه الى مراحل أخرى في سبيل الوصول في نهاية الأمر
الى العقد المقصود وهذا هو حال عقد دراسات الكومبيوتر والتزويد بالأنظمة
الألكترونية ،فلا تتوافر عناصر العقد المقصود الا من خلال هذه الأتفاقيات ،فقد لا
يبرم أي عقد في هذه المرحلة لأن الأطراف ذاتها ترغب في الحفاظ على حريتها خالية من
كل ألتزام عقدي([18]).
رأينا في الموضوع
نحن بدورنا نتفق مع هذا الأتجاه الذي يجعل المسؤولية
السابقة على التعاقد مسؤولية عقدية إذا وجدت عقود أولية ممهدة للعقد الأصلي
المنشود فأي أخلال أو خرق يقع في هذه المرحلة تحتضنه قواعد المسؤولية العقدية وأن
لم يبرم العقد الأصلي.
المطلب
الثاني
نظرية المسؤولية التقصيرية عن الخطأ
قبل التعاقدي
ذهب الكثير من الفقهاء الى أن فكرة المسؤولية التقصيرية
هي التي تحكم مرحلة التفاوض وتعد هي أسهل الوسائل وأيسرها تطبيقا على هذه المرحلة
لحجة مفادها أن أحكام هذه المسؤولية هي وحدها التي تطبق عند عدم وجود عقد([19]).
وحاول أنصار هذا الأتجاه تأسيس هذه النظرية على أساس فكرة التعسف([20]).
ولكن يبدو أن التمسك بالتعسف اساساً لهذه المسؤولية يستوجب وجود حق يتعسف المتفاوض
في استعماله وليس ثمة مثل هذا الحق([21]).
هذا وأن هذه النظرية ظهرت عندما لم يكتب لنظرية (الخطأ عند تكوين العقد)
النجاح في الفقه المعاصر وكان تكييفها للخطأ السابق على التعاقد بأنه خطأ عقدي
يثير المسؤولية العقدية لمرتكبه محل أعتراضات فمن ناحية أولى فأن هذه النظرية تجعل
قيام سبب البطلان في جانب المتعاقد خطأ حتماً رغم أن هذا المتعاقد قد يكون جاهلاً
كل الجهل قيام سبب البطلان في جانبه فالخطأ هنا أقرب الى فكرة تحمل التبعة([22]).
الا يجب أثباته طبقا لقواعد الخطأ التقصيري وفي الحالتين لن يكون خطأ عقدياً، ومن
ناحية ثانية أن هذه النظرية تجعل الألتزام بالتعويض موضوع تعهد ثانوي يقترن
بالتصرف الباطل ويبقى رغم بطلان هذا التصرف ليكون اساسا اراديا لتعويض الغير عن
الضرر الناشىء عن البطلان وهي تفترض بذلك قيام تعهد بالصحة في جميع العقود دون أن
يقوم دليل على ذلك([23]).
ومن ناحية ثالثة حتى لو سلمنا بأفتراض وجود هذا التعهد الثانوي بضمان صحة التصرف
الأصلي، فلا شك أن بطلان التصرف الأصلي سيؤدي الى بطلان هذا التعهد الثانوي أيضا
فينعدم بذلك سند تكييف المسؤولية بأنها عقدية والا فأن تجزئة البطلان في هذا الصدد
والقول بأنه ينصرف الى التعهد الأصلي فقط دون الثانوي هي تجزئة تحكمية غير مقبولة([24]).
وأخيراً فأنه حتى في الحالات التي يتضمن فيها القانون نصاً خاصاً يقرر المسؤولية
القانونية بالتعويض عن بطلان العقد فان المسؤولية ستكون قائمة بحكم القانون لا على
اساس التصرف الباطل([25]).
وفي ضوء هذه الأنتقادات نخلص الى أن المسؤولية قبل التعاقدية الناشئة عن الخطأ قبل
التعاقدي هي مسؤولية تقصيرية تستوجب التعويض ومن ثم يجب أن تستكمل دعوى التعويض
هنا أثبات عناصرالمسؤولية التقصيرية كافة من خطأ وضرر وعلاقة سببية ، وعلى هذا
أستقر الرأي السائد في الفقه الحديث لدى الشراح المصريين([26]).
