إني
رأيت أنه لا يكتبُ إنسان كتاباً في يومِهِ إلا قال في غده : لو غُيّر هذا لكان أحسن.
ولو زيد كذا لكان
يُستحسن . ولو قُدم هذا لكان
أفضل
.ولو تُرك هذا لكان أجمل
. وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر
العماد
الأصفهاني
الإهـداء
إلى
رجال العلم والمعرفة سدنة
الحق وحماة القانون .
إلى
الذين نذروا أنفسهم لإقامة جلال وجمال العدل بين الناس .
إلى
رسل الإنسانية الحكماء والأطباء
إلى
رجال القانون في أرجاء هذا الوطن
العربي الكبير
أقدم
هذا الكتاب إجلالاً وتقديراً
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة افتتاحية
الأصل
في الإنسان أن يباشر حقوقه ويفي
التزاماته وفقاً لما يقتضي حسن النية .
فإذا اقترف ما يخلّ
بهذا المبدأ العام
الذي تفرضه الأصول ، عدّ أنه قد خرج عن الحدود والالتزامات التي رسمها القانون لتصرفات الفرد ، ذلك أن القانون لم
يترك الإنسان حراً في تصرفاته بحيث يؤذي الغير ويضرّه ، إنما نظم سلوكه وعلاقته مع
الأفراد بقواعد قانونية ملزمة ، رتب على مخالفتها المسؤولية
وعلى
أساس هذا الالتزام القانوني ، فرضت قيود على الحقوق الشخصية .
هذه القواعد تنظم نشاط
المرء الخارجي غير حافلة بنواياه المستترة لطالما أنها لم تأخذ مظهراً خارجاً يضر الغير
فالمرء
بتصرفه إذن ملزم وخاضع لقاعدة
السلوك
Régle de Conduit فهو
ملزم أن يراعي هذه القاعدة ، فإذا حاد عن قواعد الأخلاق مثلاً فقد ارتكب خطأ أخلاقياً يحاسب
عليه أمام ضميره وأمام الله ، فهو بالتالي
مسؤول مسؤولية أدبية ولا شأن للقانون فيه .
أما إذا كان الخطأ الذي اقترفه قد خالف به حدود القانون ، معناه أنه
أخل بقاعدة قانونية ، وبالتالي فقد أضر بحقوق الغير ، فيعتبر بهذه الحالة مسؤول
مسؤولية قانونية
.
فالخطأ بحسب هذا المفهوم إذن : هو الإخلال بالتزام سابق
Un
manquement à une obligation préexistante
وعدم
الخطأ في التصرف ، هو السلوك السليم . والسلوك السليم : هو ما كان يجب على المرء أن يقوم به أثناء تصرفه
، أي : هو السلوك المجرد عن الخطأ .
أما السلوك الخاطئ : هو
السلوك الذي ما كان على المرء أن يسلكه ، أي : هو السلوك المخلّ بالقاعدة القانونية.
والمرء
بصناعته أو مهنته يتطلب منه أثناء مزاولتها
أن يتقيد بالقواعد القانونية .
فالمحامي على الرغم من
أنه يجب عليه مراعاة
قواعد مزاولة المهنة ، فهو خاضع للقواعد العامة في المسؤولية ، فهو إذ يعتمد على الثقة يعتبر في الوقت ذاته ولي أمر الدعوى Patron du
client أو سيد الدعوى Deminus litis وهو وإن كان لا يسأل عن آرائه وإرشاده ما دام
أنه مدفوعاً في السير بالدعوى
بطريقها المأمون بحسن نية ، ولو نتج عن نصحه ضرر فلا مسؤولية عليه
إنما
إذا أخطأ في تقدير الدعوى تقديراً قانونياً بما لا يصح أن يصدر عمن يتولى الدفاع بين الناس فقد حق عليه التعويض ،
فهو في هذه الحالة مسؤول مسؤولية مدنية .
وكذلك
الطبيب الذي يصدر عنه خطأ أو تقصير أثناء ممارسته لمهنته تجاه المريض الذي يتولى علاجه فهو مسؤول عنه
ويترتب
على هذه المسؤولية إلزامه بالتعويض
عما ألحقه من ضرر .
ولئن كانت مسؤولية
الطبيب تدخل في نطاق المسؤولية عن
الأخطاء المهنية ، بيد أن جرأة الأطباء واستخفافهم بواجبهم ، وعدم رعايتهم قواعد الفن ، جعلت المحاكم تأخذهم بالقسوة ، حماية
للجانب الضعيف الذي يصعب عليه إثبات الخطأ .
وهل
معنى ذلك أن خطأ الطبيب خطأ مفترض ؟ وهل
يسأل عن الخطأ الخفيف أم الخطأ
الجسيم ؟ وما
هي المسؤولية عن الأخطاء التي لم يكن قوامها علم الطب ؟
وهل يسأل الطبيب عنها
على أساس المسؤولية العقدية لإخلاله بالتزام التبصر واليقظة ؟
وهل أن المسؤولية عن الأخطاء
الطبية بمعناها الفني إنما هي مسؤولية تقصيرية ، ويشترط فيها أن يكون الخطأ جسيماً ؟
وما هو معيار هذا الخطأ ؟ وهل هناك قواعد
ضابطة لمسؤولية الطبيب ومداها
وما
هو موقف الشريعة الإٍسلامية والشرائع السابقة من هذه المسؤولية ؟
وهل رتبت أي مسؤولية
على الطبيب . وما هو مركز هذه المسؤولية
في القانونين السوري والفرنسي
كل
هذه الأمور سنحاول أن نميط اللثام عنها
في كتابنا هذا فنعالج مسؤولية الطبيب في الحدود التي رسمها القانون والاجتهاد ،
ونقارنها بالتشريعات القديمة والحديثة في الفقه الفرنسي والفقه السوري والمصري
كل
ذلك خدمة لمفهوم الحق الذي استق من اسم الحق ، المطلع على عباده في تواصيهم بالحق ، وتواصيهم بالصبر على أداء الحق
وأي
حق أجدر بالبحث من حق الإنسان المتصل
مباشرة في حياته
؛ فحق المريض تجاه الطبيب إنما هو الحرص على سلامته ومساءلة الطبيب عن الخطأ فيما يلتزم به من عناية وتبصر
، ذلك وإن كان الطبيب لا يلتزم بشفاء المريض، إلا أنه يتضمن التزامه بأن يبذل
جهوداً خاصة مصدرها الضمير ، ومؤادها اليقظة ومطابقتها ـ في غير الأحوال
الاستثنائية ـ للأصول العلمية الثابتة وهي الأصول المستقر عليها لدى أهل هذا العلم .
فمسؤولية الطبيب فرضت
حماية لحياة الإنسان
من الاستهتار بها ، فقواعد المسؤولية إذا أحاطت المرء ، إنما قصد منها التشديد على سلوك المرء في تصرفاته وأعماله
أثناء مزاولته لمهنته
فكل
امرئ
مسؤول أمام القانون إذا
تجاوز الحدود المرسومة فيه ، فألحق الضرر بالغير أثناء مزاولته لأي عمل ، ففي هذه الحالة حقت عليه
المسؤولية ، وفرض عليه الجزاء وهو التعويض
فالمسؤولية
إذ تلازم فكرة الحق فهي تنتهي لتلك الفكرة وأساس تقنينها وتطبيقها . ولئن كانت المسؤولية قديمة قدم
الحق إذ نشأت إلى جانبه إنما تتردد اليوم على لسان كل إنسان في الدفاع عن حقه ، لطالما
عرف هذا الإنسان حقوقه .
والمرء
إذ
يسأل عن الحدود التي
ترتب عليه المسؤولية إذا تجاوزها ، فهو إذن يبحث عن المدى الذي يطال به القضاء ويفرض عليه المسؤولية . فهو
بهذا يسأل عن حماية نفسه وحماية غيره
يسأل
عن الالتزامات المترتبة عليه ، والنتيجة المباشرة التي رتبها عليه القانون ، فهو بكلمة حقه يبحث عن الحق فيعرف
حده ويقف عنده
.
