الماده341 عقوبات
كل من اختلس أو استعمل أو بدد مبالغ أو أمتعة أو بضائع أو نقودا أو تذاكر أو كتابات أخرى مشتملة على تمسك أو مخالصة أو غير ذلك إضرارا بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها وكانت الأشياء المذكورة لم تسلم له إلا على وجه الوديعة أو الإجارة أو على سبيل عارية الاستعمال أو الرهن أو كانت سلمت له بصفة كونه وكيلا بأجرة أو مجاناً بقصد عرضها للبيع أو بيعها أو استعمالها في أمر معين لمنفعة المالك لها أو غيره يحكم عليه بالحبس ويجوز أن يزاد عليه غرامة لا تتجاوز مائة جنيه مصري.
**ما يخرج عن نطاق الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة(
- ما يخرج عن نطاق الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة(31):
يترتب على التحديد السابق للفعل الإجرامي في خيانة الأمانة أن هذه الجريمة لا تقوم بالفعل الذي يصدر عن حائز الشيء حيازة ناقصة ولا يكشف عن إرادته تغيير نوع حيازته ، وإنما يكون في نطاق صفته كحائز حيازة ناقضة مفترضاً الاعتراف بحقوق المجني عليه وسلطانه على الشيء . ولا يغير من هذا الحكم كونه أضر بالمجني عليه أو حقق لمرتكبه نفعاً . وعلى سبيل المثال ، فإن تأخر المودع عنده في رد الشيء المودع لديه ، واستعمال المستعير الشيء على نحو خارج على الوجه والحد المنصوص عليهما في العقد أو المستفادين من العرف ، وإهمال المستأجر أو المرتهن في المحافظة على الشيء حتى أصيب بضرر أو هلك ، كل هذه أفعال لا تقوم بها خيانة الأمانة ، لأنها لا تتضمن ادعاء ملكية الشئ ، ولا تعنى جحودا لحق مالكه . وقد عبرت محكمة النقض عن هذه القاعدة في قولها " التأخير في رد الشيء أو الامتناع عن رده إلى حين لا يتحقق به الركن المادي لجريمة التبديد ( أي خيانة الأمانة) ما لم يكن مقرونا بانصراف نية الجاني إلى إضافة المال الذي تسلمه إلى ملكه واختلاسه لنفسه إضراراً بصاحبه " .
**صور الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة
** صور الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة(32) :
حدد الشارع صوراً ثلاثا للفعل الإجرامي في خيانة الأمانة ، هي الاختلاس والتبديد والاستعمال.
- الاختلاس :
الاختلاس فعل يباشر به المتهم سلطات على الشيء لا تدخل إلا في نطاق سلطات المالك ، فهو سلوك إزاء الشيء مسلك المالك ؛ ومن ثم كان بالضرورة كاشفاً عن نية تغييره الحيازة .
ولا يجاوز الاختلاس ذلك إلى إخراج المتهم الشيء من حيازته ، وذلك هو الفرق بينه وبين التبديد.
وأبرز صور الاختلاس أن ينكر المتهم وجود الشيء في حيازته كي يتخلص من التزامه برده ويحتفظ به لنفسه . وسواء في ذلك أن ينكر أنه سبق أن تسلم شيئاً، وقد يصطحب ذلك بإنكاره وجود العقد الذي يربط بينه وبين المجني عليه ؛ أو أن يعترف بوجود هذا العقد ولكن ينكر أنه تسلم شيئاً بناء عليه . ويدخل في هذا المدلول أن يدعى أن الشيء قد هلك أو سرق كي يتخلص من التزامه برده.
ومن أهم صور الاختلاس كذلك أن يصدرعن المتهم فعل يكشف عن نظرته إلى الشيء علي أنه ملكه ، فهو فعل لا يصدر إلا من المالك . مثال ذلك أن يؤتمن شخص على قطعة من قماش فيصنع لنفسه منها رداء ، أو يؤتمن على جوهرة فيضعها في خاتم بأصبعه ، أو يؤتمن على سند فيطالب لنفسه بالحق الثابت فيه .
ومن تطبيقات الاختلاس في القضاء عرض الشيء للبيع ، وانتفاع الموصي بأطيان القاصر بدون مقابل ، ورفع أحد الورثة دعوى باسمه شخصيا بناء على سند سلم إليه ليرفع بناء عليه دعوي باسم الورثة جميعا ، واحتجاز المتهم العقد لنفسه بدون مقتض وبغير أن يزعم لنفسه حقا في احتباسه ، وامتناع المتهم عن رد النقود المودعة لدية عند الطلب .
- التبديد :
التبديد فعل يخرج به المتهم الشيء من حيازته على نحو يفقد به المجني عليه الأمل في استرداده ، أو على الأقل يضعف إلى حد بعيد هذا الأمل . وهذا الفعل يكشف بجلاء عن نية تغيير الحيازة . ويتضمن التبديد بالضرورة اختلاساً ، إذ يفترض فعلا لا يصدر إلا من المالك.
ويتحقق التبديد بالتصرف القانوني في الشيء أو التصرف المادي فيه.
فيعتبر مبددا- عن طريق التصرف القانوني- من يؤتمن على شيء فيبيعه أو يقايض عليه أو يهبه أو يرهنه أو ينشئ عليه حق انتفاع . وقد قضى تطبيقاً لذلك ، بأنه إذا سلم وكيل الدائن سند الدين إلى المدين نظير مال تتقاضاه منه كان مبدداً له ؛ وإذا سلم الوكيل الشيء الذي يحوزه لحساب موكله إلى شخص لبيعه كان مبدداً له كذلك . ولكن من يؤجر الشيء الذي أؤتمن عليه أو يعيره أو يودعه لدي غيره لا يرتكب تبديدا ، ذلك أن التصرف يفترض تعديلاً ينال من الحقوق العينية على الشيء ، وهو ما لم يتحقق في المجالات السابقة.
ويتحقق التبديد بالتصرف المادي في الشيء ، سواء كان تصرفاً كلياً أو جزئياً. ويعني التصرف الكلي إعدام الكيان المادي للشيء بحيث يختفي بالنسبة للمجني عليه أو يصير غير صالح للغرض المعد له حسب تخصيصة ، مثال ذلك أن يؤتمن شخص على حصان فيقتله ، أو على سند فيجزئ مادته قطعاً صغيرة ، أو على كتب فيضرم النار فيها ، أو على طعام فيلتهمه . أما التصرف المادي الجزئي فيعني إدخال التعديل على الكيان المادي للشيء على نحو يؤدي إلى تشويهه وتغيير معالمه بحيث تنقص قيمته أو على الأقل تقل منفعته. مثال ذلك أن يؤتمن شخص على لوحه فنية فيمحو توقيع راسمها فيقلل بذلك من قيمتها ، أو يؤتمن على كمية من دقيق فيضيف إليه ماء فيقلل من صلاحيته ليصنع منه الخبز، أو يؤتمن على كتاب فينتزع منه بعض صفحاته .
- الاستعمال:
يعني الاستعمال ـ كصورة للفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة - الفعل الذي يستخدم به المتهم الشيء استخداماً لا يجوز أن يصدر إلا من المالك ، ويكشف في صورة قاطعة عن تغير نيته ، إذ قد صار ينظر إليه نظرته إلى شيء يملكه . أما الفعل الذي يستخدم به المتهم الشيء استخداماً يجوز أن يصدر عن المالك أو عن غيره ، ولا يكشف بالتالي عن نية تملك الشيء ، فلا تقوم به خيانة الأمانة ، ولو كان مخالفا للعقد الذي يربط بين حائز الشيء ومالكه.
ومن تطبيقات الاستعمال الذي تقوم به خيانة الأمانة أن يسلم مؤلف ناشراً أصول كتاب كي يطبع منه عدداً محدداً من النسخ فيطبع عدداً أكبر ، ذلك أنه قد استعمل الأصول استعمالاً لا يجوز أن يصدر عن غير المالك ، ويكشف عن أنه أصبح ينظر إليها نظرة المالك إلى شيء يملكه.
ومن هذه التطبيقات كذلك أن تسلم إلى شخص ألواح منقوشة عليها العلامة التجارية لأحد التجار ويطلب اليه أن يستخرج منها عدداً معيناً من النسخ ، فيستخرج عدداً أكبر ويبيعه لتجار آخرين ؛ أو أن يطلب شخص من مهندس مقاول أن يعد له مشروع رسم لمبني يريد إقامته على أن يتولى تنفيذه ، فيقدم إليه الرسم ، ولكن المتهم ينقل منه صورة ، ويرده إليه معلنا عدم موافقته عليه ، ويعهد إلى مقاول آخر بتنفيذه .
وأبرز تطبيقات الاستعمال أن يستخدم المتهم الشيء استخداماً يخرج به عن تخصيصه الذي اتفق عليه ، ويفوت هذا التخصيص كلياً أو جزئياً ، مثال ذلك مدير الشركة الذي ينفق بعض أموالها في مصالحة الخاصة ، أو يقرر لنفسه مكافآت لا يستحقها ، أو يحصل على قروض دون أن يقدم التأمينات التي يفرضها نظام الشركة ، أو ينشئ شركة يكون صاحب المصلحة الأساسية فيها ويخولها مزايا على حساب الشركة التي يديرها واضرارا بها.
**الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة إذا كان موضوعها مالا مثليا
الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة إذا كان موضوعها مالا مثليا(33):
لا تختلف طبيعة الفعل الإجرامي باختلاف ما إذا كان موضوع خيانة الأمانة مالا قيميا أو مالا مثاليا ، فتحكمه ذات النظرية العامة ، ويستند إلى ذات الأساس المشترك بين صور الفعل التي نص عليها القانون ، فهو دائما نشاط مادي يعبر عن إرادة تغيير الحيازة الناقصة إلى حيازة كاملة . وأهم الأموال المثلية النقود. وتبديد النقود يكون بإنفاقها ، ولو كان في صورة اقراضها . وبالنسبة لما عدا النقود من المثليات فإن تبديدها يكون ببيعها أو المقايضة عليها أو هبتها أو استهلاكها ، كما لو أؤتمن شخص على كمية من الغلال فطحنها وصنع لنفسه منها خبزاً تناوله ؛ أو بمجر إفناء مادتها كما لو عرض هذه الغلال للطيور فالتهمتها .
وعلى الرغم من ذلك ، فثمة فارق لا يمكن إنكاره بين نوعي الأموال ، وهو فارق يتعلق ببيان الحد الذي يبدأ عنده مجال النشاط الذي يجرمه القانون .
فإذا كان المال قيميا فالأمر واضح ، فمجرد الاختلاس أو التبديد أو الاستعمال يحقق جميع عناصر الفعل ، إذ يكشف هذا السلوك عن إرادة تغيير الحيازة في صورة قاطعة ، وهو يرتب ضررا يصيب المجني عليه ، يتمثل - على أي الأحوال- في تهديده ملكيته بالخطر واحتمال ضياعها.
أما إذا كان المال مثليا - وخاصة ان كان نقودا- فإنه يثير التردد أن المجني عليه ليست له مصلحة في أن يرد إليه ماله عينا ، فالفرض أن وحدات هذا المال تتماثل تماماً ؛ وبالاضافة إلى ذلك فإنه إذا رد إليه مال من ذات نوع وصفه ومقدار ماله بمجرد طلبه ، فلا ضرر على الإطلاق قد أصابه . وليس من المعقول أن يحظر الشارع على متسلم المال المثلي أن يخلطه بماله أو يتصرف فيه إذا كان لدية من أمثال هذا المال الكثير، وكان في وسعه ارضاء المتعاقد الآخر بمجرد طلبه ذلك ، فهذا السلوك لا خطر منه على المجتمع ، ولا علة للعقاب عليه ؛ بل على العكس من ذلك ، قد تكون المصلحة في اجازته ، باعتباره يسهم في النشاط الاقتصادي . ويقول د/ محمود نجيب حسنى : لذلك نعتقد أن مستلم المال المثلي لا يرتكب خيانة الأمانة إذا خلط المال الذي تسلمه بماله أو تصرفه فيه طالما أن في ملكية وحيازته مال من ذات نوعة وصفته ومقداره ، بحيث يستطيع أن يرد إلي من تعاقد معه مثل ماله بمجرد أن يطالبه بذلك ، واللحظة التي يبدأ فيها النشاط الإجرامي هي اللحظة التي تقل فيها الأموال المثلية التي يملكها ويحوزها عما تسلمه. ولكن إذا ارتكب المتهم هذا النشاط ثم استطاع إبراء ذمته عند مطالبته ، فلم يثبت أنه قد ترتب على الفعل ضرر، فان الركن المادي لخيانة الأمانة لا يكون بذلك مستوفياً عناصره ، إذ الضرر عنصر جوهري فيه ، ويمثل النتيجة التي يفترضها.
(30) ، (31) ، (32) ، (33) : د/ محمود نجيب حسنى ، مرجع سابق ، ص 1202 وما بعدها .
**الركن المعنوي لخيانة الأمانة
الركن المعنوي لخيانة الأمانة (35)
تمهيد: خيانة الأمانة جريمة عمديه ، ومن ثم يتخذ ركنها المعنوي صورة القصد الجنائي . وعلى الرغم من أن الشارع لم يصرح بتطلب القصد ، فهو مستفاد من طبيعة هذه الجريمة ، وكونها اعتداء على الملكية وإخلالا بثقة موضوعة في المتهم ؛ وتقاربها في الأحكام مع السرقة والنصب ، وهما عمديتان بطبيعتهما ؛ وكون الأفعال التي تفترضها ، أي الاختلاس والتبديد والاستعمال لا تتصور بغير علم بماهيتها وإرادة متجهة إليها .
وأهمية تطليب القصد في خيانة الأمانة أنها لا تقوم عند انتفائه ، ولو توافر لدى المتهم خطأ جسيم ، كما لو أهمل الوكيل في القيام بالعمل المكلف به أو صدر عنه في تنفيذه خطأ فاحش ، فضاع على الموكل ماله.
نوع القصد المتطلب في خيانة الأمانة : تجرى محكمة النقض على تعريف القصد الجنائي في خيانة الأمانة بأنه " لا يتحقق إلا إذا ثبت أن الجاني تصرف في الشيء المسلم إليه كما لو كان مالكا له مع تعمد ذلك التصرف ، وأن هذا التصرف قد حصل منه إضرارا بحقوق المالك لهذا الشيء" . ويستخلص من هذا التعريف - وهو ما يكاد ينعقد عليه إجماع الفقه - أن خيانة الأمانة تتطلب قصدا خاصا ، قوامه ( نية تملك الشيء ) موضوع هذه الجريمة . والقصد الخاص يقوم على أساس من القصد العام .
ويفترض القصد العام علما وإرادة منصرفين إلى عناصر الجريمة ، ونحدد -فيما يلي- عناصر القصد العام ، ثم نتبع ذلك ببيان فحوى نية التملك.
ـ علم المتهم أن الشيء مملوك لغيره وأنه في حيازته الناقصة فحسب: يفترض القصد العام علم المتهم بتوافر موضوع للجريمة ينصب عليه فعله وتجتمع له الشروط التي تطلبها القانون فيه . وأهم ما يتعين إحاطة العلم به هو ملكية الشيء ونوع حيازته :
فيتعين أن يعلم المتهم أن المال مملوك لغيره ؛ أما إذا جهل ذلك لأنه خلط بينه وبين المال الذي يملكه ، فاعتقد حين يتصرف فيه أنه يتصرف في مال يملكه ، فإن القصد لا يتوافر لديه .
ويتعين أن يعلم المتهم أنه يحوز الشيء حيازة ناقصة ، فيعلم أنه ملتزم ( برده عينا أو رد مثله أو استعماله في أمر معين في مصلحة المحني عليه ) . أما إذا كان يعتقد أنه يحوزه حيازة كاملة ، وأن له عليه حقوقا أصيلة ، وأنه غير ملتزم بتقديم حساب إلى غيره عن حيازته له ، فإن القصد لا يتوافر لديه : فاذا اعتقد المودع عنده أن الشيء قد وهب له فتصرف فيه ظنا أنه ملكه ، أو اعتقد وارث المستعير أو المستأجر أن الشيء المعار أو المؤجر ملك لمورثه وأن ملكيته قد انتقلت إليه بالإرث ، فإن القصمد لا يتوافر لديه .
علم المتهم بماهية فعله : يجب أن يعلم المتهم بماهية فعله ؛ وأثره المحتمل على ملكية المجني عليه وحيازته ، فيعلم بما ينطوي عليه من تغيير لنوع الحيازة وتحويل لها من ناقصة إلى كاملة . أما إذا جهل المتهم ذلك ، كما لو أعار الشيء الذي يحوزه إلى شخص معتقدا أنه سيبقيه في حيازته لحساب مالكه. ولكن هذا الشخص كان منتويا منذ البداية تبديده ، وفعل ذلك ، فإن القصد لا يتوافر لدى المتهم .
توقع المتهم الضرر الحال أو المحتمل الذي يترتب على فعله : الضرر هو النتيجة الإجرامية في خيانة الأمانة ، ومن ثم فإنه يتعين أن يشمله توقع المتهم ؛ أما إذا لم يتوقعه فلا يتوافر القصد لديه ، ولو كان في استطاعته ومن واجبه توقعه ، فاستطاعة التوقع ووجوبه لا يقوم بهما القصد ، وإنما يقوم بهما الخطأ فحسب ، وهو غير كاف لتوافر خيانة الأمانة.
ويعدل الشارع الضرر المحتمل بالضرر الحال ، ومن ثم يكفي لتوافر القصد أن يتوقع المتهم احتمال أن يترتب على فعله ضرر: فمن أودعت لديه سندات لحاملها واشترط عليه ردها عينا ، فرهنها ضمانا لدين في ذمته ، وتوقع احتمال أن يعجز عن سداد دينه ، فيعرضها الدائن للبيع للحصول على حقه من ثمنها ، فيضار بذلك مالكها ، يعد القصد متوفرا لديه . أما إذا لم يرد إلى خاطره هذا الاحتمال ، فكان واثقا من قدرته على سداد الدين واسترداد السندات لتكون رهن طلب مالكها ، ولكنه عجز عن السداد لأسباب لم يتوقعها ، فبيعت هذه السندات وضاعت على مالكها ، فإن القصد لا يعد متوافرا لديه .
إرادة ارتكاب الفعل وتحقيق النتيجة : يقتضي القصد - وفقا للقواعد العامة في تحديده - أن يثبت اتجاه إرادة المتهم إلى ارتكاب الفعل الذي تقوم به الجريمة وإلى تحقيق نتيجته ؛ أي أن تتجه إلى ارتكاب فعل الاختلاس أو التبديد أو الاستعمال . وأن تتجه كذلك إلى إنزال الضرر - ولو في صورته الاحتمالية - بالمجني عليه أو غيره.
