استهلال
الحمد لله الأول بلا
ابتداء, والآخر بلا انتهاء, العظيم سلطانه, الساطع برهانه, معجز البلغاء قرآنه القائل
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا
عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن
دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} والصلاة والسلام على من رفع الله له قدرا,
وساد البرية طـُرّا, القائل {إن من البيان لسحرا}
أما بعد:
فإن لي عشقاً قديماً
باللغة العربية, وآدابها فلا يطربني شيءٌ أكثر من الشعر, ولا يشدني شيء أكثر من
الخطابة. ولقد جرت الرياح بما يشتهي السَّـفِـنُ, فلقد خيرت بين خمسة مواضيع أحدها
عنوان هذا البحث ولما كان له أوثق الصلة بالمعشوقة لم أتردد لحظة في اختياره.
فالمرافعة هي الكـُوَّة(1)
التي يمكن لعضو ادعاء عام له شغف بالعربية أن يطل من خلالها على اللغة وآدابها, وهذا
وإن لم يكن هو كل ما حملني على اختيار هذا الموضوع إلا أنه أحد أهم الأسباب.
إنني قبل الالتحاق بالادعاء
العام كنت أسمع عن المرافعة من خلال الأعمال الفنية المرئية أو المسموعة أو
المقروءة, ولقد رسمت تلك الأعمال صورة معينة في ذهني إلا أني لم أجدها في الواقع
العملي بعد التحاقي بالعمل ومعاينة الواقع وهذا سبب آخر.
كما أنني لم ألمس -
على الأقل عند زملائي – تصوراً واضحاً ودقيقاً للمرافعة بمعناها القانوني فهل ما
يجري في المحاكم من مداخلات لأطراف الدعوى هي المرافعة؟ أم هي الردود التي يرد بها
بعضهم على بعض؟أم هي ما يبديه المحامون وأعضاء الادعاء العام في جميع الجلسات
المخصصة لقضية ما, هي المرافعة؟ أم أن المرافعة هي ذلك القالب الخطابي الأدبي
القانوني الذي يَسُلّ فيه كل طرف من أطراف الخصومة سيف بيانه ليصل به إلى الحق
الذي ينشده و يذود عنه؟ إذن هناك أسئلة عديدة... فما المرافعة؟ وما آدابها؟ وهل هي
ملكة عند أشخاص موهوبين؟ أم أنها تطيع كل من أراد قبض زمامها؟ لقد وجدت هذه الأسئلة
في نفسي مقدمات فعزمت أن أضع هذا البحث كجواب لها, فعساني أبلغ ما ابتغيت, وإلا
فحسبي أجر المجتهد.
المرافعة القانونية
كما سيأتي تعريفها لاحقاً متصورة من أشخاص ثلاثة هم: 1- عضو الادعاء العام ممثلاً
للحق العام. 2- المحامي بصفته وكيلاً عن الخصوم سواء كان محامي المتهم أو المجني
عليه أو المدين بالحق المدني أو المسؤول عنه. 3- الخصم نفسه إذا لم يقم وكيلاً
عنه.
ومراعاة لشرط البحث المتعلق بعدد صفحاته,
وتركيزاً للجهد في الوصول إلى ما يصبو إليه الباحث وما يعنيه ومجموعته في عملهم في
المقام الأول، فلقد رأيت الاقتصار على تناول الموضوع من جهة مرافعة أعضاء الادعاء
العام فقط.
سيبدأ البحث بتوطئة
أعرض فيها لتاريخ المرافعة والتفريق بينها وبين المرافعة المدنية.
ثم سنتناول موضوع البحث من خلال أربعة مطالب
رئيسة مقسمة على النحو الآتي:
المطلب الأول
نخصصه لبحث ضرورة المرافعة , وأحاول
التوسع فيه لأن الاقتناع بضرورة المرافعة سيدفع القارئ الكريم إما إلى مواصلة
قراءة البحث بعناية أو طي دفتيه. وسيقع المطلب في فرعين يكون الأول لبحث الجانب القانوني لضرورة المرافعة والثاني لبحث ضرورتها
الأدبية.
وفي المطلب الثاني أتناول
تعريف المرافعة لغة واصطلاحاً وأسهم في الموضوع بمحاولة لوضع تعريف دقيق للمرافعة.
وفي المطلب الثالث
أعرض لبناء المرافعة وأقسمه إلى ثلاثة أفرع يكون الأول لدراسة لغة المرافعة
والثاني لبيان عناصرها والثالث لإظهار أساليبها.
وأخصص المطلب الرابع
لآداب المرافعة محاولاً تحديد الأساسي منها على شكل نقاط متوالية. وقد راعيت قدر
المستطاع تسلسل الموضوع عند ترتيب المباحث ليكون اللاحق منها مكملاً لفكرة السابق.
أخيراً... وبعد ما
تفتحت عيني على عظم شأن هذا الموضوع وتوافقه مع اتجاهي وميولي فإني عازم على أن يكون لهذا العمل ما بعده عملاً وقولاً.
وقبل البدء أقول:-
وأن تجد عيباً فسد الخللا فجل
من لا عيب فيه وعلا(1)
ملاحظة:
خدم هذا البحث باستبيان أجريته على شريحة
مكونة من بعض أصحاب الفضيلة المشايخ القضاة, وأعضاء ادعاء عام, ومحامين, وأفراد من
الجمهور. وقد طرحت فيه أسئلة متعلقة ببعض محاور البحث لاستجلاء آراء المستجبين
حولها بقدر ما يعينني على بحث ومناقشة المسائل الخلافية, توفيراً للوقت والجهد
الذي قد يبذل في المقابلات الشخصية وعناية بأخذ قدر معلوم من الآراء في هذا المجال
وقد ألحقت بالبحث عينة من هذا الاستبيان تحت الملحق الأول.
كما أخترت للقارئ الكريم مرافعات من الأدب
القضائي العماني والمصري والفرنسي لما أعتبره تطبيقاً عملياً للقواعد العامة
المتعلقة بعلم المرافعة, وألحقته بالبحث تحت الملحق الثاني.
توطئة
عُرفت المرافعات
القضائية منذ عصور قديمة جداً, فلقد اشتهر بها البابليون والكلدانيون والفرس,
وعرفها اليهود على زمن موسى عليه السلام, كما عرفها الإغريق واعتبروها من أسمى
المهن ولا يتولاها منهم غير الشرفاء, وكذلك عند الرومان فقد بلغ من شأن المرافعة كفن من فنون الخطابة
عندهم أن جعلوها المؤهل لتولي رئاسة الجمهورية, وعُرف منهم أقطاب في المرافعة مثل
شيشرون ويوليوس قيصر وغيرهم(1) ولقد تلقفها
الغربيون وعلى رأسهم الفرنسيين في العصور الوسطى وبرعوا فيها أمثال رويير وباربو,
وامتدت بطبيعة الحال إلى وقتنا الحاضر.
أما عن المرافعة عند
العرب, ففي الجاهلية كان يمكن للمتخاصمين أن يكلفوا شفهياً من يشاؤون لتمثيلهم
أمام من يمارس القضاء سواء كان شيخاً أو ملكاً أو حكماً. وكان هؤلاء الوكلاء
يعرضون قضية موكلهم بفصاحة وبلاغة فـَدُعوا (حُجَّاج) أي أقوياء الحجة (2), ولم تكن هذه المرافعة بالمعنى
القانوني المعروف اليوم.
أما في ظل الإسلام
فلم تتضح معالمٌ لمرافعات قضائية في التراث الإسلامي رغم أن البيان العربي مؤهل كل
التأهيل للبلاغة القضائية! ورغم أن العرب في ظل الإسلام استفادوا من علوم الإغريق
والرومان في الفلسفة والطب وغيرها من العلوم ! ولكن لماذا لم يأخذوا عنهم الخطابة
القضائية؟؟ سؤال لم ينقل له التراث العلمي الإسلامي جواباً (3).
أما في العصر الحديث
عند العرب فظهرت المرافعة القضائية بالمفهوم المعاصر ابتداءً في مصر إبان عهود
الانتداب الفرنسي لها, وتلقاها المصريون فبرعوا فيها وبذوا أقرانهم وكان منهم
أعلام مبرزون كأمثال سعد زغلول, وإبراهيم الهلباوي, وعبدالعزيز باشا فهمي وغيرهم
كثر من السابقين والمحدَثين, ومنها إلى جميع الأقطار العربية التي خرجت من تحت
ولاية الدولة العثمانية فظهر فيها التنظيم القانوني الحديث بعد التحول من نظام
القوانين العرفية إلى نظام دولة القانون والمؤسسات, ومنها بطبيعة الحال السلطنة
بعد بزوغ فجر النهضة المباركة وإرساء دعائم الدولة الحديثة بالتشريعات القانونية
سيما المتعلقة بنظام الخصومة والتقاضي.
على أن المعني بهذا
البحث هي المرافعات الجزائية القائمة على مبادئ كمبدأ شفوية إجراءات المحاكمة,
وقناعة القاضي الوجدانية, وعلانية الجلسات, وغيرها. تفريقاً لها عن المرافعات
المدنية التي تكون على شكل مذكرات مكتوبة يسطر فيها كل طرف من أطراف الخصومة ما
يريده, فيسلم منها نسخة لمحكمة الموضوع وأخرى لخصمه الآخر، ليرد عليه الأخير بنفس
الطريقة دون أن يلزم التقاؤهما وتقارعهما شفاهة أمام قاضي الموضوع.