هذا الحق الذي لا ينسب إلى شيء ينسب إليه ، وهو الذي لا يحمل
على شيء ، إنما كل شيء يحمل عليه . وهو متفق من كل وجه يطرب به الراضي ويقنع به
الغضبان . مشرق في نفسه ، موثوق بحكمه ، معمول بشرطه ، معدول إلى قضيته ، عليه أقام
الله الخلق , وبه قبض وبسط وأحكم وأقسط
مقدمة الطبعة الثالثة
صدرت الطبعة الأولى من
المسؤولية المدنية للطبيب في
عام /1966/ ، كما صدرت الطبعة الثانية منها في عام /1975/ .
وقد كان لاستقبال هذا الموضوع الأثر البالغ في نفوس رجال البحث
العلمي من علماء القانون وعلماء الطب أذكر منهم على سبيل الشكر والاعتزاز ما كرموني
به بما قالوه عنه :
« أنه مؤلف ينم عن كفاءة علمية واسعة وقد أثنى على مؤلفه
وأستشهد ببعض آرائه الدكتور سليمان مرقص
في محاضرة ألقاها في حلب بعنوان ضبط معيار المسؤولية »(1) .
كما
أذكر مما قالوه
أيضاً
« أطلعت على كتاب مسؤولية الطبيب المدنية لمؤلفه
الأستاذ عبد السلام
التنجي فإذا به درة فريدة ثمينة المادة عميقة الجوهر فياضة المعين بالغة الاتقان تشّرف المؤلف الكريم وتشهد له في
اليقظة الفكرية ، وسعة الإطلاع ، وتجعل من كنـزه هذا المرجع الشرعي المعاصر العربي
الأوحد في هذا الموضوع الخاص وخاصة أن الأستاذ التنجي أستاذ جامعي أجاد بشرح موضوعه
ببلاغة رجل القانون المضطلع ، ودقة القاضي
المتشرع والمتفهم أسرار القضاء ولغته الخاصة » (1) .
هذا وقد عزمت على إعادة طبع هذا المؤلف بعد أن نفذ من الأسواق
نزولاً عند رغبة رجال القانون من محامين
وقضاة اسهاماً منا في سد فراغ هذا الموضوع من المراجع العلمية العربية، وخاصة فيما يعرض على القضاء من قضايا دقيقة في
نطاق مسؤولية الطبيب وما تعتريها من وجوب
ضبط معيار هذه المسؤولية تبعاً لاتساع شمولها في التطبيق العملي في الحياة وما يتعرضها من مشاكل ، يقف الأطباء حيارى أمامها
، سواء في نطاق البحث العلمي الأكاديمي
، أو في نطاق التطبيق العلمي وخاصة إزاء أمراض جديدة لم تكن معروفة من قبل وتحتار تجاهها القضاة في تحقيق المسؤولية .
هذا
وقد استعرضت في هذه الطبعة ما
عرض على القضاء بشكل عام قضايا عديدة لتحديد المسؤولية عن الأخطاء المرتكبة ومداها بدءاً من فحص المريض وتعيين المرض
وإعطاء التقارير الطبية وكشف الخطأ في التشخيص تبعاً لتشابه الأعراض أو في إفشاء سر
المهنة وغيرها وانتهاء بأخطاء الطبيب المخدر المفضية إلى الموت ، أو مساءلة الجراح
إزاء نقل الأعضاء أو ارتكاب الخطأ في زرعها إلى غير ذلك من قضايا في غاية التعقيد .
كل
هذه الأخطاء تدور مع علتها وجوداً
وعدماً حول تعيين المسؤولية عنها من جهة ، وتحمل عبء الإثبات من جهة ثانية إذ المعروف تبعاً للقاعدة العامة أن عبء
الإثبات في الأصل يقع على المدعي ، ولكنه في موضوع مسؤولية الطبيب قد يقف المدعي أمام
معطيات علمية يجهلها فيكون حائراً أمامها
، إذ لا يستطيع أن يثبت تقصير الطبيب وخروجه عن الأصول الفنية للسلوك الواجب الاتباع سواء في مجال التداوي أو في مجال
الجراحة . .
لهذا
فإننا نرى أن بعض الدول العربية
قد استجابت حركة التشريع فيها لهذا الاتجاه ، تبعاً للجانب الضعيف وهو المريض ، فنقلت عبء الإثبات من المدعى إلى
المدعى عليه ، وذلك بأن يثبت أن التزامه كان متفقاً مع الأصول الفنية والسلوك الواجب
الاتباع ، وإن الخطأ الواقع لم يكن ناجماً
عن سلوكه بل إنه من الغير وهذا ما اتجه إليه فقهاء القانون لمعرفة حقيقة الوضع في معالجة الأمراض وإيجاد الحلول
القانونية لمعرفة مدى مسؤولية الطبيب عن الأخطاء ، الناجمة عن السلوك الخاطئ ، طالما
قد ألحق الطبيب ضرراً بالمريض مهما اتسم
وصف هذا الخطأ سواء كان بسيطاً أو جسيماً ولا سيما إزاء التطور المزهل في الاكتشافات الحديثة للأمراض المستعصية
المجهولة السبب التي ظهرت والتي لم تكن معروفة من قبل، وخاصة في عالم متطور يتقدم
اليوم بسرعة مزهلة تكنولوجياً وعلمياً وقانونياً .
ولا
شك أن هذا في نظري ونظر كل منصف يدعوه أن يقرر : أن صياغة صحة الإنسان من أقدس الواجبات الملقاة على عاتق
الطبيب في ظل تشريع متطور وقضاء عادل حريص على إحقاق حقوق المرضى المتهافتين على
أبواب الأطباء ، بغية إنقاذهم من أمراضهم
وتعويضهم عن الأخطاء المرتبكة من قبل الأطباء المستهترين منهم بمرضاهم والبعيدين عن الروح العلمية والرسالة الطبية ،
وخاصة في وجوب سلوكهم المهني اليقظ الواجب
تحقيقه
.
هذا
وبما أن القانون المدني مرآة لحضارة الشعوب فإنه من المسلم به ، أنه يتضمن القيم والمفاهيم التي يحترمها
المجتمع ، ويسهر على تطبيقها ، وخاصة في نطاق المسؤولية إذ هي ميزان الحق ومركز
التوازن في الحياة ، وعلى الأخص إذا كان الحق متصلاً بحياة الإنسان مباشرة ، وهذا ما
يوجب على الدول تبعاً لضمانات الحياة البشرية أن تنشئ صندوقاً للتأمين ، لضمان
الأخطاء التي تصدر عن الأطباء في سلوكهم المهني ، والتي تشارك في دعمه تبعاً لمساهمة
كل طبيب قائم على عمله ، وذلك بدفع جعالات
سنوية بحيث يغطي صندوق التأمين التعويضات التي سيحكم بها على أي طبيب يلحق الضرر بالمريض . وهذا ما تضمنه تشريع
الجماهيرية العربية الليبية
هذا
وإني من منظور
المحافظة على صحة الإنسان المقدسة وحماية لها من أن يكون جسم الإنسان حقل تجارب للأطباء حرصت على التوسع في موضوع
المسؤولية وحددت ضوابط ومعايير هذه المسؤولية
، كي يكون الأطباء في منأى عن الدعاوى التي قد يتعرضون لها ، فضلاً عن عدم جواز استخدام وسائل الإعلام التي تنال
منهم قبل صدور حكم مبرم يقضي بإدانتهم ، وإلا لحدّ من حماس الأطباء في معالجة مرضاهم ،
إذ الأطباء بشر غير معصومين عن الأخطاء
، وقد أعرب الأطباء عن قلقهم خيال ملاحقاتهم قضائياً في مؤتمر عقد في باريس بتاريخ 29/10/1972 طالبوا فيه بسن تشريع خاص
بهم، يكون استثناء من القواعد العامة لحمايتهم مما قد يتعرضون له من مسؤوليات
المخاطر التي قد يتعرض لها مرضاهم (1) .
هذا
وقد أعرب رجال القانون على أن مطالب الأطباء لا تخلو من أساس إنساني ، وهم يدركون أن من واجب القضاء أن ينظر في الدعاوى
التي تقام على الأطباء على أنها مشكلة تتطلب حلاً واقعياً منصفاً ، كما أعربوا عن
مشاعرهم هذه في المؤتمر المذكور إذ جاء تقريرهم في ختام مؤتمرهم
« أن الأطباء القانونيون يدركون الحرج الذي يقع » « فيه الطبيب حيال مريض جاء في حالة خطرة، » فهل يرفض معالجته بحجة أن المرض أقوى من »
« إمكاناته الفنية ، وفي
هذه الحال يمكن أن يتعرض » « إلى ملاحقة «جزائية
، أم يبذل له عناية أقل مما » تتطلبه حالته «ليتفادى المتاعب ، فيتعرض كذلك » « إلى المساءلة (1)» .
