حكم ضرب المتهم وخداعه والتحايل عليه
[بقلم: د.هاني السباعي (مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن)]
بسم الله الرحمن الرحيم
سأل
سائل عن حكم الشريعة الإسلامية في ضرب المتهم أو خداعه ليقر بالجريمة؟
وهل يعتد بهذا الاعتراف أمام القاضي الشرعي أم لا يعتد بهذا الاعتراف ومن
ثم يعفى المتهم من المسئولية الجنائية؟
وقبل أن نشرع في تفصيل
الاتجاهات الفقهية لهذه القضية نبدأ بمقدمة موجزة حول الإكراه
(تعريفه/أنواعه/حده/مستنده الشرعي) على النحو التالي:
(أ) تعريف الإكراه وأنواعه:
يعرف
ابن الشحنة الحنفي الإكراه بقوله: (تهديد القادر على ما هدده على أمر
بحيث ينتفي الرضا" وفي درر الحكام: "الإكراه هو إجبار أحد على أن يعمل
عملاً بغير حق من دون رضاه بالإخافة، ويقال له المكرَه (بفتح الراء)
ويقال لمن أجبره (مجبر) ولذلك العمل مكره عليه وللشئ الموجب للخوف مكره
به"
(ب) أنواع الإكراه:
قال الفقهاء إن: "الإكراه على
قسمين؛ الأول: هو الإكراه الملجئ الذي يكون بالضرب الشديد المؤدي إلى
إتلاف النفس أو قطع عضو. والثاني: هو الإكراه غير الملجئ الذي يوجب الغم
والألم فقط كالضرب والحبس غير المبرح والمديد"
أقول: يتفق الفقهاء
على بطلان الإقرار الذي يكون وليد الإكراه الملجئ. أما القسم الثاني: فقد
اختلف الفقهاء بشأنه وخاصة إكراه المجرمين عتاة الإجرام وأرباب السوابق
وتزعم هذه المدرسة ابن قيم الجوزية وآخرون.
(ج) حد الإكراه:
اختلف
العلماء في حد الإكراه: قال عمر بن الخطاب: "ليس الرجل آمن على نفسه إذا
أخفته أو أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعود: ما كلام يدرأ عني سوطين إلا
كنت متكلماً به. وقال الحسن: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة؛ إلا
أن الله تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقية. وقال النخعي: القيد إكراه،
والسجن إكراه. وهذا قول مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوف إكراه وإن لم
يقع إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإنفاذه لما يتوعد به، وليس عند مالك
وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، وإنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان
من سجن يدخل منه الضيق على المكره. وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه"
قال القرطبي: " وتناقض الكوفيون فلم يجعلوا السجن والقيد إكراهاً
على شرب الخمر وأكل الميتة؛ لأنه يخاف منها التلف، وجعلوها إكراهاً في
إقراره لفلان عندي ألف درهم. قال سحنون: وفي إجماعهم على أن الألم والوجع
الشديد إكراه، ما يدل على أن الأكراه يكون من غير تلف نفس. وذهب مالك إلى
أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف ولا حنث عليه؛ وهو قول
الشافعي وأحمد وأبي ثور وأكثر العلماء"
قال في المحلى:
"الإكراه:
هو كل ما سمي في اللغة إكراهاً، وعرف بالحس أنه إكراه كالوعيد بالقتل ممن
لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به، والوعيد بالضرب كذلك، أو الوعيد بالسجن
كذلك، أو الوعيد بإفساد المال كذلك، أو الوعيد في مسلم غيره بقتل، أو
ضرب، أو سجن، أو إفساد مال، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم
أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)"
(د) المستند الشرعي للإقرار تحت الإكراه:
استند الفقهاء إلى الأدلة التالية من الكتاب والسنة:
قوله
تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) قال القرطبي: "لما سمح الله عز
وجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء
عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب
عليه حكم"
ثانياً: حديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا
عليه) رمز إليه الألباني بالصحة في صحيح الجامع الصغير. قال السرخسي:
"وليس للمكره اختيار صحيح معتبر شرعاً فيما تكلم به بل هو مكره عليه،
والإكراه يضاد الاختيار، فوجب اعتبار هذا الإكراه في انعدام اختياره به
لكونه إكراهاً بالباطل، ولكونه معذوراً في ذلك، فإذا لم يبق له قصد معتبر
شرعاً التحق بالمجنون"
• أما عن مسألة ضرب المتهم ليقر بالجريمة فسنتناولها على النحو التالي:
اختلف الفقهاء في ذلك إلى اتجاهين:
الاتجاه
الأول: يشترط أن يكون الإقرار صادراً عن إرادة حرة، ولذا يجب استبعاد
وسائل التأثير المختلفة لحمل المتهم على إقرار كالإكراه بالضرب أو أخذ
المال.
الاتجاه الثاني: يرى قبول الإقرار ولو كان نتيجة إكراه بالضرب أو بالسجن أو ما أشبه ذلك شريطة أن يخرج جسم الجريمة.
ونتسعرض هذين الرأيين على النحو التالي:
الاتجاه الأول: صدور الإكراه عن إرادة حرة:
يشترط
أن يكون الإقرار صادراً عن إرادة حرة، ولذا يجب استبعاد وسائل التأثير
المختلفة لحمل المتهم على إقراره كالإكراه بالضرب أو أخذ المال: قال
شريح: "القيد كره، والوعيد كره، والضرب كره، والسجن كره"
ويقول الماوردي: "وإن ضرب ليقر لم يكن لإقراره تحت الضرب حكم"
قال الطرابلسي: "وأما لو أكرهته على الإقرار بحد أو قصاص فلا يجوز"
"وفي
الولوالجي: إذا كان الرجل من الأشراف أو من الأجلاء أو من كبراء العلماء
أو الرؤساء بحيث يستنكف عن ضرب سوط أو حبس ساعة لم يجز إقراره، لأن مثل
هذا الرجل يؤثر ألف درهم على ما يلحق من الهوان بهذا القدر من الحبس
والقيد فكان مكرهاً، وكذا الإقرار حجة لترجح جانب الصدق فيه على جانب
الكذب، وعند الإكراه يحتمل أنه يكذب لدفع المضرة"
وفي البدائع:
"الإكراه يمنع صحة الإقرار، سواء كان المقر به مما يحتمل الفسخ أو لا
يحتمل، وسواء كان مما يسقط بالشبهات كالحدود والقصاص أو لا"
ويرى
الكاساني أن إخلاء سبيل المتهم الذي أكره على الإقرار(الأول) ثم قبض عليه
مرة أخرى لا يصح إقراره الثاني طالما كان تحت بصر من أكرهه أولاً إذ
يقول: "ولو أكرهه على الإقرار بذلك (كالحدود والقصاص) ـ ثم خلى سبيله
فهذا على وجهين: إما أن يتوارى عن بصر المكره حينما خلى سبيله، وإما أن
لا يتوارى عن بصره حتى بعث من أخذه ورده إليه. فإن كان توارى عن بصره ثم
أخذه فأقر إقراراً مستأنفاً جاز إقراره لأنه لما خلى سبيله حتى توارى عن
بصره فقد زال الإكراه عنه، فإذا أقرّ به من غير إكراه جديد فقد أقرّ
طائعاً فصح إقراره لأنه لما خلى سبيله حتى توارى عن بصره بعد حتى رده
إليه فأقرّ به من غير إكراه جديد فقد أقرّ طائعاً فصح وإن كان لم يتوار
عن بصره بعد حتى رده إليه فأقرّ به من غير تجديد الإكراه لم يصح لأنه لما
لم يتوار عن بصره فهو على الإكراه الأول"
"ولو أكرهه على الإقرار
بالقصاص فأقر به فقتله حيثما أقر به من غير بينة، فإن كان المقر معروفاً
بالدعار يدرأ عنه القصاص استحسانا، وإن لم يكن معروفاً بها يجب القصاص"
يقول السرخسي: "ولو أن قاضياً أكره رجلاً بتهديد ضرب أو حبس أو قيد
حتى يقر على نفسه بحد أو قصاص كان الإقرار باطلاً، لأن الإقرار متمثل بين