كما أن للادعاء
العام دور محدود في الدعوى المدنية - كما جاء بقانون الإجراءات المدنية والتجارية
- لا تكون فيه مرافعة شفوية.
المطلب
الأول : ضرورة المرافعة
سنعرض لدراسة ضرورة
المرافعة في فرعين نخصص الأول لاستجلاء ضرورتها من الناحية القانونية من واقع
النصوص القانونية التي عنيت بالأمر ثم في المطلب الثاني نستبين ضرورتها من الناحية
الأدبية من الشريعة الغراء والتراث.
الفرع الأول: ضرورة
المرافعة من الناحية القانونية
لقد وضع النظام
الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 101/96 القواعد الأساسية لبناء دولة
المؤسسات وسيادة القانون. ونظم الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين, ووضع آليات
وضمانات لتنفيذ ذلك منها أن أناط بالادعاء العام مهمة تولي الدعوى العمومية
ومباشرتها حين نص في المادة (64) منه على أن: يتولى الادعاء العام الدعوى العمومية
باسم المجتمع, ويشرف على شؤون الضبط القضائي ويسهر على تطبيق القوانين الجزائية
وملاحقة المذنبين وتنفيذ الأحكام, ويرتب القانون الادعاء العام وينظم اختصاصاته ,
ويعين الشروط والضمانات الخاصة بمن يولون وظائفه)
وفعلاً صدر قانون الادعاء
العام رقم 97/99 وبين مهام الادعاء العام فلقد جاء في المادة (1) منه: "
يتولى الادعاء العام الدعوى العمومية باسم المجتمع ويشرف على شؤون الضبط القضائي
ويسهر على تطبيق القوانين الجزائية وملاحقة المذنبين وتنفيذ الأحكام وغير ذلك من
الاختصاصات التي يقرها القانون".
ثم جاء قانون
الإجراءات الجزائية ليقر تلك الإختصاصات المذكورة ويبين جميع الإجراءات القانونية
العملية التي يجب على الادعاء العام التصرف بموجبها قِبَلَ الدعوى العمومية ومنه
ما ورد في المادة (4) حيث جاء فيها " يختص الادعاء العام برفع الدعوى
العمومية ومباشرتها أمام المحكمة المختصة".
ثم جاء وقرر أن الادعاء
العام إذا أحال الدعوى إلى المحكمة المختصة فإنه يقوم بمباشرتها أمام تلك المحكمة
حتى صدور حكم فيها سواء بالبراءة أم بالإدانة , ومن خلال تلك المباشرة يستطيع
تقديم الطلبات وابداء ما يرى من أقوال وعلى المحكمة واجب سماع أقواله والفصل في
طلباته. (م 178 إج) وله مناقشة الشهود
وتوجيه ما يراه من الأسئلة لهم سواء أكانوا شهود نفي أم أثبات ( م 197 إج )(1).
وعلى ضوء ذلك فإن
المشرع أوجب حضور عضو الادعاء العام لصحة تشكيل المحكمة ( م 178 إج ) ومتى كان
حضوره واجباً فإن أداءه لواجبه يكون واجباً عليه كذلك(2).
ومن هنا كانت حتمية
المرافعة ثابته بنص القانون, بل أن نص المادة آنفة الذكر 178 وسياق عباراتها
تؤكدان ذلك إذ أوجبت على المحكمة أن تسمع أقوال عضو الادعاء العام وتفصل فيها(3) .
" وفي هذا
الشأن فإن لقضاء النقض مقولة وردت في (مجموعة الأحكام الجنائية, السنة الخامسة,
المكتب الفني لمحكمة النقض, القاعدة 43, في الصحيفة 132) بخصوص الواقعة الآتية :
محكمة إستئنافية سمعت الشهود وسمعت المرافعة وأجلت النطق بالحكم أسبوعاً, وحين حل
موعد النطق بالحكم تغيّر التشكيل فكان من قاضيين ممن سمعوا المرافعة وانضم إليهم
قاض جديد مكان القاضي الغائب وبدلاً من إعادة إجراءات المحاكمة أمام الهيئة
بتشكيلها الجديد قررت فتح باب المرافعة والحكم آخر الجلسة. وفي آخر الجلسة صدر
الحكم دون أن تسمع مرافعة , عرض هذا الحكم على محكمة النقض فوصمته بالبطلان, لأن
الهيئة بتشكيلها الجديد لم تسمع المرافعة "(1)
وبصدور التعليمات
القضائية للإدعاء العام بالسلطنة وكونها أُفردت للمرافعة باباً خاصاً فقد صرحت
المادة (168) لأعضاء الادعاء العام بأمر مباشر حيث نصت على الآتي:" على أعضاء
الادعاء العام ضرورة المرافعة أمام المحاكم لما لها من أهمية في إظهار الحقيقة
وتأكيد ثقة المجتمع في حكم الإدانة الذي يصدر بعد عرض الادعاء العام لأدلة الثبوت
في الدعوى(2).
الفرع الثاني: من
الناحية الأدبية
عن أم سلمة رضي الله
عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر, وإنكم تختصمون
لدي, ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض, فأقضي له على نحو ما أسمع, فمن قضيت
له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه, فإنما اقتطع له قطعة من النار" (3)
وفي هذا القول أبلغ
الدلالة على أن القاضي من شأنه أن يتأثر بطريقة عرض الخصوم لدعواهم مهما بلغ من
التحوط والحيدة , وأنه ربما يقضي لغير صاحب الحق كما أشار الحديث الشريف, عليه فلابد
لعضو الادعاء العام وهو ينهض بمسؤولية الدفاع عن حق المجتمع أن يقابل لحن (1) دفاع المتهم بلحن أفضل منه إحقاقاً
للحق وإزهاقاً للباطل.
هذا علاوة على أن
المرافعة الشفوية تمكن القضاة من الوقوف على دقائق الدعوى ومغزى ما تتضمنه
الأوراق, وتبث الحياة والحركة في إجراءات الدعوى وتكسب الجلسات الروعة والبهجة
التي تجذب الجمهور والمتقاضين فتحقق رقابتهم على سير العدالة, ولقد جاءت التعليمات
القضائية للإدعاء العام بالسلطنة لتؤكد هذه المعاني(2).
هذا علاوة على أنه
من المبادئ المقررة في الفقه والقانون مبدأ شفوية إجراءات المحاكمة (3) و يصح القول أن عماد هذه الإجراءات هو
المرافعة إذ أن مبدأ الشفوية هو الأساس المنطقي لمبادئ أخرى تسود نظام المحاكمة
الجنائية في القانون الحديث. فهو السبيل إلى تطبيق مبدأ المواجهة بين الخصوم, فلكي
يتاح لكل طرف في الدعوى أن يواجه خصمه بما لديه من أدلة ويعرف ما لدى الخصم منها,
ويبدي رأيه فيها, يتعين أن تعرض هذه الأدلة شفهياً في الجلسة وتدور في شأنها
المناقشة بين أطراف الدعوى, وأكدت ذلك محكمة النقض المصرية بقولها: "من
المقرر في قواعد تحقيق الجنايات أن المحكمة لا تكون اعتقادها على وجه العموم إلا
من المرافعة الشفوية التي تحصل أمامها" (1).
ومن هذا نستنتج أن
مبدأ الشفوية متصل بمبدأ الاقتناع القضائي . إذ أن القاضي يستمد قناعته من جملة
المناقشات التي تجري أمامه. كما أن مبدأ الشفوية أيضاً يحقق رقابة للمحكمة على
أعمال التحقيق الابتدائي, فما تولد عنه من أدلة تقدره المحكمة وتزنه أثناء عرضه
عليها, ومناقشته شفوياً أمامها.
" وقد رتب
المشرع جزاء البطلان على مخالفة مبدأ الشفوية في إجراءات المحاكمة".(2)
المطلب
الثاني: تعريف المرافعة
المرافعة في اللغة
مصدر على وزن مُفـَاعَلـَة, وأصلها ثلاثي على وزن رَفَعَ يقال رفع فلاناً إلى
الحاكم رفعاً ورِفعاناً أي قدمه إليه ليحاكمه.(1)
ولقد جاء في القاموس المحيط للفيروزأبادي قوله: رافعه إلى الحاكم أي شكاه إليه
ويقال أيضاً ترافعا إلى الحاكم تحاكما لديه, وترافع المحامي عن المتهم أمام القضاء
أي دافع عنه بالحجة, ولقد ورد تعريف المرافعة بحسب رأي ثلة من أرباب اللغة
والقانون في معجم القانون بأنها " الأقوال الشفوية التي يبديها الخصوم أو
وكلاؤهم في جلسات المحاكمة"(2).