ولما كان الفقه الحديث يسوي بين القصد المباشر والقصد الاحتمالي، فإنه يكفي لتوافر القصد أن يتوقع المتهم احتمال الضرر فيقبل هذا الاحتمال .
وتطبيقا لذلك ، فإنه إذا عيب الشيء أو أتلف بفعل صدر عن إهمال وعدم احتياط ، أو كان المتهم قد استعمل الشيء في صورة منافية لتخصيصه أو للغرض المتفق عليه ، فهلك دون أن تتجه إرادته إلى إهلاكه أو يقبل ذلك ، فإن القصد لا يتوافر لديه . ومن باب أولى ، فإن القصد لا يتوافر لدى المتهم إذا سرق الشيء من حوزته ولو بإهماله ، أو صدر قرار إداري بالاستيلاء عليه وانتقلت حيازته وملكيته إلى الدولة.
نية تملك الشيء موضوع خيانة الأمانة : يقوم بهذه النية ( القصد الخاص) في خيانة الأمانة . وقد أكدت محكمة النقض أهمية هذه النية ، فقالت (من المقرر أن القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة لا يتحقق بمجرد تصرف المتهم في الشيء المسلم إليه أو خلطه بماله ، وإنما يتطلب فوق ذلك ثبوت نية تملكه إياه وحرمان صاحبه منه) . " نقض 25 مايو سنة 1975 مجموعة أحكام محكمة النقض س26 رقم 106 ص454.
ولا تختلف هذه النية في عناصرها عن نية التملك في السرقة والنصب ؛ فهي تعني إرادة السلوك إزاء الشيء كما يسلك مالكه ، أي إرادة الحلول محل المالك في سلطانه على الشيء، فالمتهم يريد أن يباشر السلطات التي ينطوي عليها حق الملكية باسمه ولحسابه غير معترف المالك بالحقوق والسلطات التي كان سند حيازته يفرض على الاعتراف بها .
فإذا انتفت هذه النية فلا يتوافر القصد : فإذا كان المستعير لا يستهدف بتأخره في رد الشيء غير أن يطيل أمد انتفاعه به ، أو كان المستأجر لا يعنى باستعمال الشئ فى غير ما اتفق عليه سوى أن يحصل منه على أكبر قدر من الانتفاع ، فكانت إرادة كل منهما متجهة إلى مجرد الإخلال بالالتزام التعاقدي دون أن تجاوز ذلك إلى حرمان المالك من حقه والحلول محله على الشيء ، فإن القصد لا يتوافر بذلك .
وإذا كان موضوع خيانة الأمانة مالا مثليا ، فان نية التملك تفترض علم المتهم بالضرر ( ولو كان محتملا ) الذي قد ينزل بالمجني عليه ؛ وتفترض اتجاه إرادته إلى ذلك أو قبوله . ومثال ذلك ، أن ينفق الوكيل النقود التي سلمت إليه لحساب موكله في شئونه الخاصة عالما بإعساره ، وأنه لن يتوافر لديه مال لإيفاء الموكل حقه ، ويتوقع تبعا لذلك عجزه عن إبراء ذمته تجاهه ، فتتجة إرادته إلى ذلك نكاية فيه ، أو يقبل ذلك لأنه لا تعنيه مصالح موكله ولا يعبأ بفقد ثقته فيه . وتطبيقا لذلك ، فإنه إذا قرر الوكيل أن يستغل الأموال التي تسلمها لحساب موكله في مضاربات بالبورصة ، آملا أن يسترد هذه الأموال مضافا إليها أرباحها ، فيرد إلى الموكل ماله ويحتفظ لنفسه بالأرباح ، أو يسلم إلى الموكل جزءا من الأرباح أو كلها بالإضافة إلى ماله ، ولكن نتيجة المضاربة جاءت خاسرة فضاع رأس المال ولم يستطع أن يرده إلى الموكل . فإن الوكيل يسأل عن خيانة الأمانة ، لأنه توقع بالنظر إلى طبيعة عمليات المضاربة في البورصة احتمال الخسارة ( أي الضرر المحتمل) ، ولو كان هذا الاحتمال قليلا ، فقبله وأقدم على هذا التصرف في أموال موكله . ولكن إذا خلط الوكيل أموال موكله بأمواله الخاصة التى تفوقها ثم أودعها جميعا باسمه في مصرف متين المركز، وكان منتويا أن يسحب أموال الموكل بمجرد طلبه لها ويردها إليه ، ولم يتوقع احتمال إفلاس المصرف ، ولكن هذا المصرف أفلس ، فلم يستطع إبراء ذمته لدى مطالبته بذلك ، فإن القصد لا يتوافر لديه (36) .
(35) ، (36) : د/ محمود نجيب حسنى ، مرجع سابق ، ص 1217 وما بعدها .
**إثبات القصد
إثبات القصد (37) :
يخضع إثبات القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة للقواعد العامة في الإثبات في المواد الجنائية ، وإن كان يثير أحيانا بعض الصعوبات . ويستخلص قاضي الموضوع توافر القصد من فعل الجاني ، فهو يتحقق، كما قضت محكمة النقض، بتصرف الحائز في المال المسلم إليه على سبيل الأمانة بنية إضاعته على مالكه ولو كان هذا التصرف بتغيير حيازته الناقصة إلى ملكية كاملة مع بقاء عين ما تسلمه تحت يده . وقد يكون فعل الجاني دالا بذاته على قيام القصد، وأوضح ما يكون ذلك عندما يتخذ الفعل صورة التبديد ، إذ يعتبر التصرف في الشيء بالبيع أو الهبة أو المقايضة كافيا للقول بتوافر القصد.
أما إذا لم يصدر من الجاني فعل يدل على قيام القصد ، فلا يجوز استنتاج وجوده من مجرد تسليم الأشياء إلى الأمين وعدم رده لها . ولذلك قضى بأنه : " إذا كان الحكم قد أدان المتهم في تبديد أشياء تسلمها من المجني عليه بناء على مجرد قوله إن المتهم تسلم هذه الأشياء ثم لم يردها ، ولم يثبت قيام القصد الجنائي لدى المتهم وهو انصراف نيته إلى إضافة المال الذي تسلمه إلى ملكه واختلاسه لنفسه إضرارا بصاحبه- فذلك قصور يستوجب نقضه ".
ولكن يدق الأمر إذا اتخذ الفعل صورة الاختلاس حيث تتم الجريمة بمجرد تغيير نية الحائز من نية الحيازة المؤقتة إلى نية الحيازة الكاملة ، فيجب عندئذ أن يقوم الدليل على تغير النية ، ويستنتج القصد حينئذ من أي فعل يدل على هذا التغير، كإنكار الشيء أو إدعاء سرقته أو الفرار به . من ذلك ما قضى به من أنه إذا كانت الواقعة هي أن المتهم طلب إلى المجني عليه أثناء سيرهما معا في الطريق أن يسلمه السوارين اللذين معه مخافة أن يسقطا منه فأجابه إلى طلبه ، ولما وصلا إلى محطة السكة الحديد انتظر هو خارجها ، ولكن المتهم فر بالسوارين ولم يعد ، فالوصف الصحيح لهذه الواقعة هو أن تسلم المتهم السوارين كان على سبيل الوديعة وأن اختلاسه لهما هو خيانة للأمانة لا سرقة .
وأكثر الأفعال دلالة على تغير نية الحيازة لدى الجاني هو امتناعه عن رد الشيء عند مطالبته بذلك . وإذا كان الامتناع يعتبر قرينة على توافر القصد الجنائي لجريمة خيانة الأمانة ، فإن للمتهم أن ينفي هذه القرينة بكل الطرق ، ذلك أن القصد الجنائي لا يتحقق من مجرد قعود الأمين عن رد الأمانة .
ويلاحظ أن الجريمة لا تقع على الرغم من امتناع الأمين عن الرد إذا كان يستند في امتناعه إلى سبب مشروع ، كحق الحبس الذي تقرره له المادة 246 من القانون المدني التي تجيز له الامتناع عن الرد حتى يستوفي ما أنفقه على الشيء. وكوجود المقاصة إذا توافرت شروطها ، إذ تقرر المادة 362 من القانون المدني للمدين حق المقاصة بين ما هو مستحق عليه لدائنه وما هو مستحق له قبل هذا الدائن ، فيكون للأمين حينئذ ألا يرد الأمانة دون أن تقع بفعله جريمة خيانة الأمانة ، وأوضح ما يكون هذا الوضع حيث يوجد حساب بين الأمين والمجني عليه ، ولكن بشرط أن يكون دين الأمين مستحق الوفاء وقت المطالبة برد الأمانة ، وتطبيقا لذلك قضى بأنه إذا لم يكن التأمين المودع من المتهم لدى الشركة المستخدم فيها مستحق الوفاء طبقا لشروط الاستخدام فليس للمتهم أن يتمسك بحصول المقاصة بينه وبين ما عليه للشركة ، بل يجب عليه أن يرد لها كل ما يحصله من مال بصفته وكيلا عنها فإن لم يفعل رغم مطالبته عد مختلسا لما حصله وحق عليه العقاب . كذلك يشترط أن يكون الحساب حقيقيا الغرض من الدفع به تصفيته وإثبات وجود مقاصة تبرأ بها ذمة الأمين، فقد قضت محكمة النقض بأن مجرد وجود حساب بين الوكيل والموكل لا يستلزم حتما انتفاء جريمة التبديد ولا نية الاختلاس عند الوكيل ، فيجب على المحكمة أن تقوم بفحص الحساب وتصفيته حتى تستطيع بناء على ما يظهر لها أن تحكم في موضوع تهمة التبديد المرفوعة أمامها بالإدانة أو بالبراءة لأن قاضي الأصل هو قاضي الفرع . أما أن تبرئ المتهم بالتبديد لمجرد أن هناك حسابا بينه وبين المجني عليه وأن هذا الحساب لم يصف بعد بينهما فهذا مخالف للقانون .