الصدق والكذب، وإنما يكون حجة إذا ترجح جانب الصدق على جانب الكذب،
والتهديد بالضرب والحبس يمنع رجحان جانب الصدق على ما قال عمر رضي الله
عنه: ليس الرجل على نفسه بأمير إذا ضربت أو أوثقت، ولم ينقل عن أحد من
المتقدمين من أصحابنا (أي الأحناف) رحمهم الله صحة الإقرار مع التهديد
بالضرب والحبس في حق السارق وغيره"
رأي لجنة الفتوى بالأزهر:
وعرضت لجنة الفتوى بالأزهر قضية ضرب المتهم فذكرت آراء الفقهاء وإن كنا نميل إلى أن الفتوى مالت إلى عدم ضرب المتهم ليقر:
"سئل : هل يجوز ضرب المتهم ليقر بما ارتكبه من مخالفة، وهل يُعْتَد بهذا الإقرار؟
أجاب
: جاء في "الأحكام السلطانية" للماوردي ص. 22 أنه يجوز للأمير مع قوة
التهمة أن يضرب المتهم ضرب التعزير لا ضرب الحد، ليأخذه بالصدق عن حاله
فيما قرف به واتهم ، فإن أقر وهو مضروب اعتبرت حاله فيما ضرب عليه ، فإن
ضرب ليقر لم يكن لإقراره تحت الضرب حكم ، وإن ضرب ليصدق عن حاله وأقر
تحت الضرب قطع ضربه واستعيد إقراره ، فإذا أعاده كان مأخوذا بالإقرار
الثانى دون الأول. فإن اقتصر على الإقرار الأول ولم يستعده لم يضيق عليه
أن يعمل بالإقرار الأول وإن كرهناه. والرأي المختار عند الأحناف والإمام
الغزالى من الشافعية أن المتهم بالسرقة لا يُضرب، لاحتمال كونه بريئًا ،
فترك الضرب فى مذنب أهون من ضرب برئ وفى الحديث (لأن يخطئ الإمام في
العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) وأجاز أصحاب الإمام مالك ضرب المتهم
بالسرقة ، وذلك لإظهار المسروق من جهة، وجعل السارق عبرة لغيره من جهة
أخرى"
الاتجاه الثاني: قبول الإكراه ولو كان نتيجة ضرب المتهم:
يرى
قبول الإقرار ولو كان نتيجة إكراه بالضرب أو بالسجن أو ما أشبه ذلك شريطة
أن توجد جثة القتيل: وممن قال بضرب المتهم الإمامية وبعض المالكية
والظاهرية وبعض الحنابلة وفي مقدمتهم ابن القيم شريطة أن يخرج المتهم جثة
القتيل وحجتهم في ذلك الأدلة التالية:
أدلة القائلين بجواز ضرب المتهم:
روى
ابن إسحاق بسنده عن عبد الله بن عمر: "وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم
بكنانة بن الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون
يعرف مكانه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من يهود، فقال لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة،؛
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك،
أأقتلك؟ قال: نعم؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت،
فأخرج منها كنزهم، ثم سأله عما بقي، فأبى أن يؤديه، فأمر به رسول الله
صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده،
فكان الزبير يقدح بزند في صدره، حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله
إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة"
وفي سنن
البيهقي: ساق بسنده عن ابن إسحاق عن عبد الله بن عمر: "أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم فغلب على الأرض
والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول
الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء ويخرجون منها واشترط عليهم أن
لا يكتموا ولا يغيبوا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكاً فيه
مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي ما فعل مَسْك حيي الذي جاء به من
النضير. فقال: أذهبته النفقات والحروب. فقال: العهد قريب والمال أكثر من
ذلك فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب. وقد كان
حيي قبل ذلك قد دخل خربة فقال رأيت حيياً بن أخطب يطوف في خربة هاهنا
فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ابني حقيق"
قال ابن القيم: "وأما ضرب المتهم إذا عرف أن المال عنده
- وقد كتمه وأنكره -فيضرب ليقر به، فهذا لا ريب فيه، فإنه ضرب ليؤدي
الواجب الذي يقدر على وفاته، كما في حديث ابن عمر: "أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء، سأل زيد بن سعية عم
حيي بن أخطب. فقال: أين كنز حي؟ فقال: يا محمد أذهبته النفقات. فقال
للزبير: دونك هذا. فمسه الزبير بشئ من العذاب، فدلهم عليه في خربة، وكان
حلياً في مسك ثور" ثم علق ابن القيم على الحديث بقوله:"فهذا أصل في ضرب
المتهم"
أقول: لكن هذا الفريق اشترط أن يكون المتهم من أرباب
السوابق: "أن يكون المتهم معروفاً بالفجور، كالسرقة وقطع الطريق والقتل
ونحو ذلك"
أما في سنن أبي داود: فقد ساق بسنده عن ابن عمر أن النبي
صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر فغلب على النخل والأرض، وألجأهم إلى
قصرهم، فصالحوه على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء
والحلقة، ولهم ما حملت ركابهم، على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً، فإن
فعلوا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكاً لحيي بن أخطب، وقد كان قتل قبل
خيبر، كان احتمله معه يوم بني النضير حين أجلت النضير، فيه حليهم، قال:
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعية: أين مسك حيي بن أخطب؟ قال: أذهبته
الحروب والنفقات، فوجدوا المسك، فقتل ابن أبي الحقيق"
حسنه الألباني في تخريجه لسنن أبي داود.
الثاني:
الاستدلال بفتوى لأحد فقهاء الأحناف (الحسن بن زياد) بأنه أفتى بجواز ضرب
المتهم"أنه يحل ضرب السارق حتى يقر وقال: ما لم يقطع اللحم أو يظهر
العظم"
مناقشة أدلة القائلين بضرب المتهم:
أما بالنسبة لحديث ابن عمر في قصة أرض خيبر وكنز حيي بن أخطب ملاحظاتنا عليه تتلخص في الآتي:
(1):
نلاحظ أن مدار الحديث على محمد بن إسحاق المتوفى في 151هـ الذي انفرد
بفقرة: بتعذيب الزبير لـ (سعية) عم حيي ليدله على الكنز المخبأ في وعاء
من الجلد ثم ذكره البيهقي في كتاب السير في سننه. لكن قصة تعذيب الزبير
لعم حيي لم ترد في رواية أبي داود. مما يجعلنا لا نطمئن إلى رواية ابن
إسحاق وخاصة أنها لم ترد في كتب الصحاح أو السنن إلا سنن البيهقي وخاصة
تلك الزيادة التي ذكرها ابن إسحاق عن تعذيب الزبير لعم حيي بن أخطب.
(2)
على افتراض صحة الحديث بزيادته الواردة عن تعذيب ابن الزبير لعم حيي بن
أخطب فإن هذا ليس مسوغاً لتعميمه على كل الحالات إذ أن الأمر بضرب المتهم
في حالة حرب وبعد نقض العهد، وكان بأمر ولي الأمر وهو رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولم يكن بتصرف فردي للزبير بن العوام كما يحدث الآن من
انتهاكات رجال الشرطة وممارساتهم التعذيب بصفة دورية قبل أن يعرض المتهم
على القاضي المختص. فالحالات التي ذكرها ابن القيم ومن يرى رأيه في ضرب
المتهم أن يكون ذلك في حضرة القاضي وبأمره بعد وجود دلائل كافية يقتنع
بها القاضي أن المتهم من أرباب السوابق في اقتراف مثل هذه الجرائم كالقتل
العمد، أو ما يطلق عليه في بعض البلاد بالقاتل المأجور أو القاتل
المرتزق.