أما عن تعريف
المرافعة في الإصطلاح القانوني فقد اجتهد مجموعة من الفقهاء ورجال القانون ووضعوا
تعريفات للمرافعة أورد بعضها الأستاذان الأريبان سمير ناجي وأشرف هلال في مؤلفهما
" آداب مرافعة الادعاء" مثل تعريف الفرنسي مارشال للمرافعة بأنها (مناجاة العقل والقلب) وتعريف الأستاذ أحمد بك
رشدي بأنها (ليست الفصاحة وحدها ولا هي العلم بالقانون وحده ولكنها سياسة يقظة
واستبصار في الدعوى وحذق في الأداء) ولكنهما خلصا إلى تعريف جديد محاولين الجمع
بين تلك التعريفات حيث عرفا المرافعة بأنها " قوة تغري (آذان القاضي
بالإستماع إليك والإنصراف بوجدانه وسمعه لك) ثم تحول (رأي القاضي إلى الانعطاف إلى
رأيك) ثم ترغم (بأن يصدر حكمه على ما ابتغيت أنت) وغاية المرافعة أن تخرج قاضيك من
رأي خصمك الخاطيء إلى رأيك أنت الصائب" (1)(2)
ولكني بكل تواضع لا
أساير الأستاذين الجليلين فيما خلصا إليه كونهما عرفا المرافعة ابتداءً أنها
" قوة ... تغري ثم تحول ثم ترغم" ومن المعروف في علم المنطق أن الحدّ(3)
إنما يكون منصباً على ماهية الشيء وكنهه لا على أثره أو وصفه. كما يجب أن يكون
جامعاً لكل عناصره مانعاً غيره من الدخول فيه, وعليه فإن ماهية المرافعة ليست قوة
وإنما هي خطاب. كما أن قولهما أنها " ترغم القاضي على ..." لا يتوافق مع
ما يجب أن يكون عليه وضع المترافع من الإلتماس والطلب من هيئة المحكمة بما يستميل
القاضي.
ثم أنهما حصرا المخاطب بالمرافعة في شخص
القاضي إلا أنه وإن كان فضيلة القاضي أو القضاة هم أول المخاطبين وإليهم يوجه
الخطاب بشكل أساسي لكن المترافع يجب أن يضع الجمهور والخصوم في اعتباره عند
المرافعة وذلك لتأكيد ثقة المجتمع في حكم الإدانة واقتناع أطراف الخصومة ووكلاؤهم
بالحكم الذي تصدره المحكمة.
وأأسس على نقد هذا
التعريف والإطلاع على غيره محاولة ً لتعريف المرافعة معتنياً بتفادي القصور في التعاريف
السابقة فأقول أن المرافعة هي: " خطاب يلقيه صاحب الحق أو وكيله بحضرة القاضي
ليقضي له به, مجسداً بالعرض لوقائع الدعوى حسب ما خلص إليها ومفنداً ما يثار في
الدعوى المعروضة من دفوع بالحجة البينة والإستدلال المنطقي مستخدماً قوة البيان
ومحتكماً إلى الحق والصدق والقانون في وسيلته وهدفه, ومتفاعلاً مع ما يستجد في
الدعوى أثناء عرضها على المحكمة, ومختتماً بالمطالبة بما يراه حق له أو بإنزال
الموجب القانوني على المتهم سواء بالإدانة أم بالبراءة".
فالمرافعة إذن هي
خطاب يُلقى, وهذا قيد يخرج المذكرات المكتوبة من حدّ المرافعة, وقولنا بحضرة
القاضي لا يحصر المخاطبين به في شخصه بل يتعداه إلى كل من حضر معه من دفاع المتهم
أو المتهم نفسه أو المدعين بالحق المدني أو المجني عليهم أو الجمهور.
وقولنا ليقضي له به,
لبيان الهدف من المرافعة, وقولنا محتكماً إلى الحق والصدق والقانون في وسيلته
وهدفه, قيد يُخرِج كل عمل غير قانوني أو غير مأطر بأطر الحق والإنصاف من حد المرافعة
الصحيحة التي ابتغاها المشرع.
لذلك أخلص في هذا
المقام إلى القول بأني وجدت للمرافعة من أدبياتها, والقوانين التي ذَكرَتْها
مفهومين: واسع, وضيق. أما المرافعة بالمفهوم الواسع هي كل إجراء يأتي به عضو الادعاء
العام أو المحامين أو الخصوم بصدد دعوى معينة من مناقشة شاهد أو الردّ على دفع, أو
تفنيد اشكال أو غيره وهذا ما يسمى بمباشرة الدعوى وهو المقصود كشرط لصحة إجراءات
المحاكمات الجزائية. أما بمفهومها الضيق فهو المقصود بتعريفنا المختار, وهو موضوع
بحثنا, والمراد بالحديث أين ما ورد مصطلح المرافعة بهذا البحث لاحقاً.
المطلب
الثالث: بناء المرافعة
سنعرض في هذا المطلب
لموضوع بناء المرافعة بمفهوميه الضيق والواسع من خلال ثلاثة أفرع نتناول في الأول
ما يجب أن تكون عليه لغة المرافعة , وفي الثاني عناصر المرافعة المكونة لها, وفي
الثالث أساليب أدائها في ساحات القضاء وذلك على النحو الآتي:-
الفرع الأول: لغة
المرافعة
لقد نص القانون
العماني على أن تكون لغة التقاضي هي اللغة العربية, وفي حالة كون أحد أطراف الدعوى
أو الشهود لا يجيد العربية يحضر معه مترجم يقسم اليمين على الترجمة إلى العربية
بالصدق(1).
هذا عن لغة المرافعة
بمفهومها الضيق, أما عن لغة المرافعة بمفهومها الواسع فلها جوانب عدّة نحاول
تفصيلها في النقاط الآتية:-
أولاً: أنها لغة حديث لا لغة كتابة.
ومؤدى هذا أن
المرافعة وإن سطرها المترافع قبل حضوره لجلسة المحاكمة إلا أنه إن أراد إتيانها
بحسب أصولها فلا بد له أن يلقَى بها السامع وجهاً لوجه, فيستعين على اقناعه بلسانه
وعينه, وبصوته وإشارته, وبحركته وسكونه, وببديهته ودقة ملاحظته, وبما فيه من قوة
مغناطيسية كامنة, وهو بحكم ضرورة الموقف مضطرٌ إلى الإبتكار السريع والكلام
المرتجل ومواصلة الحديث من غير توقف ولا تردد. فلا ريب أنه سيعتمد بساطة التعبير
في بناء مرافعته ليتجنب التلعثم والزلل.
أما لغة الكتابة
فللكاتب أن يستعمل فيها اللفظ المنمق, وأن يحتال على المعاني البعيدة, وأن يطلق
العنان للخيال فيؤاتيه بصور شعرية رائعة, كما يمكن أن يستعين بنقول مدبجة من أمهات
الكتب الرصينة يستخرج منها ما شاء مما يخدم فكرته وموضوعه بهدوء بال, وسعة وقت.
" ففي المسموع أنت دائما بحاجة إلى أن تستأثر بإذن سامعك ولا تدعه ينصرف عنك
أما في المقروء فإن كنت مجهد الذهن وعسر عليك الاستيعاب, طويت الصفحة وعدت لها في
وقت تكون فيه أقدر على الاستيعاب"(1)
ثانياً: لغة المرافعة لغة التماس
فيجب أن تكون لغة
المترافع يحوطها الاحترام الكلي للهيئة التي يترافع أمامها عضو الادعاء, وقد يكون
العضو أغزر من سامعيه علماً, وأظهرهم فضلاً, وقد يكون كلامه في مضمونه تعليماً
ولكن عبارته يجب أن تكون عبارة إكبار وإعظام دون تذلل ولا ضِعه.(2)
ثالثاً: يجب أن تكون لغة المرافعة رصينة
وسلسة ومفهومة
ووجوب كونها رصينة
وسلسة يقتضي ذلك من المترافع أن يلم بقدر غير ضئيل من قواعد النحو والصرف والبيان.
فذلك مما يُسلِس إلى بلوغ المقصود من المباني في توضيح الدلالات والمعاني. "
فليس أزرى بالمرافعات ولا أضيع لبهجتها ولا أفلُّ لسلاحها من سفه لغتها " (3)
كما يقتضي أن يحرص
المترافع على النهل(4) من معين مضان اللغة سيما من كتاب الله
العزيز الذي أنزل قرآنا عربياً قال تعالى : {إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1),
وسنة سيد البلغاء والفصحاء النبي الأمي الذي لم ينطق عن الهوى وفيه قال أمير
الشعراء :
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعروا
النَديّ وللقلوب بكاء
وعليه العَـلُّ (2) من الحكم والمواعظ والآثار والخطب
الشهيرة من طيوف الإرث الإنساني اللغوي. وجدير بالذكر هنا أن ذخيرة المترافع من
الفصاحة والبيان تعينه على التدليل والاستشهاد للمواقف والآراء التي يتبناها في
مرافعته. وفي هذا المعنى جاءت المادة 173 من تعليمات الادعاء العام بالسلطنة فنصت
على الآتي:- " على أعضاء الادعاء العام العناية بدراسة قواعد اللغة العربية
والاستزادة من آدابها والإطلاع على مختلف نواحي المعرفة حتى يساعدهم ذلك على أداء
واجبهم في المرافعة أمام المحاكم".
