مجلة المحاماة - العدد التاسع
السنة الثالثة - عدد يونيه سنة 1923
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
الجريمة المستحيلة
في
الشروع الكامل وهو ما تتم فيه أعمال التنفيذ ولم يتحصل الجاني على ما
يبتغيه قد تكون الأسباب في عدم حصول الجاني على النتيجة التي يقصدها
استحالة مادية تعترض التنفيذ يجهلها الفاعل كمن يحاول إسقاط امرأة لم تكن
بحامل، أو كمن يحاول قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، وكمن يقصد قتل شخص
بآلة نارية نزع منها الخرطوش من قبل، أو كمن يشرع في قتل إنسان بالسم فيضع
له جوهرًا غير سام، أو كمن يحاول السرقة من خزانة أو صندوق أو درج أو جيب
شخص لم يكن بها نقود، ففي هذه الأمثلة عدم حصول الفاعل على ما يبتغيه إنما
نشأ عن ظروف خارجة عن إرادته فهل في هذه الأحوال يعاقب الجاني على هذه
الوقائع باعتبار أنها شروع كامل Delit Manqué أو لا عقاب لأن التنفيذ مستحيل ماديًا.
لقد تشعبت الآراء في هذا الموضوع:
المذهب المادي (doctrine objective):
إن أنصار هذا المذهب يرون أن لا عقاب على الشروع لأن تنفيذ الجريمة أصبح
مستحيلاً، ويعللون ذلك بأنه لا يمكن تصور بدء في تنفيذ ما هم مستحيل
تنفيذه، ويرون أن الأفعال التي يأتيها الفاعل كلها مظاهر تدل على نية
الإجرام ولكن هذا مجرم عزم على ارتكاب جريمة، ومجرد العزم على ارتكاب
جريمة حتى إذا كان مقرونًا بالأعمال الخارجية لا عقاب عليه، لأن القانون
لا يعاقب على مجرد التصميم.
على أن بعض أشياع هذا المذهب لم يسلموا بإطلاق هذه القاعدة من غير شرط ولا
قيد، لهذا يقسمون الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وفي الواقع لو طبقت القاعدة
بدون قيد ولا شرط لترتب على ذلك نتائج غريبة منها عدم إلحاق العقاب على
الجريمة الخائبةDélit Man qué
على أنه في حالة ما إذا خاب الفعل يمكن أن يقال بأن هناك استحالة اعترضت
التنفيذ، مثال ذلك إذا حاول إنسان قتل آخر باستعماله آلة نارية معمرة
ولكنه لم يصب المجني عليه أما لأنه أخطأ في تصويب الآلة وأما لأنه اضطرب
قليلاً عند إطلاق العيار فأخذ المقذوف اتجاهًا منحرفًا، فهنا من المستحيل
إصابة المراد قتله للأسباب آنفة الذكر، على أنه من المسلم به أن الشخص
المقصود بالقتل كان عرضة للخطر الداهم ولم ينجُ إلا لظرف خارج عن إرادة
الجاني، ومن جهة أخرى فلا يمكن تشبيه هذه الحالة بحالة ما إذا أراد قتل
آخر بآلة نارية غير معمرة أو بحالة ما إذا كان المقصود قتله كان فارق
الحياة من قبل.
لهذا قسموا الاستحالة إلى مطلقة ونسبية.
والاستحالة المطلقة والنسبية يمكن تقسيمها بالنسبة لمحل الجريمة وللوسائل
والطرق التي تستعمل لارتكاب الجريمة، فالاستحالة المتعلقة بمحل الجريمة
تكون مطلقة إذا انعدم محل الجريمة أو كان المحل مجردًا عن الصفة الجوهرية
المقصودة بارتكاب الجريمة كمن يريد قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، أو
كمن يريد إسقاط امرأة غير حامل.
والاستحالة تكون نسبية بالنسبة لمحل الجريمة إذا كان محل الجريمة حائزًا
للصفات المقصودة من ارتكاب الجريمة ولكنه لم يوجد في المحل الذي يعتقد
الجاني وجوده فيه، مثال ذلك: قصد شخص قتل آخر وأطلق عيارًا في الحجرة التي
يكون فيها عادةً ولكنه غاب عنها لسبب ما، أو حاول لص كسر خزانة أو صندوق
الصدقات وكانا خاليين من المال، أو حاول شخص السرقة من جيب آخر ولم يكن به
نقود.