كما قضت بأن مجرد الامتناع عن رد المال بسبب وجود حساب معلق لا تتحقق به أركان الجريمة وعلى المحكمة فحص الحساب وتصفيته بلوغا إلى غاية الأمر فيه.
وبديهي أن القصد الجنائي يجب أن يكون معاصرا لفعل الاختلاس أو الاستعمال أو التبديد . ولا يشترط لبيان القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة أن يتحدث عنه الحكم بعبارة صريحة مستقلة ، بل يكفي أن يكون مستفادا من ظروف الواقعة أن الجاني قد ارتكب الفعل المكون للجريمة عن عمد وبنية وحرمان المجني عليه من الشيء المسلم إضرارا به .
(37) د/ فوزية عبدالستار ، مرجع سابق ، ص 1019 .
**إثبات أركان جريمة خيانة الأمانة وعناصرها
- إثبات أركان جريمة خيانة الأمانة وعناصرها (25) :
يجوز إثبات هذه الأركان والعناصر بجميع طرق الإثبات أيا كانت قيمة الشيء موضوع الجريمة : فيجوز إثبات ارتكاب فعل الاختلاس أو التبديد أو الاستعمال بجميع الطرق ، ويجوز كذلك إثبات حصول الضرر، وإثبات القصد الجنائي بجميع الطرق . بل ان واقعة تسليم الشيء يجوز اثباتها بجميع الطرق.
**إثبات عقد الأمانة
- إثبات عقد الأمانة (26):
القاعدة أن إثبات عقد الأمانة يخضع لقواعد الإثبات التي قررها القانون المدني . وعله هذه القاعدة أن وجود العقد في ذاته " مسألة مدنية " ، فيقتضي المنطق أن يخضع إثباته للقواعد المدنية : فالجريمة ليست في وجود العقد حتى يخضع إثباته للقواعد الجنائية ، وإنما الجريمة في الإخلال به في صورة الاعتداء على ملكية المال الذي سلم بناء عليه . وعلى هذا النحو، فقد تقرر الأصل التالي " كيفية الإثبات ترتبط بنوع الموضوع المطروح على القضاء ، لا بنوع القضاء المطروح عليه الموضوع " : فإذا كانت المسألة مدنية خضع إثباتها للقواعد المدنية . ولو كانت معروضة على القضاء الجنائي.
ويعلل هذه القاعدة كذلك أنه إذا خول الشارع القضاء الجنائي أن يفصل في حقوق مدنية ، فإن ذلك لا يخول صاحب الحق أن يصل إلى حقه بغير الطريق الذي كان يسلكه أمام القضاء ذي الاختصاص الأصلي . ويعللها في النهاية أن قضاء القاضي الجنائي له حجيته على القاضي المدني ، ومن ثم تعين ألا يكتسبها إلا إذا استند إلى ذات وسائل الإثبات التي يقررها القانون المدني . وتطبق هذه القاعدة ، ولو لم يكن في الدعوى مدع مدني.
**تطلب الدليل الكتابي
- تطلب الدليل الكتابي (27) :
نصت المادة 60 من قانون الإثبات على أنه " في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانون تزيد قيمته على ألف جنية أو كان غير محدد القيمة ، فلا تجوز شهادة الشهود في إثبات وجوده أو انقضائه ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضى بغير ذلك " . والعبرة في تحديد قيمة التصرف هي بوقت صدوره ( المادة 60، الفقرة الثانية ) ، أي وقت التعاقد ، وليست بوقت النظر في الدعوي .
وتطبيقاً لذلك ، فإنه إذا كانت قيمة المال موضوع عقد الأمانة لا تزيد على ألف جنيهاً وقت التعاقد ، ولكنها صارت تزيد على ذلك عن النظر في الدعوى، فإن الإثبات بالبينة يكون جائزاً.
وقاعدة اشترط الدليل الكتابي إذا جاوزت قيمة التصرف ألف جنية لا تتعلق بالنظام العام ، ومن ثم يجوز الاتفاق على ما يخالفها ( المادة 60 من قانون الإثبات) ويجوز الاتفاق على ما يخالف هذه القاعدة وقت التعاقد أو وقت نظر الدعوي . ويجوز أن يكون الاتفاق في معني عدم تطلب الدليل الكتابي على الرغم من أن قيمة التصرف تزيد على ألف جنيهاً ، ويجوز أن يكون في معني اشترط الدليل الكتابي على الرغم من أن قيمة التصرف لا تزيد على ألف جنيهاً. وقد يستفاد قبول المدين ضمناً النزول عن اشتراط الدليل الكتابي أثناء نظر الدعوي، من عدم اعتراضه على الإثبات بالبينة الذي تقدم به خصمه ؛ ويستفاد من باب أولى من مساهمته في هذا الإثبات بمناقشته شهود الإثبات أو طلبه شهود نفي .
- الحالات التي لا يشترط فيها الدليل الكتابي علي الرغم من تجاوزقيمة العقد ألف جنيها : أهم هذه الحالات أن يكون العقد تجاريا ، وقد حرصت على الإشارة إلى هذا الاستثناء المادة 60 من قانون الإثبات ( في صدر فقرتها الأولى ). وذلك مع ملاحظة ان القانون التجاري تطلب الإثبات بالكتابة بالنسبة لعقود شركات المساهمة وشركات التضامن والتوصية.
ومن هذه الحالات كذلك أن يوجد مانع مادي أو أدبي يحول دون الحصول على الدليل الكتابي، أو أن يفقد المجني عليه سنده الكتابي بسبب أجنبي لا يد له فيه ( المادة 63 من قانون الإثبات) . والفصل في وجود المانع وما يترتب عليه من جواز الإثبات بالبينة من شأن قاضي الموضوع .
ومن هذه الحالات كذلك أن يوجد مبدأ ثبوت بالكتابة ، فقد نصت المادة 62 من قانون الإثبات على أنه " يجوز الإثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب إثباته بالكتابة إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة . وكل كتابة تصدر من الخصم ويكون من شأنها أن تجعل وجود التصرف المدعي قريب الاحتمال تعتبر مبدأ ثبوت بالكتابة " . ويتضح من هذا النص أن مبدأ الثبوت بالكتابة يفترض وجود كتابة ، وصدورها عن المتهم نفسه أو عن ممثله القانوني، وأن يكون من شأنها جعل وجود عقد الأمانة قريب الاحتمال . ومن أمثلة ما اعتبر مبدأ ثبوت بالكتابة اعتراف المتهم الضمني بوجود العقد ، واعترافه المنطوي على تناقض فيما بين أجزائه ، وأقواله في محضر الاستدلال أو التحقيق الابتدائي .
الحالات التي يشترط فيها الدليل الكتابي على الرغم من عدم تجاوز قيمة العقد ألف جنيها : أهم هذه الحالات عدم جواز الإثبات بشهادة الشهود " فيما يخالف أو يجاوز ما اشتمل عليه دليل كتابي" ( المادة 61 من قانون الإثبات الفقرة أ) . فإذا أثبت العقد استلام المتهم المال المودع لدية أو المؤجر له أو أثبت تسلم الوكيل مبلغاً محدداً ، فلا يجوز إثبات ما يخالف ذلك أو يجاوزه عن طريق شهادة الشهود . ولكن يقيد من هذا الأصل أنه إذا كان العقد المكتوب يتضمن احتيالا على القانون ، كما لو كان عقداً صورياً منطوياً على غش يخفى عقداً حقيقيا، فإنه يجوز إثبات العقد الحقيقي بجميع الطرق . وذلك " لاختلاط الغش بالصورية ، حتى صارت هذه أداة الغش " .
- عدم تقيد المحكمة باشتراط الدليل الكتابي عند قضائها بالبراءة:
قضت محكمة النقض بأن" المحكمة في جريمة خيانة الأمانة في حل من التقيد بقواعد الإثبات المدنية عند القضاء بالبراءة ، لأن القانون لا يقيدها بتلك القواعد إلا عند الإدانة في خصوص إثبات عقد الأمانة إذا زاد موضوعه على ألف جنيهاً احتياطياً لمصلحة المتهم حتى لا تتقرر مسئوليته وعقابه إلا بناء علي الدليل المعتبر في القانون ، ولا كذلك البراءة لإنتفاء موجب تلك الحيطة وأسلاسا لمقصود الشارع في ألا يعاقب برئ مهما توافر في حقه من ظواهر الأدلة " .
