يشهد
هذا العصر الذي نعيش فيه حلقة من حلقات الصراع بين العلم المادي البحت النابع أصلا
من الحضارات الغربية وبين ضوابط التشريع الإسلامية النابعة أساسا من الوحي الإلهي
الذي لا شك فيه.
لقد
استعمل الأطباء في الغرب في سعيهم للقضاء على آثار الأمراض وسائل نرى في بعضها
تحديا للطبيعة التي جبل الله الإنسان عليها، ومن ذلك على سبيل المثال: مسألة نقل
الأعضاء الآدمية بين الأحياء ، سواء بالتبرع أو البيع ، ومسألة استخدام أرحام النساء الأجنبيات في عمليات
التلقيح الصناعي ، وجراحة
التجميل بأنواعها والطرق
الطبية التي يزعمون أنه يُمكن بها إعادة الحياة لمن مات وما نسمع عنه من إجراء عمليات غريبة مثل تحويل الرجل إلى
أنثى وتحويل المرأة إلى ذكر، وغيرها كثير.
هذه
الأمثلة تؤكد أن العلم المادي وحده لا يكفي لتطبيقه بل لا بد أن يكون خاضعا
للضوابط الشرعية حتى يأتي العمل الطبي عملا جليلا يهدف حقا إلى إسعاد البشرية، ويجب
على الأطباء والجراحين المسلمين أن يضعوا نصب أعينهم إلى جانب رغبتهم في تحقيق
مصالح العباد أن تكون أعمالهم وفقا لنظام وضوابط الشريعة الإسلامية.
أنكب
الباحثون منذ مطلع القرن الماضي
على دراسة هذا الموضوع، وقاموا بتجارب كثيرة على الحيوانات، فكانت نتائجها مشجعة
مما دفع بالأطباء الجراحين إلى دخول هذا الميدان الجراحي الجديد، يساعدهم على ذلك
التطور الكبير الذي طرأ على جراحة الشرايين، والأوردة، والأعصاب, بالإضافة إلى
التقدم الملحوظ في علم التخدير، ونقل الدم، واكتشاف الكورتزون والأميوران
وسيكلوسبورين، وغيرها من المواد التي تؤثر في دفاع الجسم ومناعته.
وبالإضافة
إلى الصعوبة التقنية التي كانت تواجه أعمالا جراحية كهذه، كانت ظاهرة الفسيولوجية
المعروفة باللفظ أو الرفض عائقا منيعا حال دون القيام بهذه العمليات على نطاق
واسع.
وقد
تغلبت
أساليب الجراحة الحديثة والمتطورة باستمرار على الصعوبات التقنية، أما
ظاهرة الرفض فلا تزال تشكل تحديا ملموسا لزراعة الأعضاء إذ أن جسم الإنسان
مكون
بشكل متناسق تنسجم فيه وظائف الأعضاء إلى أقصى حدود الانسجام، وقد زوده الخالق جلا وعلا بعناصر دفاعية قوية تهب تلقائيا لدحر
العضو الجديد البديل أو المزروع، ثم تعمل فيه تنكيلا حتى يلفظه الجسم.
وعملية
الرفض هذه تخف أو تزيد تبعاً
لطبيعة العضو المزروع، فهي تبلغ أقصى درجات القوة، إذا كان العضو المزروع مأخوذا
من حيوان، فيرفضه الجسم الإنساني فورا، ولا يتاح للعضو الجديد سبب من أسباب
الحياة.
أما
إذا كان العضو المزروع مأخوذا من إنسان، فظاهرة الرفض تكون قوية جدا أيضا إلا أنها
لا تبلغ من العنف الدرجة التي تقابل بها العضو
المأخوذ من الحيوان.
وأما
إذا كان الزرع بين توأمين كنقل كلية من توأم إلى آخر، فإن الرفض يكون أخف وطأة،
ويمكن السيطرة عليه بأوجه من العلاج وبأنواع من العقاقير تساعد العضو المنقول على
الحياة في الجسم الجديد.
التحضير
للزرع:
لقد
ساعدت الدراسات المخبرية والدموية كثيرا على التخفيف من نسبة الرفض، وزيادة نسبة
النجاح في زرع الأعضاء.