(3) أما الاستدلال بفتوى الحسن بن زياد صاحب أبي حنيفة
فقد أكد السرخسي أنه قد ندم على فتواه بقوله: "روي عن الحسن بن زياد رضي
الله عنه أن بعض الأمراء بعث إليه وسأله عن ضرب السارق ليقر فقال: ما لم
يقطع اللحم أو يبين العظم، ثم ندم على مقالته وجاء بنفسه إلى مجلس الأمير
ليمنعه من ذلك فوجده قد ضربه حتى اعترف وجاء بالمال، فلما رأى المال
موضوعاً بين يدي الأمير قال: ما رأيت ظلماً أشبه بالحق من هذا" ويعلق
السرخسي وهو من أئمة الحنفية على هذه الحالة بقوله: "فإن خلى سبيله بعد
ما أقر مكرهاً، ثم أخذ بعد ذلك فجئ به فأقر بما كان عليه بغير إكراه
مستقل أخذ بذلك كله، لأن إقراره الأول كان باطلاً، ولما خلى سبيله فقد
انتهى حكم ذلك الأخذ والتهديد، فصار كأن لم يوجد أصلاً حتى أخذ الآن فأقر
بغير إكراه وإن كان لم يخل سبيله، ولكنه قال له وهو في يده بعد ما أقر:
إني لا أؤاخذك بإقرارك الذي أقررت به ولا أضربك ولا أحبسك ولا أعرض لك،
فإن شئت فأقر، وإن شئت فلا تقر، وهو في يد القاضي على حاله، لم يجز هذا
الإقرار لأن كينونته في يده حبس منه له، وإنما كان هدده بالحبس فما دام
حابساً له كان أثر ذلك الإكراه باقياً"
(4): القاضي سحنون أمر بضرب القاضي ابن أبي الجواد بتهمة خيانة الأمانة:
ذكر
بعض علماء المالكية مسألة ضرب المتهم حتى لو كان قاضياً واستشهدوا على
ذلك بقضية القاضي سحنون وهو من كبار علماء المالكية مع القاضي ابن أبي
الجواد حيث ذكر صاحب المعيار المعرب: "يسجن القاضي ويضرب إذا عرف بالشر
والسرقة: وعن أصبغ فيمن كان معروفاً بالشر والسرقة يسجن أبداً وهو
الصواب. وكان سحنون يضرب ابن أبي الجواد القاضي ويعيده في السجن، وكان
عنده أموال اليتامى"
وأصل القصة كما ذكرها الونشريسي عن ابن أبي
الجواد: "أنه كان قاضياً بالقيروان ثم عزل ورجع سحنون في موضعه ونظر في
ديوان الودائع فوجد فيه مالاً لورثة رجل يقال له ابن (القلفاط) فأحضر
وكشف عن ذلك فأنكر وجحد الخط، فشهد عليه في وجهه سليمان بن عمران وابن
قادم الفقيهان بأنه خطه وكانا يكتبان له، فتمادى على الإنكار فتلوم له
سحنون وأعذر إليه، وأرسل من يشير عليه بإنصاف القوم فلجّ في الإنكار
وتمادى عليه، فحبسه أياماً فلم يرجع إلى الحق، فأخرجه وضربه عشرة وردّ
إلى السجن، فأتت زوجته بنت أسد بن الفرات والتزمت الدفع عنه، فقال لها
سحنون إن قال زوجك: هذا مال الميت أو بدله قبضته فأطلقته لك فأحضر فامتنع
من قول ذلك وكان سحنون يخرجه في كل يوم جمعة وإذا امتنع من الأداء ضربه
عشرة أسواط حتى ضربه مراراً كثيرة ثم مرض ومات في السجن من مرضه ذلك.
وقضيته مشهورة كما حكاها ابن الرقيق بزيادات. وعن أبي عمران إنما ضربه
سحنون لأنه اتهمه كما يضرب السارق حتى يخرج أعيان تلك السلع، وروي أن
سحنون كان يقول بعد موته: مالي ولابن الجواد: كأنه تحرج من موته خوفاً"
تعليقنا على القضية المذكورة:
أولاً: من حيث مصدر قصة ضرب
سحنون لابن أبي الجواد: لقد شكك بعض العلماء في هذه الرواية حيث ذكر
الونشريسي نفسه:"وأجاب بعضهم وأظنه الشيخ ابن عبد السلام، بأن هذا إنما
هو من حكاية ابن الرقيق المؤرخ، وهو ليس بثقة لأنه كان شارب خمر متخلفاً
فلا يقبل خبره. والحكاية وإن ذكرها بعض مؤرخي الأندلس فلعله نقلها من ابن
الرقيق"
ثانياً: على افتراض صحة هذه الرواية عن سحنون فإنها توافق
مذهب من يجيز ضرب المتهمين أرباب السوابق، وكانوا معروفين بالشر أو من
المسجلين خطر حسب المصطلح الحديث. وقد يكون القاضي ابن أبي الجواد
مشهوراً بالفساد أو أكل أموال اليتامى أو الرشوة لذا أمر سحنون بضربه.
بالإضافة إلى أن الذي يقوم أو يأمر بالضرب هو القاضي وليس ضابط الشرطة أو
أي جهة أخرى سرية أو علنية.
ثالثا: على افتراض صحة هذه الرواية
أيضاً فإنها ليست مبرراً شرعياً لاستعمال كل هذه القسوة حيث تصور لنا
الرواية أن القاضي سحنون كان شخصاً متعنتاً قاسي القلب لدرجة أنه لم يقبل
المال الذي عرضته زوجة ابن أبي الجواد لتخليص زوجها إلا بأن يقر بأن هذا
مال الميت الذي كان في أمانته أو بدلاً منه!! فرواية القصة بهذه الطريقة
توحي أن هناك أسباباً شخصية أو سياسية وراء هذا التعنت من قبل القاضي
سحنون قبل القاضي الحبيس ابن أبي الجواد!!
رابعاً: أشار الونشريسي
إلى ندم ابن أبي الجواد وأنه كان يقول بعد موته : مالي ولابن الجواد.
ويقول الآبي في تعليقه على هذه القضية: "كان سحنون أيام قضائه سجن ابن
أبي الجواد في دين ترتب عليه وضربه بالسياط مدة بعد مدة واتفق أن مات ابن
أبي الجواد من ضربه فكان سحنون إذا نام رأى في منامه ابن أبي الجواد بما
يسوؤه، فإذا استيقظ يقول ما لي ولا أبي الجواد. فظاهر هذا أن سحنون ناله
بسبب تعذيبه مع أنه إنما عذبه بحق، ولذا كان يقول له: (الحق قتله).
ونحن
بدورنا لا نقبل هذا التبرير على افتراض صحة الرواية فالثابت أن سحنون عذب
ابن أبي الجواد وأذله وتعنت معه فلذا فإنه يتحمل وزر ذلك.
خامساً:
ما فعله القاضي سحنون يخالف ما جاء في المدونة: (من أقر بعد التهديد
أقيل. قال ابن القاسم فالوعيد والقيد والتهديد والسجن والضرب تهديد عندي
كله وأرى أن يقال، ثم لا يقام الحد على من ضرب وهدد فأخرج القتيل أو أخرج
المتاع الذي سرق إلا أنه يقر بذلك آمناً لا يخاف شيئاً) معنى ذلك أنه على
افتراض صحة ضرب سحنون لابن أبي الجواد فإنه لو أقر بعد التهديد والسجن
والضرب لكان إقراره باطلاً حتى لو أخرج المال الذي اتهمه فيه القاضي
سحنون.
بناء على الأسباب التي ذكرناها سابقاً لا نرى صحة رواية ضرب القاضي سحنون وتعذيبه للقاضي ابن أبي الجواد.
وممن
قال بجواز ضرب المتهم من فقهاء القانون المعاصرين يوسف علي محمود:"والذي
نراه أنه يجوز ضرب المتهم إذا كان معروفاً بالفساد، فإذا أقر، فإنه يراجع
حتى يقر ثانياً دون ضرب، فإذا أقر، فإنه يؤخذ بالحق الذي أقر به"
الرأي المختار:
في
مقام الموازنة بين الآراء السابقة نميل إلى تأييد الرأي القائل بعدم ضرب
المتهم وإن كان معروفاً بالفساد أو ما يطلق عليه أمنيا المسجل الخطر..
للأسباب التالية:
أولاً: لثبوت حديث: كُرَيْبٍ "حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ
بْنِ حِزَامٍ عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا
فِى الشَّمْسِ فَقَالَ مَا شَأْنُهُمْ قَالُوا حُبِسُوا فِى الْجِزْيَةِ.
فَقَالَ هِشَامٌ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- يَقُولُ « إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ
النَّاسَ فِى الدُّنْيَا"
فهذا الحديث صريح في نهي وزجر الرسول صلى
الله عليه وسلم عن تعذيب الناس سواء كانوا برءاء أو متهمين فكلمة (الناس)
عامة تشمل كل الناس بدليل أن الصحابي هشام بن حكيم استنكر أن يعاقب
الوالي هؤلاء الفلاحين من أهل الكتاب في الشمس لإجبارهم على دفع الجزية..
ولم يسأل هشام بن حكيم هل هم من أرباب السوابق أو من المماطلين في دفع
الجزية؟! فبمجرد أن رآهم سأل عن شأنهم واستنكر أن يحبسوا هكذا في الشمس
واعتبر أن ذلك تنوعاً من التعذيب غير الجائز شرعا فقال على الفور بصيغة
الجزم أشهد أني لسمعت رسول الله يقول إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في
الدنيا.