وهنا ربما يتساءل
متسائل عن جدوى الاعتناء إلى هذا الحد بلغة المرافعة حيث أنها محكومة بغايتها, وهي
ظهور الحق وإنفاذه فإن كان الزخرف لقلب الحق باطلاً أو العكس فذلك مذموم, وإن كان
الحق مجرداً فإنه يجب أن يُبَلّغْ بمجرد الطلب, ولا حاجة لزخرف اللغة.
أقول هذا تصور خاطيء !!! لأن الألفاظ والمباني
قوالب الدلالات والمعاني, وإن من البيان لسحراً كما قال المصطفى صلى الله عليه
وسلم, وإن الحَكـَم والجمهور في قاعة المحكمة بشر يتأثرون بما يسمعون وإن من شأن
بلاغة العضو المترافع أن تجلي للمحكمة مكامن الغموض في الدعوى وتُدَعِّم مواطن
الضعف فيها, وتبرز الأدلة الخافتة منها, وتفند وترد الإشكالات التي وردت عليها,
وتبين أثر جريمة المتهم على المجتمع, وإساءته إلى قيمه ومبادئه, وتستثير غضب
القاضي, وتستنهضه لتحقيق واجبه كذائد عن الهيئة الإجتماعية, وكونه ملجأ المظلوم
وسند المهضوم, ومورياً للجمهور عن سبب الإدانة في حال صدورها لترسيخ ثقتهم
بالعدالة وتعميق شعورهم بالإنصاف.
وأما عن وجوب كونها - أي لغة المرافعة – مفهومة,
فهذا يقتضي أن تكون المرافعة بلغة سهلة العبارة, ومباشِرة الدلالة, جزلة المعنى,
دون تكلف أو إسفاف.
ولقد خصصت سؤالاً في
الإستبيان عن مستوى اللغة الواجب التخاطب بها في قاعة المحكمة وكذلك طرحته على من
قابلته من أصحاب الفضيلة المشايخ القضاة وأعضاء الادعاء العام والمحامين فجاءت
آرائهم متباينة, فمنهم من قال أنه يجب أن تكون لغة فصيحة, وآخرون قالوا بأنها يجب أن
تكون عامية دارجة(1), وآخرون رأوا أن تكون
خليطاً بينهما. ولقد برر الفريق الأول رأيه بأن الفصاحة في اللغة تضفي على القضاء
الهيبة والوقار إلى جانب أنها أجزل في معانيها. وبرر الفريق الثاني بأن العامية في
متناول الجميع بينما تعسر الفصحى على البعض خصوصاً من الجمهور والخصوم. ورأى
الفريق الثالث أن تكون لغة المرافعة بالعامية المحسنة.
وفي هذا الصدد أرى
وجوب التفريق بين اللغة التي يُخَاطـَبُ بها الخصوم أو الشهود بشكل مباشر سواء من
قبل القاضي أو المحامي أو عضو الادعاء , وبين اللغة التي تدور بين هؤلاء الأطراف.
ففي الأولى يجب أن يكون الخطاب بقدر ما يفقه المخاطـَب, كما يجب التحري والعناية
من قبل المتحدِث بأن ما يقوله مُدرَك من قبل سامعه.
ولقد أتحفني فضيلة
الشيخ ماجد بن عبدالله العلوي نائب رئيس المحكمة العليا عند سؤالي إياه عن هذا
الموضوع بقوله: " لقد عنيت منذ توليت القضاء بإجادة اللهجة الدارجة في كل
منطقة أنتقل إليها للعمل, لجسر ما بيني وما بين المتقاضين من عامة الناس من هوة, فأدرك
مغازيهم من أقوالهم, ويشعرون هم بذلك فينطلقون بما يشاؤون في ادعائهم أو دفاعهم".
أقول مصداقاً لذلك لو
قيل لعاميّ أميّ " وأيم الله أنك لمان ٍ فيما فهت به " لرفع عقيرته
بالشكر للقائل ظناً منه أنه يمدحه في حين أنه يكذبه.
إلا أن فضيلته عاد وأكد على أهمية اللغة العربية
الفصحى كلغة للتقاضي وأنها المحببة إليه عند المرافعة إذا ما صدرت ممن يعيها سيما
أعضاء الادعاء العام والمحامين (1).
أما المرافعة التي
تعارف عليها الأدب القضائي فإنها إن صدرت من عضو الادعاء أو المحامي فالمقصود
المباشر بها هو فضيلة القاضي, ولا شك في أنه لن يعزب عن ذهنه ما أراده المترافع,
ولن تصعب عليه لغته وإن كانت فصيحة.
الرأي:
أرى أن المرافعة
القضائية من العضو يجب أن تكون بلغة عربية فصيحة. فمن قال أن اللغة الفصيحة عصية
على الفهم؟ فالجميع يسمع نشرات الأخبار وخطب الجمعة ويقرأ الصحف ويدرس الكتب بلغة
عربية فصيحة, ويمكن القول أن هذا مقياس الرجل العادي(2),
ولقد انتشر التعليم في مجتمعنا ولله الحمد بما يؤهل المتلقين إلى إستيعاب اللغة
العربية الفصيحة. كما أني أشايع بعض المستجيبين للاستبيان من كون اللغة الفصحى
تضفي مهابة ووقاراً على المحكمة وأنها أجزل في التعبير عن الأفكار. كما أني أؤمن
بأنها ستكون – إن طبقت – عاملاً مهماً في إحياء اللغة العربية الفصحى, ودافعاً للاهتمام
بها, ومَعيناً للبلاغة القضائية, وعامل محافظة على الهوية من معاول الغزو الثقافي
والتغريب, كما تجنب قاعات المحكمة هرج ومرج واختلاط اللهجات. على أن يكون ذلك دون
تكلف أو تصنع, فلا يعمد المترافع إلى المعاني القاموسية الغريبة. فقد ذم من قال لخلق
تجمعوا عليه: " ما لكم تكأكأتم عليّ كتكأكئكم على ذي جنةٍ , هيا افرنقعوا عني"
وذلك رغم صحة قوله إلا أنه لو قال اذهبوا عني لبلغ مراده.
(1) النافذة الصغيرة من الجدار المطلة على الخارج.
(1) البيت لأبي القاسم الحريري صاحب المقامات
(1) سمير ناجي وأشرف هلال , آداب مرافعة الادعاء
أصول وممارسات, ص 7و 8.
(2) المشعلاني,
فؤاد , مرافعات المختارة, ص 22.
(3) المشعلاني, فؤاد , مرجع سابق, ص 23.
(1) الدكتور مزهر جعفر عبيد, شرح قانون الإجراءات
الجزائية العماني ص 33.
(2) سمير ناجي وأشرف هلال, مرجع سابق, ص 11
(3) وفي هذا السياق جاءت المواد(1119 – 1120 -1121)
من التعليمات القضائية للنيابة العامة المصرية أنظر هليل, فرج علوان, شرح تعليمات
النيابة العامة, ص 307.
(1) سمير ناجي وأشرف هلال , مرجع سابق ص 12(بتصرف)
(2) التعليمات القضائية للإدعاء العام لسلطنة عمان ص
83.
(3) صحيح البخاري رقم الحديث 7181 ص 78 ج 15
(1) ألحن بحجته أي أفطن بها, مختار الصحاح .
(2) أنظر المواد (168- 169 – 171 – 172- 173- 174)
(3) أنظر المادة 193 من قانون الإجراءات الجزائية
العماني
(1) نقض 9 يناير
سنة 1904م المجموعة الرسمية س5 رقم 96 ص 185 نقلاً عن شرح قانون الإجراءات
الجزائية لمحمود نجيب حسني ص 879.
(2) المرجع السابق
ص882.
(1) المعجم الوسيط ص 373.
(2) مجمع اللغة العربية: معجم القانون, القاهرة
1999م ص 340 نقلاً عن سمير ناجي وأشرف هلال, مرافعة الإدعاء أصول وممارسات.
(1) سمير ناجي وأشرف هلال , مرجع سابق ص 22
(2) أخذ بهذا التعريف الزميل وكيل إدعاء عام ثان
إبراهيم الحبسي في بحثه المعنون بالمرافعة ودور عضو الإدعاء العام فيها أمام درجات
المحاكم (بحث غير منشور).
(3) الحد في علم
المنطق يقصد به التعريف.
(1) انظر المادة 3 من قانون الإجراءات الجزائية.
(1) سمير ناجي وأشرف هلال – مرجع سابق , ص129
(بتصرف)
(2)
الكتاب الذهبي - الجزء الثاني , ص 172.
(3) المرجع السابق
ص 173.
(4) النهل: الشربة
الأولى.
(1) الآية (2) سورة يوسف
(2) العلّ:
الشربة الثانية
(1) وقد مال إلى هذا الرأي أغلب المحامين من الأشقاء
العرب الذين شملهم الإستبيان.
(1) جاء هذا في مقابلة شخصية أجريتها مع فضيلته خدمة
لمشروع هذا البحث.
(2) مثال يضرب في
القانون لتحديد المسؤولية التقصيرية فيقاس فعل المدعى عليه ما إذا بلغ عناية شخص
طبيعي إفتراضي محاط بظروف عادية في المجتمع.