والاستحالة التي تتعلق بالوسائل تكون مطلقة إذا كانت الطرق التي استعملت
لا تؤدي للنتيجة بالمرة، كمن يحاول قتل آخر بآلة نارية غير معمرة، أو حاول
شخص قتل آخر بالسم ووضع له جوهرًا غير سام، وتكون الاستحالة بالنسبة
للوسائل النسبية إذا كان من شأنها أن تؤدي للنتيجة إنما لسوء الاستعمال أو
لأسباب عارضية أخرى لم يحصل الفاعل على النتيجة المبتغاة، كمن يحاول قتل
شخص بآلة معمرة ولكنه أخطأ تصويب الآلة أو لأن المجني عليه اجتنابًا
للإصابة انحرف عن اتجاه المقذوف، أو لأن اللص الذي يحاول السرقة من خزانة
لم يحسن استعمال الأدوات التي استحضرها للكسر.
ففي أحوال الاستحالة المطلقة سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل لا يمكن
اعتبار الأفعال لا من قبيل الجريمة الخائبة أو الشروع المعاقب عليه وإن
كانت تدل على مظاهر أعمال لتصميم جنائي.
أما في أحوال الاستحالة النسبية فقالوا بوجود جريمة خائبة معاقب عليها قانونًا.
وقد جرى أغلب الشراح على هذا التقسيم على أن البعض يرى أن لا عقاب بالمرة في أحوال الاستحالة المطلقة أو النسبية.
الاستحالة القانونية والاستحالة المادية
أما العلامة (جارو) فإنه يقسم الاستحالة إلى قانونية ومادية ويرى أن لا عقاب في الأولى أما في الثانية فيستحق الجاني العقاب.
والاستحالة القانونية تكون في حالة ما إذا انعدم أحد الأركان المكونة
للجريمة كمن يريد إسقاط حامل في حالة عدم وجود الحمل، وكمن يريد قتل شخص
كان فارق الحياة من قبل، وكمن يريد قتل حيوان ظهر أنه مملوكًا له، وكالشخص
الذي يريد تسميم آخر بجوهر غير سام، وكمن يريد سرقة مال ظهر أنه ملكه، وما
سوى ذلك فإن الاستحالة تكون مادية ويستحق الجاني العقاب.
المذهب الشخصي Doctrine Subjective
إن
أنصار هذا المذهب إنما ينظرون إلى قصد الفاعل بصرف النظر عن الاستحالة إن
كانت مطلقة أو نسبية، سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل، لهذا يرون أنه
يتعين البحث عن نية وقصد الجاني وهل اقترن قصد الجاني بأفعال خارجية ينتقي
معها كل شك، على أنه كان يريد ارتكاب جريمة معينة كما يجب البحث عما إذا
كان هذا التصميم الجنائي المقرون بالأفعال خطرًا أم لا.
واختيار الوسائل قد يدل على أن الفاعل أما أنه ليس بكفء لارتكاب الجرم
وأما لأنه ساذج لدرجة أنه يعتقد قتل شخص بالسكر أو بملح الطعام أو كمن
يريد قتل شخص بآلة نارية فيطلقها على مسافة كبيرة جدًا يستحيل معها إصابة
المرمى، ففي هذه الأحوال الأخيرة لا جريمة، لا لأنها غير كافية للحصول على
النتيجة المقصودة وإنما تنهض دليلاً على أن الفاعل غير كفء لارتكاب الجرم
أو أنها تدل على ضعف في الإدارة وتزعزع في العزيمة. ومن العبث إلحاق
العقاب على مثل هذه الأفعال التي لا يترتب عليها ضرر ما.
على أن هذه الأفعال تخالف ما إذا أراد شخص قتل آخر ووضع له مادة بيضاء
كالسكر مثلاً وكان يعتقد أنها سامة لخطأ الصيدلي في التركيب كما أنها
تخالف حالة من يريد قتل آخر وكان عَمر الآلة النارية من قبل وإنما اُنتزعت
الخرطوشة على غير علم منه أو كمن يريد قتل آخر بعيار ناري وكانت المسافة
بينه وبين المجني عليه أطول بقليل عن مرمى البندقية، ففي هذه الأحوال
الأخيرة يستحق الفاعل العقاب لأن هذه الأفعال لا تدل على أن الجاني غير
كفء لارتكاب الجرم.
ومن أنصار هذا المذهب الشخصي علماء الألمان، وقد أخذت بهذه النظرية محكمة
برلين العليا إذا قضت بتاريخ 24 مايو، و10 يونيه سنة 1880 بالعقاب على
امرأة حاولت قتل جنينها وكان مولودًا ميتًا، وقضت بتاريخ 30 مارس سنة 1883
بعقاب شخص حاول إسقاط امرأة لم تكن بحامل، وبتاريخ 4 يونيه سنة 1883 و27
فبراير سنة 1888 أصدرت حكمين بهذا المعنى الأخير (وقد اتبع هذه القاعدة
النقض المصري في حكمه الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 1913 نمرة 15 عدد 18 س 94)
انظر فيدال طبعة ثالثة صـ 182 نبذة 182 والحاشية عليها.