ثانياً: الاستشهاد بحديث عبد الله بن عمر الذي ذكر فيه قصة
أمر الرسول للزبير بتعذيب عم حيي بن أخطب تبين لنا أن مصدر الرواية محمد
بن إسحاق ولم يذكر هذه الرواية إلا البيهقي في سننه، مما يستبين لنا أن
هذه الرواية لا تستقيم لصريح نهي الرسول عن تعذيب الناس حتى ولو في تهمة
ولم يثبت أنه عذب أو ضرب أحداً ليقر أمامه في تهمة. وعلى افتراض صحة
رواية عبد الله بن عمر التي تفرد بها البيهقي عن ابن إسحاق فإن هذا الأمر
قيل في زمن حرب وهو استثناء لا يجوز أن يتخذ قاعدة في ضرب أي متهم وإن
كان من أرباب السوابق.
ثالثا: أما الاستدلال بفتوى الحسن بن زياد
فقد ذكرنا أن السرخسي قال إن الحسن بن زياد قد ندم ومن ثم فلا حجة لمن
يتمسك بهذه الفتوى في جواز ضرب المتهم إذا كان معروفاً بالفساد.
ومن
ثم فإننا نميل إلى عدم ضرب المتهم حتى وإن كان من أرباب السوابق فرغم أن
هناك صنفاً من المتهمين من ذوي السوابق والمسجلين خطر على الأمن إلا أنهم
المشجب الأسهل لدى أجهزة الأمن لتعليق أي تهمة ونسبتها إليهم.وكما يقول
بيكاريا:"أما التعذيب فيجب عدم الالتجاء إليه إطلاقاً، فالمذنب الذي تعود
على الألم قد يحتمله في تجلد وتفترض براءته، في حين يكره الألم بريئاً
مرهف الأعصاب على الاعتراف بأي شئ فيحكم بأنه مذنب" كما أن التعويل على
إقرار المتهم المكره قد يسول لبعض ضعاف النفوس من رجال الشرطة والمخابرات
أن يلجأوا إلى وسائل لتعذيب المتهم حتى يقر بالمعلومات التي يريدها ضابط
الأمن. لذلك فإن إعمال مبدأ سد الذرائع ضروري في إبطال أي إقرار يصدر عن
المتهم نتيجة الإكراه لأن الغاية لا تبرر الوسيلة ولا يبنى صحيح على
باطل.
• خداع المتهم:
قلنا ـ حسب الرأي الذي رجحناه ـ
إنه لا يجوز ضرب المتهم أو تعذيبه حتى يقر، وإن إقراره لا يعتد به ولا
يعول عليه. لكن هل ينطبق هذا الحكم على الاحتيال على المتهم وخداعه ليقر
بما هو منسوب إليه؟
هناك رأيان في الفقه الجنائي الإسلامي:
الرأي الأول: يجيز التحايل على المتهم:
يرى
جواز التحايل على المتهم ليقر بالحق ويعترف به دون ضرب أو تعذيب له بأي
نوع من أنواع التعذيب، وإلى هذا ذهب ابن حزم الظاهري واستدل على ذلك:
(1):
"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف اليهودي الذي ادعت الجارية التي
رض رأسها ـ فسيق إليه فلم يزل به ـ عليه السلام ـ حتى اعترف فأقاد منه"
(2):
وفي حسن الحيلة" فعل علي بن أبي طالب إذ فرق بين المدعى عليهم بالقتل
وأسر إلى أحدهم، ثم رفع صوته بالتكبير فوهم الآخر أنه قد أقر، ثم دعى
الآخر فسأله فأقر، حتى أقروا كلهم: فهذا حسن، لأنه لا إكراه فيه، ولا
ضرب"
الرأي الثاني: (لا يجيز التحايل على المتهم):
لا
يجيز التحايل على المتهم أو غشه أو خداعه ليقر يقول السرخسي في قول
القاضي للمتهم: "لا أحبسك.. نوع غرور وخداع منه" وجاء في الزرقاني من
المالكية: "وكره مالك أن يقول السلطان للمتهم أخبرني ولك الأمان لأنه
خديعة"
الرأي المختار:
لقد رجح أحد القانونيين المعاصرين
رأي مالك بقوله: "يبدو لنا أن رأي مالك هو الأرجح إذ ليس من الصواب القول
أن التجاء المحقق إلى الغش والخديعة عملاً مشروعاً، وذلك لأنه إذا كان
الإكراه يبطل الإقرار لأنه يفسد أو يعدم إرادة المقر، فإن هذه العلة
قائمة أيضاً في حالة الاحتيال. ولذا ينبغي إبطال الإقرار الذي يتم عن
طريق هذه الوسيلة وعدم الاعتداد بها"
لكننا نرى بعد المقارنة بين
الرأيين السابقين صواب من قال بجواز الاحتيال على المتهم ليقر طالما لم
يضرب المتهم أو يعذب أو يهدد في نفسه أو أهله أو ماله.. وذلك للأدلة التي
ذكرها أصحاب الرأي الأول.. أما عن ما ذكره السرخسي عن قول القاضي للمتهم
: (لا أحبسك.. نوع غرور وخداع).. وما قيل عن مالك إنه كره أن يقول
السلطان للمتهم أخبرني ولك الأمان لأنه خديعة.. أجاب عنه ابن حزم بقول:
"وقد كره هذا مالك، ولا وجه لكراهيته، لأنه ليس فيه عمل محظور، وهو فعل
صاحب لا يعرف له من الصحابة مخالف ينكر ذلك"
أقول: يقصد ابن حزم
أن فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تفريق المدعى عليهم وخداعهم ليس
عملاً محظوراً، كما أنه صحابي لا يعرف له مخالف من الصحابة ينكر عليه
فعله هذا مع المتهمين فهو إجماع سكوتي. كما أن ابن حزم يرى أن خداع
المتهم ليس إكراها إذ يقول: "كل ما كان ضرراً في جسم، أو مال، أو توعد به
في ابنه، أو أبيه، أو أهله، أو أخيه المسلم، فهو كره، لقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"
إذن ابن
حزم لا يرى أن خداع المتهم والتحايل عليه ليقر إكراهاً إذ أنه يرى أن كل
ما كان ضرراً في جسم أو مال أو توعد في ابنه، أو أبيه، أو أهله، أو أخيه
المسلم فهو إكراه أي أنه يتوسع في كلمة الأخوة فلم يقصرها على أخوة النسب
بل يتعداها إلى أخوة الدين.. لذلك استشهد بالحديث النبوي المذكور..
فتحايل القاضي على المتهم ليقر ليس ظلماً ولا خذلاناً كما أنه ليس
إكراهاً. وهذا ما نرجحه وخاصة أن عدم استخدام هذا الأسلوب مع المتهم قد
يضيع حقوق المجني عليه وولي دمه في القصاص من الجاني.
وهناك رواية
تعضد رأينا؛ ذكرها مسلم في صحيحه: " عَنْ أَبِى الزِّنَادِ عَنِ
الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-
قَالَ « بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ
فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا. فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا
ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ. وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ
بِابْنِكِ. فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى
فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ
فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا.
فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى
بِهِ لِلصُّغْرَى "
قال النووي تعليقا على هذا الحديث: "وأما
سليمان فتوصل بطريق من الحيلة والملاطفة إلى معرفة باطن القضية فأوهمهما
أنه يريد قطعه ليعرف من يشق عليها فتكون هي أمه، فلما أرادت الكبرى قطعه
عرف أنها ليست أمه، فلما قالت الصغرى ما قالت عرف أنها أمه، ولم يكن
مراده أنه يقطعه حقيقة وإنما أراد اختبار شفقتهما لتتميز له الأم فلما
تميزت بما ذكرت عرفها (..) وأن سليمان فعل ذلك حيلة إلى إظهار الحق وظهور
الصدق فلما أقرت به الكبرى عمل بإقرارها وإن كان بعد الحكم كما إذا اعترف
المحكوم له أن الحق هنا لخصمه"
هكذا يستبين لنا صواب رأي من قال
بجواز خداع المتهم والتحايل عليه ليقر لأننا إذا أغلقنا باب التحايل على
المتهم بزعم أن هذا نوع من الإكراه المبطل للإقرار فإن كثيراً من
المجرمين ومحترفي الإجرام سيفلتون من العقاب لأننا نكون قد أعملنا صورة
مثالية لإقرار المتهم إذ أنه لن يعترف في هذه الحالة إلا النزر القليل من
المتهمين أصحاب الضمائر الحية والأنفس الطيبة التي تأتي لتقر طواعية
لتكفر عن جرمها.. كما أن استبعاد استعمال هذه الحيل قبل المتهم من قبل
سلطات التحقيق وعدم التعويل عليها يتسبب في إهدار دماء أبرياء مع شيوع
الجريمة وخاصة في وقتنا المعاصر.