الحمد لله الأول بلا
ابتداء, والآخر بلا انتهاء, العظيم سلطانه, الساطع برهانه, معجز البلغاء قرآنه القائل
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا
عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن
دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} والصلاة والسلام على من رفع الله له قدرا,
وساد البرية طـُرّا, القائل {إن من البيان لسحرا}
أما بعد:
فإن لي عشقاً قديماً
باللغة العربية, وآدابها فلا يطربني شيءٌ أكثر من الشعر, ولا يشدني شيء أكثر من
الخطابة. ولقد جرت الرياح بما يشتهي السَّـفِـنُ, فلقد خيرت بين خمسة مواضيع أحدها
عنوان هذا البحث ولما كان له أوثق الصلة بالمعشوقة لم أتردد لحظة في اختياره.
فالمرافعة هي الكـُوَّة(1)
التي يمكن لعضو ادعاء عام له شغف بالعربية أن يطل من خلالها على اللغة وآدابها, وهذا
وإن لم يكن هو كل ما حملني على اختيار هذا الموضوع إلا أنه أحد أهم الأسباب.
إنني قبل الالتحاق بالادعاء
العام كنت أسمع عن المرافعة من خلال الأعمال الفنية المرئية أو المسموعة أو
المقروءة, ولقد رسمت تلك الأعمال صورة معينة في ذهني إلا أني لم أجدها في الواقع
العملي بعد التحاقي بالعمل ومعاينة الواقع وهذا سبب آخر.
كما أنني لم ألمس -
على الأقل عند زملائي – تصوراً واضحاً ودقيقاً للمرافعة بمعناها القانوني فهل ما
يجري في المحاكم من مداخلات لأطراف الدعوى هي المرافعة؟ أم هي الردود التي يرد بها
بعضهم على بعض؟أم هي ما يبديه المحامون وأعضاء الادعاء العام في جميع الجلسات
المخصصة لقضية ما, هي المرافعة؟ أم أن المرافعة هي ذلك القالب الخطابي الأدبي
القانوني الذي يَسُلّ فيه كل طرف من أطراف الخصومة سيف بيانه ليصل به إلى الحق
الذي ينشده و يذود عنه؟ إذن هناك أسئلة عديدة... فما المرافعة؟ وما آدابها؟ وهل هي
ملكة عند أشخاص موهوبين؟ أم أنها تطيع كل من أراد قبض زمامها؟ لقد وجدت هذه الأسئلة
في نفسي مقدمات فعزمت أن أضع هذا البحث كجواب لها, فعساني أبلغ ما ابتغيت, وإلا
فحسبي أجر المجتهد.
المرافعة القانونية
كما سيأتي تعريفها لاحقاً متصورة من أشخاص ثلاثة هم: 1- عضو الادعاء العام ممثلاً
للحق العام. 2- المحامي بصفته وكيلاً عن الخصوم سواء كان محامي المتهم أو المجني
عليه أو المدين بالحق المدني أو المسؤول عنه. 3- الخصم نفسه إذا لم يقم وكيلاً
عنه.
ومراعاة لشرط البحث المتعلق بعدد صفحاته,
وتركيزاً للجهد في الوصول إلى ما يصبو إليه الباحث وما يعنيه ومجموعته في عملهم في
المقام الأول، فلقد رأيت الاقتصار على تناول الموضوع من جهة مرافعة أعضاء الادعاء
العام فقط.
سيبدأ البحث بتوطئة
أعرض فيها لتاريخ المرافعة والتفريق بينها وبين المرافعة المدنية.
ثم سنتناول موضوع البحث من خلال أربعة مطالب
رئيسة مقسمة على النحو الآتي:
المطلب الأول
نخصصه لبحث ضرورة المرافعة , وأحاول
التوسع فيه لأن الاقتناع بضرورة المرافعة سيدفع القارئ الكريم إما إلى مواصلة
قراءة البحث بعناية أو طي دفتيه. وسيقع المطلب في فرعين يكون الأول لبحث الجانب القانوني لضرورة المرافعة والثاني لبحث ضرورتها
الأدبية.
وفي المطلب الثاني أتناول
تعريف المرافعة لغة واصطلاحاً وأسهم في الموضوع بمحاولة لوضع تعريف دقيق للمرافعة.
وفي المطلب الثالث
أعرض لبناء المرافعة وأقسمه إلى ثلاثة أفرع يكون الأول لدراسة لغة المرافعة
والثاني لبيان عناصرها والثالث لإظهار أساليبها.
وأخصص المطلب الرابع
لآداب المرافعة محاولاً تحديد الأساسي منها على شكل نقاط متوالية. وقد راعيت قدر
المستطاع تسلسل الموضوع عند ترتيب المباحث ليكون اللاحق منها مكملاً لفكرة السابق.
أخيراً... وبعد ما
تفتحت عيني على عظم شأن هذا الموضوع وتوافقه مع اتجاهي وميولي فإني عازم على أن يكون لهذا العمل ما بعده عملاً وقولاً.
وقبل البدء أقول:-
وأن تجد عيباً فسد الخللا فجل
من لا عيب فيه وعلا(1)
ملاحظة:
خدم هذا البحث باستبيان أجريته على شريحة
مكونة من بعض أصحاب الفضيلة المشايخ القضاة, وأعضاء ادعاء عام, ومحامين, وأفراد من
الجمهور. وقد طرحت فيه أسئلة متعلقة ببعض محاور البحث لاستجلاء آراء المستجبين
حولها بقدر ما يعينني على بحث ومناقشة المسائل الخلافية, توفيراً للوقت والجهد
الذي قد يبذل في المقابلات الشخصية وعناية بأخذ قدر معلوم من الآراء في هذا المجال
وقد ألحقت بالبحث عينة من هذا الاستبيان تحت الملحق الأول.
كما أخترت للقارئ الكريم مرافعات من الأدب
القضائي العماني والمصري والفرنسي لما أعتبره تطبيقاً عملياً للقواعد العامة
المتعلقة بعلم المرافعة, وألحقته بالبحث تحت الملحق الثاني.
توطئة
عُرفت المرافعات
القضائية منذ عصور قديمة جداً, فلقد اشتهر بها البابليون والكلدانيون والفرس,
وعرفها اليهود على زمن موسى عليه السلام, كما عرفها الإغريق واعتبروها من أسمى
المهن ولا يتولاها منهم غير الشرفاء, وكذلك عند الرومان فقد بلغ من شأن المرافعة كفن من فنون الخطابة
عندهم أن جعلوها المؤهل لتولي رئاسة الجمهورية, وعُرف منهم أقطاب في المرافعة مثل
شيشرون ويوليوس قيصر وغيرهم(1) ولقد تلقفها
الغربيون وعلى رأسهم الفرنسيين في العصور الوسطى وبرعوا فيها أمثال رويير وباربو,
وامتدت بطبيعة الحال إلى وقتنا الحاضر.
أما عن المرافعة عند
العرب, ففي الجاهلية كان يمكن للمتخاصمين أن يكلفوا شفهياً من يشاؤون لتمثيلهم
أمام من يمارس القضاء سواء كان شيخاً أو ملكاً أو حكماً. وكان هؤلاء الوكلاء
يعرضون قضية موكلهم بفصاحة وبلاغة فـَدُعوا (حُجَّاج) أي أقوياء الحجة (2), ولم تكن هذه المرافعة بالمعنى
القانوني المعروف اليوم.
أما في ظل الإسلام
فلم تتضح معالمٌ لمرافعات قضائية في التراث الإسلامي رغم أن البيان العربي مؤهل كل
التأهيل للبلاغة القضائية! ورغم أن العرب في ظل الإسلام استفادوا من علوم الإغريق
والرومان في الفلسفة والطب وغيرها من العلوم ! ولكن لماذا لم يأخذوا عنهم الخطابة
القضائية؟؟ سؤال لم ينقل له التراث العلمي الإسلامي جواباً (3).
أما في العصر الحديث
عند العرب فظهرت المرافعة القضائية بالمفهوم المعاصر ابتداءً في مصر إبان عهود
الانتداب الفرنسي لها, وتلقاها المصريون فبرعوا فيها وبذوا أقرانهم وكان منهم
أعلام مبرزون كأمثال سعد زغلول, وإبراهيم الهلباوي, وعبدالعزيز باشا فهمي وغيرهم
كثر من السابقين والمحدَثين, ومنها إلى جميع الأقطار العربية التي خرجت من تحت
ولاية الدولة العثمانية فظهر فيها التنظيم القانوني الحديث بعد التحول من نظام
القوانين العرفية إلى نظام دولة القانون والمؤسسات, ومنها بطبيعة الحال السلطنة
بعد بزوغ فجر النهضة المباركة وإرساء دعائم الدولة الحديثة بالتشريعات القانونية
سيما المتعلقة بنظام الخصومة والتقاضي.
على أن المعني بهذا
البحث هي المرافعات الجزائية القائمة على مبادئ كمبدأ شفوية إجراءات المحاكمة,
وقناعة القاضي الوجدانية, وعلانية الجلسات, وغيرها. تفريقاً لها عن المرافعات
المدنية التي تكون على شكل مذكرات مكتوبة يسطر فيها كل طرف من أطراف الخصومة ما
يريده, فيسلم منها نسخة لمحكمة الموضوع وأخرى لخصمه الآخر، ليرد عليه الأخير بنفس
الطريقة دون أن يلزم التقاؤهما وتقارعهما شفاهة أمام قاضي الموضوع.