ويرى فيدال وبعض الشراح أن نص القانون الفرنسي لا يساعد على تقسيم الجريمة
إلى مستحيلة وغير مستحيلة لأنه جاء في تعريف الشروع أن تكون الجريمة خابت
لظروف خارجة عن إرادة الفاعل، وأما التقسيم إلى استحالة مطلقة واستحالة
نسبية فهو استبدادي Arbitraire
ومن أوضاع الشراح وهو غير مؤسس على حقيقة ثابتة وعرضة للنقد والتأويل، وفي
الواقع ليس هناك ما يسمونه بالاستحالة النسبية لأن إذا نظرنا إلى الظروف
التي تحيط بالفاعل وقت ارتكاب الفعل إذا لم يحصل على النتيجة التي يبتغيها
عند ما يأتي على الأفعال التي يستلزمها التنفيذ يمكن أن يقال بأن هناك
استحالة مطلقة حالت دون الحصول على النتيجة وهذا ينافي ويتعارض مع الجريمة
الخائبة المعاقب عليها قانونًا، وأن الاستحالة التي تحول دون الحصول على
النتيجة المبتغاة مهما كانت صفتها ما هي إلا من الأسباب الخارجة عن إدارة
الفاعل.
القضاء في فرنسا
يظهر
أن القضاء في فرنسا قد اتبع نظرية تقسيم الجريمة المستحيلة إلى مطلقة
ونسبية، فقد قضى بأن لا عقاب على من يشرع في إسقاط امرأة ليست بحامل
(النقض 6 يناير سنة 1859) ولا في حالة التسميم إذا استعمل الجاني جوهرًا
غير سام.
وقد يظهر هذا التقسيم بأنواعه في حكم النقض الصادر بتاريخ 4 نوفمبر سنة
1876 الذي قضى بعقوبة الشروع في سرقة صندوق الصدقات وكان خاليًا، وجاء
بإحدى الحيثيات أن هذا الفعل لا يمكن اعتباره من قبيل الاستحالة المطلقة،
وقد قضى بالعقوبة على شخص أطلق عيارًا في حجرة شخص كان يعتقد وجوده فيها
قاصدًا قتله ولم يوجد بها صدفة (نقض 12 إبريل سنة 1879)، وبني الحكم على
نفس الأسباب السابقة.
وقد زعم بعض الشراح على أن النقض الفرنسي في حكم حديث رجع عن هذه النظرية
واتبع المذهب الشخصي في حكمه الصادر بتاريخ 4 يناير سنة 1895، وهي حادثه
محاولة لص السرقة من جيب شخص لم يوجد به نقود، ذلك لأن الحكم المشار إليه
لم يشر إلى تقسيم الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وجاء بالأسباب أن الجريمة
خابت لظروف خارجة عن إرادة الفاعل.
على أنه قد صدر حكمان من محكمة الجنايات الفرنسية بتاريخ 16 يوليه سنة
1910، و20 مارس سنة 1913, وجاء بأسباب الحكمين الإشارة إلى تقسيم
الاستحالة إلى مطلقة ونسبية (انظر فيدال صـ 163 طبعة سادسة).
رأي العلامة جرسون
إن
هذا العلامة يرى أن نظرية الجريمة المستحيلة اعتبرها الشراح بفرنسا مدة
طويلة نظرية ثابتة وأساسها هذا التدليل الخلاب إذا يقولون: إن الشروع
يستلزم بدءًا في التنفيذ، وغير معقول البدء في تنفيذ جريمة يستحيل
تنفيذها، إذن لا عقاب على الجريمة المستحيلة.
وقد قرر جرسون أن القضاء في فرنسا بعد أن أخذ بنظرية الجريمة المستحيلة
عاد واتبع المذهب الشخصي، وقد ذكر أسباب الحكمين الصادرين من محكمة النقض
بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1876، و4 يناير سنة 1895 المذكورين آنفًا.
ويرى أيضًا أن المذهب الشخصي حل محل نظرية الجريمة المستحيلة (جرسون جزء أول صـ 24 نوته 109 و133 على المادة (3) من قانون العقوبات).