[بقلم: د.هاني السباعي (مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن)]
بسم الله الرحمن الرحيم
سأل
سائل عن حكم الشريعة الإسلامية في ضرب المتهم أو خداعه ليقر بالجريمة؟
وهل يعتد بهذا الاعتراف أمام القاضي الشرعي أم لا يعتد بهذا الاعتراف ومن
ثم يعفى المتهم من المسئولية الجنائية؟
وقبل أن نشرع في تفصيل
الاتجاهات الفقهية لهذه القضية نبدأ بمقدمة موجزة حول الإكراه
(تعريفه/أنواعه/حده/مستنده الشرعي) على النحو التالي:
(أ) تعريف الإكراه وأنواعه:
يعرف
ابن الشحنة الحنفي الإكراه بقوله: (تهديد القادر على ما هدده على أمر
بحيث ينتفي الرضا" وفي درر الحكام: "الإكراه هو إجبار أحد على أن يعمل
عملاً بغير حق من دون رضاه بالإخافة، ويقال له المكرَه (بفتح الراء)
ويقال لمن أجبره (مجبر) ولذلك العمل مكره عليه وللشئ الموجب للخوف مكره
به"
(ب) أنواع الإكراه:
قال الفقهاء إن: "الإكراه على
قسمين؛ الأول: هو الإكراه الملجئ الذي يكون بالضرب الشديد المؤدي إلى
إتلاف النفس أو قطع عضو. والثاني: هو الإكراه غير الملجئ الذي يوجب الغم
والألم فقط كالضرب والحبس غير المبرح والمديد"
أقول: يتفق الفقهاء
على بطلان الإقرار الذي يكون وليد الإكراه الملجئ. أما القسم الثاني: فقد
اختلف الفقهاء بشأنه وخاصة إكراه المجرمين عتاة الإجرام وأرباب السوابق
وتزعم هذه المدرسة ابن قيم الجوزية وآخرون.
(ج) حد الإكراه:
اختلف
العلماء في حد الإكراه: قال عمر بن الخطاب: "ليس الرجل آمن على نفسه إذا
أخفته أو أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعود: ما كلام يدرأ عني سوطين إلا
كنت متكلماً به. وقال الحسن: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة؛ إلا
أن الله تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقية. وقال النخعي: القيد إكراه،
والسجن إكراه. وهذا قول مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوف إكراه وإن لم
يقع إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإنفاذه لما يتوعد به، وليس عند مالك
وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، وإنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان
من سجن يدخل منه الضيق على المكره. وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه"
قال القرطبي: " وتناقض الكوفيون فلم يجعلوا السجن والقيد إكراهاً
على شرب الخمر وأكل الميتة؛ لأنه يخاف منها التلف، وجعلوها إكراهاً في
إقراره لفلان عندي ألف درهم. قال سحنون: وفي إجماعهم على أن الألم والوجع
الشديد إكراه، ما يدل على أن الأكراه يكون من غير تلف نفس. وذهب مالك إلى
أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف ولا حنث عليه؛ وهو قول
الشافعي وأحمد وأبي ثور وأكثر العلماء"
قال في المحلى:
"الإكراه:
هو كل ما سمي في اللغة إكراهاً، وعرف بالحس أنه إكراه كالوعيد بالقتل ممن
لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به، والوعيد بالضرب كذلك، أو الوعيد بالسجن
كذلك، أو الوعيد بإفساد المال كذلك، أو الوعيد في مسلم غيره بقتل، أو
ضرب، أو سجن، أو إفساد مال، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم
أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)"
(د) المستند الشرعي للإقرار تحت الإكراه:
استند الفقهاء إلى الأدلة التالية من الكتاب والسنة:
قوله
تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) قال القرطبي: "لما سمح الله عز
وجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء
عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب
عليه حكم"
ثانياً: حديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا
عليه) رمز إليه الألباني بالصحة في صحيح الجامع الصغير. قال السرخسي:
"وليس للمكره اختيار صحيح معتبر شرعاً فيما تكلم به بل هو مكره عليه،
والإكراه يضاد الاختيار، فوجب اعتبار هذا الإكراه في انعدام اختياره به
لكونه إكراهاً بالباطل، ولكونه معذوراً في ذلك، فإذا لم يبق له قصد معتبر
شرعاً التحق بالمجنون"
• أما عن مسألة ضرب المتهم ليقر بالجريمة فسنتناولها على النحو التالي:
اختلف الفقهاء في ذلك إلى اتجاهين:
الاتجاه
الأول: يشترط أن يكون الإقرار صادراً عن إرادة حرة، ولذا يجب استبعاد
وسائل التأثير المختلفة لحمل المتهم على إقرار كالإكراه بالضرب أو أخذ
المال.
الاتجاه الثاني: يرى قبول الإقرار ولو كان نتيجة إكراه بالضرب أو بالسجن أو ما أشبه ذلك شريطة أن يخرج جسم الجريمة.
ونتسعرض هذين الرأيين على النحو التالي:
الاتجاه الأول: صدور الإكراه عن إرادة حرة:
يشترط
أن يكون الإقرار صادراً عن إرادة حرة، ولذا يجب استبعاد وسائل التأثير
المختلفة لحمل المتهم على إقراره كالإكراه بالضرب أو أخذ المال: قال
شريح: "القيد كره، والوعيد كره، والضرب كره، والسجن كره"
ويقول الماوردي: "وإن ضرب ليقر لم يكن لإقراره تحت الضرب حكم"
قال الطرابلسي: "وأما لو أكرهته على الإقرار بحد أو قصاص فلا يجوز"
"وفي
الولوالجي: إذا كان الرجل من الأشراف أو من الأجلاء أو من كبراء العلماء
أو الرؤساء بحيث يستنكف عن ضرب سوط أو حبس ساعة لم يجز إقراره، لأن مثل
هذا الرجل يؤثر ألف درهم على ما يلحق من الهوان بهذا القدر من الحبس
والقيد فكان مكرهاً، وكذا الإقرار حجة لترجح جانب الصدق فيه على جانب
الكذب، وعند الإكراه يحتمل أنه يكذب لدفع المضرة"
وفي البدائع:
"الإكراه يمنع صحة الإقرار، سواء كان المقر به مما يحتمل الفسخ أو لا
يحتمل، وسواء كان مما يسقط بالشبهات كالحدود والقصاص أو لا"
ويرى
الكاساني أن إخلاء سبيل المتهم الذي أكره على الإقرار(الأول) ثم قبض عليه
مرة أخرى لا يصح إقراره الثاني طالما كان تحت بصر من أكرهه أولاً إذ
يقول: "ولو أكرهه على الإقرار بذلك (كالحدود والقصاص) ـ ثم خلى سبيله
فهذا على وجهين: إما أن يتوارى عن بصر المكره حينما خلى سبيله، وإما أن
لا يتوارى عن بصره حتى بعث من أخذه ورده إليه. فإن كان توارى عن بصره ثم
أخذه فأقر إقراراً مستأنفاً جاز إقراره لأنه لما خلى سبيله حتى توارى عن
بصره فقد زال الإكراه عنه، فإذا أقرّ به من غير إكراه جديد فقد أقرّ
طائعاً فصح إقراره لأنه لما خلى سبيله حتى توارى عن بصره بعد حتى رده
إليه فأقرّ به من غير إكراه جديد فقد أقرّ طائعاً فصح وإن كان لم يتوار
عن بصره بعد حتى رده إليه فأقرّ به من غير تجديد الإكراه لم يصح لأنه لما
لم يتوار عن بصره فهو على الإكراه الأول"
"ولو أكرهه على الإقرار
بالقصاص فأقر به فقتله حيثما أقر به من غير بينة، فإن كان المقر معروفاً
بالدعار يدرأ عنه القصاص استحسانا، وإن لم يكن معروفاً بها يجب القصاص"
يقول السرخسي: "ولو أن قاضياً أكره رجلاً بتهديد ضرب أو حبس أو قيد
حتى يقر على نفسه بحد أو قصاص كان الإقرار باطلاً، لأن الإقرار متمثل بين