ويعتبر
تناسب الأنسجة أمر ضروري يجب التنبه له عند الشخصين اللذين يراد نقل العضو المعين
من أحدهما للآخر. كما أنه من الضروري أيضا معرفة التناسب في كريات الدم البيضاء
عند الشخصين المذكورين، فهذه الكريات، بفصائلها المختلفة، تقوم بدور بالغ في شأن
الرفض أو القبول.
فصائل
الأعضاء المزروعة:
وعمليات
الزرع ليست كلها متشابهة، فهناك زرع الأنسجة كالجلد المأخوذ من الجثث الحديثة،
وهناك زرع العظام والأوتار والأغشية
العضلية، وزرع قرنية العين وصمامات القلب والأوعية الدموية والغدد المختلفة ثم
هناك زرع الأعضاء الكاملة:
كالكلية، والكبد، والقلب، والرئة، والبنكرياس. وفي هذه الفصيلة بالذات (أي الأعضاء) تقوم عملية الرفض بدورها
الأكبر. مما يتطلب استعمال جميع الوسائل للتغلب عليها وهذا ما يسمى بإخماد المناعة
في الجسم.
وزرع
الأعضاء يفتح أمام المرضى أفقاً
رحبا تتداخل فيه الكفاءة الجراحية العالية، والمعالجة الكيميائية المتقدمة، ويتوج
هذه كلها فهم عميق لمناعة الجسم ولظاهرة الرفض.
الموقف
الفقهي من غرس الأعضاء
أولاً: الغرس
الذاتي:
لقد أجمع كل من أفتى في العصر الحديث على
إباحة الغرس الذاتي، بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى ضرر، وأن يكون البرء مرجوا. وقد جاء
في قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم 99 وتاريخ 6/11/1402 هـ:
"بعد المناقشة وتداول الآراء، قرر المجلس بالإجماع جواز نقل عضو، أو جزئه من
إنسان حي مسلم، أو ذمي إلى نفسه، إذا دعت الحاجة، وأمن الخطر في نزعه، وغلب على
الظن نجاح زرعه".
ثانياً:
إعادة العضو بعد استئصاله بسبب حادثة أو مرض:
ولا خلاف عند الفقهاء في إباحة إعادة العضو
إلى موضعه إذا كان الاستئصال بسبب حادثة أو مرض، وهو ما يسمى إعادة الغرس، وقد
فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدد من الصحابة رضوان الله عليهم. وقواعد
الشريعة العامة تأمر بالإبقاء على النفس، والمحافظة على الصحة، ومنافع الأعضاء.
ثالثاً:
إعادة العضو المفصول قصاصا أو حدا:
إن إعادة العضو المفصول تٌلغي فائدة القصاص
أو الحد. لذا اتجهت أغلب آراء الفقهاء المعاصرين إلى عدم إباحته، وقد جاء في فتوى
مجمع الفقه الإسلامي ما يلي:
1-
لا يجوز شرعا إعادة العضو المقطوع تنفيذا للحد لأن في بقاء أثر الحد
تحقيقا كاملا للعقوبة المقررة شرعا, ومنعا للتعاون في استيفائها، وتفاديا لمصادمة
حكم الشرع في الظاهر.
2-
بما أن القصاص قد شرع لإقامة العدل، وإنصاف المجني عليه، وصون حق حياة
المجتمع، وتوفير الأمن والاستقرار، فأنه لا يجوز إعادة عضو استؤصل تنفيذا للقصاص
إلا في الحالات التالية:
أ.
أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع.
ب. أن يكون المجني عليه قد تمكن
من إعادة العضو المقطوع منه.
3-
يجوز إعادة العضو الذي استؤصل في حد أو قصاص بسبب خطأ في الحكم والتنفيذ.
رابعاً:
نقل الأعضاء من إنسان حي أو ميت إلى آخر حي.
وهنا يبرز سؤال مهم وهو:
هل يجوز شرعا للجراح أن يقطع جزءا
من جسم إنسان (المعطى) حي سليم أو من جثته
ميتا تحقيق لمصلحة علاجية لإنسان آخر مريض (المتلقي)؟
والجواب أنه:
لا
صعوبة بالنسبة للشق الثاني من هذا العمل، وهو زرع العضو في جسم المريض المتلقي،
فهو يدخل في عداد الأعمال الطبية أو الجراحية المباحة بإذن الشرع وبإذن المريض إذا
توافرت شروط الإباحة.