القضاء في مصر
أحكام المحاكم المصرية في هذا الموضوع:
1 - قد أشار حكم النقض الصادر بتاريخ 12 ديسمبر سنة 1913 إلى تقسيم
الجريمة المستحيلة إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية وهذا نص إحدى
الحيثيات:
(وحيث إنه لا يصح القول هنا بوجود (جنحة مستحيلة) لأن مسألة هذه الاستحالة
لا يمكن التمسك بها إلا في حالة وجود مانع مادي ومطلق لا بسبب وجود مانع
نسبي ناشئ عن قوة إدراك المجني عليه وبالفعل فإن هذا الأخير قد جعل المتهم
يخيب عن عمله بسبب ظرف قهري لا دخل فيه لنفس الواقعة ولولا وجود هذا الظرف
لكان من الممكن أن الجريمة يتم ارتكابها فعلاً) (المجموعة الرسمية سنة
1915 نمرة 19).
2 - وقد صدر حكم من محكمة النقض في نفس التاريخ ومن ذات الهيئة الأولى.
ويظهر أن محكمة النقض في هذا الحكم قد اتبعت المذهب الشخصي (مادة تسميم).
أما وجه النقض الذي قدمه المحكوم عليه فينحصر في أنه لم يبين في الحكم أن كمية السم كانت كافية لإحداث الوفاة.
وهاك نص إحدى حيثيات الحكم:
(وحيث إن الوجه الثاني مبني على عدم بيان أن كمية السم كانت كافية لإحداث
الوفاة فهذا البيان ليس ركنًا من الأركان المكونة لجريمة الشروع في القتل
بالسم ولذا ليس من الواجب إثباته، لأن الشروع في القتل بواسطة السم يتكون
بمجرد إعطاء شخص عمدًا مادة في إمكانها إحداث الموت أو يظن الفاعل أنها
تحدث الوفاة وذلك توصلاً لقتل المجني عليه، وأما إذا أعطى السم بكمية
خفيفة جدًا أو إذا كانت الجواهر المستعملة غير مضرة وذلك بدون علم الفاعل
ولكنها أعطيت بقصد قتل المجني عليه فإن هذه الوقائع لا تكون جناية مستحيلة
بل شروعًا في القتل عمدًا قد خاب أثره لأسباب خارجة عن إرادة الفاعل، وفي
الواقع فإن جريمة الشروع في القتل عمدًا بواسطة السم توجد قانونًا متى
أظهر الفاعل نية ارتكابها بأفعال مقاربة للجناية ومع جميع الظروف المكونة
لها، أما كون السم قد أعطي بكمية خفيفة جدًا أو أن المادة المستعملة كانت
بدون علم الفاعل غير مضرة بدلاً من أن تكون قاتلة فإن هذه ظروف قهرية تجعل
الفعل شروعًا بدلاً من قتل تام) (المجموعة الرسمية 15 نمرة 18). ارتكن
الحكم على جرسون وشرح القانون الألماني وحكم الإمبراطورية الألمانية في 24
مايو 1880، وقد قضت محكمة أسيوط الاستئنافية في واقعة حاول الجناة فيها
سرقة خزانة وكسروها ولم يجدوا بها نقودًا.
وقد جاء بأسباب هذا الحكم ما يأتي:
(حيث إنه ثبت من شهادة المجني عليه والتحقيقات أن المتهم دخل بيت المجني
عليه وكان جاريًا كسر الدولاب الذي كان بداخله عقود إيجار وسندات وقد
اعترف المتهم أنه كان يكسر الدولاب لسرقة النقود التي كان يعتقد أنها
بداخله).
(وحيث إن الشروع في السرقة المعاقب عليه قانونًا يمكن توفره متى ظهر قصد
الفاعل بأعمال محسوسة لا يمكن تفسيرها بغير ذلك وليس من المهم فقدان ظرف
من الظروف التي توصل الفاعل إلى غرضه مثل عدم وجود النقود في المكان الذي
كان يقصد السرقة منه لأن فقدان هذا الظرف خارج عن إرادته).
وقد حكمت محكمة النقض والإبرام الفرنسوية في 4 يناير سنة 1895 بإدانة شخص وضع يده في جيب آخر بقصد السرقة وكان الجيب خاليًا.
(ويظهر أن الحكم اتبع المذهب الشخصي).
ونلاحظ بأن حكم النقض الفرنسي المشار إليه بهذه الحيثيات قد اتخذه جرسون
وبعض الشراح دليلاً على أن النقض بفرنسا عدل عن المذهب المادي.