على أن العميد سافاتيه
يقول
« إن الطبيب الصالح لا يفكر كثيراً في المسؤولية القانونية كما أن القضاء يفرق بين خطأ وخطأ، إذ» « يدرك أن التشريد في
مساءلة الأطباء يهدد المهنة » « الطبية إذا يحجمون عن تلبية دعوة المرضى أو معالجتهم ، كما أن الاتجاه البين من القضاة الذي » « تسير فيه أحكامها في الدعاوى لا يمكن
أن تهمل » «حالات الخطأ الذي لا يغتفر
بل إن الأطباء أنفسهم» « يستنكرون غفرانها من قبل رجال القانون
في
ضوء
هذه المعطيات القانونية
وإزاء المبادئ القانونية العادلة المستقرة فقد طرحنا مسؤولية الأطباء في هذه الطبعة الحديثة في
أفقها الواسع ، التي لا تجنح إلى تحديد مسؤولية الطبيب نتيجة ارتكابه للخطأ فحسب ، بل
توازناً مع صيانة حقوق المرضى ضحايا الإهمال
أو الاستهتار ، المتمثلة في عدالة واعية ، لابدّ من تطبيقها إنصافاً لحقوق الطرفين دون مغالاة أو شطط ، وتمشياً مع
النصوص القانونية الراهنة والآراء الفقهية المعززة بالاجتهادات القضائية ، كل ذلك حرصاً
على تحقيق الرأي العلمي واعتماده وحرصاً
منا على حماية الأطباء من أن يتعرضوا لدعاوى كيدية بعيدة عن هدف العدالة والإنصاف، كل ذلك لتبقى مهنة الطب رسالة سامية
هدفها تحقق شفاء المرضى من العلل التي
تشكو منها بدافع إنساني علمي ، تحقيقاً لغايات سامية بحيث لا يبقى الطبيب بمنأى عن التداخل أو التعرض لدعاوى خلبية
غايتها التشهير والابتزاز
هذا
وقد
تعرضت في هذه الطبعة
الثالثة لمفاهيم المسؤولية المدنية عامة وتأصلها في الشريعة الإسلامية كي تكون مناراً يهتدي بها في ترسيخ قواعد المسؤولية المدنية للطبيب وإني لأرجو أن أكون في هذا المؤلف بثوبه الجديد قد
وفّيت الغرض خدمة للحق والعدالة والله من وراء القصد
تمهيـد
لقد
بلغ القانون في العصر الحديث ذروته ، وتوسعت مفاهيمه وأبحاثه وأضحت الشرائع الحديثة
تواكب التطور الملحوظ في المجال العلمي
بعد أن تقدمت المخترعات وازدهرت الصناعات وظهرت نظريات علمية تناولت مجالات لم تكن معروفة من قبل ، وبديهي أن يكون لهذا
التقدم الأثر الفعال في تعديل معظم الشرائع
طبقاً لنواميس الرقي في كافة المجالات مما اضطرت معظم الدول إلى تعديل شرائعها وإقرار مبادئ قانونية تتمشى مع هذه
النهضة
.
إزاء هذا التوسع
والتعديل في
المباحث القانونية والتشريع نشأت نظريات جديدة وإن كان لها بعض التأييد في النصوص القديمة ، كنظرية التعسف باستعمال الحق
التي نص عنها القانون المدني السوري في
المادة (6) التي لا تجيز استعمال الحق إلا ضمن الحدود التي رسمها القانون ، فهي لا تجيز للمرء استعمال الحق لغرض غير مشروع ،
كأن يكون إرواء لشهواته ، أو إرضاء لنزواته
، أو لإلحاق الضرر بالغير دون أن تكون هناك مصلحة ظاهرة في استعمال حقه ، أو أن تكون المصالح التي يرمي إلى تحقيقها
قليلة الأهمية ، بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها ، فإذا نشأ عن
فعله ضرر أصبح مسؤولاً ويتوجب عليه التعويض
كما
ظهر إلى جانب هذه النظرية نظرية تحمل التبعة (RISQUE) .
ولقد كان لهذه النظرية الأهمية الكبرى في نطاق
المسؤولية
.
والى جانب هذه فقد ظهر أيضاً في التشريع الحديث دعاوى لم تكن معروفة
من قبل ، كالدعوى البوليانية ، والغير مباشرة ، ونظرية الظروف الطارئة ، ونظرية
الضمان ، تحمل التبعة (RISQUE) التي أفسحت المجال
لتقرير الحكم بالتعويض دون أن تبحث في ثبوت صدور الخطأ عن المسؤول، بل اعتبرت أن الخطأ مفروض ، وقد ظهر لهذه النظرية
دراسات خاصة ، منها كتاب حوادث العمل ، والمسؤولية المدنية
للعلامة (سالي) المطبوع في باريس عام /1887/ ، وكتاب مسؤولية الأشياء المطبوع في فرنسا للعلامة (جوسران) .
ولئن كانت هذه النظريات
أو المبادئ الحديثة
مدار اهتمام المشرعين والباحثين ومع ذلك فإنهم لم يكونوا سباقين إليها ، فقد سبقهم عندنا الفقهاء حيث أسسوا مذاهبهم
واجتهاداتهم على قواعد ومبادئ منطقية سليمة ، حققوا بها العدالة منسجمة مع واقع كل
عصر باسم المصالح المرسلة ، أو الاستحسان
، والرأي ، والقياس ، و الإجماع ، وقد كان لتراث الشريعة الإسلامية فخراً كبيراً تدل على عبقرية الفقهاء الفذة ، بحيث
دعت كبار العلماء الغربيين أن يفاخروا بها ، ويشيدوا بمجد التشريع الإسلامي ، مما
دعا الأستاذ (لامبير) في المؤتمر الدولي لمقارنة القوانين الذي انعقد في مدينة لاهاي
عام /1932/ أن يشيدوا بمحاسن هذه الشريعة
الغراء ، كما شعر بهذا الشعور معظم الدول الأوربية المتمدنة ، فلم يبحثوا في نظرية قانونية سواء أكان في باب الأصول أو
القانون إلا ووجدوا لهذه النظرية شبهها
في التشريع الإسلامي . وهذا التشريع لا نجده في أي مسألة تعرض إلا ولها حل وحكم عنده حتى تجاوز إلى التشريع في
المستحيلات العادية على فرض وقوعها .
وهذا الفيض التشريعي الذي زخرت به عقول مشرعي الأمة
كان مصدره القرآن والسنة ، إذ أن عدد الآيات التي هي أصول الأحكام في القرآن بلغت
مائة وعشرين آية ، وعدد الأحاديث التي هي أصول الأحكام خمسمائة حديث منتشرة في أربعة
آلاف حديث ، بيد أن أصول الشريعة لا تقتصر
على هذين المصدرين
فالشريعة
الإسلامية مرنة ، ونحن نجد أن طبقات المشرعين
في كل عصر ظلوا يطبقون الأحكام على النوازل ، ثم انتقلوا إلى جانب ما يستمدون أحكامهم منه القرآن والسنة ، إلى
روافد أصحاب المذاهب والفرق ، يطبقونها في كل عصر على ما تقتضيه عادة أهل العصر .