الصدق والكذب، وإنما يكون حجة إذا ترجح جانب الصدق على جانب الكذب،
والتهديد بالضرب والحبس يمنع رجحان جانب الصدق على ما قال عمر رضي الله
عنه: ليس الرجل على نفسه بأمير إذا ضربت أو أوثقت، ولم ينقل عن أحد من
المتقدمين من أصحابنا (أي الأحناف) رحمهم الله صحة الإقرار مع التهديد
بالضرب والحبس في حق السارق وغيره"
رأي لجنة الفتوى بالأزهر:
وعرضت لجنة الفتوى بالأزهر قضية ضرب المتهم فذكرت آراء الفقهاء وإن كنا نميل إلى أن الفتوى مالت إلى عدم ضرب المتهم ليقر:
"سئل : هل يجوز ضرب المتهم ليقر بما ارتكبه من مخالفة، وهل يُعْتَد بهذا الإقرار؟
أجاب
: جاء في "الأحكام السلطانية" للماوردي ص. 22 أنه يجوز للأمير مع قوة
التهمة أن يضرب المتهم ضرب التعزير لا ضرب الحد، ليأخذه بالصدق عن حاله
فيما قرف به واتهم ، فإن أقر وهو مضروب اعتبرت حاله فيما ضرب عليه ، فإن
ضرب ليقر لم يكن لإقراره تحت الضرب حكم ، وإن ضرب ليصدق عن حاله وأقر
تحت الضرب قطع ضربه واستعيد إقراره ، فإذا أعاده كان مأخوذا بالإقرار
الثانى دون الأول. فإن اقتصر على الإقرار الأول ولم يستعده لم يضيق عليه
أن يعمل بالإقرار الأول وإن كرهناه. والرأي المختار عند الأحناف والإمام
الغزالى من الشافعية أن المتهم بالسرقة لا يُضرب، لاحتمال كونه بريئًا ،
فترك الضرب فى مذنب أهون من ضرب برئ وفى الحديث (لأن يخطئ الإمام في
العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) وأجاز أصحاب الإمام مالك ضرب المتهم
بالسرقة ، وذلك لإظهار المسروق من جهة، وجعل السارق عبرة لغيره من جهة
أخرى"
الاتجاه الثاني: قبول الإكراه ولو كان نتيجة ضرب المتهم:
يرى
قبول الإقرار ولو كان نتيجة إكراه بالضرب أو بالسجن أو ما أشبه ذلك شريطة
أن توجد جثة القتيل: وممن قال بضرب المتهم الإمامية وبعض المالكية
والظاهرية وبعض الحنابلة وفي مقدمتهم ابن القيم شريطة أن يخرج المتهم جثة
القتيل وحجتهم في ذلك الأدلة التالية:
أدلة القائلين بجواز ضرب المتهم:
روى
ابن إسحاق بسنده عن عبد الله بن عمر: "وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم
بكنانة بن الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون
يعرف مكانه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من يهود، فقال لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة،؛
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك،
أأقتلك؟ قال: نعم؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت،
فأخرج منها كنزهم، ثم سأله عما بقي، فأبى أن يؤديه، فأمر به رسول الله
صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده،
فكان الزبير يقدح بزند في صدره، حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله
إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة"
وفي سنن
البيهقي: ساق بسنده عن ابن إسحاق عن عبد الله بن عمر: "أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم فغلب على الأرض
والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول
الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء ويخرجون منها واشترط عليهم أن
لا يكتموا ولا يغيبوا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكاً فيه
مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي ما فعل مَسْك حيي الذي جاء به من
النضير. فقال: أذهبته النفقات والحروب. فقال: العهد قريب والمال أكثر من
ذلك فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب. وقد كان
حيي قبل ذلك قد دخل خربة فقال رأيت حيياً بن أخطب يطوف في خربة هاهنا
فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ابني حقيق"
قال ابن القيم: "وأما ضرب المتهم إذا عرف أن المال عنده
- وقد كتمه وأنكره -فيضرب ليقر به، فهذا لا ريب فيه، فإنه ضرب ليؤدي
الواجب الذي يقدر على وفاته، كما في حديث ابن عمر: "أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء، سأل زيد بن سعية عم
حيي بن أخطب. فقال: أين كنز حي؟ فقال: يا محمد أذهبته النفقات. فقال
للزبير: دونك هذا. فمسه الزبير بشئ من العذاب، فدلهم عليه في خربة، وكان
حلياً في مسك ثور" ثم علق ابن القيم على الحديث بقوله:"فهذا أصل في ضرب
المتهم"
أقول: لكن هذا الفريق اشترط أن يكون المتهم من أرباب
السوابق: "أن يكون المتهم معروفاً بالفجور، كالسرقة وقطع الطريق والقتل
ونحو ذلك"
أما في سنن أبي داود: فقد ساق بسنده عن ابن عمر أن النبي
صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر فغلب على النخل والأرض، وألجأهم إلى
قصرهم، فصالحوه على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء
والحلقة، ولهم ما حملت ركابهم، على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً، فإن
فعلوا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكاً لحيي بن أخطب، وقد كان قتل قبل
خيبر، كان احتمله معه يوم بني النضير حين أجلت النضير، فيه حليهم، قال:
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعية: أين مسك حيي بن أخطب؟ قال: أذهبته
الحروب والنفقات، فوجدوا المسك، فقتل ابن أبي الحقيق"
حسنه الألباني في تخريجه لسنن أبي داود.
الثاني:
الاستدلال بفتوى لأحد فقهاء الأحناف (الحسن بن زياد) بأنه أفتى بجواز ضرب
المتهم"أنه يحل ضرب السارق حتى يقر وقال: ما لم يقطع اللحم أو يظهر
العظم"
مناقشة أدلة القائلين بضرب المتهم:
أما بالنسبة لحديث ابن عمر في قصة أرض خيبر وكنز حيي بن أخطب ملاحظاتنا عليه تتلخص في الآتي:
(1):
نلاحظ أن مدار الحديث على محمد بن إسحاق المتوفى في 151هـ الذي انفرد
بفقرة: بتعذيب الزبير لـ (سعية) عم حيي ليدله على الكنز المخبأ في وعاء
من الجلد ثم ذكره البيهقي في كتاب السير في سننه. لكن قصة تعذيب الزبير
لعم حيي لم ترد في رواية أبي داود. مما يجعلنا لا نطمئن إلى رواية ابن
إسحاق وخاصة أنها لم ترد في كتب الصحاح أو السنن إلا سنن البيهقي وخاصة
تلك الزيادة التي ذكرها ابن إسحاق عن تعذيب الزبير لعم حيي بن أخطب.
(2)
على افتراض صحة الحديث بزيادته الواردة عن تعذيب ابن الزبير لعم حيي بن
أخطب فإن هذا ليس مسوغاً لتعميمه على كل الحالات إذ أن الأمر بضرب المتهم
في حالة حرب وبعد نقض العهد، وكان بأمر ولي الأمر وهو رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولم يكن بتصرف فردي للزبير بن العوام كما يحدث الآن من
انتهاكات رجال الشرطة وممارساتهم التعذيب بصفة دورية قبل أن يعرض المتهم
على القاضي المختص. فالحالات التي ذكرها ابن القيم ومن يرى رأيه في ضرب
المتهم أن يكون ذلك في حضرة القاضي وبأمره بعد وجود دلائل كافية يقتنع
بها القاضي أن المتهم من أرباب السوابق في اقتراف مثل هذه الجرائم كالقتل
العمد، أو ما يطلق عليه في بعض البلاد بالقاتل المأجور أو القاتل
المرتزق.