**إثبات العقد عن طريق الاقرار
- إثبات العقد عن طريق الاقرار (28) :
إذا أقر المتهم بوجود عقد الأمانة كان إقراره حجة عليه ، وأعفي الادعاء من إثبات العقد ، والإقرار حجة أيا كانت قيمة العقد ( المادتان 103، 104 من قانون الإثبات) . وتطبق القواعد المدنية في شأن الإقرار أمام القضاء الجنائي ، سواء من حيث أركانه أو حيث أثره : فمن حيث تعريفه وأركانه ، لا يعتبر الإقرار دليل إثبات كامل إلا إذ صدر أمام القضاء ، أي أثناء جلسه المحاكمة ، ومن ثم لا يعتبر إقراراً ما يصدر عن المتهم في محضر التحقيق الابتدائي أو محضر الاستدلال ؛ وليست للإقرار حجية إلا في خصوص الدعوى التي صدر فيها. ومن حيث أثره ، فهو حجة قاطعة على المتهم ، فيعتبر العقد ثابتاً دون حاجة إلى تقديم دليل آخر . وباعتباره حجة قاطعة ، لا يجوز الرجوع فيه ، ولكن يجوز- باعتباره تعبيراً عن إرادة - الطعن فيه للغط أو التدليس أو الإكراه.
والإقرار غير قابل للتجزئة كأصل عام ، ولكنه يقبلها " إذا انصب على وقائع متعددة وكان وجود واقعة منها لا يستلزم حتما وجود الوقائع الأخرى" : فإذا أقر المتهم أنه تسلم النقود ولكن على سبيل القرص ، أو أقر أنه تسلم الشيء وأنه بعد ذلك رده ، أو أقر أنه تسلم النقود وأنه بعد ذلك استعملها في الغرض الذي حدده له المجني عليه ، فلا يجوز تجزئة هذا الإقرار، وأخذ المتهم باعترافه بواقعة التسليم ، ورفض ما أضافه إلى ذلك من تحديد لسند التسليم أو لواقعة أعقبته تفترض حتما واقعة التسليم ، ذلك أنه لا رد إلا بعد تسليم سابق ، ولا استعمال لمال في غرض معين إلا بعد سبق تسليمه . أما إذا أقر المتهم أنه تسلم النقود من المجني عليه ، وأضاف إلى ذلك أنه صار بعد ذلك دائناً له على نحو انقضي به الدينان بالمقاصة ، فإنه يجوز تجزئة هذا الإقرار ، والأخذ بشقه الخاص بتسلم المال واعتبار ذلك ثابتاً في حق المتهم ، ورفض شقة الخاص بدائنيته للمجني عليه وما يستتبعه ذلك من انقضاء حق المجني عليه.
**إثبات العقد عن طريق اليمين
- إثبات العقد عن طريق اليمين (29) :
هل يجوز إثبات عقد الأمانة عن طريق اليمين ؟ اليمين اما حاسمة وأما متممة وصورة اليمين الحاسمة في دعوى خيانة الأمانة أن يعوز المجني عليه الدليل الكتابي على عقد الأمانة فيوجه إلى المتهم اليمين ، ويحتكم بذلك إلى دينه وضميره ، فإذا حلف بأنه لا وجود للعقد اعتبرت الجريمة غير متوافرة الأركان ، أما إذا نكل عن اليمين اعتبر العقد قائما ، وقضي بإدانته إذا توافرت سائر أركان جريمته .
وصورة اليمين المتممة أن يوجد دليل غير كامل على عقد الأمانة ، فيسعي القاضي إلى تكملته عن طريق اليمين ، مثال ذلك أن يوجد مبدأ ثبوت فيسعي القاضي إلى تكلمته عن طريق اليمين المتممة بوجهها إلى المجني عليه بالكتابة ثم لا يوجد دليل يكلمه كشهادة منصبة مباشرة على العقد ، أو المتهم ، أيهما يوحي بثقة أكثر في تقديره .
ويقول د/ محمود نجيب حسنى : لا نرى ما يحول بين المجني عليه الذي لا يحوز دليلاً على عقد الأمانة وبين أن يوجه اليمين الحاسمة إلى المتهم ، فلا وجود لقاعدة تحظر عليه ذلك ، ثم ان موضوع الإثبات ( أي العقد) مدني بحت ، ومن ثم يخضع إثباته للقواعد المدنية ، ومن بينهما جواز توجيه اليمين الحاسمة. ولكن محكمة النقض الفرنسية رفضت ذلك ، وعللت رفضها بأنه لا يجوز توجيه اليمين أمام القضاء الجنائي . وهذه الحجة غير صحيحه فما يمتنع توجيهه هو اليمين التي يكون موضوعها الفعل الإجرامي ، إذ لا يجوز وضع المتهم في الحرج ، واما أن يحنث في يمينه واما أن يعترف بجريمته إذ يعتبر ذلك نوعا من الإكراه على الاعتراف . ولكن ذلك غير متحقق في الفرض الذي نعاجله ، فموضوع اليمين ليس الفعل الإجرامي ، ولكنه عقد مدني . وقد أجمع الفقه والقضاء على وجوب معالجته من حيث الإثبات كما يعالج أي موضوع مدني . وليس ثمة ما يحول كذلك دون أن يوجه القاضي اليمين المتممة إلى المتهم أو المجني عليه ليستكمل الدليل الذي توافر لديه كي يصل إلى اقتناع في شأن وجود العقد أو عدم وجوده . وأوضح فروض توجيه اليمين المتممة أن يوجد مبدأ ثبوت بالكتابة على وجود العقد ، ولا توجد شهادة أو قرينة تكمل هذا المبدأ، فيستكمل القاضى عن طريق اليمين المتممة اقتناعه ، تبعاً لما إذا حلف أو نكل من وجهت إليه هذه اليمين.
(24) ، (25) ، (26) ، (27) ، (28) ، (29) : د/ محمود نجيب حسنى ، مرجع سابق ، ص 1156 وما بعدها .
**الركن المادي لخيانة الأمانة
الركن المادي لخيانة الأمانة (30)
تمهيد : عبر الشارع في المادة 341 من قانون العقوبات عن الركن المادي لجريمة خيانة الأمانة بقوله " كل من اختلس أو استعمل أو بدد مبالغ أو أمتعة.. اضرارا بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها " . وقد أشار الشارع بألفاظ " اختلس أو استعمل أو بدد " الى الفعل الذي تقوم به الجريمة ، وأشار بلفظ " اضرارا " إلى الضرر الذي يترتب علي الفعل وتقوم به النتيجة الإجرامية . ويعني ذلك ان الركن المادي لخيانة الأمانة يتطلب فعلاً ونتيجة وعلاقة سببه تربط بينهما .
الفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة
**النظرية العامة للفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة
النظرية العامة للفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة :
على الرغم من تنوع الصور التي يتخذها الفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة ، إذ قد يكون اختلاساً أو تبديدا أو استعمالاً ، فإنها تجتمع في إطار نظرية عامة جوهرها فكرة " تغيير المتهم نوع حيازته " فالفرض أن المتهم كان يحوز الشيء المملوك لغيره حيازة ناقصة يعترف فيها بحقوق المجني عليه ويسلم له بسلطاته على الشيء ، ويقر بأن ذلك الشيء موجود في حيازته على نحو مؤقت كي يؤدي عليه أو بواسطته عملاً معيناً بتصريح من المجني عليه ؛ ولكنه وجه إرادته إلى تغيير نوع حيازته إلى حيازة كاملة ، فجحد حقوق المجني عليه ، وأنكر سلطاته على الشيء ، وقرر الاحتفاظ به لنفسه ، سالكا إزاءه مسلك المالك. وقد عبرت محكمة النقض عن هذه الفكرة في قولها " ان جريمة خيانة الأمانة تتحقق بكل فعل يدل على أن الأمين اعتبر المال الذى أؤتمن عليه مملوكاً له يتصرف فيه تصرف المالك " .
ويتضح بذلك أن جوهر الفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة هو هذا " الاتجاه الإرادي" هو" إرادة تغيير نوع الحيازة من ناقصة إلى كاملة " ، بما يفترضه ذلك بالضرورة من ادعاء سلطات المالك على الشيء وإهدار سلطات المالك الشرعي . ويعني ذلك أن جوهره ظاهرة نفسية قوامها الاتجاه الإرادي السابق. ولكن الفعل لا يقوم بظاهرة نفسية فحسب ، بل لا بد له من ماديات تعبر عن هذه الظاهرة ، وتتيح له أن يحتل مكانة بين عناصر الركن المادي للجريمة . وقد اجتهد الشارع في تحديدها بالألفاظ الثلاثة التي استخدمها في نص خيانة الأمانة.
**عنصر الضرر في خيانة الأمانة
عنصر الضرر في خيانة الأمانة (34 ) :
لا يكفي لتوافر الركن المادي في خيانة الأمانة أن يعتدي الجاني على ملكية الشيء الذي أؤتمن عليه بفعل يتخذ صورة الاختلاس أو التبديد أو الاستعمال، وإنما يلزم بالإضافة إلى ذلك أن يكون من شأن هذا الفعل إلحاق الضرر بالمجني عليه سواء كان هو مالك الشيء أو غيره . وقد تطلب المشرع عنصر الضرر صراحة بنصه في المادة 341 عقوبات على عقاب " كل من اختلس أو استعمل أو بدد مبالغ أو أمتعة .... إضرارا بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها ".