ولكن
الصعوبة كلها تكمن في الشق الأول من السؤال، ألا وهو استقطاع العضو من إنسان سليم
غير مريض ، فكيف يُباح شرعا مثل هذا العمل الذي لا تقتضيه
ضرورة صحية عند الإنسان المستقطع من جسمه العضو؟
ويتفرع
من هذا السؤال أسئلة كثيرة لا بد من الإجابة عنها وهي تتعلق بكيفية الحصول على هذه
الأعضاء؟ هل يجوز للشخص أن يبيع شيئا من أعضاء جسده أو يتبرع بها؟ وما مدى سلطة
الإنسان على جسده؟ أهي سلطة مطلقة أو مقيدة؟ وهل هناك فرق أن أستقطع هذا العضو من
جسم الإنسان الحي أم من جثة الميت؟ وما هي الشروط التي نعتمد عليها للتحقق من
الوفاة .. إلى غير ذلك من الأسئلة التي سنحاول أن نجيب عليها بإذن الله.
لقد عنيت الشرعة الإسلامية أيما عناية
بحماية النفس البشرية فحرمت قتل النفس إلا بالحق، وقد جعل الشارع الحكيم أول ما
يقضي فيه بين الناس يوم القيامة هو الدماء وتوعد مرتكب القتل بالعذاب إلى جانب
العقوبة الدنيوية.
كذلك أولت الشريعة عنايتها بجسد الإنسان
بعد موته ، حماية له من عبث العابثين، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله
: كسر عظام الميت ككسره حيا"، الأمر الذي اقتضى حرمة نبث القبور وتهشيم عظام
الموتى، كما خصصت كتب الفقه الإسلامي بابا خاصا للجنائز وآدابها، ومنه يظهر مدى
حرمة المساس بالميت.
ومن هنا فإن الشريعة الإسلامية تأبى أن
يعامل الإنسان معاملة الأموال أو دخوله في
دائرة الأعمال التجارية، كما يحدث مع من يعلنون عن التبرع ببعض الأجزاء الآدمية
مقابل مبلغ من المال.
بل إن كثيرا من الفقهاء حرم أن يتبرع
الإنسان ببعض أعضائه لآخر إما لكرامة الإنسان، أو مخافة هلاك الإنسان المأخوذ منه
العضو (المعطي).
ولكن الفقه الإسلامي فقها عمليا يحرص
على اتباع حاجات الإنسان المشروعة ولا يجب أن يقف حجر عثرة أمام تحقيق حاجات
إنسانية تتفق مع المقاصد العامة للشرع، خاصة إذا كان هذا الانتفاع لا يتعارض مع
كرامة الإنسانية.
ونستعرض فيما
يلي أهم القضايا والحجج التي استند إليها الفقهاء في إجازة زراعة الأعضاء الآدمية:
أولاً: اتفق
الفقهاء على أن لبن الآدميات باعتباره جزءا منفصلا عن جسم آدمي، يمكن الانتفاع به
في الشرع لورود آيات بينات في هذا المعنى، وفي العرف لأنه مخصص بطبيعته للخروج من
جسم المرأة لينتفع به غيرها.
أي إن الفقهاء
أجازوا عقد الرضاعة كاستثناء تبرره ضرورة المحافظة على حياة الطفل، إذن فمبدأ عدم
جواز التصرف في أجزاء الآدمي (الذي يقوم على كرامة الإنسان) يحتمل الاستثناء إذا
وجدت ضرورة عند آدمي آخر تبرر هذا الاستثناء أي أن القضية ليست قضية مطلقة.
ثانيا: هناك قواعد فقهية عديدة تدل على ، أنه إذا
تعذر إنقاذ حياة شخص مشرف على الهلاك بعلاج مباح فإنه يعالج بمحرم، للضرورة أو الحاجة،
وإن أدى ذلك إلى مفسدة أقل ، ومن هذه القواعد:
أ-الضرورات تبيح المحظورات:
وهذه القاعدة أصولية فقهية يدل عليها قوله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم
إليه)، فالممنوع شرعا يباح عند الضرورة، ومن هنا جاز أكل الميتة عند المخمصة،
وإساغة اللقمة بالخمر عند الغصة، إذا لم
يوجد سواهما مما يحل للحفاظ على حياة الإنسان.