حيث جعلوا العادة شريعة
محكمة ونصوا على أن
العرف له اعتبار في الشرع يتغير بتغير الأحكام به بمقتضى الزمان ؛ وقد أجاز الفقهاء المتأخرون ذلك حجة منهم في إجازتها
لرفع الحرج عن الأمة ، عملاً بالقاعدة والأصل في الأمر أن الاجتهاد مصدر من[
ما جعل عليكم في الدين
من حرج ]القرآنية مصادر الشريعة ، عملاً بحديث سيدنا معاز أن
النبي لما أرسله إلى اليمن قال له : بم
تقضي ؟ قال : بكتاب الله . قال : فإن لم تجد ؟ قال بسنة رسول الله . قال : فإن لم تجد ؟ قال أجتهد برأي . فأقره (1). وكان
أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يقضي
به ، قضى به ، وإن لم يجد، نظر في سنة رسول الله ، فإن أعياه ذلك ، سأل الناس : هل علمتم أن رسول الله قضى به بقضاء ؟ فربما قام إليه القوم فيخبرونه ، فإن لم يجد سنّة سنّها
النبي ، جمع رؤساء
الناس فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به . وكان
عمر يفعل ذلك ، فإن
أعياه أن يجد في الكتاب والسنة ، سأل عن عمل أبي بكر فيه ، وإلا ، جمع رؤساء الناس واستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء
قضى به (1).
وهكذا نجد أن الشريعة الإسلامية قد أحاطت بكل كبيرة وصغيرة فكيف
تضّل أمة هذا تشريعها وقد خلف لها الرسول الأعظم تراثاً رائعاً ومجداً عظيماً
حيث
قال
: خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما ، كتاب الله وسنتي » . رواه البخاري (2)
وإننا إذ نقول أن الشريعة الإسلامية لم يشبها
أي
قصور في إدراك الأحكام
وإيجاد الحل لها مهما تبدلت الأزمان ، بل نجد أنها فاقت حتى التشريع الحديث ، ففي نطاق المسؤولية تخلف
التشريع الحديث عن مسألة من يمتنع عن إسقاء رجل عطشان ، في حين أن الشريعة
الإسلامية نصت
: أن رجلاً أتى أهل ماء فاستقاهم فلم يسقوه حتى مات عطشاً ، فأغرمهم
سيدنا عمر في هذه الحادثة دية الميت (3) . كما أن أبو بكر كان يعوض عن الضرر من بيت المال إذا أخطأ عماله في سبيل القيام بواجبهم ، في حين أن عمر بالنسبة
للأخطاء التي يقترفها عماله يرى الاقتصاص منهم ويقول : إني لم آمرهم بالتعدي فهم أثناءه يعملون لأنفسهم لا لي
وعلى
هذا أخذ من ظهر عليه الخطأ منهم بالمسؤولية الشخصية . كما روى أيضاً عن عمر ، أنه أوجب التعويض على السيّد عن أعمال
تابعه ، واعتبر السيّد مسؤولاً عن خادمه(1)
وهكذا
نجد أن الشريعة الإسلامية سمت في حفظ الحقوق ومساءلة الناس عنها حتى أنها حفظت الحيوان من الاعتداء ، ورتبت
المسؤولية على المعتدي . فقد ورد في
تاريخ ابن الجوزي عن المسيب بن دارم قال : رأيت عمر بن الخطاب يضرب جّمالاً وهو يقول حمّلت جملك مالا يطيق
وفي
تنقيح الحامدية عن البزازية أن ضارب الحيوان على وجهه يخاصم مطلقاً ،وضاربه على غير وجهه
للعثار يخاصم أيضاً لا للنفار قال
لأن
الشارع نهى عن الضرب على الوجه ، لأن العثار من سوء إمساك الراكب اللجام ، لا من الدابة ، فينهي في هاتين الحالتين عن
ضربه ، أما النفار فمن سوء خلق الدابة فتؤدب على ذلك (1) .
هذا
الينبوع الفوار في التشريع الإسلامي الذي كان مرد فخر حضارتنا واعتزاز الأخلاف عن الأسلاف ، إنما
كان مصدراً لجميع أبواب القانون ، وأصوله
في الفقه الإسلامي
إلى جانب ما ذكرناه فقد عالج الفقهاء نظرية
السبب فقالوا
: إن السبب هو الغرض المباشر المقصود في العقد ، وإن كل تصرف أو عقد يجب أن يكون له سبب ، أما إذا كان الأمر مجرد وعد بلا
تعليق أو سبب ، فالوفاء به غير لازم شرعاً،
وإن كان لازماً في شرعة الأخلاق ، وهذا معنى نظرية السبب الحديثة
وقد أوضحوا أن من شروط السبب ألا يكون واجباً على
المتعاقد بدون العقد ، فلو استأجر إنسان
خادمه الخاص للقيام بعمل معين يدخل في نطاق عمله باعتباره خادماً خاصاً ، كانت الإجارة باطلة لعدم قيامها على سبب ، ما
دام العمل المستأجر عليه واجباً بدون عقد الإجارة على المتعاقد الآخر
وإنه
يجب أن يستمر قائماً حتى يتم التنفيذ فإذا زال السبب فسخ العقد لأنه يصبح بلا أساس
، فإذا استأجر أرضاً للانتفاع بزراعتها
فأصبحت غير قابلة للزراعة لانقطاع الماء عنها ، أو داراً يسكنها فانهدمت ، ففي هاتين الحالتين وسواهما نحد ، أن سبب
العقد الصحيح أصبح غير قائم ، وتكون النتيجة
انفساخ العقد وانتهاؤه لزوال سببه (1).
كما
اشترطوا أن يكون السبب مشروعاً
كما هو الشأن في الفقه الحديث ، فإذا كان موضوع العقد صحيحاً ومباحاً شرعاً لكن السبب ليس بمشروع ، فالعقد باطل ، كتأجير
دور الدعارة ، أو بيع أدوات الميسر ، أو بيع السلاح لقاطع الطريق مع علم البائع ،
فكل هذه العقود غير صحيحة لعدم مشروعية السبب (2) .
كما
عالج الفقه الإسلامي نظرية الكسب غير المشروع وهي نظرية الإثراء بلا سبب ، فوضعوا القواعد التالية : عن الإمام أحمد ومالك : أن العمل النافع الذي يكون الإنسان دائناً لغيره يجيز
له المطالبة بأجر ما دفع ، فإذا عمّر شخص قناة لغيره ، أو أصلحها بغير إذنه ، فإن
له الأجر على ما عمل ، وهو أجر المثل ، وهكذا كل من فعل فعلاً يحفظ به مال الغير
ويصونه ، كان له أن يرجع عليه بأجر مثله . كما
يقرر أصحاب مالك أيضاً ، بأن من استلم شيئاً أو وجد تحت يده شيئاً أو مالاً بدون سبب مشروع يبين وجوده تحت يده ،
وأثرى فيه ، يجبر على رده على نفقته إلى من أثرى على حسابه (1). أما
في أحكام المسؤولية فقد اعتبرت الشريعة الإسلامية أن من قتل]المسؤولية المالية لا تتوقف على القصد أو
التمييز بدليل قوله تعالى : .[مؤمناً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة لأهله فقد جاء النص مطلقاً ولم يشترط [
وكل إنسان ألزمناه
طائره في عنقه ]التمييز والأهلية بدليل قوله تعالى : .
فالصبي الذي يتلف مال
الغير يلزمه الضمان من ماله ولو كان غير مميز ، وهو قول الجمهور من السلف والخلف ، ومرد ذلك أن
المسؤولية المالية لا تتوقف على التمييز أو القصد ، فالإنسان إذن مسؤول عن تصرفاته الضارة
للغير منذ ولادته ، وهذا متفق عليه (2).
ومنهم
من قال : إن المباشر ضامن ولو لم يقصد إذ قال الإمام ابن رشد الحفيد :
« أن الأموال تضمن عمداً
وخطأ في مسائل الإتلاف بالمباشرة »
وهذا
الحكم قال
به جمهور أصحاب المذاهب : فالمباشر ضامن وإن لم يتعمد(1) هذه بعض الأحكام الفقهية في الشريعة ويطول في المقام
لو نقلتها أو استقصيتها ، بيد أني عرضت جزءاً يسيراً منها لمقارنتها بأحكام التشريع
الوضعي كمقدمة عامة . وهي لا تخلو أن تكون فكرة عامة عن المسؤولية التي أرست
قواعدها الشريعة الإسلامية ، وسأتناول أركانها وأحكامها بشكل عام فيما بعد ، لتكون
مدخلاً إلى مسؤولية الطبيب باعتباره مرجعاً
تخصصياً ، يرسم سلوك الطبيب اليقظ والواجب الاتباع معززاً بالآراء الفقهية والاجتهادات القضائية ، كل ذلك في ضوء الشريعة
الإسلامية والقانون المقارن
رأيت أنه لا يكتبُ إنسان كتاباً في يومِهِ إلا قال في غده : لو غُيّر هذا لكان أحسن.