خليل عفت ثابت
قاضي محكمة الأقصر الجزئية
السنة الثالثة - عدد يونيه سنة 1923
أبحاث قانونية وشؤون قضائية
الجريمة المستحيلة
في
الشروع الكامل وهو ما تتم فيه أعمال التنفيذ ولم يتحصل الجاني على ما
يبتغيه قد تكون الأسباب في عدم حصول الجاني على النتيجة التي يقصدها
استحالة مادية تعترض التنفيذ يجهلها الفاعل كمن يحاول إسقاط امرأة لم تكن
بحامل، أو كمن يحاول قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، وكمن يقصد قتل شخص
بآلة نارية نزع منها الخرطوش من قبل، أو كمن يشرع في قتل إنسان بالسم فيضع
له جوهرًا غير سام، أو كمن يحاول السرقة من خزانة أو صندوق أو درج أو جيب
شخص لم يكن بها نقود، ففي هذه الأمثلة عدم حصول الفاعل على ما يبتغيه إنما
نشأ عن ظروف خارجة عن إرادته فهل في هذه الأحوال يعاقب الجاني على هذه
الوقائع باعتبار أنها شروع كامل Delit Manqué أو لا عقاب لأن التنفيذ مستحيل ماديًا.
لقد تشعبت الآراء في هذا الموضوع:
المذهب المادي (doctrine objective):
إن أنصار هذا المذهب يرون أن لا عقاب على الشروع لأن تنفيذ الجريمة أصبح
مستحيلاً، ويعللون ذلك بأنه لا يمكن تصور بدء في تنفيذ ما هم مستحيل
تنفيذه، ويرون أن الأفعال التي يأتيها الفاعل كلها مظاهر تدل على نية
الإجرام ولكن هذا مجرم عزم على ارتكاب جريمة، ومجرد العزم على ارتكاب
جريمة حتى إذا كان مقرونًا بالأعمال الخارجية لا عقاب عليه، لأن القانون
لا يعاقب على مجرد التصميم.
على أن بعض أشياع هذا المذهب لم يسلموا بإطلاق هذه القاعدة من غير شرط ولا
قيد، لهذا يقسمون الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وفي الواقع لو طبقت القاعدة
بدون قيد ولا شرط لترتب على ذلك نتائج غريبة منها عدم إلحاق العقاب على
الجريمة الخائبةDélit Man qué
على أنه في حالة ما إذا خاب الفعل يمكن أن يقال بأن هناك استحالة اعترضت
التنفيذ، مثال ذلك إذا حاول إنسان قتل آخر باستعماله آلة نارية معمرة
ولكنه لم يصب المجني عليه أما لأنه أخطأ في تصويب الآلة وأما لأنه اضطرب
قليلاً عند إطلاق العيار فأخذ المقذوف اتجاهًا منحرفًا، فهنا من المستحيل
إصابة المراد قتله للأسباب آنفة الذكر، على أنه من المسلم به أن الشخص
المقصود بالقتل كان عرضة للخطر الداهم ولم ينجُ إلا لظرف خارج عن إرادة
الجاني، ومن جهة أخرى فلا يمكن تشبيه هذه الحالة بحالة ما إذا أراد قتل
آخر بآلة نارية غير معمرة أو بحالة ما إذا كان المقصود قتله كان فارق
الحياة من قبل.
لهذا قسموا الاستحالة إلى مطلقة ونسبية.
والاستحالة المطلقة والنسبية يمكن تقسيمها بالنسبة لمحل الجريمة وللوسائل
والطرق التي تستعمل لارتكاب الجريمة، فالاستحالة المتعلقة بمحل الجريمة
تكون مطلقة إذا انعدم محل الجريمة أو كان المحل مجردًا عن الصفة الجوهرية
المقصودة بارتكاب الجريمة كمن يريد قتل شخص كان فارق الحياة من قبل، أو
كمن يريد إسقاط امرأة غير حامل.
والاستحالة تكون نسبية بالنسبة لمحل الجريمة إذا كان محل الجريمة حائزًا
للصفات المقصودة من ارتكاب الجريمة ولكنه لم يوجد في المحل الذي يعتقد
الجاني وجوده فيه، مثال ذلك: قصد شخص قتل آخر وأطلق عيارًا في الحجرة التي
يكون فيها عادةً ولكنه غاب عنها لسبب ما، أو حاول لص كسر خزانة أو صندوق
الصدقات وكانا خاليين من المال، أو حاول شخص السرقة من جيب آخر ولم يكن به
نقود.