ب) الضرر يزال:
وأصل
هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم : "لا ضرر ولا ضرار"
وهي تفيد وجوب إزالة الضرر ودفعه بعد وقوعه.
ج) درء المفاسد مقدم على جلب المصالح:
والمراد بدرء المفاسد دفعها وإزالتها، فإذا تعارضت مفسدة
ومصلحة قدم دفع المفسدة غالبا لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه
بالمأمورات، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا
منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه".
د) إذا تعارضت مصلحتان قدم أعلاهما:
وينبني على هذا كثير من المسائل، فالمرأة الحامل مثلا
إذا ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي فقد تعارضت فيه مصلحتان فإن في شق بطنها لإخراج
ولدها الحي انتهاك لحرمتها، لكن فيه الإبقاء على حياة الحمل الذي في بطنها، وإذا
ترك شق بطنها للمحافظة على حرمتها يكون في هذا القضاء على حياة الحمل، فأجاز الشارع
بشق بطنها وإخراج الحمل إيثاراً لجانب الحي على
جانب الميت، ولأن رعاية حرمة الحي أكد من رعاية حرمة الميت، إذ أن الاعتداء على
الميت بقطع رقبته مثلا، أو قطع عضو من أعضاءه لا يوجب قصاصا ولا دية، وإنما يوجب
تعزيرا، بخلاف قتل الحي مسلما أو ذميا فإنه يوجب قصاصا أو دية.
ثالثا: هناك مبادئ عامة دعا إليها الإسلام، وتنبنى
عليها مثل هذه
الأحكام ، ومنها:
أ)
الإيثار:
وهو مبدأ من المبادئ التي رغب فيها الإسلام ، ومعناه أن
يقدم الإنسان مصلحة أخيه على مصلحة نفسه بما هو حق له لا يحرم عليه بذلك ، فيترك
حظه لحظ غيره اعتمادا على صحة اليقين، وتحملا للمشقة في عون أخيه، وهو من محامد
الأخلاق، وله شواهد كثيرة تصل إلى بذل النفس في مرضاة الله. قال تعالى: ( ويؤثرون
على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ).
ب)
التعاون:
وحث الإسلام على التعاون وأمر به، ورغب في مساعدة الأخ لأخيه، وتقديم
العون له حتى يقوى بناء الأمة ويشتد ساعدها. قال تعالى: ( وتعاونوا على البر
والتقوى).
ج)
الهبة:
والتبرع كالهبة،
والهبة – وكذلك الهدية – مما رغب فيه الشارع وندب إليه، وهي من مكارم الأخلاق
وأمارة الجود والسخاء وصفة من صفات الكمال، وصف الله بها نفسه بقوله عز وجل : (
أم عندهم خزائن رحمة ربك
العزيز الوهاب).
رابعا:
إذا كان قتل النفس بغير حق من أشد
الجرائم، فإن إحياء النفوس يعتبر من أعظم القربات، يشهد لذلك قوله تعالى: في قصة
ابني آدم وقد قتل أحدهما أخاه بغير حق:
(من أجل ذلك
كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد
في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا). أي من كان سببا لحياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت
مشرفة عليه فكأنما أحيا الناس جميعا، فالإحياء هنا عبارة عن الإنقاذ من هلكة، فهو
مجازي ، إذ المعنى الحقيقي مختص بالله عز وجل، والمراد هنا التشبيه، والآية تعلمنا
ما يجب من وحدة البشر، وحرص كل واحد منهم على حياة الجميع.
وقد صدرت العديد
من الفتاوى من جهات رسمية ومن أفراد متخصصين تجيز في مجموعها نقل الأعضاء من أجسام
الأحياء أو من الجثث إلى المرضى، ومنها الفتوى الصادرة عن هيئة كبار العلماء بالقرار
رقم 99 بتاريخ 6/11/1402 هـ (انظر الملحق رقم1).