ولو زيد كذا لكان
يُستحسن . ولو قُدم هذا لكان
أفضل
.ولو تُرك هذا لكان أجمل
. وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر
العماد
الأصفهاني
الإهـداء
إلى
رجال العلم والمعرفة سدنة
الحق وحماة القانون .
إلى
الذين نذروا أنفسهم لإقامة جلال وجمال العدل بين الناس .
إلى
رسل الإنسانية الحكماء والأطباء
إلى
رجال القانون في أرجاء هذا الوطن
العربي الكبير
أقدم
هذا الكتاب إجلالاً وتقديراً
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة افتتاحية
الأصل
في الإنسان أن يباشر حقوقه ويفي
التزاماته وفقاً لما يقتضي حسن النية .
فإذا اقترف ما يخلّ
بهذا المبدأ العام
الذي تفرضه الأصول ، عدّ أنه قد خرج عن الحدود والالتزامات التي رسمها القانون لتصرفات الفرد ، ذلك أن القانون لم
يترك الإنسان حراً في تصرفاته بحيث يؤذي الغير ويضرّه ، إنما نظم سلوكه وعلاقته مع
الأفراد بقواعد قانونية ملزمة ، رتب على مخالفتها المسؤولية
وعلى
أساس هذا الالتزام القانوني ، فرضت قيود على الحقوق الشخصية .
هذه القواعد تنظم نشاط
المرء الخارجي غير حافلة بنواياه المستترة لطالما أنها لم تأخذ مظهراً خارجاً يضر الغير
فالمرء
بتصرفه إذن ملزم وخاضع لقاعدة
السلوك
Régle de Conduit فهو
ملزم أن يراعي هذه القاعدة ، فإذا حاد عن قواعد الأخلاق مثلاً فقد ارتكب خطأ أخلاقياً يحاسب
عليه أمام ضميره وأمام الله ، فهو بالتالي
مسؤول مسؤولية أدبية ولا شأن للقانون فيه .
أما إذا كان الخطأ الذي اقترفه قد خالف به حدود القانون ، معناه أنه
أخل بقاعدة قانونية ، وبالتالي فقد أضر بحقوق الغير ، فيعتبر بهذه الحالة مسؤول
مسؤولية قانونية
.
فالخطأ بحسب هذا المفهوم إذن : هو الإخلال بالتزام سابق
Un
manquement à une obligation préexistante
وعدم
الخطأ في التصرف ، هو السلوك السليم . والسلوك السليم : هو ما كان يجب على المرء أن يقوم به أثناء تصرفه
، أي : هو السلوك المجرد عن الخطأ .
أما السلوك الخاطئ : هو
السلوك الذي ما كان على المرء أن يسلكه ، أي : هو السلوك المخلّ بالقاعدة القانونية.
والمرء
بصناعته أو مهنته يتطلب منه أثناء مزاولتها
أن يتقيد بالقواعد القانونية .
فالمحامي على الرغم من
أنه يجب عليه مراعاة
قواعد مزاولة المهنة ، فهو خاضع للقواعد العامة في المسؤولية ، فهو إذ يعتمد على الثقة يعتبر في الوقت ذاته ولي أمر الدعوى Patron du
client أو سيد الدعوى Deminus litis وهو وإن كان لا يسأل عن آرائه وإرشاده ما دام
أنه مدفوعاً في السير بالدعوى
بطريقها المأمون بحسن نية ، ولو نتج عن نصحه ضرر فلا مسؤولية عليه
إنما
إذا أخطأ في تقدير الدعوى تقديراً قانونياً بما لا يصح أن يصدر عمن يتولى الدفاع بين الناس فقد حق عليه التعويض ،
فهو في هذه الحالة مسؤول مسؤولية مدنية .
وكذلك
الطبيب الذي يصدر عنه خطأ أو تقصير أثناء ممارسته لمهنته تجاه المريض الذي يتولى علاجه فهو مسؤول عنه
ويترتب
على هذه المسؤولية إلزامه بالتعويض
عما ألحقه من ضرر .
ولئن كانت مسؤولية
الطبيب تدخل في نطاق المسؤولية عن
الأخطاء المهنية ، بيد أن جرأة الأطباء واستخفافهم بواجبهم ، وعدم رعايتهم قواعد الفن ، جعلت المحاكم تأخذهم بالقسوة ، حماية
للجانب الضعيف الذي يصعب عليه إثبات الخطأ .
وهل
معنى ذلك أن خطأ الطبيب خطأ مفترض ؟ وهل
يسأل عن الخطأ الخفيف أم الخطأ
الجسيم ؟ وما
هي المسؤولية عن الأخطاء التي لم يكن قوامها علم الطب ؟
وهل يسأل الطبيب عنها
على أساس المسؤولية العقدية لإخلاله بالتزام التبصر واليقظة ؟
وهل أن المسؤولية عن الأخطاء
الطبية بمعناها الفني إنما هي مسؤولية تقصيرية ، ويشترط فيها أن يكون الخطأ جسيماً ؟
وما هو معيار هذا الخطأ ؟ وهل هناك قواعد
ضابطة لمسؤولية الطبيب ومداها
وما
هو موقف الشريعة الإٍسلامية والشرائع السابقة من هذه المسؤولية ؟
وهل رتبت أي مسؤولية
على الطبيب . وما هو مركز هذه المسؤولية
في القانونين السوري والفرنسي
كل
هذه الأمور سنحاول أن نميط اللثام عنها
في كتابنا هذا فنعالج مسؤولية الطبيب في الحدود التي رسمها القانون والاجتهاد ،
ونقارنها بالتشريعات القديمة والحديثة في الفقه الفرنسي والفقه السوري والمصري
كل
ذلك خدمة لمفهوم الحق الذي استق من اسم الحق ، المطلع على عباده في تواصيهم بالحق ، وتواصيهم بالصبر على أداء الحق
وأي
حق أجدر بالبحث من حق الإنسان المتصل
مباشرة في حياته
؛ فحق المريض تجاه الطبيب إنما هو الحرص على سلامته ومساءلة الطبيب عن الخطأ فيما يلتزم به من عناية وتبصر
، ذلك وإن كان الطبيب لا يلتزم بشفاء المريض، إلا أنه يتضمن التزامه بأن يبذل
جهوداً خاصة مصدرها الضمير ، ومؤادها اليقظة ومطابقتها ـ في غير الأحوال
الاستثنائية ـ للأصول العلمية الثابتة وهي الأصول المستقر عليها لدى أهل هذا العلم .
فمسؤولية الطبيب فرضت
حماية لحياة الإنسان
من الاستهتار بها ، فقواعد المسؤولية إذا أحاطت المرء ، إنما قصد منها التشديد على سلوك المرء في تصرفاته وأعماله
أثناء مزاولته لمهنته
فكل
امرئ
مسؤول أمام القانون إذا
تجاوز الحدود المرسومة فيه ، فألحق الضرر بالغير أثناء مزاولته لأي عمل ، ففي هذه الحالة حقت عليه
المسؤولية ، وفرض عليه الجزاء وهو التعويض
فالمسؤولية
إذ تلازم فكرة الحق فهي تنتهي لتلك الفكرة وأساس تقنينها وتطبيقها . ولئن كانت المسؤولية قديمة قدم
الحق إذ نشأت إلى جانبه إنما تتردد اليوم على لسان كل إنسان في الدفاع عن حقه ، لطالما
عرف هذا الإنسان حقوقه .
والمرء
إذ
يسأل عن الحدود التي
ترتب عليه المسؤولية إذا تجاوزها ، فهو إذن يبحث عن المدى الذي يطال به القضاء ويفرض عليه المسؤولية . فهو
بهذا يسأل عن حماية نفسه وحماية غيره
يسأل
عن الالتزامات المترتبة عليه ، والنتيجة المباشرة التي رتبها عليه القانون ، فهو بكلمة حقه يبحث عن الحق فيعرف
حده ويقف عنده
.