فالضرر عنصر في الركن المادي في خيانة الأمانة لا تقوم هذه الجريمة بدونه. وفي هذا تختلف خيانة الأمانة من ناحية عن السرقة والنصب من ناحية أخرى، حيث أنه لا يلزم لقيام الجريمتين الأخيرتين سوى وقوع الاعتداء على الملكية بالوسيلة التي حددها القانون في كل منهما وذلك بغض النظر عن حدوث ضرر نتيجة لهذا الاعتداء أم لا ، كما إذا كان استيلاء الجاني على المال المملوك لغيره بمقابل يعادل قيمته . ومن التطبيقات العملية لانتفاء جريمة خيانة الأمانة بسبب تخلف الضرر أن يكون للوكيل في ذمة موكله دين نقدي مستحق الوفاء لا تقل قيمته عما بدده من المبالغ التي حصلها لحساب هذا الأخير، ففي هذه الحالة يقبل من الوكيل الدفع بحصول المقاصة بين ما هو مستحق له وبين المبالغ التي بددها فلا يسأل عن خيانة الأمانة لتخلف عنصر الضرر .
غير أنه لا يشترط في الضرر أن يكون محققا أي واقعا فعلا ، بل يكفي أن يكون محتمل الوقوع . وتطبيقا لذلك حكم في فرنسا بأنه إذا عهد شخص لآخر بتقديم أوراق معينة إلى إحدى المصالح وسلمه مبلغا من النقود لكي يشتري به طوابع أميرية يلصقها على هذه الأوراق قبل تقديمها فتمكن المستلم من الحصول على طوابع مستعملة ولصقها بعد أن محا الختم الذي كان عليها ثم قدم الأوراق إلى المصلحة المختصة التي اعتمدتها دون أن تفطن إلى هذا التلاعب واختلس هو النقود التي كانت قد سلمت إليه من صاحب الأوراق فهذا الاختلاس تقوم به جريمة خيانة الأمانة ، إذ أن صاحب الأوراق معرض للرجوع عليه بثمن الطوابع .
كذلك قضى عندنا بأنه متى كان الحكم قد أثبت وجود عجز في أكياس السماد التي سلمت إلى مشتريها من الجمعية الزراعية ثم دان أمين الشونة ومساعده في تبديد السماد فلا يجدي في دفع التهمة عنهما القول بأن ركن الضرر غير متوفر في الجريمة إذ الجمعية الزراعية قد حصلت على كامل حقها ، إذ هذا القول مردود بأنه يكفي لتحقيق الجريمة أن يلحق بالمشترين من الجمعية ضرر حتى يتعدى الضرر إليها أيضا.
ولا يلزم كذلك أن يكون الضرر ماديا ، وإنما يجوز أن يكون أدبيا محضا كالضرر الذي يتحقق بتبديد أشياء ليست لها سوى قيمة تذكارية ، والضرر الذي يصيب المجني عليه في سمعته أو اعتباره . ولهذا قضى مثلا بأنه يعد خائنا للأمانة العامل بإحدى شركات الألبان الذي يضيف إلى اللبن المسلم إليه لتوزيعه كمية من الماء ويحتفظ لنفسه بثمن الزيادة في اللبن الناجمة عن الخلط بالماء، وذلك لأن الشركة المجني عليها وإن لم يلحقها ضرر مادي لأنها حصلت على ثمن اللبن الذي سلمته إلى العامل لتوزيعه كاملا إلا أنها معرضة مع ذلك لأن يصيبها ضرر أدبي يتمثل في إهدار سمعتها وفقدان ثقة عملائها.
ويسوي القانون أخيرا بين الضرر الذي يصيب مالك الشيء أو صاحبه وبين الضرر الذي يلحق واضع اليد عليه . وقد قصد القانون بذلك أن يصل بالعقاب إلى الجاني حيث يكون الشيء قد سلم إليه من شخص آخر خلاف مالكه سواء كان هذا الشخص حائزا للشيء كمستأجره أومرتهنه رهنا حيازيا أو كانت يده عليه لا تعدو أن تكون يدا عارضة كما هو الشأن في حالة الخادم الذي يعير أحد الجيران شيئا مملوكا لمخدومه . ففي هذه الحالات إذا اختلس الأمين الشيء أو بدده عد خائنا للأمانة ولو أن الضرر المباشر المترتب على فعله يلحق شخصا آخر خلاف مالك الشيء هو حائزه السابق أو من كانت له عليه اليد العارضة ، ويتمثل هذا الضرر في إلزامه بالتعويض قبل المالك .
(34 ) د/ عمر السعيد رمضان ، مرجع سابق ، ص 652 وما بعدها .
**تمام الجريمة والعقاب عليها
تمام الجريمة والعقاب عليها (38)
كل من اختلس أو استعمل أو بدد مبالغ أو أمتعة أو بضائع أو نقودا أو تذاكر أو كتابات أخرى مشتملة على تمسك أو مخالصة أو غير ذلك إضرارا بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها وكانت الأشياء المذكورة لم تسلم له إلا على وجه الوديعة أو الإجارة أو على سبيل عارية الاستعمال أو الرهن أو كانت سلمت له بصفة كونه وكيلا بأجرة أو مجاناً بقصد عرضها للبيع أو بيعها أو استعمالها في أمر معين لمنفعة المالك لها أو غيره يحكم عليه بالحبس ويجوز أن يزاد عليه غرامة لا تتجاوز مائة جنيه مصري.
**ما يخرج عن نطاق الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة(
- ما يخرج عن نطاق الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة(31):
يترتب على التحديد السابق للفعل الإجرامي في خيانة الأمانة أن هذه الجريمة لا تقوم بالفعل الذي يصدر عن حائز الشيء حيازة ناقصة ولا يكشف عن إرادته تغيير نوع حيازته ، وإنما يكون في نطاق صفته كحائز حيازة ناقضة مفترضاً الاعتراف بحقوق المجني عليه وسلطانه على الشيء . ولا يغير من هذا الحكم كونه أضر بالمجني عليه أو حقق لمرتكبه نفعاً . وعلى سبيل المثال ، فإن تأخر المودع عنده في رد الشيء المودع لديه ، واستعمال المستعير الشيء على نحو خارج على الوجه والحد المنصوص عليهما في العقد أو المستفادين من العرف ، وإهمال المستأجر أو المرتهن في المحافظة على الشيء حتى أصيب بضرر أو هلك ، كل هذه أفعال لا تقوم بها خيانة الأمانة ، لأنها لا تتضمن ادعاء ملكية الشئ ، ولا تعنى جحودا لحق مالكه . وقد عبرت محكمة النقض عن هذه القاعدة في قولها " التأخير في رد الشيء أو الامتناع عن رده إلى حين لا يتحقق به الركن المادي لجريمة التبديد ( أي خيانة الأمانة) ما لم يكن مقرونا بانصراف نية الجاني إلى إضافة المال الذي تسلمه إلى ملكه واختلاسه لنفسه إضراراً بصاحبه " .
**صور الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة
** صور الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة(32) :
حدد الشارع صوراً ثلاثا للفعل الإجرامي في خيانة الأمانة ، هي الاختلاس والتبديد والاستعمال.
- الاختلاس :
الاختلاس فعل يباشر به المتهم سلطات على الشيء لا تدخل إلا في نطاق سلطات المالك ، فهو سلوك إزاء الشيء مسلك المالك ؛ ومن ثم كان بالضرورة كاشفاً عن نية تغييره الحيازة .
ولا يجاوز الاختلاس ذلك إلى إخراج المتهم الشيء من حيازته ، وذلك هو الفرق بينه وبين التبديد.
وأبرز صور الاختلاس أن ينكر المتهم وجود الشيء في حيازته كي يتخلص من التزامه برده ويحتفظ به لنفسه . وسواء في ذلك أن ينكر أنه سبق أن تسلم شيئاً، وقد يصطحب ذلك بإنكاره وجود العقد الذي يربط بينه وبين المجني عليه ؛ أو أن يعترف بوجود هذا العقد ولكن ينكر أنه تسلم شيئاً بناء عليه . ويدخل في هذا المدلول أن يدعى أن الشيء قد هلك أو سرق كي يتخلص من التزامه برده.
ومن أهم صور الاختلاس كذلك أن يصدرعن المتهم فعل يكشف عن نظرته إلى الشيء علي أنه ملكه ، فهو فعل لا يصدر إلا من المالك . مثال ذلك أن يؤتمن شخص على قطعة من قماش فيصنع لنفسه منها رداء ، أو يؤتمن على جوهرة فيضعها في خاتم بأصبعه ، أو يؤتمن على سند فيطالب لنفسه بالحق الثابت فيه .
ومن تطبيقات الاختلاس في القضاء عرض الشيء للبيع ، وانتفاع الموصي بأطيان القاصر بدون مقابل ، ورفع أحد الورثة دعوى باسمه شخصيا بناء على سند سلم إليه ليرفع بناء عليه دعوي باسم الورثة جميعا ، واحتجاز المتهم العقد لنفسه بدون مقتض وبغير أن يزعم لنفسه حقا في احتباسه ، وامتناع المتهم عن رد النقود المودعة لدية عند الطلب .
- التبديد :
التبديد فعل يخرج به المتهم الشيء من حيازته على نحو يفقد به المجني عليه الأمل في استرداده ، أو على الأقل يضعف إلى حد بعيد هذا الأمل . وهذا الفعل يكشف بجلاء عن نية تغيير الحيازة . ويتضمن التبديد بالضرورة اختلاساً ، إذ يفترض فعلا لا يصدر إلا من المالك.
ويتحقق التبديد بالتصرف القانوني في الشيء أو التصرف المادي فيه.