كما أن للادعاء
العام دور محدود في الدعوى المدنية - كما جاء بقانون الإجراءات المدنية والتجارية
- لا تكون فيه مرافعة شفوية.
المطلب
الأول : ضرورة المرافعة
سنعرض لدراسة ضرورة
المرافعة في فرعين نخصص الأول لاستجلاء ضرورتها من الناحية القانونية من واقع
النصوص القانونية التي عنيت بالأمر ثم في المطلب الثاني نستبين ضرورتها من الناحية
الأدبية من الشريعة الغراء والتراث.
الفرع الأول: ضرورة
المرافعة من الناحية القانونية
لقد وضع النظام
الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 101/96 القواعد الأساسية لبناء دولة
المؤسسات وسيادة القانون. ونظم الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين, ووضع آليات
وضمانات لتنفيذ ذلك منها أن أناط بالادعاء العام مهمة تولي الدعوى العمومية
ومباشرتها حين نص في المادة (64) منه على أن: يتولى الادعاء العام الدعوى العمومية
باسم المجتمع, ويشرف على شؤون الضبط القضائي ويسهر على تطبيق القوانين الجزائية
وملاحقة المذنبين وتنفيذ الأحكام, ويرتب القانون الادعاء العام وينظم اختصاصاته ,
ويعين الشروط والضمانات الخاصة بمن يولون وظائفه)
وفعلاً صدر قانون الادعاء
العام رقم 97/99 وبين مهام الادعاء العام فلقد جاء في المادة (1) منه: "
يتولى الادعاء العام الدعوى العمومية باسم المجتمع ويشرف على شؤون الضبط القضائي
ويسهر على تطبيق القوانين الجزائية وملاحقة المذنبين وتنفيذ الأحكام وغير ذلك من
الاختصاصات التي يقرها القانون".
ثم جاء قانون
الإجراءات الجزائية ليقر تلك الإختصاصات المذكورة ويبين جميع الإجراءات القانونية
العملية التي يجب على الادعاء العام التصرف بموجبها قِبَلَ الدعوى العمومية ومنه
ما ورد في المادة (4) حيث جاء فيها " يختص الادعاء العام برفع الدعوى
العمومية ومباشرتها أمام المحكمة المختصة".
ثم جاء وقرر أن الادعاء
العام إذا أحال الدعوى إلى المحكمة المختصة فإنه يقوم بمباشرتها أمام تلك المحكمة
حتى صدور حكم فيها سواء بالبراءة أم بالإدانة , ومن خلال تلك المباشرة يستطيع
تقديم الطلبات وابداء ما يرى من أقوال وعلى المحكمة واجب سماع أقواله والفصل في
طلباته. (م 178 إج) وله مناقشة الشهود
وتوجيه ما يراه من الأسئلة لهم سواء أكانوا شهود نفي أم أثبات ( م 197 إج )(1).
وعلى ضوء ذلك فإن
المشرع أوجب حضور عضو الادعاء العام لصحة تشكيل المحكمة ( م 178 إج ) ومتى كان
حضوره واجباً فإن أداءه لواجبه يكون واجباً عليه كذلك(2).
ومن هنا كانت حتمية
المرافعة ثابته بنص القانون, بل أن نص المادة آنفة الذكر 178 وسياق عباراتها
تؤكدان ذلك إذ أوجبت على المحكمة أن تسمع أقوال عضو الادعاء العام وتفصل فيها(3) .
" وفي هذا
الشأن فإن لقضاء النقض مقولة وردت في (مجموعة الأحكام الجنائية, السنة الخامسة,
المكتب الفني لمحكمة النقض, القاعدة 43, في الصحيفة 132) بخصوص الواقعة الآتية :
محكمة إستئنافية سمعت الشهود وسمعت المرافعة وأجلت النطق بالحكم أسبوعاً, وحين حل
موعد النطق بالحكم تغيّر التشكيل فكان من قاضيين ممن سمعوا المرافعة وانضم إليهم
قاض جديد مكان القاضي الغائب وبدلاً من إعادة إجراءات المحاكمة أمام الهيئة
بتشكيلها الجديد قررت فتح باب المرافعة والحكم آخر الجلسة. وفي آخر الجلسة صدر
الحكم دون أن تسمع مرافعة , عرض هذا الحكم على محكمة النقض فوصمته بالبطلان, لأن
الهيئة بتشكيلها الجديد لم تسمع المرافعة "(1)
وبصدور التعليمات
القضائية للإدعاء العام بالسلطنة وكونها أُفردت للمرافعة باباً خاصاً فقد صرحت
المادة (168) لأعضاء الادعاء العام بأمر مباشر حيث نصت على الآتي:" على أعضاء
الادعاء العام ضرورة المرافعة أمام المحاكم لما لها من أهمية في إظهار الحقيقة
وتأكيد ثقة المجتمع في حكم الإدانة الذي يصدر بعد عرض الادعاء العام لأدلة الثبوت
في الدعوى(2).
الفرع الثاني: من
الناحية الأدبية
عن أم سلمة رضي الله
عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر, وإنكم تختصمون
لدي, ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض, فأقضي له على نحو ما أسمع, فمن قضيت
له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه, فإنما اقتطع له قطعة من النار" (3)
وفي هذا القول أبلغ
الدلالة على أن القاضي من شأنه أن يتأثر بطريقة عرض الخصوم لدعواهم مهما بلغ من
التحوط والحيدة , وأنه ربما يقضي لغير صاحب الحق كما أشار الحديث الشريف, عليه فلابد
لعضو الادعاء العام وهو ينهض بمسؤولية الدفاع عن حق المجتمع أن يقابل لحن (1) دفاع المتهم بلحن أفضل منه إحقاقاً
للحق وإزهاقاً للباطل.
هذا علاوة على أن
المرافعة الشفوية تمكن القضاة من الوقوف على دقائق الدعوى ومغزى ما تتضمنه
الأوراق, وتبث الحياة والحركة في إجراءات الدعوى وتكسب الجلسات الروعة والبهجة
التي تجذب الجمهور والمتقاضين فتحقق رقابتهم على سير العدالة, ولقد جاءت التعليمات
القضائية للإدعاء العام بالسلطنة لتؤكد هذه المعاني(2).
هذا علاوة على أنه
من المبادئ المقررة في الفقه والقانون مبدأ شفوية إجراءات المحاكمة (3) و يصح القول أن عماد هذه الإجراءات هو
المرافعة إذ أن مبدأ الشفوية هو الأساس المنطقي لمبادئ أخرى تسود نظام المحاكمة
الجنائية في القانون الحديث. فهو السبيل إلى تطبيق مبدأ المواجهة بين الخصوم, فلكي
يتاح لكل طرف في الدعوى أن يواجه خصمه بما لديه من أدلة ويعرف ما لدى الخصم منها,
ويبدي رأيه فيها, يتعين أن تعرض هذه الأدلة شفهياً في الجلسة وتدور في شأنها
المناقشة بين أطراف الدعوى, وأكدت ذلك محكمة النقض المصرية بقولها: "من
المقرر في قواعد تحقيق الجنايات أن المحكمة لا تكون اعتقادها على وجه العموم إلا
من المرافعة الشفوية التي تحصل أمامها" (1).
ومن هذا نستنتج أن
مبدأ الشفوية متصل بمبدأ الاقتناع القضائي . إذ أن القاضي يستمد قناعته من جملة
المناقشات التي تجري أمامه. كما أن مبدأ الشفوية أيضاً يحقق رقابة للمحكمة على
أعمال التحقيق الابتدائي, فما تولد عنه من أدلة تقدره المحكمة وتزنه أثناء عرضه
عليها, ومناقشته شفوياً أمامها.
" وقد رتب
المشرع جزاء البطلان على مخالفة مبدأ الشفوية في إجراءات المحاكمة".(2)
المطلب
الثاني: تعريف المرافعة
المرافعة في اللغة
مصدر على وزن مُفـَاعَلـَة, وأصلها ثلاثي على وزن رَفَعَ يقال رفع فلاناً إلى
الحاكم رفعاً ورِفعاناً أي قدمه إليه ليحاكمه.(1)
ولقد جاء في القاموس المحيط للفيروزأبادي قوله: رافعه إلى الحاكم أي شكاه إليه
ويقال أيضاً ترافعا إلى الحاكم تحاكما لديه, وترافع المحامي عن المتهم أمام القضاء
أي دافع عنه بالحجة, ولقد ورد تعريف المرافعة بحسب رأي ثلة من أرباب اللغة
والقانون في معجم القانون بأنها " الأقوال الشفوية التي يبديها الخصوم أو
وكلاؤهم في جلسات المحاكمة"(2).