هذا الحق الذي لا ينسب إلى شيء ينسب إليه ، وهو الذي لا يحمل
على شيء ، إنما كل شيء يحمل عليه . وهو متفق من كل وجه يطرب به الراضي ويقنع به
الغضبان . مشرق في نفسه ، موثوق بحكمه ، معمول بشرطه ، معدول إلى قضيته ، عليه أقام
الله الخلق , وبه قبض وبسط وأحكم وأقسط
مقدمة الطبعة الثالثة
صدرت الطبعة الأولى من
المسؤولية المدنية للطبيب في
عام /1966/ ، كما صدرت الطبعة الثانية منها في عام /1975/ .
وقد كان لاستقبال هذا الموضوع الأثر البالغ في نفوس رجال البحث
العلمي من علماء القانون وعلماء الطب أذكر منهم على سبيل الشكر والاعتزاز ما كرموني
به بما قالوه عنه :
« أنه مؤلف ينم عن كفاءة علمية واسعة وقد أثنى على مؤلفه
وأستشهد ببعض آرائه الدكتور سليمان مرقص
في محاضرة ألقاها في حلب بعنوان ضبط معيار المسؤولية »(1) .
كما
أذكر مما قالوه
أيضاً
« أطلعت على كتاب مسؤولية الطبيب المدنية لمؤلفه
الأستاذ عبد السلام
التنجي فإذا به درة فريدة ثمينة المادة عميقة الجوهر فياضة المعين بالغة الاتقان تشّرف المؤلف الكريم وتشهد له في
اليقظة الفكرية ، وسعة الإطلاع ، وتجعل من كنـزه هذا المرجع الشرعي المعاصر العربي
الأوحد في هذا الموضوع الخاص وخاصة أن الأستاذ التنجي أستاذ جامعي أجاد بشرح موضوعه
ببلاغة رجل القانون المضطلع ، ودقة القاضي
المتشرع والمتفهم أسرار القضاء ولغته الخاصة » (1) .
هذا وقد عزمت على إعادة طبع هذا المؤلف بعد أن نفذ من الأسواق
نزولاً عند رغبة رجال القانون من محامين
وقضاة اسهاماً منا في سد فراغ هذا الموضوع من المراجع العلمية العربية، وخاصة فيما يعرض على القضاء من قضايا دقيقة في
نطاق مسؤولية الطبيب وما تعتريها من وجوب
ضبط معيار هذه المسؤولية تبعاً لاتساع شمولها في التطبيق العملي في الحياة وما يتعرضها من مشاكل ، يقف الأطباء حيارى أمامها
، سواء في نطاق البحث العلمي الأكاديمي
، أو في نطاق التطبيق العلمي وخاصة إزاء أمراض جديدة لم تكن معروفة من قبل وتحتار تجاهها القضاة في تحقيق المسؤولية .
هذا
وقد استعرضت في هذه الطبعة ما
عرض على القضاء بشكل عام قضايا عديدة لتحديد المسؤولية عن الأخطاء المرتكبة ومداها بدءاً من فحص المريض وتعيين المرض
وإعطاء التقارير الطبية وكشف الخطأ في التشخيص تبعاً لتشابه الأعراض أو في إفشاء سر
المهنة وغيرها وانتهاء بأخطاء الطبيب المخدر المفضية إلى الموت ، أو مساءلة الجراح
إزاء نقل الأعضاء أو ارتكاب الخطأ في زرعها إلى غير ذلك من قضايا في غاية التعقيد .
كل
هذه الأخطاء تدور مع علتها وجوداً
وعدماً حول تعيين المسؤولية عنها من جهة ، وتحمل عبء الإثبات من جهة ثانية إذ المعروف تبعاً للقاعدة العامة أن عبء
الإثبات في الأصل يقع على المدعي ، ولكنه في موضوع مسؤولية الطبيب قد يقف المدعي أمام
معطيات علمية يجهلها فيكون حائراً أمامها
، إذ لا يستطيع أن يثبت تقصير الطبيب وخروجه عن الأصول الفنية للسلوك الواجب الاتباع سواء في مجال التداوي أو في مجال
الجراحة . .
لهذا
فإننا نرى أن بعض الدول العربية
قد استجابت حركة التشريع فيها لهذا الاتجاه ، تبعاً للجانب الضعيف وهو المريض ، فنقلت عبء الإثبات من المدعى إلى
المدعى عليه ، وذلك بأن يثبت أن التزامه كان متفقاً مع الأصول الفنية والسلوك الواجب
الاتباع ، وإن الخطأ الواقع لم يكن ناجماً
عن سلوكه بل إنه من الغير وهذا ما اتجه إليه فقهاء القانون لمعرفة حقيقة الوضع في معالجة الأمراض وإيجاد الحلول
القانونية لمعرفة مدى مسؤولية الطبيب عن الأخطاء ، الناجمة عن السلوك الخاطئ ، طالما
قد ألحق الطبيب ضرراً بالمريض مهما اتسم
وصف هذا الخطأ سواء كان بسيطاً أو جسيماً ولا سيما إزاء التطور المزهل في الاكتشافات الحديثة للأمراض المستعصية
المجهولة السبب التي ظهرت والتي لم تكن معروفة من قبل، وخاصة في عالم متطور يتقدم
اليوم بسرعة مزهلة تكنولوجياً وعلمياً وقانونياً .
ولا
شك أن هذا في نظري ونظر كل منصف يدعوه أن يقرر : أن صياغة صحة الإنسان من أقدس الواجبات الملقاة على عاتق
الطبيب في ظل تشريع متطور وقضاء عادل حريص على إحقاق حقوق المرضى المتهافتين على
أبواب الأطباء ، بغية إنقاذهم من أمراضهم
وتعويضهم عن الأخطاء المرتبكة من قبل الأطباء المستهترين منهم بمرضاهم والبعيدين عن الروح العلمية والرسالة الطبية ،
وخاصة في وجوب سلوكهم المهني اليقظ الواجب
تحقيقه
.
هذا
وبما أن القانون المدني مرآة لحضارة الشعوب فإنه من المسلم به ، أنه يتضمن القيم والمفاهيم التي يحترمها
المجتمع ، ويسهر على تطبيقها ، وخاصة في نطاق المسؤولية إذ هي ميزان الحق ومركز
التوازن في الحياة ، وعلى الأخص إذا كان الحق متصلاً بحياة الإنسان مباشرة ، وهذا ما
يوجب على الدول تبعاً لضمانات الحياة البشرية أن تنشئ صندوقاً للتأمين ، لضمان
الأخطاء التي تصدر عن الأطباء في سلوكهم المهني ، والتي تشارك في دعمه تبعاً لمساهمة
كل طبيب قائم على عمله ، وذلك بدفع جعالات
سنوية بحيث يغطي صندوق التأمين التعويضات التي سيحكم بها على أي طبيب يلحق الضرر بالمريض . وهذا ما تضمنه تشريع
الجماهيرية العربية الليبية
هذا
وإني من منظور
المحافظة على صحة الإنسان المقدسة وحماية لها من أن يكون جسم الإنسان حقل تجارب للأطباء حرصت على التوسع في موضوع
المسؤولية وحددت ضوابط ومعايير هذه المسؤولية
، كي يكون الأطباء في منأى عن الدعاوى التي قد يتعرضون لها ، فضلاً عن عدم جواز استخدام وسائل الإعلام التي تنال
منهم قبل صدور حكم مبرم يقضي بإدانتهم ، وإلا لحدّ من حماس الأطباء في معالجة مرضاهم ،
إذ الأطباء بشر غير معصومين عن الأخطاء
، وقد أعرب الأطباء عن قلقهم خيال ملاحقاتهم قضائياً في مؤتمر عقد في باريس بتاريخ 29/10/1972 طالبوا فيه بسن تشريع خاص
بهم، يكون استثناء من القواعد العامة لحمايتهم مما قد يتعرضون له من مسؤوليات
المخاطر التي قد يتعرض لها مرضاهم (1) .
هذا
وقد أعرب رجال القانون على أن مطالب الأطباء لا تخلو من أساس إنساني ، وهم يدركون أن من واجب القضاء أن ينظر في الدعاوى
التي تقام على الأطباء على أنها مشكلة تتطلب حلاً واقعياً منصفاً ، كما أعربوا عن
مشاعرهم هذه في المؤتمر المذكور إذ جاء تقريرهم في ختام مؤتمرهم
« أن الأطباء القانونيون يدركون الحرج الذي يقع » « فيه الطبيب حيال مريض جاء في حالة خطرة، » فهل يرفض معالجته بحجة أن المرض أقوى من »
« إمكاناته الفنية ، وفي
هذه الحال يمكن أن يتعرض » « إلى ملاحقة «جزائية
، أم يبذل له عناية أقل مما » تتطلبه حالته «ليتفادى المتاعب ، فيتعرض كذلك » « إلى المساءلة (1)» .