فيعتبر مبددا- عن طريق التصرف القانوني- من يؤتمن على شيء فيبيعه أو يقايض عليه أو يهبه أو يرهنه أو ينشئ عليه حق انتفاع . وقد قضى تطبيقاً لذلك ، بأنه إذا سلم وكيل الدائن سند الدين إلى المدين نظير مال تتقاضاه منه كان مبدداً له ؛ وإذا سلم الوكيل الشيء الذي يحوزه لحساب موكله إلى شخص لبيعه كان مبدداً له كذلك . ولكن من يؤجر الشيء الذي أؤتمن عليه أو يعيره أو يودعه لدي غيره لا يرتكب تبديدا ، ذلك أن التصرف يفترض تعديلاً ينال من الحقوق العينية على الشيء ، وهو ما لم يتحقق في المجالات السابقة.
ويتحقق التبديد بالتصرف المادي في الشيء ، سواء كان تصرفاً كلياً أو جزئياً. ويعني التصرف الكلي إعدام الكيان المادي للشيء بحيث يختفي بالنسبة للمجني عليه أو يصير غير صالح للغرض المعد له حسب تخصيصة ، مثال ذلك أن يؤتمن شخص على حصان فيقتله ، أو على سند فيجزئ مادته قطعاً صغيرة ، أو على كتب فيضرم النار فيها ، أو على طعام فيلتهمه . أما التصرف المادي الجزئي فيعني إدخال التعديل على الكيان المادي للشيء على نحو يؤدي إلى تشويهه وتغيير معالمه بحيث تنقص قيمته أو على الأقل تقل منفعته. مثال ذلك أن يؤتمن شخص على لوحه فنية فيمحو توقيع راسمها فيقلل بذلك من قيمتها ، أو يؤتمن على كمية من دقيق فيضيف إليه ماء فيقلل من صلاحيته ليصنع منه الخبز، أو يؤتمن على كتاب فينتزع منه بعض صفحاته .
- الاستعمال:
يعني الاستعمال ـ كصورة للفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة - الفعل الذي يستخدم به المتهم الشيء استخداماً لا يجوز أن يصدر إلا من المالك ، ويكشف في صورة قاطعة عن تغير نيته ، إذ قد صار ينظر إليه نظرته إلى شيء يملكه . أما الفعل الذي يستخدم به المتهم الشيء استخداماً يجوز أن يصدر عن المالك أو عن غيره ، ولا يكشف بالتالي عن نية تملك الشيء ، فلا تقوم به خيانة الأمانة ، ولو كان مخالفا للعقد الذي يربط بين حائز الشيء ومالكه.
ومن تطبيقات الاستعمال الذي تقوم به خيانة الأمانة أن يسلم مؤلف ناشراً أصول كتاب كي يطبع منه عدداً محدداً من النسخ فيطبع عدداً أكبر ، ذلك أنه قد استعمل الأصول استعمالاً لا يجوز أن يصدر عن غير المالك ، ويكشف عن أنه أصبح ينظر إليها نظرة المالك إلى شيء يملكه.
ومن هذه التطبيقات كذلك أن تسلم إلى شخص ألواح منقوشة عليها العلامة التجارية لأحد التجار ويطلب اليه أن يستخرج منها عدداً معيناً من النسخ ، فيستخرج عدداً أكبر ويبيعه لتجار آخرين ؛ أو أن يطلب شخص من مهندس مقاول أن يعد له مشروع رسم لمبني يريد إقامته على أن يتولى تنفيذه ، فيقدم إليه الرسم ، ولكن المتهم ينقل منه صورة ، ويرده إليه معلنا عدم موافقته عليه ، ويعهد إلى مقاول آخر بتنفيذه .
وأبرز تطبيقات الاستعمال أن يستخدم المتهم الشيء استخداماً يخرج به عن تخصيصه الذي اتفق عليه ، ويفوت هذا التخصيص كلياً أو جزئياً ، مثال ذلك مدير الشركة الذي ينفق بعض أموالها في مصالحة الخاصة ، أو يقرر لنفسه مكافآت لا يستحقها ، أو يحصل على قروض دون أن يقدم التأمينات التي يفرضها نظام الشركة ، أو ينشئ شركة يكون صاحب المصلحة الأساسية فيها ويخولها مزايا على حساب الشركة التي يديرها واضرارا بها.
**الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة إذا كان موضوعها مالا مثليا
الفعل الإجرامي في خيانة الأمانة إذا كان موضوعها مالا مثليا(33):
لا تختلف طبيعة الفعل الإجرامي باختلاف ما إذا كان موضوع خيانة الأمانة مالا قيميا أو مالا مثاليا ، فتحكمه ذات النظرية العامة ، ويستند إلى ذات الأساس المشترك بين صور الفعل التي نص عليها القانون ، فهو دائما نشاط مادي يعبر عن إرادة تغيير الحيازة الناقصة إلى حيازة كاملة . وأهم الأموال المثلية النقود. وتبديد النقود يكون بإنفاقها ، ولو كان في صورة اقراضها . وبالنسبة لما عدا النقود من المثليات فإن تبديدها يكون ببيعها أو المقايضة عليها أو هبتها أو استهلاكها ، كما لو أؤتمن شخص على كمية من الغلال فطحنها وصنع لنفسه منها خبزاً تناوله ؛ أو بمجر إفناء مادتها كما لو عرض هذه الغلال للطيور فالتهمتها .
وعلى الرغم من ذلك ، فثمة فارق لا يمكن إنكاره بين نوعي الأموال ، وهو فارق يتعلق ببيان الحد الذي يبدأ عنده مجال النشاط الذي يجرمه القانون .
فإذا كان المال قيميا فالأمر واضح ، فمجرد الاختلاس أو التبديد أو الاستعمال يحقق جميع عناصر الفعل ، إذ يكشف هذا السلوك عن إرادة تغيير الحيازة في صورة قاطعة ، وهو يرتب ضررا يصيب المجني عليه ، يتمثل - على أي الأحوال- في تهديده ملكيته بالخطر واحتمال ضياعها.
أما إذا كان المال مثليا - وخاصة ان كان نقودا- فإنه يثير التردد أن المجني عليه ليست له مصلحة في أن يرد إليه ماله عينا ، فالفرض أن وحدات هذا المال تتماثل تماماً ؛ وبالاضافة إلى ذلك فإنه إذا رد إليه مال من ذات نوع وصفه ومقدار ماله بمجرد طلبه ، فلا ضرر على الإطلاق قد أصابه . وليس من المعقول أن يحظر الشارع على متسلم المال المثلي أن يخلطه بماله أو يتصرف فيه إذا كان لدية من أمثال هذا المال الكثير، وكان في وسعه ارضاء المتعاقد الآخر بمجرد طلبه ذلك ، فهذا السلوك لا خطر منه على المجتمع ، ولا علة للعقاب عليه ؛ بل على العكس من ذلك ، قد تكون المصلحة في اجازته ، باعتباره يسهم في النشاط الاقتصادي . ويقول د/ محمود نجيب حسنى : لذلك نعتقد أن مستلم المال المثلي لا يرتكب خيانة الأمانة إذا خلط المال الذي تسلمه بماله أو تصرفه فيه طالما أن في ملكية وحيازته مال من ذات نوعة وصفته ومقداره ، بحيث يستطيع أن يرد إلي من تعاقد معه مثل ماله بمجرد أن يطالبه بذلك ، واللحظة التي يبدأ فيها النشاط الإجرامي هي اللحظة التي تقل فيها الأموال المثلية التي يملكها ويحوزها عما تسلمه. ولكن إذا ارتكب المتهم هذا النشاط ثم استطاع إبراء ذمته عند مطالبته ، فلم يثبت أنه قد ترتب على الفعل ضرر، فان الركن المادي لخيانة الأمانة لا يكون بذلك مستوفياً عناصره ، إذ الضرر عنصر جوهري فيه ، ويمثل النتيجة التي يفترضها.
(30) ، (31) ، (32) ، (33) : د/ محمود نجيب حسنى ، مرجع سابق ، ص 1202 وما بعدها .
**الركن المعنوي لخيانة الأمانة
الركن المعنوي لخيانة الأمانة (35)
تمهيد: خيانة الأمانة جريمة عمديه ، ومن ثم يتخذ ركنها المعنوي صورة القصد الجنائي . وعلى الرغم من أن الشارع لم يصرح بتطلب القصد ، فهو مستفاد من طبيعة هذه الجريمة ، وكونها اعتداء على الملكية وإخلالا بثقة موضوعة في المتهم ؛ وتقاربها في الأحكام مع السرقة والنصب ، وهما عمديتان بطبيعتهما ؛ وكون الأفعال التي تفترضها ، أي الاختلاس والتبديد والاستعمال لا تتصور بغير علم بماهيتها وإرادة متجهة إليها .
وأهمية تطليب القصد في خيانة الأمانة أنها لا تقوم عند انتفائه ، ولو توافر لدى المتهم خطأ جسيم ، كما لو أهمل الوكيل في القيام بالعمل المكلف به أو صدر عنه في تنفيذه خطأ فاحش ، فضاع على الموكل ماله.
نوع القصد المتطلب في خيانة الأمانة : تجرى محكمة النقض على تعريف القصد الجنائي في خيانة الأمانة بأنه " لا يتحقق إلا إذا ثبت أن الجاني تصرف في الشيء المسلم إليه كما لو كان مالكا له مع تعمد ذلك التصرف ، وأن هذا التصرف قد حصل منه إضرارا بحقوق المالك لهذا الشيء" . ويستخلص من هذا التعريف - وهو ما يكاد ينعقد عليه إجماع الفقه - أن خيانة الأمانة تتطلب قصدا خاصا ، قوامه ( نية تملك الشيء ) موضوع هذه الجريمة . والقصد الخاص يقوم على أساس من القصد العام .