هذا العصر الذي نعيش فيه حلقة من حلقات الصراع بين العلم المادي البحت النابع أصلا
من الحضارات الغربية وبين ضوابط التشريع الإسلامية النابعة أساسا من الوحي الإلهي
الذي لا شك فيه.
لقد
استعمل الأطباء في الغرب في سعيهم للقضاء على آثار الأمراض وسائل نرى في بعضها
تحديا للطبيعة التي جبل الله الإنسان عليها، ومن ذلك على سبيل المثال: مسألة نقل
الأعضاء الآدمية بين الأحياء ، سواء بالتبرع أو البيع ، ومسألة استخدام أرحام النساء الأجنبيات في عمليات
التلقيح الصناعي ، وجراحة
التجميل بأنواعها والطرق
الطبية التي يزعمون أنه يُمكن بها إعادة الحياة لمن مات وما نسمع عنه من إجراء عمليات غريبة مثل تحويل الرجل إلى
أنثى وتحويل المرأة إلى ذكر، وغيرها كثير.
هذه
الأمثلة تؤكد أن العلم المادي وحده لا يكفي لتطبيقه بل لا بد أن يكون خاضعا
للضوابط الشرعية حتى يأتي العمل الطبي عملا جليلا يهدف حقا إلى إسعاد البشرية، ويجب
على الأطباء والجراحين المسلمين أن يضعوا نصب أعينهم إلى جانب رغبتهم في تحقيق
مصالح العباد أن تكون أعمالهم وفقا لنظام وضوابط الشريعة الإسلامية.
أنكب
الباحثون منذ مطلع القرن الماضي
على دراسة هذا الموضوع، وقاموا بتجارب كثيرة على الحيوانات، فكانت نتائجها مشجعة
مما دفع بالأطباء الجراحين إلى دخول هذا الميدان الجراحي الجديد، يساعدهم على ذلك
التطور الكبير الذي طرأ على جراحة الشرايين، والأوردة، والأعصاب, بالإضافة إلى
التقدم الملحوظ في علم التخدير، ونقل الدم، واكتشاف الكورتزون والأميوران
وسيكلوسبورين، وغيرها من المواد التي تؤثر في دفاع الجسم ومناعته.
وبالإضافة
إلى الصعوبة التقنية التي كانت تواجه أعمالا جراحية كهذه، كانت ظاهرة الفسيولوجية
المعروفة باللفظ أو الرفض عائقا منيعا حال دون القيام بهذه العمليات على نطاق
واسع.
وقد
تغلبت
أساليب الجراحة الحديثة والمتطورة باستمرار على الصعوبات التقنية، أما
ظاهرة الرفض فلا تزال تشكل تحديا ملموسا لزراعة الأعضاء إذ أن جسم الإنسان
مكون
بشكل متناسق تنسجم فيه وظائف الأعضاء إلى أقصى حدود الانسجام، وقد زوده الخالق جلا وعلا بعناصر دفاعية قوية تهب تلقائيا لدحر
العضو الجديد البديل أو المزروع، ثم تعمل فيه تنكيلا حتى يلفظه الجسم.
وعملية
الرفض هذه تخف أو تزيد تبعاً
لطبيعة العضو المزروع، فهي تبلغ أقصى درجات القوة، إذا كان العضو المزروع مأخوذا
من حيوان، فيرفضه الجسم الإنساني فورا، ولا يتاح للعضو الجديد سبب من أسباب
الحياة.
أما
إذا كان العضو المزروع مأخوذا من إنسان، فظاهرة الرفض تكون قوية جدا أيضا إلا أنها
لا تبلغ من العنف الدرجة التي تقابل بها العضو
المأخوذ من الحيوان.
وأما
إذا كان الزرع بين توأمين كنقل كلية من توأم إلى آخر، فإن الرفض يكون أخف وطأة،
ويمكن السيطرة عليه بأوجه من العلاج وبأنواع من العقاقير تساعد العضو المنقول على
الحياة في الجسم الجديد.
التحضير
للزرع:
لقد
ساعدت الدراسات المخبرية والدموية كثيرا على التخفيف من نسبة الرفض، وزيادة نسبة
النجاح في زرع الأعضاء.