على أن العميد سافاتيه
يقول
« إن الطبيب الصالح لا يفكر كثيراً في المسؤولية القانونية كما أن القضاء يفرق بين خطأ وخطأ، إذ» « يدرك أن التشريد في
مساءلة الأطباء يهدد المهنة » « الطبية إذا يحجمون عن تلبية دعوة المرضى أو معالجتهم ، كما أن الاتجاه البين من القضاة الذي » « تسير فيه أحكامها في الدعاوى لا يمكن
أن تهمل » «حالات الخطأ الذي لا يغتفر
بل إن الأطباء أنفسهم» « يستنكرون غفرانها من قبل رجال القانون
في
ضوء
هذه المعطيات القانونية
وإزاء المبادئ القانونية العادلة المستقرة فقد طرحنا مسؤولية الأطباء في هذه الطبعة الحديثة في
أفقها الواسع ، التي لا تجنح إلى تحديد مسؤولية الطبيب نتيجة ارتكابه للخطأ فحسب ، بل
توازناً مع صيانة حقوق المرضى ضحايا الإهمال
أو الاستهتار ، المتمثلة في عدالة واعية ، لابدّ من تطبيقها إنصافاً لحقوق الطرفين دون مغالاة أو شطط ، وتمشياً مع
النصوص القانونية الراهنة والآراء الفقهية المعززة بالاجتهادات القضائية ، كل ذلك حرصاً
على تحقيق الرأي العلمي واعتماده وحرصاً
منا على حماية الأطباء من أن يتعرضوا لدعاوى كيدية بعيدة عن هدف العدالة والإنصاف، كل ذلك لتبقى مهنة الطب رسالة سامية
هدفها تحقق شفاء المرضى من العلل التي
تشكو منها بدافع إنساني علمي ، تحقيقاً لغايات سامية بحيث لا يبقى الطبيب بمنأى عن التداخل أو التعرض لدعاوى خلبية
غايتها التشهير والابتزاز
هذا
وقد
تعرضت في هذه الطبعة
الثالثة لمفاهيم المسؤولية المدنية عامة وتأصلها في الشريعة الإسلامية كي تكون مناراً يهتدي بها في ترسيخ قواعد المسؤولية المدنية للطبيب وإني لأرجو أن أكون في هذا المؤلف بثوبه الجديد قد
وفّيت الغرض خدمة للحق والعدالة والله من وراء القصد
تمهيـد
لقد
بلغ القانون في العصر الحديث ذروته ، وتوسعت مفاهيمه وأبحاثه وأضحت الشرائع الحديثة
تواكب التطور الملحوظ في المجال العلمي
بعد أن تقدمت المخترعات وازدهرت الصناعات وظهرت نظريات علمية تناولت مجالات لم تكن معروفة من قبل ، وبديهي أن يكون لهذا
التقدم الأثر الفعال في تعديل معظم الشرائع
طبقاً لنواميس الرقي في كافة المجالات مما اضطرت معظم الدول إلى تعديل شرائعها وإقرار مبادئ قانونية تتمشى مع هذه
النهضة
.
إزاء هذا التوسع
والتعديل في
المباحث القانونية والتشريع نشأت نظريات جديدة وإن كان لها بعض التأييد في النصوص القديمة ، كنظرية التعسف باستعمال الحق
التي نص عنها القانون المدني السوري في
المادة (6) التي لا تجيز استعمال الحق إلا ضمن الحدود التي رسمها القانون ، فهي لا تجيز للمرء استعمال الحق لغرض غير مشروع ،
كأن يكون إرواء لشهواته ، أو إرضاء لنزواته
، أو لإلحاق الضرر بالغير دون أن تكون هناك مصلحة ظاهرة في استعمال حقه ، أو أن تكون المصالح التي يرمي إلى تحقيقها
قليلة الأهمية ، بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها ، فإذا نشأ عن
فعله ضرر أصبح مسؤولاً ويتوجب عليه التعويض
كما
ظهر إلى جانب هذه النظرية نظرية تحمل التبعة (RISQUE) .
ولقد كان لهذه النظرية الأهمية الكبرى في نطاق
المسؤولية
.
والى جانب هذه فقد ظهر أيضاً في التشريع الحديث دعاوى لم تكن معروفة
من قبل ، كالدعوى البوليانية ، والغير مباشرة ، ونظرية الظروف الطارئة ، ونظرية
الضمان ، تحمل التبعة (RISQUE) التي أفسحت المجال
لتقرير الحكم بالتعويض دون أن تبحث في ثبوت صدور الخطأ عن المسؤول، بل اعتبرت أن الخطأ مفروض ، وقد ظهر لهذه النظرية
دراسات خاصة ، منها كتاب حوادث العمل ، والمسؤولية المدنية
للعلامة (سالي) المطبوع في باريس عام /1887/ ، وكتاب مسؤولية الأشياء المطبوع في فرنسا للعلامة (جوسران) .
ولئن كانت هذه النظريات
أو المبادئ الحديثة
مدار اهتمام المشرعين والباحثين ومع ذلك فإنهم لم يكونوا سباقين إليها ، فقد سبقهم عندنا الفقهاء حيث أسسوا مذاهبهم
واجتهاداتهم على قواعد ومبادئ منطقية سليمة ، حققوا بها العدالة منسجمة مع واقع كل
عصر باسم المصالح المرسلة ، أو الاستحسان
، والرأي ، والقياس ، و الإجماع ، وقد كان لتراث الشريعة الإسلامية فخراً كبيراً تدل على عبقرية الفقهاء الفذة ، بحيث
دعت كبار العلماء الغربيين أن يفاخروا بها ، ويشيدوا بمجد التشريع الإسلامي ، مما
دعا الأستاذ (لامبير) في المؤتمر الدولي لمقارنة القوانين الذي انعقد في مدينة لاهاي
عام /1932/ أن يشيدوا بمحاسن هذه الشريعة
الغراء ، كما شعر بهذا الشعور معظم الدول الأوربية المتمدنة ، فلم يبحثوا في نظرية قانونية سواء أكان في باب الأصول أو
القانون إلا ووجدوا لهذه النظرية شبهها
في التشريع الإسلامي . وهذا التشريع لا نجده في أي مسألة تعرض إلا ولها حل وحكم عنده حتى تجاوز إلى التشريع في
المستحيلات العادية على فرض وقوعها .
وهذا الفيض التشريعي الذي زخرت به عقول مشرعي الأمة
كان مصدره القرآن والسنة ، إذ أن عدد الآيات التي هي أصول الأحكام في القرآن بلغت
مائة وعشرين آية ، وعدد الأحاديث التي هي أصول الأحكام خمسمائة حديث منتشرة في أربعة
آلاف حديث ، بيد أن أصول الشريعة لا تقتصر
على هذين المصدرين
فالشريعة
الإسلامية مرنة ، ونحن نجد أن طبقات المشرعين
في كل عصر ظلوا يطبقون الأحكام على النوازل ، ثم انتقلوا إلى جانب ما يستمدون أحكامهم منه القرآن والسنة ، إلى
روافد أصحاب المذاهب والفرق ، يطبقونها في كل عصر على ما تقتضيه عادة أهل العصر .