وعلى هذا الأساس فأن المسؤولية التقصيرية للعقد في كل مرة يثبت فيها أقتران العدول
عن التعاقد أو مصاحبة بطلان العقد لخطأ أرتكبه أحد الأطراف المتفاوضة وألحق ضررا
بالأخر ، وعليه فأن الأعمال التحضيرية للعقد أو(مشروع العقد) التي تشمل مرحلة
المفاوضة ومرحلة أبرامه لاتعدوأن تكون عملاً مادياً ليس له أي أثر قانوني . أذن أن
هذه النظرية قد عدت مرحلة المفاوضات مجرد أعمال مادية ليست لها أي أثر قانوني أي
لا ترتب أي التزام على طرفي التفاوض ،فهي لا تلزمهم بضرورة التوصل الى أبرام العقد
محل التفاوض ، الا اذا قام أحد الأطراف بأرتكاب خطأ ونتج عنه ضرر لحق بالطرف الأخر
فأنه هنا تقوم المسؤولية التقصيرية عليه .
وهذه النظرية منتقدة أيضا لانها تجاهلت بأن ثمة ألتزامات
يمكن أن تنشأ في هذه المرحلة ناتجة عن مبدأحسن النية الذي يسيطر على هذه المرحلة([27]).
او ناتجة عن العديد من العقود التي قد تبرم بين أطراف التفاوض ويكون الغرض منها
تنظيم عملية التفاوض وأسباغ الصفة العقدية على مجرياتها وأبعد من ذلك قديتم توقيع
عقد الأتفاق على التفاوض بحيث تصبح عملية التفاوض ذات صفة عقدية بحتة([28]).
وبناءً على الأنتقادات التي وجهت لنظرية المسؤولية العقدية وكذلك نظرية
المسؤولية التقصيرية اندفع بعض الفقه للقول بوجود مسؤولية خاصة تلائم طبيعة
المرحلة السابقة على التعاقد ، وعليه سوف نتكلم عن هذا الأتجاه في المطلب الثالث .
([1]) د.صبري حمد خاطر ، قطع المفاوضات العقدية ،بحث منشور في مجلة كلية الحقوق ،جامعة
النهرين،المجلد الاول،العدد الثالث،1997 ص 130 .
([2]) ينظر في تسمية هذه
النظرية (بنظرية التقصير عند انعقاد العقد )(د.حلمي بهجت بدوي ،أثار التصرفات
الباطلة ،مجلة القانون والأقتصاد ،صادرة عن جامعة القاهرة ،السنة الثالثة ،رقم
11،ص386).وينظر في تسميتها (بنظرية الخطأ عند تكوين العقد )د.نزيه محمد الصادق
المهدي ، الألتزام قبل التعاقدي بالأدلاء بالبيانات العقدية،الطبعة
الأولى، دار النهضة العربية ،1982.
([3]) د.نزيه محمد الصادق
المهدي ،مصدر سابق ،ص302 ومابعدها .
([4]) د.نزيه محمد الصادق
المهدي ،المصدرأعلاه ،ص303.
([5]) د.عبد الرزاق
السنهوري ، الوسيط ، ،ص67 ، وكذلك د.جميل الشرقاوي ،النظرية العامة للألتزام ،
الكتاب الأول ، مصادر الألتزام ، دار النهضة العربية ،القاهرة ،1981،ص361..
([6]) د.سعد حسين الحلبوسي
، التفاوض في العقود عبر شبكة الأنترنيت بين القواعد
العامة في نظرية الالتزام،الضرورات العملية ، الطبعة الأولى،بغداد،2004.،ص37.
([7]) د.سعد حسين الحلبوسي
،المصدرأعلاه ،ص37.
([8]) ولمزيد من التفصيل
ينظر في هذه الأنتقادات ، د.سعد حسين الحلبوسي ،المصدر السابق ،ص 38 وكذلك ينظر د. سليمان براك ، المفاوضات العقدية، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية الحقوق،جامعة
النهرين،1998,،ص44،43.
([9]) د.سعد حسين الحلبوسي
،مصدر سابق ،ص39.