ويعتبر
تناسب الأنسجة أمر ضروري يجب التنبه له عند الشخصين اللذين يراد نقل العضو المعين
من أحدهما للآخر. كما أنه من الضروري أيضا معرفة التناسب في كريات الدم البيضاء
عند الشخصين المذكورين، فهذه الكريات، بفصائلها المختلفة، تقوم بدور بالغ في شأن
الرفض أو القبول.
فصائل
الأعضاء المزروعة:
وعمليات
الزرع ليست كلها متشابهة، فهناك زرع الأنسجة كالجلد المأخوذ من الجثث الحديثة،
وهناك زرع العظام والأوتار والأغشية
العضلية، وزرع قرنية العين وصمامات القلب والأوعية الدموية والغدد المختلفة ثم
هناك زرع الأعضاء الكاملة:
كالكلية، والكبد، والقلب، والرئة، والبنكرياس. وفي هذه الفصيلة بالذات (أي الأعضاء) تقوم عملية الرفض بدورها
الأكبر. مما يتطلب استعمال جميع الوسائل للتغلب عليها وهذا ما يسمى بإخماد المناعة
في الجسم.
وزرع
الأعضاء يفتح أمام المرضى أفقاً
رحبا تتداخل فيه الكفاءة الجراحية العالية، والمعالجة الكيميائية المتقدمة، ويتوج
هذه كلها فهم عميق لمناعة الجسم ولظاهرة الرفض.
الموقف
الفقهي من غرس الأعضاء
أولاً: الغرس
الذاتي:
لقد أجمع كل من أفتى في العصر الحديث على
إباحة الغرس الذاتي، بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى ضرر، وأن يكون البرء مرجوا. وقد جاء
في قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم 99 وتاريخ 6/11/1402 هـ:
"بعد المناقشة وتداول الآراء، قرر المجلس بالإجماع جواز نقل عضو، أو جزئه من
إنسان حي مسلم، أو ذمي إلى نفسه، إذا دعت الحاجة، وأمن الخطر في نزعه، وغلب على
الظن نجاح زرعه".
ثانياً:
إعادة العضو بعد استئصاله بسبب حادثة أو مرض:
ولا خلاف عند الفقهاء في إباحة إعادة العضو
إلى موضعه إذا كان الاستئصال بسبب حادثة أو مرض، وهو ما يسمى إعادة الغرس، وقد
فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدد من الصحابة رضوان الله عليهم. وقواعد
الشريعة العامة تأمر بالإبقاء على النفس، والمحافظة على الصحة، ومنافع الأعضاء.
ثالثاً:
إعادة العضو المفصول قصاصا أو حدا:
إن إعادة العضو المفصول تٌلغي فائدة القصاص
أو الحد. لذا اتجهت أغلب آراء الفقهاء المعاصرين إلى عدم إباحته، وقد جاء في فتوى
مجمع الفقه الإسلامي ما يلي:
1-
لا يجوز شرعا إعادة العضو المقطوع تنفيذا للحد لأن في بقاء أثر الحد
تحقيقا كاملا للعقوبة المقررة شرعا, ومنعا للتعاون في استيفائها، وتفاديا لمصادمة
حكم الشرع في الظاهر.
2-
بما أن القصاص قد شرع لإقامة العدل، وإنصاف المجني عليه، وصون حق حياة
المجتمع، وتوفير الأمن والاستقرار، فأنه لا يجوز إعادة عضو استؤصل تنفيذا للقصاص
إلا في الحالات التالية:
أ.
أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع.
ب. أن يكون المجني عليه قد تمكن
من إعادة العضو المقطوع منه.
3-
يجوز إعادة العضو الذي استؤصل في حد أو قصاص بسبب خطأ في الحكم والتنفيذ.
رابعاً:
نقل الأعضاء من إنسان حي أو ميت إلى آخر حي.
وهنا يبرز سؤال مهم وهو:
هل يجوز شرعا للجراح أن يقطع جزءا
من جسم إنسان (المعطى) حي سليم أو من جثته
ميتا تحقيق لمصلحة علاجية لإنسان آخر مريض (المتلقي)؟
والجواب أنه:
لا
صعوبة بالنسبة للشق الثاني من هذا العمل، وهو زرع العضو في جسم المريض المتلقي،
فهو يدخل في عداد الأعمال الطبية أو الجراحية المباحة بإذن الشرع وبإذن المريض إذا
توافرت شروط الإباحة.