حيث جعلوا العادة شريعة
محكمة ونصوا على أن
العرف له اعتبار في الشرع يتغير بتغير الأحكام به بمقتضى الزمان ؛ وقد أجاز الفقهاء المتأخرون ذلك حجة منهم في إجازتها
لرفع الحرج عن الأمة ، عملاً بالقاعدة والأصل في الأمر أن الاجتهاد مصدر من[
ما جعل عليكم في الدين
من حرج ]القرآنية مصادر الشريعة ، عملاً بحديث سيدنا معاز أن
النبي لما أرسله إلى اليمن قال له : بم
تقضي ؟ قال : بكتاب الله . قال : فإن لم تجد ؟ قال بسنة رسول الله . قال : فإن لم تجد ؟ قال أجتهد برأي . فأقره (1). وكان
أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يقضي
به ، قضى به ، وإن لم يجد، نظر في سنة رسول الله ، فإن أعياه ذلك ، سأل الناس : هل علمتم أن رسول الله قضى به بقضاء ؟ فربما قام إليه القوم فيخبرونه ، فإن لم يجد سنّة سنّها
النبي ، جمع رؤساء
الناس فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به . وكان
عمر يفعل ذلك ، فإن
أعياه أن يجد في الكتاب والسنة ، سأل عن عمل أبي بكر فيه ، وإلا ، جمع رؤساء الناس واستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء
قضى به (1).
وهكذا نجد أن الشريعة الإسلامية قد أحاطت بكل كبيرة وصغيرة فكيف
تضّل أمة هذا تشريعها وقد خلف لها الرسول الأعظم تراثاً رائعاً ومجداً عظيماً
حيث
قال
: خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما ، كتاب الله وسنتي » . رواه البخاري (2)
وإننا إذ نقول أن الشريعة الإسلامية لم يشبها
أي
قصور في إدراك الأحكام
وإيجاد الحل لها مهما تبدلت الأزمان ، بل نجد أنها فاقت حتى التشريع الحديث ، ففي نطاق المسؤولية تخلف
التشريع الحديث عن مسألة من يمتنع عن إسقاء رجل عطشان ، في حين أن الشريعة
الإسلامية نصت
: أن رجلاً أتى أهل ماء فاستقاهم فلم يسقوه حتى مات عطشاً ، فأغرمهم
سيدنا عمر في هذه الحادثة دية الميت (3) . كما أن أبو بكر كان يعوض عن الضرر من بيت المال إذا أخطأ عماله في سبيل القيام بواجبهم ، في حين أن عمر بالنسبة
للأخطاء التي يقترفها عماله يرى الاقتصاص منهم ويقول : إني لم آمرهم بالتعدي فهم أثناءه يعملون لأنفسهم لا لي
وعلى
هذا أخذ من ظهر عليه الخطأ منهم بالمسؤولية الشخصية . كما روى أيضاً عن عمر ، أنه أوجب التعويض على السيّد عن أعمال
تابعه ، واعتبر السيّد مسؤولاً عن خادمه(1)
وهكذا
نجد أن الشريعة الإسلامية سمت في حفظ الحقوق ومساءلة الناس عنها حتى أنها حفظت الحيوان من الاعتداء ، ورتبت
المسؤولية على المعتدي . فقد ورد في
تاريخ ابن الجوزي عن المسيب بن دارم قال : رأيت عمر بن الخطاب يضرب جّمالاً وهو يقول حمّلت جملك مالا يطيق
وفي
تنقيح الحامدية عن البزازية أن ضارب الحيوان على وجهه يخاصم مطلقاً ،وضاربه على غير وجهه
للعثار يخاصم أيضاً لا للنفار قال
لأن
الشارع نهى عن الضرب على الوجه ، لأن العثار من سوء إمساك الراكب اللجام ، لا من الدابة ، فينهي في هاتين الحالتين عن
ضربه ، أما النفار فمن سوء خلق الدابة فتؤدب على ذلك (1) .
هذا
الينبوع الفوار في التشريع الإسلامي الذي كان مرد فخر حضارتنا واعتزاز الأخلاف عن الأسلاف ، إنما
كان مصدراً لجميع أبواب القانون ، وأصوله
في الفقه الإسلامي
إلى جانب ما ذكرناه فقد عالج الفقهاء نظرية
السبب فقالوا
: إن السبب هو الغرض المباشر المقصود في العقد ، وإن كل تصرف أو عقد يجب أن يكون له سبب ، أما إذا كان الأمر مجرد وعد بلا
تعليق أو سبب ، فالوفاء به غير لازم شرعاً،
وإن كان لازماً في شرعة الأخلاق ، وهذا معنى نظرية السبب الحديثة
وقد أوضحوا أن من شروط السبب ألا يكون واجباً على
المتعاقد بدون العقد ، فلو استأجر إنسان
خادمه الخاص للقيام بعمل معين يدخل في نطاق عمله باعتباره خادماً خاصاً ، كانت الإجارة باطلة لعدم قيامها على سبب ، ما
دام العمل المستأجر عليه واجباً بدون عقد الإجارة على المتعاقد الآخر
وإنه
يجب أن يستمر قائماً حتى يتم التنفيذ فإذا زال السبب فسخ العقد لأنه يصبح بلا أساس
، فإذا استأجر أرضاً للانتفاع بزراعتها
فأصبحت غير قابلة للزراعة لانقطاع الماء عنها ، أو داراً يسكنها فانهدمت ، ففي هاتين الحالتين وسواهما نحد ، أن سبب
العقد الصحيح أصبح غير قائم ، وتكون النتيجة
انفساخ العقد وانتهاؤه لزوال سببه (1).
كما
اشترطوا أن يكون السبب مشروعاً
كما هو الشأن في الفقه الحديث ، فإذا كان موضوع العقد صحيحاً ومباحاً شرعاً لكن السبب ليس بمشروع ، فالعقد باطل ، كتأجير
دور الدعارة ، أو بيع أدوات الميسر ، أو بيع السلاح لقاطع الطريق مع علم البائع ،
فكل هذه العقود غير صحيحة لعدم مشروعية السبب (2) .
كما
عالج الفقه الإسلامي نظرية الكسب غير المشروع وهي نظرية الإثراء بلا سبب ، فوضعوا القواعد التالية : عن الإمام أحمد ومالك : أن العمل النافع الذي يكون الإنسان دائناً لغيره يجيز
له المطالبة بأجر ما دفع ، فإذا عمّر شخص قناة لغيره ، أو أصلحها بغير إذنه ، فإن
له الأجر على ما عمل ، وهو أجر المثل ، وهكذا كل من فعل فعلاً يحفظ به مال الغير
ويصونه ، كان له أن يرجع عليه بأجر مثله . كما
يقرر أصحاب مالك أيضاً ، بأن من استلم شيئاً أو وجد تحت يده شيئاً أو مالاً بدون سبب مشروع يبين وجوده تحت يده ،
وأثرى فيه ، يجبر على رده على نفقته إلى من أثرى على حسابه (1). أما
في أحكام المسؤولية فقد اعتبرت الشريعة الإسلامية أن من قتل]المسؤولية المالية لا تتوقف على القصد أو
التمييز بدليل قوله تعالى : .[مؤمناً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة لأهله فقد جاء النص مطلقاً ولم يشترط [
وكل إنسان ألزمناه
طائره في عنقه ]التمييز والأهلية بدليل قوله تعالى : .
فالصبي الذي يتلف مال
الغير يلزمه الضمان من ماله ولو كان غير مميز ، وهو قول الجمهور من السلف والخلف ، ومرد ذلك أن
المسؤولية المالية لا تتوقف على التمييز أو القصد ، فالإنسان إذن مسؤول عن تصرفاته الضارة
للغير منذ ولادته ، وهذا متفق عليه (2).
ومنهم
من قال : إن المباشر ضامن ولو لم يقصد إذ قال الإمام ابن رشد الحفيد :
« أن الأموال تضمن عمداً
وخطأ في مسائل الإتلاف بالمباشرة »
وهذا
الحكم قال
به جمهور أصحاب المذاهب : فالمباشر ضامن وإن لم يتعمد(1) هذه بعض الأحكام الفقهية في الشريعة ويطول في المقام
لو نقلتها أو استقصيتها ، بيد أني عرضت جزءاً يسيراً منها لمقارنتها بأحكام التشريع
الوضعي كمقدمة عامة . وهي لا تخلو أن تكون فكرة عامة عن المسؤولية التي أرست
قواعدها الشريعة الإسلامية ، وسأتناول أركانها وأحكامها بشكل عام فيما بعد ، لتكون
مدخلاً إلى مسؤولية الطبيب باعتباره مرجعاً
تخصصياً ، يرسم سلوك الطبيب اليقظ والواجب الاتباع معززاً بالآراء الفقهية والاجتهادات القضائية ، كل ذلك في ضوء الشريعة
الإسلامية والقانون المقارن