أما عن تعريف
المرافعة في الإصطلاح القانوني فقد اجتهد مجموعة من الفقهاء ورجال القانون ووضعوا
تعريفات للمرافعة أورد بعضها الأستاذان الأريبان سمير ناجي وأشرف هلال في مؤلفهما
" آداب مرافعة الادعاء" مثل تعريف الفرنسي مارشال للمرافعة بأنها (مناجاة العقل والقلب) وتعريف الأستاذ أحمد بك
رشدي بأنها (ليست الفصاحة وحدها ولا هي العلم بالقانون وحده ولكنها سياسة يقظة
واستبصار في الدعوى وحذق في الأداء) ولكنهما خلصا إلى تعريف جديد محاولين الجمع
بين تلك التعريفات حيث عرفا المرافعة بأنها " قوة تغري (آذان القاضي
بالإستماع إليك والإنصراف بوجدانه وسمعه لك) ثم تحول (رأي القاضي إلى الانعطاف إلى
رأيك) ثم ترغم (بأن يصدر حكمه على ما ابتغيت أنت) وغاية المرافعة أن تخرج قاضيك من
رأي خصمك الخاطيء إلى رأيك أنت الصائب" (1)(2)
ولكني بكل تواضع لا
أساير الأستاذين الجليلين فيما خلصا إليه كونهما عرفا المرافعة ابتداءً أنها
" قوة ... تغري ثم تحول ثم ترغم" ومن المعروف في علم المنطق أن الحدّ(3)
إنما يكون منصباً على ماهية الشيء وكنهه لا على أثره أو وصفه. كما يجب أن يكون
جامعاً لكل عناصره مانعاً غيره من الدخول فيه, وعليه فإن ماهية المرافعة ليست قوة
وإنما هي خطاب. كما أن قولهما أنها " ترغم القاضي على ..." لا يتوافق مع
ما يجب أن يكون عليه وضع المترافع من الإلتماس والطلب من هيئة المحكمة بما يستميل
القاضي.
ثم أنهما حصرا المخاطب بالمرافعة في شخص
القاضي إلا أنه وإن كان فضيلة القاضي أو القضاة هم أول المخاطبين وإليهم يوجه
الخطاب بشكل أساسي لكن المترافع يجب أن يضع الجمهور والخصوم في اعتباره عند
المرافعة وذلك لتأكيد ثقة المجتمع في حكم الإدانة واقتناع أطراف الخصومة ووكلاؤهم
بالحكم الذي تصدره المحكمة.
وأأسس على نقد هذا
التعريف والإطلاع على غيره محاولة ً لتعريف المرافعة معتنياً بتفادي القصور في التعاريف
السابقة فأقول أن المرافعة هي: " خطاب يلقيه صاحب الحق أو وكيله بحضرة القاضي
ليقضي له به, مجسداً بالعرض لوقائع الدعوى حسب ما خلص إليها ومفنداً ما يثار في
الدعوى المعروضة من دفوع بالحجة البينة والإستدلال المنطقي مستخدماً قوة البيان
ومحتكماً إلى الحق والصدق والقانون في وسيلته وهدفه, ومتفاعلاً مع ما يستجد في
الدعوى أثناء عرضها على المحكمة, ومختتماً بالمطالبة بما يراه حق له أو بإنزال
الموجب القانوني على المتهم سواء بالإدانة أم بالبراءة".
فالمرافعة إذن هي
خطاب يُلقى, وهذا قيد يخرج المذكرات المكتوبة من حدّ المرافعة, وقولنا بحضرة
القاضي لا يحصر المخاطبين به في شخصه بل يتعداه إلى كل من حضر معه من دفاع المتهم
أو المتهم نفسه أو المدعين بالحق المدني أو المجني عليهم أو الجمهور.
وقولنا ليقضي له به,
لبيان الهدف من المرافعة, وقولنا محتكماً إلى الحق والصدق والقانون في وسيلته
وهدفه, قيد يُخرِج كل عمل غير قانوني أو غير مأطر بأطر الحق والإنصاف من حد المرافعة
الصحيحة التي ابتغاها المشرع.
لذلك أخلص في هذا
المقام إلى القول بأني وجدت للمرافعة من أدبياتها, والقوانين التي ذَكرَتْها
مفهومين: واسع, وضيق. أما المرافعة بالمفهوم الواسع هي كل إجراء يأتي به عضو الادعاء
العام أو المحامين أو الخصوم بصدد دعوى معينة من مناقشة شاهد أو الردّ على دفع, أو
تفنيد اشكال أو غيره وهذا ما يسمى بمباشرة الدعوى وهو المقصود كشرط لصحة إجراءات
المحاكمات الجزائية. أما بمفهومها الضيق فهو المقصود بتعريفنا المختار, وهو موضوع
بحثنا, والمراد بالحديث أين ما ورد مصطلح المرافعة بهذا البحث لاحقاً.
المطلب
الثالث: بناء المرافعة
سنعرض في هذا المطلب
لموضوع بناء المرافعة بمفهوميه الضيق والواسع من خلال ثلاثة أفرع نتناول في الأول
ما يجب أن تكون عليه لغة المرافعة , وفي الثاني عناصر المرافعة المكونة لها, وفي
الثالث أساليب أدائها في ساحات القضاء وذلك على النحو الآتي:-
الفرع الأول: لغة
المرافعة
لقد نص القانون
العماني على أن تكون لغة التقاضي هي اللغة العربية, وفي حالة كون أحد أطراف الدعوى
أو الشهود لا يجيد العربية يحضر معه مترجم يقسم اليمين على الترجمة إلى العربية
بالصدق(1).
هذا عن لغة المرافعة
بمفهومها الضيق, أما عن لغة المرافعة بمفهومها الواسع فلها جوانب عدّة نحاول
تفصيلها في النقاط الآتية:-
أولاً: أنها لغة حديث لا لغة كتابة.
ومؤدى هذا أن
المرافعة وإن سطرها المترافع قبل حضوره لجلسة المحاكمة إلا أنه إن أراد إتيانها
بحسب أصولها فلا بد له أن يلقَى بها السامع وجهاً لوجه, فيستعين على اقناعه بلسانه
وعينه, وبصوته وإشارته, وبحركته وسكونه, وببديهته ودقة ملاحظته, وبما فيه من قوة
مغناطيسية كامنة, وهو بحكم ضرورة الموقف مضطرٌ إلى الإبتكار السريع والكلام
المرتجل ومواصلة الحديث من غير توقف ولا تردد. فلا ريب أنه سيعتمد بساطة التعبير
في بناء مرافعته ليتجنب التلعثم والزلل.
أما لغة الكتابة
فللكاتب أن يستعمل فيها اللفظ المنمق, وأن يحتال على المعاني البعيدة, وأن يطلق
العنان للخيال فيؤاتيه بصور شعرية رائعة, كما يمكن أن يستعين بنقول مدبجة من أمهات
الكتب الرصينة يستخرج منها ما شاء مما يخدم فكرته وموضوعه بهدوء بال, وسعة وقت.
" ففي المسموع أنت دائما بحاجة إلى أن تستأثر بإذن سامعك ولا تدعه ينصرف عنك
أما في المقروء فإن كنت مجهد الذهن وعسر عليك الاستيعاب, طويت الصفحة وعدت لها في
وقت تكون فيه أقدر على الاستيعاب"(1)
ثانياً: لغة المرافعة لغة التماس
فيجب أن تكون لغة
المترافع يحوطها الاحترام الكلي للهيئة التي يترافع أمامها عضو الادعاء, وقد يكون
العضو أغزر من سامعيه علماً, وأظهرهم فضلاً, وقد يكون كلامه في مضمونه تعليماً
ولكن عبارته يجب أن تكون عبارة إكبار وإعظام دون تذلل ولا ضِعه.(2)
ثالثاً: يجب أن تكون لغة المرافعة رصينة
وسلسة ومفهومة
ووجوب كونها رصينة
وسلسة يقتضي ذلك من المترافع أن يلم بقدر غير ضئيل من قواعد النحو والصرف والبيان.
فذلك مما يُسلِس إلى بلوغ المقصود من المباني في توضيح الدلالات والمعاني. "
فليس أزرى بالمرافعات ولا أضيع لبهجتها ولا أفلُّ لسلاحها من سفه لغتها " (3)
كما يقتضي أن يحرص
المترافع على النهل(4) من معين مضان اللغة سيما من كتاب الله
العزيز الذي أنزل قرآنا عربياً قال تعالى : {إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1),
وسنة سيد البلغاء والفصحاء النبي الأمي الذي لم ينطق عن الهوى وفيه قال أمير
الشعراء :
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعروا
النَديّ وللقلوب بكاء
وعليه العَـلُّ (2) من الحكم والمواعظ والآثار والخطب
الشهيرة من طيوف الإرث الإنساني اللغوي. وجدير بالذكر هنا أن ذخيرة المترافع من
الفصاحة والبيان تعينه على التدليل والاستشهاد للمواقف والآراء التي يتبناها في
مرافعته. وفي هذا المعنى جاءت المادة 173 من تعليمات الادعاء العام بالسلطنة فنصت
على الآتي:- " على أعضاء الادعاء العام العناية بدراسة قواعد اللغة العربية
والاستزادة من آدابها والإطلاع على مختلف نواحي المعرفة حتى يساعدهم ذلك على أداء
واجبهم في المرافعة أمام المحاكم".