ولكن
الصعوبة كلها تكمن في الشق الأول من السؤال، ألا وهو استقطاع العضو من إنسان سليم
غير مريض ، فكيف يُباح شرعا مثل هذا العمل الذي لا تقتضيه
ضرورة صحية عند الإنسان المستقطع من جسمه العضو؟
ويتفرع
من هذا السؤال أسئلة كثيرة لا بد من الإجابة عنها وهي تتعلق بكيفية الحصول على هذه
الأعضاء؟ هل يجوز للشخص أن يبيع شيئا من أعضاء جسده أو يتبرع بها؟ وما مدى سلطة
الإنسان على جسده؟ أهي سلطة مطلقة أو مقيدة؟ وهل هناك فرق أن أستقطع هذا العضو من
جسم الإنسان الحي أم من جثة الميت؟ وما هي الشروط التي نعتمد عليها للتحقق من
الوفاة .. إلى غير ذلك من الأسئلة التي سنحاول أن نجيب عليها بإذن الله.
لقد عنيت الشرعة الإسلامية أيما عناية
بحماية النفس البشرية فحرمت قتل النفس إلا بالحق، وقد جعل الشارع الحكيم أول ما
يقضي فيه بين الناس يوم القيامة هو الدماء وتوعد مرتكب القتل بالعذاب إلى جانب
العقوبة الدنيوية.
كذلك أولت الشريعة عنايتها بجسد الإنسان
بعد موته ، حماية له من عبث العابثين، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله
: كسر عظام الميت ككسره حيا"، الأمر الذي اقتضى حرمة نبث القبور وتهشيم عظام
الموتى، كما خصصت كتب الفقه الإسلامي بابا خاصا للجنائز وآدابها، ومنه يظهر مدى
حرمة المساس بالميت.
ومن هنا فإن الشريعة الإسلامية تأبى أن
يعامل الإنسان معاملة الأموال أو دخوله في
دائرة الأعمال التجارية، كما يحدث مع من يعلنون عن التبرع ببعض الأجزاء الآدمية
مقابل مبلغ من المال.
بل إن كثيرا من الفقهاء حرم أن يتبرع
الإنسان ببعض أعضائه لآخر إما لكرامة الإنسان، أو مخافة هلاك الإنسان المأخوذ منه
العضو (المعطي).
ولكن الفقه الإسلامي فقها عمليا يحرص
على اتباع حاجات الإنسان المشروعة ولا يجب أن يقف حجر عثرة أمام تحقيق حاجات
إنسانية تتفق مع المقاصد العامة للشرع، خاصة إذا كان هذا الانتفاع لا يتعارض مع
كرامة الإنسانية.
ونستعرض فيما
يلي أهم القضايا والحجج التي استند إليها الفقهاء في إجازة زراعة الأعضاء الآدمية:
أولاً: اتفق
الفقهاء على أن لبن الآدميات باعتباره جزءا منفصلا عن جسم آدمي، يمكن الانتفاع به
في الشرع لورود آيات بينات في هذا المعنى، وفي العرف لأنه مخصص بطبيعته للخروج من
جسم المرأة لينتفع به غيرها.
أي إن الفقهاء
أجازوا عقد الرضاعة كاستثناء تبرره ضرورة المحافظة على حياة الطفل، إذن فمبدأ عدم
جواز التصرف في أجزاء الآدمي (الذي يقوم على كرامة الإنسان) يحتمل الاستثناء إذا
وجدت ضرورة عند آدمي آخر تبرر هذا الاستثناء أي أن القضية ليست قضية مطلقة.
ثانيا: هناك قواعد فقهية عديدة تدل على ، أنه إذا
تعذر إنقاذ حياة شخص مشرف على الهلاك بعلاج مباح فإنه يعالج بمحرم، للضرورة أو الحاجة،
وإن أدى ذلك إلى مفسدة أقل ، ومن هذه القواعد:
أ-الضرورات تبيح المحظورات:
وهذه القاعدة أصولية فقهية يدل عليها قوله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم
إليه)، فالممنوع شرعا يباح عند الضرورة، ومن هنا جاز أكل الميتة عند المخمصة،
وإساغة اللقمة بالخمر عند الغصة، إذا لم
يوجد سواهما مما يحل للحفاظ على حياة الإنسان.