(3) أما الاستدلال بفتوى الحسن بن زياد صاحب أبي حنيفة
فقد أكد السرخسي أنه قد ندم على فتواه بقوله: "روي عن الحسن بن زياد رضي
الله عنه أن بعض الأمراء بعث إليه وسأله عن ضرب السارق ليقر فقال: ما لم
يقطع اللحم أو يبين العظم، ثم ندم على مقالته وجاء بنفسه إلى مجلس الأمير
ليمنعه من ذلك فوجده قد ضربه حتى اعترف وجاء بالمال، فلما رأى المال
موضوعاً بين يدي الأمير قال: ما رأيت ظلماً أشبه بالحق من هذا" ويعلق
السرخسي وهو من أئمة الحنفية على هذه الحالة بقوله: "فإن خلى سبيله بعد
ما أقر مكرهاً، ثم أخذ بعد ذلك فجئ به فأقر بما كان عليه بغير إكراه
مستقل أخذ بذلك كله، لأن إقراره الأول كان باطلاً، ولما خلى سبيله فقد
انتهى حكم ذلك الأخذ والتهديد، فصار كأن لم يوجد أصلاً حتى أخذ الآن فأقر
بغير إكراه وإن كان لم يخل سبيله، ولكنه قال له وهو في يده بعد ما أقر:
إني لا أؤاخذك بإقرارك الذي أقررت به ولا أضربك ولا أحبسك ولا أعرض لك،
فإن شئت فأقر، وإن شئت فلا تقر، وهو في يد القاضي على حاله، لم يجز هذا
الإقرار لأن كينونته في يده حبس منه له، وإنما كان هدده بالحبس فما دام
حابساً له كان أثر ذلك الإكراه باقياً"
(4): القاضي سحنون أمر بضرب القاضي ابن أبي الجواد بتهمة خيانة الأمانة:
ذكر
بعض علماء المالكية مسألة ضرب المتهم حتى لو كان قاضياً واستشهدوا على
ذلك بقضية القاضي سحنون وهو من كبار علماء المالكية مع القاضي ابن أبي
الجواد حيث ذكر صاحب المعيار المعرب: "يسجن القاضي ويضرب إذا عرف بالشر
والسرقة: وعن أصبغ فيمن كان معروفاً بالشر والسرقة يسجن أبداً وهو
الصواب. وكان سحنون يضرب ابن أبي الجواد القاضي ويعيده في السجن، وكان
عنده أموال اليتامى"
وأصل القصة كما ذكرها الونشريسي عن ابن أبي
الجواد: "أنه كان قاضياً بالقيروان ثم عزل ورجع سحنون في موضعه ونظر في
ديوان الودائع فوجد فيه مالاً لورثة رجل يقال له ابن (القلفاط) فأحضر
وكشف عن ذلك فأنكر وجحد الخط، فشهد عليه في وجهه سليمان بن عمران وابن
قادم الفقيهان بأنه خطه وكانا يكتبان له، فتمادى على الإنكار فتلوم له
سحنون وأعذر إليه، وأرسل من يشير عليه بإنصاف القوم فلجّ في الإنكار
وتمادى عليه، فحبسه أياماً فلم يرجع إلى الحق، فأخرجه وضربه عشرة وردّ
إلى السجن، فأتت زوجته بنت أسد بن الفرات والتزمت الدفع عنه، فقال لها
سحنون إن قال زوجك: هذا مال الميت أو بدله قبضته فأطلقته لك فأحضر فامتنع
من قول ذلك وكان سحنون يخرجه في كل يوم جمعة وإذا امتنع من الأداء ضربه
عشرة أسواط حتى ضربه مراراً كثيرة ثم مرض ومات في السجن من مرضه ذلك.
وقضيته مشهورة كما حكاها ابن الرقيق بزيادات. وعن أبي عمران إنما ضربه
سحنون لأنه اتهمه كما يضرب السارق حتى يخرج أعيان تلك السلع، وروي أن
سحنون كان يقول بعد موته: مالي ولابن الجواد: كأنه تحرج من موته خوفاً"
تعليقنا على القضية المذكورة:
أولاً: من حيث مصدر قصة ضرب
سحنون لابن أبي الجواد: لقد شكك بعض العلماء في هذه الرواية حيث ذكر
الونشريسي نفسه:"وأجاب بعضهم وأظنه الشيخ ابن عبد السلام، بأن هذا إنما
هو من حكاية ابن الرقيق المؤرخ، وهو ليس بثقة لأنه كان شارب خمر متخلفاً
فلا يقبل خبره. والحكاية وإن ذكرها بعض مؤرخي الأندلس فلعله نقلها من ابن
الرقيق"
ثانياً: على افتراض صحة هذه الرواية عن سحنون فإنها توافق
مذهب من يجيز ضرب المتهمين أرباب السوابق، وكانوا معروفين بالشر أو من
المسجلين خطر حسب المصطلح الحديث. وقد يكون القاضي ابن أبي الجواد
مشهوراً بالفساد أو أكل أموال اليتامى أو الرشوة لذا أمر سحنون بضربه.
بالإضافة إلى أن الذي يقوم أو يأمر بالضرب هو القاضي وليس ضابط الشرطة أو
أي جهة أخرى سرية أو علنية.
ثالثا: على افتراض صحة هذه الرواية
أيضاً فإنها ليست مبرراً شرعياً لاستعمال كل هذه القسوة حيث تصور لنا
الرواية أن القاضي سحنون كان شخصاً متعنتاً قاسي القلب لدرجة أنه لم يقبل
المال الذي عرضته زوجة ابن أبي الجواد لتخليص زوجها إلا بأن يقر بأن هذا
مال الميت الذي كان في أمانته أو بدلاً منه!! فرواية القصة بهذه الطريقة
توحي أن هناك أسباباً شخصية أو سياسية وراء هذا التعنت من قبل القاضي
سحنون قبل القاضي الحبيس ابن أبي الجواد!!
رابعاً: أشار الونشريسي
إلى ندم ابن أبي الجواد وأنه كان يقول بعد موته : مالي ولابن الجواد.
ويقول الآبي في تعليقه على هذه القضية: "كان سحنون أيام قضائه سجن ابن
أبي الجواد في دين ترتب عليه وضربه بالسياط مدة بعد مدة واتفق أن مات ابن
أبي الجواد من ضربه فكان سحنون إذا نام رأى في منامه ابن أبي الجواد بما
يسوؤه، فإذا استيقظ يقول ما لي ولا أبي الجواد. فظاهر هذا أن سحنون ناله
بسبب تعذيبه مع أنه إنما عذبه بحق، ولذا كان يقول له: (الحق قتله).
ونحن
بدورنا لا نقبل هذا التبرير على افتراض صحة الرواية فالثابت أن سحنون عذب
ابن أبي الجواد وأذله وتعنت معه فلذا فإنه يتحمل وزر ذلك.
خامساً:
ما فعله القاضي سحنون يخالف ما جاء في المدونة: (من أقر بعد التهديد
أقيل. قال ابن القاسم فالوعيد والقيد والتهديد والسجن والضرب تهديد عندي
كله وأرى أن يقال، ثم لا يقام الحد على من ضرب وهدد فأخرج القتيل أو أخرج
المتاع الذي سرق إلا أنه يقر بذلك آمناً لا يخاف شيئاً) معنى ذلك أنه على
افتراض صحة ضرب سحنون لابن أبي الجواد فإنه لو أقر بعد التهديد والسجن
والضرب لكان إقراره باطلاً حتى لو أخرج المال الذي اتهمه فيه القاضي
سحنون.
بناء على الأسباب التي ذكرناها سابقاً لا نرى صحة رواية ضرب القاضي سحنون وتعذيبه للقاضي ابن أبي الجواد.
وممن
قال بجواز ضرب المتهم من فقهاء القانون المعاصرين يوسف علي محمود:"والذي
نراه أنه يجوز ضرب المتهم إذا كان معروفاً بالفساد، فإذا أقر، فإنه يراجع
حتى يقر ثانياً دون ضرب، فإذا أقر، فإنه يؤخذ بالحق الذي أقر به"
الرأي المختار:
في
مقام الموازنة بين الآراء السابقة نميل إلى تأييد الرأي القائل بعدم ضرب
المتهم وإن كان معروفاً بالفساد أو ما يطلق عليه أمنيا المسجل الخطر..
للأسباب التالية:
أولاً: لثبوت حديث: كُرَيْبٍ "حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ
بْنِ حِزَامٍ عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا
فِى الشَّمْسِ فَقَالَ مَا شَأْنُهُمْ قَالُوا حُبِسُوا فِى الْجِزْيَةِ.
فَقَالَ هِشَامٌ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- يَقُولُ « إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ
النَّاسَ فِى الدُّنْيَا"
فهذا الحديث صريح في نهي وزجر الرسول صلى
الله عليه وسلم عن تعذيب الناس سواء كانوا برءاء أو متهمين فكلمة (الناس)
عامة تشمل كل الناس بدليل أن الصحابي هشام بن حكيم استنكر أن يعاقب
الوالي هؤلاء الفلاحين من أهل الكتاب في الشمس لإجبارهم على دفع الجزية..
ولم يسأل هشام بن حكيم هل هم من أرباب السوابق أو من المماطلين في دفع
الجزية؟! فبمجرد أن رآهم سأل عن شأنهم واستنكر أن يحبسوا هكذا في الشمس
واعتبر أن ذلك تنوعاً من التعذيب غير الجائز شرعا فقال على الفور بصيغة
الجزم أشهد أني لسمعت رسول الله يقول إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في
الدنيا.