والاستحالة التي تتعلق بالوسائل تكون مطلقة إذا كانت الطرق التي استعملت
لا تؤدي للنتيجة بالمرة، كمن يحاول قتل آخر بآلة نارية غير معمرة، أو حاول
شخص قتل آخر بالسم ووضع له جوهرًا غير سام، وتكون الاستحالة بالنسبة
للوسائل النسبية إذا كان من شأنها أن تؤدي للنتيجة إنما لسوء الاستعمال أو
لأسباب عارضية أخرى لم يحصل الفاعل على النتيجة المبتغاة، كمن يحاول قتل
شخص بآلة معمرة ولكنه أخطأ تصويب الآلة أو لأن المجني عليه اجتنابًا
للإصابة انحرف عن اتجاه المقذوف، أو لأن اللص الذي يحاول السرقة من خزانة
لم يحسن استعمال الأدوات التي استحضرها للكسر.
ففي أحوال الاستحالة المطلقة سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل لا يمكن
اعتبار الأفعال لا من قبيل الجريمة الخائبة أو الشروع المعاقب عليه وإن
كانت تدل على مظاهر أعمال لتصميم جنائي.
أما في أحوال الاستحالة النسبية فقالوا بوجود جريمة خائبة معاقب عليها قانونًا.
وقد جرى أغلب الشراح على هذا التقسيم على أن البعض يرى أن لا عقاب بالمرة في أحوال الاستحالة المطلقة أو النسبية.
الاستحالة القانونية والاستحالة المادية
أما العلامة (جارو) فإنه يقسم الاستحالة إلى قانونية ومادية ويرى أن لا عقاب في الأولى أما في الثانية فيستحق الجاني العقاب.
والاستحالة القانونية تكون في حالة ما إذا انعدم أحد الأركان المكونة
للجريمة كمن يريد إسقاط حامل في حالة عدم وجود الحمل، وكمن يريد قتل شخص
كان فارق الحياة من قبل، وكمن يريد قتل حيوان ظهر أنه مملوكًا له، وكالشخص
الذي يريد تسميم آخر بجوهر غير سام، وكمن يريد سرقة مال ظهر أنه ملكه، وما
سوى ذلك فإن الاستحالة تكون مادية ويستحق الجاني العقاب.
المذهب الشخصي Doctrine Subjective
إن
أنصار هذا المذهب إنما ينظرون إلى قصد الفاعل بصرف النظر عن الاستحالة إن
كانت مطلقة أو نسبية، سواء تعلقت بمحل الجريمة أو بالوسائل، لهذا يرون أنه
يتعين البحث عن نية وقصد الجاني وهل اقترن قصد الجاني بأفعال خارجية ينتقي
معها كل شك، على أنه كان يريد ارتكاب جريمة معينة كما يجب البحث عما إذا
كان هذا التصميم الجنائي المقرون بالأفعال خطرًا أم لا.
واختيار الوسائل قد يدل على أن الفاعل أما أنه ليس بكفء لارتكاب الجرم
وأما لأنه ساذج لدرجة أنه يعتقد قتل شخص بالسكر أو بملح الطعام أو كمن
يريد قتل شخص بآلة نارية فيطلقها على مسافة كبيرة جدًا يستحيل معها إصابة
المرمى، ففي هذه الأحوال الأخيرة لا جريمة، لا لأنها غير كافية للحصول على
النتيجة المقصودة وإنما تنهض دليلاً على أن الفاعل غير كفء لارتكاب الجرم
أو أنها تدل على ضعف في الإدارة وتزعزع في العزيمة. ومن العبث إلحاق
العقاب على مثل هذه الأفعال التي لا يترتب عليها ضرر ما.
على أن هذه الأفعال تخالف ما إذا أراد شخص قتل آخر ووضع له مادة بيضاء
كالسكر مثلاً وكان يعتقد أنها سامة لخطأ الصيدلي في التركيب كما أنها
تخالف حالة من يريد قتل آخر وكان عَمر الآلة النارية من قبل وإنما اُنتزعت
الخرطوشة على غير علم منه أو كمن يريد قتل آخر بعيار ناري وكانت المسافة
بينه وبين المجني عليه أطول بقليل عن مرمى البندقية، ففي هذه الأحوال
الأخيرة يستحق الفاعل العقاب لأن هذه الأفعال لا تدل على أن الجاني غير
كفء لارتكاب الجرم.
ومن أنصار هذا المذهب الشخصي علماء الألمان، وقد أخذت بهذه النظرية محكمة
برلين العليا إذا قضت بتاريخ 24 مايو، و10 يونيه سنة 1880 بالعقاب على
امرأة حاولت قتل جنينها وكان مولودًا ميتًا، وقضت بتاريخ 30 مارس سنة 1883
بعقاب شخص حاول إسقاط امرأة لم تكن بحامل، وبتاريخ 4 يونيه سنة 1883 و27
فبراير سنة 1888 أصدرت حكمين بهذا المعنى الأخير (وقد اتبع هذه القاعدة
النقض المصري في حكمه الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 1913 نمرة 15 عدد 18 س 94)
انظر فيدال طبعة ثالثة صـ 182 نبذة 182 والحاشية عليها.