ب) الضرر يزال:
وأصل
هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم : "لا ضرر ولا ضرار"
وهي تفيد وجوب إزالة الضرر ودفعه بعد وقوعه.
ج) درء المفاسد مقدم على جلب المصالح:
والمراد بدرء المفاسد دفعها وإزالتها، فإذا تعارضت مفسدة
ومصلحة قدم دفع المفسدة غالبا لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه
بالمأمورات، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا
منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه".
د) إذا تعارضت مصلحتان قدم أعلاهما:
وينبني على هذا كثير من المسائل، فالمرأة الحامل مثلا
إذا ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي فقد تعارضت فيه مصلحتان فإن في شق بطنها لإخراج
ولدها الحي انتهاك لحرمتها، لكن فيه الإبقاء على حياة الحمل الذي في بطنها، وإذا
ترك شق بطنها للمحافظة على حرمتها يكون في هذا القضاء على حياة الحمل، فأجاز الشارع
بشق بطنها وإخراج الحمل إيثاراً لجانب الحي على
جانب الميت، ولأن رعاية حرمة الحي أكد من رعاية حرمة الميت، إذ أن الاعتداء على
الميت بقطع رقبته مثلا، أو قطع عضو من أعضاءه لا يوجب قصاصا ولا دية، وإنما يوجب
تعزيرا، بخلاف قتل الحي مسلما أو ذميا فإنه يوجب قصاصا أو دية.
ثالثا: هناك مبادئ عامة دعا إليها الإسلام، وتنبنى
عليها مثل هذه
الأحكام ، ومنها:
أ)
الإيثار:
وهو مبدأ من المبادئ التي رغب فيها الإسلام ، ومعناه أن
يقدم الإنسان مصلحة أخيه على مصلحة نفسه بما هو حق له لا يحرم عليه بذلك ، فيترك
حظه لحظ غيره اعتمادا على صحة اليقين، وتحملا للمشقة في عون أخيه، وهو من محامد
الأخلاق، وله شواهد كثيرة تصل إلى بذل النفس في مرضاة الله. قال تعالى: ( ويؤثرون
على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ).
ب)
التعاون:
وحث الإسلام على التعاون وأمر به، ورغب في مساعدة الأخ لأخيه، وتقديم
العون له حتى يقوى بناء الأمة ويشتد ساعدها. قال تعالى: ( وتعاونوا على البر
والتقوى).
ج)
الهبة:
والتبرع كالهبة،
والهبة – وكذلك الهدية – مما رغب فيه الشارع وندب إليه، وهي من مكارم الأخلاق
وأمارة الجود والسخاء وصفة من صفات الكمال، وصف الله بها نفسه بقوله عز وجل : (
أم عندهم خزائن رحمة ربك
العزيز الوهاب).
رابعا:
إذا كان قتل النفس بغير حق من أشد
الجرائم، فإن إحياء النفوس يعتبر من أعظم القربات، يشهد لذلك قوله تعالى: في قصة
ابني آدم وقد قتل أحدهما أخاه بغير حق:
(من أجل ذلك
كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد
في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا). أي من كان سببا لحياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت
مشرفة عليه فكأنما أحيا الناس جميعا، فالإحياء هنا عبارة عن الإنقاذ من هلكة، فهو
مجازي ، إذ المعنى الحقيقي مختص بالله عز وجل، والمراد هنا التشبيه، والآية تعلمنا
ما يجب من وحدة البشر، وحرص كل واحد منهم على حياة الجميع.
وقد صدرت العديد
من الفتاوى من جهات رسمية ومن أفراد متخصصين تجيز في مجموعها نقل الأعضاء من أجسام
الأحياء أو من الجثث إلى المرضى، ومنها الفتوى الصادرة عن هيئة كبار العلماء بالقرار
رقم 99 بتاريخ 6/11/1402 هـ (انظر الملحق رقم1).