ثانياً: الاستشهاد بحديث عبد الله بن عمر الذي ذكر فيه قصة
أمر الرسول للزبير بتعذيب عم حيي بن أخطب تبين لنا أن مصدر الرواية محمد
بن إسحاق ولم يذكر هذه الرواية إلا البيهقي في سننه، مما يستبين لنا أن
هذه الرواية لا تستقيم لصريح نهي الرسول عن تعذيب الناس حتى ولو في تهمة
ولم يثبت أنه عذب أو ضرب أحداً ليقر أمامه في تهمة. وعلى افتراض صحة
رواية عبد الله بن عمر التي تفرد بها البيهقي عن ابن إسحاق فإن هذا الأمر
قيل في زمن حرب وهو استثناء لا يجوز أن يتخذ قاعدة في ضرب أي متهم وإن
كان من أرباب السوابق.
ثالثا: أما الاستدلال بفتوى الحسن بن زياد
فقد ذكرنا أن السرخسي قال إن الحسن بن زياد قد ندم ومن ثم فلا حجة لمن
يتمسك بهذه الفتوى في جواز ضرب المتهم إذا كان معروفاً بالفساد.
ومن
ثم فإننا نميل إلى عدم ضرب المتهم حتى وإن كان من أرباب السوابق فرغم أن
هناك صنفاً من المتهمين من ذوي السوابق والمسجلين خطر على الأمن إلا أنهم
المشجب الأسهل لدى أجهزة الأمن لتعليق أي تهمة ونسبتها إليهم.وكما يقول
بيكاريا:"أما التعذيب فيجب عدم الالتجاء إليه إطلاقاً، فالمذنب الذي تعود
على الألم قد يحتمله في تجلد وتفترض براءته، في حين يكره الألم بريئاً
مرهف الأعصاب على الاعتراف بأي شئ فيحكم بأنه مذنب" كما أن التعويل على
إقرار المتهم المكره قد يسول لبعض ضعاف النفوس من رجال الشرطة والمخابرات
أن يلجأوا إلى وسائل لتعذيب المتهم حتى يقر بالمعلومات التي يريدها ضابط
الأمن. لذلك فإن إعمال مبدأ سد الذرائع ضروري في إبطال أي إقرار يصدر عن
المتهم نتيجة الإكراه لأن الغاية لا تبرر الوسيلة ولا يبنى صحيح على
باطل.
• خداع المتهم:
قلنا ـ حسب الرأي الذي رجحناه ـ
إنه لا يجوز ضرب المتهم أو تعذيبه حتى يقر، وإن إقراره لا يعتد به ولا
يعول عليه. لكن هل ينطبق هذا الحكم على الاحتيال على المتهم وخداعه ليقر
بما هو منسوب إليه؟
هناك رأيان في الفقه الجنائي الإسلامي:
الرأي الأول: يجيز التحايل على المتهم:
يرى
جواز التحايل على المتهم ليقر بالحق ويعترف به دون ضرب أو تعذيب له بأي
نوع من أنواع التعذيب، وإلى هذا ذهب ابن حزم الظاهري واستدل على ذلك:
(1):
"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف اليهودي الذي ادعت الجارية التي
رض رأسها ـ فسيق إليه فلم يزل به ـ عليه السلام ـ حتى اعترف فأقاد منه"
(2):
وفي حسن الحيلة" فعل علي بن أبي طالب إذ فرق بين المدعى عليهم بالقتل
وأسر إلى أحدهم، ثم رفع صوته بالتكبير فوهم الآخر أنه قد أقر، ثم دعى
الآخر فسأله فأقر، حتى أقروا كلهم: فهذا حسن، لأنه لا إكراه فيه، ولا
ضرب"
الرأي الثاني: (لا يجيز التحايل على المتهم):
لا
يجيز التحايل على المتهم أو غشه أو خداعه ليقر يقول السرخسي في قول
القاضي للمتهم: "لا أحبسك.. نوع غرور وخداع منه" وجاء في الزرقاني من
المالكية: "وكره مالك أن يقول السلطان للمتهم أخبرني ولك الأمان لأنه
خديعة"
الرأي المختار:
لقد رجح أحد القانونيين المعاصرين
رأي مالك بقوله: "يبدو لنا أن رأي مالك هو الأرجح إذ ليس من الصواب القول
أن التجاء المحقق إلى الغش والخديعة عملاً مشروعاً، وذلك لأنه إذا كان
الإكراه يبطل الإقرار لأنه يفسد أو يعدم إرادة المقر، فإن هذه العلة
قائمة أيضاً في حالة الاحتيال. ولذا ينبغي إبطال الإقرار الذي يتم عن
طريق هذه الوسيلة وعدم الاعتداد بها"
لكننا نرى بعد المقارنة بين
الرأيين السابقين صواب من قال بجواز الاحتيال على المتهم ليقر طالما لم
يضرب المتهم أو يعذب أو يهدد في نفسه أو أهله أو ماله.. وذلك للأدلة التي
ذكرها أصحاب الرأي الأول.. أما عن ما ذكره السرخسي عن قول القاضي للمتهم
: (لا أحبسك.. نوع غرور وخداع).. وما قيل عن مالك إنه كره أن يقول
السلطان للمتهم أخبرني ولك الأمان لأنه خديعة.. أجاب عنه ابن حزم بقول:
"وقد كره هذا مالك، ولا وجه لكراهيته، لأنه ليس فيه عمل محظور، وهو فعل
صاحب لا يعرف له من الصحابة مخالف ينكر ذلك"
أقول: يقصد ابن حزم
أن فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تفريق المدعى عليهم وخداعهم ليس
عملاً محظوراً، كما أنه صحابي لا يعرف له مخالف من الصحابة ينكر عليه
فعله هذا مع المتهمين فهو إجماع سكوتي. كما أن ابن حزم يرى أن خداع
المتهم ليس إكراها إذ يقول: "كل ما كان ضرراً في جسم، أو مال، أو توعد به
في ابنه، أو أبيه، أو أهله، أو أخيه المسلم، فهو كره، لقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"
إذن ابن
حزم لا يرى أن خداع المتهم والتحايل عليه ليقر إكراهاً إذ أنه يرى أن كل
ما كان ضرراً في جسم أو مال أو توعد في ابنه، أو أبيه، أو أهله، أو أخيه
المسلم فهو إكراه أي أنه يتوسع في كلمة الأخوة فلم يقصرها على أخوة النسب
بل يتعداها إلى أخوة الدين.. لذلك استشهد بالحديث النبوي المذكور..
فتحايل القاضي على المتهم ليقر ليس ظلماً ولا خذلاناً كما أنه ليس
إكراهاً. وهذا ما نرجحه وخاصة أن عدم استخدام هذا الأسلوب مع المتهم قد
يضيع حقوق المجني عليه وولي دمه في القصاص من الجاني.
وهناك رواية
تعضد رأينا؛ ذكرها مسلم في صحيحه: " عَنْ أَبِى الزِّنَادِ عَنِ
الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-
قَالَ « بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ
فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا. فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا
ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ. وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ
بِابْنِكِ. فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى
فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ
فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا.
فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى
بِهِ لِلصُّغْرَى "
قال النووي تعليقا على هذا الحديث: "وأما
سليمان فتوصل بطريق من الحيلة والملاطفة إلى معرفة باطن القضية فأوهمهما
أنه يريد قطعه ليعرف من يشق عليها فتكون هي أمه، فلما أرادت الكبرى قطعه
عرف أنها ليست أمه، فلما قالت الصغرى ما قالت عرف أنها أمه، ولم يكن
مراده أنه يقطعه حقيقة وإنما أراد اختبار شفقتهما لتتميز له الأم فلما
تميزت بما ذكرت عرفها (..) وأن سليمان فعل ذلك حيلة إلى إظهار الحق وظهور
الصدق فلما أقرت به الكبرى عمل بإقرارها وإن كان بعد الحكم كما إذا اعترف
المحكوم له أن الحق هنا لخصمه"
هكذا يستبين لنا صواب رأي من قال
بجواز خداع المتهم والتحايل عليه ليقر لأننا إذا أغلقنا باب التحايل على
المتهم بزعم أن هذا نوع من الإكراه المبطل للإقرار فإن كثيراً من
المجرمين ومحترفي الإجرام سيفلتون من العقاب لأننا نكون قد أعملنا صورة
مثالية لإقرار المتهم إذ أنه لن يعترف في هذه الحالة إلا النزر القليل من
المتهمين أصحاب الضمائر الحية والأنفس الطيبة التي تأتي لتقر طواعية
لتكفر عن جرمها.. كما أن استبعاد استعمال هذه الحيل قبل المتهم من قبل
سلطات التحقيق وعدم التعويل عليها يتسبب في إهدار دماء أبرياء مع شيوع
الجريمة وخاصة في وقتنا المعاصر.