([10]) د.صبري حمد خاطر ،المصدر السابق ،ص130
([11]) ارتأينا عدم الذهاب
تفصيلاً في بحث هذه النظريات وأكتفينا بالأشارة اليها ولمزيد من التفصيل في شرح
هذه النظريات ينظر :د.نزيه محمد الصادق المهدي ،المصدر السابق ،ص304
د.محمود جمال الدين زكي ، مشكلات المسؤولية المدنية،الجزء الأول،مطبعة جامعة القاهرة،1978.،ص132،فقرة 29،هامش
60..
([12]) كانت أحكام المسؤولية التقصيرية في القانون الروماني لا
تغطي ما ينشأ من مسؤولية قبل أتمام العقد ،فما كان أمام أيرنج سوى أن يقوم بتغطية
هذه المرحلة بأحكام المسؤولية العقدية بفرض وجود عقد ضمني بين الأطراف خلال هذه المرحلة
.
يقول الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري أن هذه النظرية تعد من نظريات
الضرورة أضطراراً لما ضاق به القانون الروماني عن أن يتسع لحاجات التعامل ولم يعد
للتمسك بها مايبرره الأن ،مؤلفه الوسيط ، المصدر السابق ،ص677.
([13]) د.نزيه محمد الصادق المهدي ،مصدر سابق،ص304.
(1) د.جمال فاخر النكاس،العقود والأتفاقات
الممهدة للتعاقد واهمية التفرقة بين العقد والاتفاق في المرحلة السابقة على
العقد،مجلة الحقوق الكويتية، مارس ،1996،ص15،14.
([15]) كالقوانين ،الفرنسي والمصري والكويتي والعراقي التي تنظم أتفاقية العمل
الجماعية وأن أختلفت في تسميتها.
ينظر د.جمال فاخر
النكاس ،قانون العمل الكويتي المقارن ،1993،ص27.
([16])
د.جمال فاخر النكاس،المصدر
السابق،ص18.
([17]) د.سليمان مرقس ،الوافي في شرح القانون المدني ،ج2،الألتزامات،المجلد
الأول،نظرية العقد والأرادة المنفردة ،ط4،القاهرة ،1987،ص540ومابعدها
وكذلك ينظر:
د.فيصل زكي عبد الواحد ،المسؤولية المدنية في أطار الأسرة العقدية ،ط2،1992،ص147.
([18]) ينظر في تفصيل ذلك،هيلان عدنان الجبوري ، الأتفاقات السابقة على التعاقد،رسالة ماجستير مقدمة الى كلية الحقوق جامعة
النهرين،2004،ص44-45.
([19]) د.محمد حسام لطفي
،المصدر السابق ،ص58، وينظر أيضأ د.صبري حمد خاطر ،المصدر السابق ،ص131 وكذلك
د.جمال الدين زكي ،المصدر السابق ،ص135.
([20]) محمود جمال الدين
زكي ،مصدر سابق ،ص154،153.
([21]) د.صبري حمد خاطر
،مصدر سابق ،الصفحة نفسها .
([22]) د.عبد الرزاق
السنهوري ،الوسيط ،المصدر السابق ،رقم 311،ص38.
([23]) د.جميل الشرقاوي
،مصادر الألتزام ،المصدرالسابق ،ص261.
([24]) وهو ماذهب اليه
الفقه المصري من أن التفرقة بين العناصر الجوهرية للعقد والعناصر الثانوية وربط كل
عنصر بما يترتب عليه من أثر يكاد يكون مستحيلا ً،أذليس لتلك العناصر كم محدد
فالعقد أما أن يكون صحيحا تترتب عليه كل أثاره وأما أن يكون باطلا فلا يترتب عليه
أي أثر .
([25]) د.جميل الشرقاوي
،مصادر الألتزام ،مصدر سابق ،ص262.
([26]) د.عبد الرزاق
السنهوري ،الوسيط ،مصدر سابق ،ص678،محمود جمال الدين زكي ،المصدر السابق
،ص137،جميل الشرقاوي ،مصدر سابق ،ص262.
([27]) ينظر بهذا الموضوع
في مبدأحسن النية وتحديد الألتزامات الناشئة أثناء الفترة السابقة على التعاقد ,
د. نزيه محمد الصادق , المصدر السابق , ص 301
([28]) عدنان السرحان ونوري
حمد خاطر ،المصدر السابق ،ص91 وكذلك ممدوح مبارك ،المصدر السابق ،ص201.