ويرى فيدال وبعض الشراح أن نص القانون الفرنسي لا يساعد على تقسيم الجريمة
إلى مستحيلة وغير مستحيلة لأنه جاء في تعريف الشروع أن تكون الجريمة خابت
لظروف خارجة عن إرادة الفاعل، وأما التقسيم إلى استحالة مطلقة واستحالة
نسبية فهو استبدادي Arbitraire
ومن أوضاع الشراح وهو غير مؤسس على حقيقة ثابتة وعرضة للنقد والتأويل، وفي
الواقع ليس هناك ما يسمونه بالاستحالة النسبية لأن إذا نظرنا إلى الظروف
التي تحيط بالفاعل وقت ارتكاب الفعل إذا لم يحصل على النتيجة التي يبتغيها
عند ما يأتي على الأفعال التي يستلزمها التنفيذ يمكن أن يقال بأن هناك
استحالة مطلقة حالت دون الحصول على النتيجة وهذا ينافي ويتعارض مع الجريمة
الخائبة المعاقب عليها قانونًا، وأن الاستحالة التي تحول دون الحصول على
النتيجة المبتغاة مهما كانت صفتها ما هي إلا من الأسباب الخارجة عن إدارة
الفاعل.
القضاء في فرنسا
يظهر
أن القضاء في فرنسا قد اتبع نظرية تقسيم الجريمة المستحيلة إلى مطلقة
ونسبية، فقد قضى بأن لا عقاب على من يشرع في إسقاط امرأة ليست بحامل
(النقض 6 يناير سنة 1859) ولا في حالة التسميم إذا استعمل الجاني جوهرًا
غير سام.
وقد يظهر هذا التقسيم بأنواعه في حكم النقض الصادر بتاريخ 4 نوفمبر سنة
1876 الذي قضى بعقوبة الشروع في سرقة صندوق الصدقات وكان خاليًا، وجاء
بإحدى الحيثيات أن هذا الفعل لا يمكن اعتباره من قبيل الاستحالة المطلقة،
وقد قضى بالعقوبة على شخص أطلق عيارًا في حجرة شخص كان يعتقد وجوده فيها
قاصدًا قتله ولم يوجد بها صدفة (نقض 12 إبريل سنة 1879)، وبني الحكم على
نفس الأسباب السابقة.
وقد زعم بعض الشراح على أن النقض الفرنسي في حكم حديث رجع عن هذه النظرية
واتبع المذهب الشخصي في حكمه الصادر بتاريخ 4 يناير سنة 1895، وهي حادثه
محاولة لص السرقة من جيب شخص لم يوجد به نقود، ذلك لأن الحكم المشار إليه
لم يشر إلى تقسيم الاستحالة إلى مطلقة ونسبية، وجاء بالأسباب أن الجريمة
خابت لظروف خارجة عن إرادة الفاعل.
على أنه قد صدر حكمان من محكمة الجنايات الفرنسية بتاريخ 16 يوليه سنة
1910، و20 مارس سنة 1913, وجاء بأسباب الحكمين الإشارة إلى تقسيم
الاستحالة إلى مطلقة ونسبية (انظر فيدال صـ 163 طبعة سادسة).
رأي العلامة جرسون
إن
هذا العلامة يرى أن نظرية الجريمة المستحيلة اعتبرها الشراح بفرنسا مدة
طويلة نظرية ثابتة وأساسها هذا التدليل الخلاب إذا يقولون: إن الشروع
يستلزم بدءًا في التنفيذ، وغير معقول البدء في تنفيذ جريمة يستحيل
تنفيذها، إذن لا عقاب على الجريمة المستحيلة.
وقد قرر جرسون أن القضاء في فرنسا بعد أن أخذ بنظرية الجريمة المستحيلة
عاد واتبع المذهب الشخصي، وقد ذكر أسباب الحكمين الصادرين من محكمة النقض
بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1876، و4 يناير سنة 1895 المذكورين آنفًا.
ويرى أيضًا أن المذهب الشخصي حل محل نظرية الجريمة المستحيلة (جرسون جزء أول صـ 24 نوته 109 و133 على المادة (3) من قانون العقوبات).