وهنا ربما يتساءل
متسائل عن جدوى الاعتناء إلى هذا الحد بلغة المرافعة حيث أنها محكومة بغايتها, وهي
ظهور الحق وإنفاذه فإن كان الزخرف لقلب الحق باطلاً أو العكس فذلك مذموم, وإن كان
الحق مجرداً فإنه يجب أن يُبَلّغْ بمجرد الطلب, ولا حاجة لزخرف اللغة.
أقول هذا تصور خاطيء !!! لأن الألفاظ والمباني
قوالب الدلالات والمعاني, وإن من البيان لسحراً كما قال المصطفى صلى الله عليه
وسلم, وإن الحَكـَم والجمهور في قاعة المحكمة بشر يتأثرون بما يسمعون وإن من شأن
بلاغة العضو المترافع أن تجلي للمحكمة مكامن الغموض في الدعوى وتُدَعِّم مواطن
الضعف فيها, وتبرز الأدلة الخافتة منها, وتفند وترد الإشكالات التي وردت عليها,
وتبين أثر جريمة المتهم على المجتمع, وإساءته إلى قيمه ومبادئه, وتستثير غضب
القاضي, وتستنهضه لتحقيق واجبه كذائد عن الهيئة الإجتماعية, وكونه ملجأ المظلوم
وسند المهضوم, ومورياً للجمهور عن سبب الإدانة في حال صدورها لترسيخ ثقتهم
بالعدالة وتعميق شعورهم بالإنصاف.
وأما عن وجوب كونها - أي لغة المرافعة – مفهومة,
فهذا يقتضي أن تكون المرافعة بلغة سهلة العبارة, ومباشِرة الدلالة, جزلة المعنى,
دون تكلف أو إسفاف.
ولقد خصصت سؤالاً في
الإستبيان عن مستوى اللغة الواجب التخاطب بها في قاعة المحكمة وكذلك طرحته على من
قابلته من أصحاب الفضيلة المشايخ القضاة وأعضاء الادعاء العام والمحامين فجاءت
آرائهم متباينة, فمنهم من قال أنه يجب أن تكون لغة فصيحة, وآخرون قالوا بأنها يجب أن
تكون عامية دارجة(1), وآخرون رأوا أن تكون
خليطاً بينهما. ولقد برر الفريق الأول رأيه بأن الفصاحة في اللغة تضفي على القضاء
الهيبة والوقار إلى جانب أنها أجزل في معانيها. وبرر الفريق الثاني بأن العامية في
متناول الجميع بينما تعسر الفصحى على البعض خصوصاً من الجمهور والخصوم. ورأى
الفريق الثالث أن تكون لغة المرافعة بالعامية المحسنة.
وفي هذا الصدد أرى
وجوب التفريق بين اللغة التي يُخَاطـَبُ بها الخصوم أو الشهود بشكل مباشر سواء من
قبل القاضي أو المحامي أو عضو الادعاء , وبين اللغة التي تدور بين هؤلاء الأطراف.
ففي الأولى يجب أن يكون الخطاب بقدر ما يفقه المخاطـَب, كما يجب التحري والعناية
من قبل المتحدِث بأن ما يقوله مُدرَك من قبل سامعه.
ولقد أتحفني فضيلة
الشيخ ماجد بن عبدالله العلوي نائب رئيس المحكمة العليا عند سؤالي إياه عن هذا
الموضوع بقوله: " لقد عنيت منذ توليت القضاء بإجادة اللهجة الدارجة في كل
منطقة أنتقل إليها للعمل, لجسر ما بيني وما بين المتقاضين من عامة الناس من هوة, فأدرك
مغازيهم من أقوالهم, ويشعرون هم بذلك فينطلقون بما يشاؤون في ادعائهم أو دفاعهم".
أقول مصداقاً لذلك لو
قيل لعاميّ أميّ " وأيم الله أنك لمان ٍ فيما فهت به " لرفع عقيرته
بالشكر للقائل ظناً منه أنه يمدحه في حين أنه يكذبه.
إلا أن فضيلته عاد وأكد على أهمية اللغة العربية
الفصحى كلغة للتقاضي وأنها المحببة إليه عند المرافعة إذا ما صدرت ممن يعيها سيما
أعضاء الادعاء العام والمحامين (1).
أما المرافعة التي
تعارف عليها الأدب القضائي فإنها إن صدرت من عضو الادعاء أو المحامي فالمقصود
المباشر بها هو فضيلة القاضي, ولا شك في أنه لن يعزب عن ذهنه ما أراده المترافع,
ولن تصعب عليه لغته وإن كانت فصيحة.
الرأي:
أرى أن المرافعة
القضائية من العضو يجب أن تكون بلغة عربية فصيحة. فمن قال أن اللغة الفصيحة عصية
على الفهم؟ فالجميع يسمع نشرات الأخبار وخطب الجمعة ويقرأ الصحف ويدرس الكتب بلغة
عربية فصيحة, ويمكن القول أن هذا مقياس الرجل العادي(2),
ولقد انتشر التعليم في مجتمعنا ولله الحمد بما يؤهل المتلقين إلى إستيعاب اللغة
العربية الفصيحة. كما أني أشايع بعض المستجيبين للاستبيان من كون اللغة الفصحى
تضفي مهابة ووقاراً على المحكمة وأنها أجزل في التعبير عن الأفكار. كما أني أؤمن
بأنها ستكون – إن طبقت – عاملاً مهماً في إحياء اللغة العربية الفصحى, ودافعاً للاهتمام
بها, ومَعيناً للبلاغة القضائية, وعامل محافظة على الهوية من معاول الغزو الثقافي
والتغريب, كما تجنب قاعات المحكمة هرج ومرج واختلاط اللهجات. على أن يكون ذلك دون
تكلف أو تصنع, فلا يعمد المترافع إلى المعاني القاموسية الغريبة. فقد ذم من قال لخلق
تجمعوا عليه: " ما لكم تكأكأتم عليّ كتكأكئكم على ذي جنةٍ , هيا افرنقعوا عني"
وذلك رغم صحة قوله إلا أنه لو قال اذهبوا عني لبلغ مراده.
(1) النافذة الصغيرة من الجدار المطلة على الخارج.
(1) البيت لأبي القاسم الحريري صاحب المقامات
(1) سمير ناجي وأشرف هلال , آداب مرافعة الادعاء
أصول وممارسات, ص 7و 8.
(2) المشعلاني,
فؤاد , مرافعات المختارة, ص 22.
(3) المشعلاني, فؤاد , مرجع سابق, ص 23.
(1) الدكتور مزهر جعفر عبيد, شرح قانون الإجراءات
الجزائية العماني ص 33.
(2) سمير ناجي وأشرف هلال, مرجع سابق, ص 11
(3) وفي هذا السياق جاءت المواد(1119 – 1120 -1121)
من التعليمات القضائية للنيابة العامة المصرية أنظر هليل, فرج علوان, شرح تعليمات
النيابة العامة, ص 307.
(1) سمير ناجي وأشرف هلال , مرجع سابق ص 12(بتصرف)
(2) التعليمات القضائية للإدعاء العام لسلطنة عمان ص
83.
(3) صحيح البخاري رقم الحديث 7181 ص 78 ج 15
(1) ألحن بحجته أي أفطن بها, مختار الصحاح .
(2) أنظر المواد (168- 169 – 171 – 172- 173- 174)
(3) أنظر المادة 193 من قانون الإجراءات الجزائية
العماني
(1) نقض 9 يناير
سنة 1904م المجموعة الرسمية س5 رقم 96 ص 185 نقلاً عن شرح قانون الإجراءات
الجزائية لمحمود نجيب حسني ص 879.
(2) المرجع السابق
ص882.
(1) المعجم الوسيط ص 373.
(2) مجمع اللغة العربية: معجم القانون, القاهرة
1999م ص 340 نقلاً عن سمير ناجي وأشرف هلال, مرافعة الإدعاء أصول وممارسات.
(1) سمير ناجي وأشرف هلال , مرجع سابق ص 22
(2) أخذ بهذا التعريف الزميل وكيل إدعاء عام ثان
إبراهيم الحبسي في بحثه المعنون بالمرافعة ودور عضو الإدعاء العام فيها أمام درجات
المحاكم (بحث غير منشور).
(3) الحد في علم
المنطق يقصد به التعريف.
(1) انظر المادة 3 من قانون الإجراءات الجزائية.
(1) سمير ناجي وأشرف هلال – مرجع سابق , ص129
(بتصرف)
(2)
الكتاب الذهبي - الجزء الثاني , ص 172.
(3) المرجع السابق
ص 173.
(4) النهل: الشربة
الأولى.
(1) الآية (2) سورة يوسف
(2) العلّ:
الشربة الثانية
(1) وقد مال إلى هذا الرأي أغلب المحامين من الأشقاء
العرب الذين شملهم الإستبيان.
(1) جاء هذا في مقابلة شخصية أجريتها مع فضيلته خدمة
لمشروع هذا البحث.
(2) مثال يضرب في
القانون لتحديد المسؤولية التقصيرية فيقاس فعل المدعى عليه ما إذا بلغ عناية شخص
طبيعي إفتراضي محاط بظروف عادية في المجتمع.