القضاء في مصر
أحكام المحاكم المصرية في هذا الموضوع:
1 - قد أشار حكم النقض الصادر بتاريخ 12 ديسمبر سنة 1913 إلى تقسيم
الجريمة المستحيلة إلى استحالة مطلقة واستحالة نسبية وهذا نص إحدى
الحيثيات:
(وحيث إنه لا يصح القول هنا بوجود (جنحة مستحيلة) لأن مسألة هذه الاستحالة
لا يمكن التمسك بها إلا في حالة وجود مانع مادي ومطلق لا بسبب وجود مانع
نسبي ناشئ عن قوة إدراك المجني عليه وبالفعل فإن هذا الأخير قد جعل المتهم
يخيب عن عمله بسبب ظرف قهري لا دخل فيه لنفس الواقعة ولولا وجود هذا الظرف
لكان من الممكن أن الجريمة يتم ارتكابها فعلاً) (المجموعة الرسمية سنة
1915 نمرة 19).
2 - وقد صدر حكم من محكمة النقض في نفس التاريخ ومن ذات الهيئة الأولى.
ويظهر أن محكمة النقض في هذا الحكم قد اتبعت المذهب الشخصي (مادة تسميم).
أما وجه النقض الذي قدمه المحكوم عليه فينحصر في أنه لم يبين في الحكم أن كمية السم كانت كافية لإحداث الوفاة.
وهاك نص إحدى حيثيات الحكم:
(وحيث إن الوجه الثاني مبني على عدم بيان أن كمية السم كانت كافية لإحداث
الوفاة فهذا البيان ليس ركنًا من الأركان المكونة لجريمة الشروع في القتل
بالسم ولذا ليس من الواجب إثباته، لأن الشروع في القتل بواسطة السم يتكون
بمجرد إعطاء شخص عمدًا مادة في إمكانها إحداث الموت أو يظن الفاعل أنها
تحدث الوفاة وذلك توصلاً لقتل المجني عليه، وأما إذا أعطى السم بكمية
خفيفة جدًا أو إذا كانت الجواهر المستعملة غير مضرة وذلك بدون علم الفاعل
ولكنها أعطيت بقصد قتل المجني عليه فإن هذه الوقائع لا تكون جناية مستحيلة
بل شروعًا في القتل عمدًا قد خاب أثره لأسباب خارجة عن إرادة الفاعل، وفي
الواقع فإن جريمة الشروع في القتل عمدًا بواسطة السم توجد قانونًا متى
أظهر الفاعل نية ارتكابها بأفعال مقاربة للجناية ومع جميع الظروف المكونة
لها، أما كون السم قد أعطي بكمية خفيفة جدًا أو أن المادة المستعملة كانت
بدون علم الفاعل غير مضرة بدلاً من أن تكون قاتلة فإن هذه ظروف قهرية تجعل
الفعل شروعًا بدلاً من قتل تام) (المجموعة الرسمية 15 نمرة 18). ارتكن
الحكم على جرسون وشرح القانون الألماني وحكم الإمبراطورية الألمانية في 24
مايو 1880، وقد قضت محكمة أسيوط الاستئنافية في واقعة حاول الجناة فيها
سرقة خزانة وكسروها ولم يجدوا بها نقودًا.
وقد جاء بأسباب هذا الحكم ما يأتي:
(حيث إنه ثبت من شهادة المجني عليه والتحقيقات أن المتهم دخل بيت المجني
عليه وكان جاريًا كسر الدولاب الذي كان بداخله عقود إيجار وسندات وقد
اعترف المتهم أنه كان يكسر الدولاب لسرقة النقود التي كان يعتقد أنها
بداخله).
(وحيث إن الشروع في السرقة المعاقب عليه قانونًا يمكن توفره متى ظهر قصد
الفاعل بأعمال محسوسة لا يمكن تفسيرها بغير ذلك وليس من المهم فقدان ظرف
من الظروف التي توصل الفاعل إلى غرضه مثل عدم وجود النقود في المكان الذي
كان يقصد السرقة منه لأن فقدان هذا الظرف خارج عن إرادته).
وقد حكمت محكمة النقض والإبرام الفرنسوية في 4 يناير سنة 1895 بإدانة شخص وضع يده في جيب آخر بقصد السرقة وكان الجيب خاليًا.
(ويظهر أن الحكم اتبع المذهب الشخصي).
ونلاحظ بأن حكم النقض الفرنسي المشار إليه بهذه الحيثيات قد اتخذه جرسون
وبعض الشراح دليلاً على أن النقض بفرنسا عدل عن المذهب المادي.
خليل عفت ثابت
قاضي محكمة الأقصر الجزئية