ويفترض القصد العام علما وإرادة منصرفين إلى عناصر الجريمة ، ونحدد -فيما يلي- عناصر القصد العام ، ثم نتبع ذلك ببيان فحوى نية التملك.
ـ علم المتهم أن الشيء مملوك لغيره وأنه في حيازته الناقصة فحسب: يفترض القصد العام علم المتهم بتوافر موضوع للجريمة ينصب عليه فعله وتجتمع له الشروط التي تطلبها القانون فيه . وأهم ما يتعين إحاطة العلم به هو ملكية الشيء ونوع حيازته :
فيتعين أن يعلم المتهم أن المال مملوك لغيره ؛ أما إذا جهل ذلك لأنه خلط بينه وبين المال الذي يملكه ، فاعتقد حين يتصرف فيه أنه يتصرف في مال يملكه ، فإن القصد لا يتوافر لديه .
ويتعين أن يعلم المتهم أنه يحوز الشيء حيازة ناقصة ، فيعلم أنه ملتزم ( برده عينا أو رد مثله أو استعماله في أمر معين في مصلحة المحني عليه ) . أما إذا كان يعتقد أنه يحوزه حيازة كاملة ، وأن له عليه حقوقا أصيلة ، وأنه غير ملتزم بتقديم حساب إلى غيره عن حيازته له ، فإن القصد لا يتوافر لديه : فاذا اعتقد المودع عنده أن الشيء قد وهب له فتصرف فيه ظنا أنه ملكه ، أو اعتقد وارث المستعير أو المستأجر أن الشيء المعار أو المؤجر ملك لمورثه وأن ملكيته قد انتقلت إليه بالإرث ، فإن القصمد لا يتوافر لديه .
علم المتهم بماهية فعله : يجب أن يعلم المتهم بماهية فعله ؛ وأثره المحتمل على ملكية المجني عليه وحيازته ، فيعلم بما ينطوي عليه من تغيير لنوع الحيازة وتحويل لها من ناقصة إلى كاملة . أما إذا جهل المتهم ذلك ، كما لو أعار الشيء الذي يحوزه إلى شخص معتقدا أنه سيبقيه في حيازته لحساب مالكه. ولكن هذا الشخص كان منتويا منذ البداية تبديده ، وفعل ذلك ، فإن القصد لا يتوافر لدى المتهم .
توقع المتهم الضرر الحال أو المحتمل الذي يترتب على فعله : الضرر هو النتيجة الإجرامية في خيانة الأمانة ، ومن ثم فإنه يتعين أن يشمله توقع المتهم ؛ أما إذا لم يتوقعه فلا يتوافر القصد لديه ، ولو كان في استطاعته ومن واجبه توقعه ، فاستطاعة التوقع ووجوبه لا يقوم بهما القصد ، وإنما يقوم بهما الخطأ فحسب ، وهو غير كاف لتوافر خيانة الأمانة.
ويعدل الشارع الضرر المحتمل بالضرر الحال ، ومن ثم يكفي لتوافر القصد أن يتوقع المتهم احتمال أن يترتب على فعله ضرر: فمن أودعت لديه سندات لحاملها واشترط عليه ردها عينا ، فرهنها ضمانا لدين في ذمته ، وتوقع احتمال أن يعجز عن سداد دينه ، فيعرضها الدائن للبيع للحصول على حقه من ثمنها ، فيضار بذلك مالكها ، يعد القصد متوفرا لديه . أما إذا لم يرد إلى خاطره هذا الاحتمال ، فكان واثقا من قدرته على سداد الدين واسترداد السندات لتكون رهن طلب مالكها ، ولكنه عجز عن السداد لأسباب لم يتوقعها ، فبيعت هذه السندات وضاعت على مالكها ، فإن القصد لا يعد متوافرا لديه .
إرادة ارتكاب الفعل وتحقيق النتيجة : يقتضي القصد - وفقا للقواعد العامة في تحديده - أن يثبت اتجاه إرادة المتهم إلى ارتكاب الفعل الذي تقوم به الجريمة وإلى تحقيق نتيجته ؛ أي أن تتجه إلى ارتكاب فعل الاختلاس أو التبديد أو الاستعمال . وأن تتجه كذلك إلى إنزال الضرر - ولو في صورته الاحتمالية - بالمجني عليه أو غيره.
ولما كان الفقه الحديث يسوي بين القصد المباشر والقصد الاحتمالي، فإنه يكفي لتوافر القصد أن يتوقع المتهم احتمال الضرر فيقبل هذا الاحتمال .
وتطبيقا لذلك ، فإنه إذا عيب الشيء أو أتلف بفعل صدر عن إهمال وعدم احتياط ، أو كان المتهم قد استعمل الشيء في صورة منافية لتخصيصه أو للغرض المتفق عليه ، فهلك دون أن تتجه إرادته إلى إهلاكه أو يقبل ذلك ، فإن القصد لا يتوافر لديه . ومن باب أولى ، فإن القصد لا يتوافر لدى المتهم إذا سرق الشيء من حوزته ولو بإهماله ، أو صدر قرار إداري بالاستيلاء عليه وانتقلت حيازته وملكيته إلى الدولة.
نية تملك الشيء موضوع خيانة الأمانة : يقوم بهذه النية ( القصد الخاص) في خيانة الأمانة . وقد أكدت محكمة النقض أهمية هذه النية ، فقالت (من المقرر أن القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة لا يتحقق بمجرد تصرف المتهم في الشيء المسلم إليه أو خلطه بماله ، وإنما يتطلب فوق ذلك ثبوت نية تملكه إياه وحرمان صاحبه منه) . " نقض 25 مايو سنة 1975 مجموعة أحكام محكمة النقض س26 رقم 106 ص454.
ولا تختلف هذه النية في عناصرها عن نية التملك في السرقة والنصب ؛ فهي تعني إرادة السلوك إزاء الشيء كما يسلك مالكه ، أي إرادة الحلول محل المالك في سلطانه على الشيء، فالمتهم يريد أن يباشر السلطات التي ينطوي عليها حق الملكية باسمه ولحسابه غير معترف المالك بالحقوق والسلطات التي كان سند حيازته يفرض على الاعتراف بها .
فإذا انتفت هذه النية فلا يتوافر القصد : فإذا كان المستعير لا يستهدف بتأخره في رد الشيء غير أن يطيل أمد انتفاعه به ، أو كان المستأجر لا يعنى باستعمال الشئ فى غير ما اتفق عليه سوى أن يحصل منه على أكبر قدر من الانتفاع ، فكانت إرادة كل منهما متجهة إلى مجرد الإخلال بالالتزام التعاقدي دون أن تجاوز ذلك إلى حرمان المالك من حقه والحلول محله على الشيء ، فإن القصد لا يتوافر بذلك .
وإذا كان موضوع خيانة الأمانة مالا مثليا ، فان نية التملك تفترض علم المتهم بالضرر ( ولو كان محتملا ) الذي قد ينزل بالمجني عليه ؛ وتفترض اتجاه إرادته إلى ذلك أو قبوله . ومثال ذلك ، أن ينفق الوكيل النقود التي سلمت إليه لحساب موكله في شئونه الخاصة عالما بإعساره ، وأنه لن يتوافر لديه مال لإيفاء الموكل حقه ، ويتوقع تبعا لذلك عجزه عن إبراء ذمته تجاهه ، فتتجة إرادته إلى ذلك نكاية فيه ، أو يقبل ذلك لأنه لا تعنيه مصالح موكله ولا يعبأ بفقد ثقته فيه . وتطبيقا لذلك ، فإنه إذا قرر الوكيل أن يستغل الأموال التي تسلمها لحساب موكله في مضاربات بالبورصة ، آملا أن يسترد هذه الأموال مضافا إليها أرباحها ، فيرد إلى الموكل ماله ويحتفظ لنفسه بالأرباح ، أو يسلم إلى الموكل جزءا من الأرباح أو كلها بالإضافة إلى ماله ، ولكن نتيجة المضاربة جاءت خاسرة فضاع رأس المال ولم يستطع أن يرده إلى الموكل . فإن الوكيل يسأل عن خيانة الأمانة ، لأنه توقع بالنظر إلى طبيعة عمليات المضاربة في البورصة احتمال الخسارة ( أي الضرر المحتمل) ، ولو كان هذا الاحتمال قليلا ، فقبله وأقدم على هذا التصرف في أموال موكله . ولكن إذا خلط الوكيل أموال موكله بأمواله الخاصة التى تفوقها ثم أودعها جميعا باسمه في مصرف متين المركز، وكان منتويا أن يسحب أموال الموكل بمجرد طلبه لها ويردها إليه ، ولم يتوقع احتمال إفلاس المصرف ، ولكن هذا المصرف أفلس ، فلم يستطع إبراء ذمته لدى مطالبته بذلك ، فإن القصد لا يتوافر لديه (36) .
(35) ، (36) : د/ محمود نجيب حسنى ، مرجع سابق ، ص 1217 وما بعدها .
**إثبات القصد
إثبات القصد (37) :
يخضع إثبات القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة للقواعد العامة في الإثبات في المواد الجنائية ، وإن كان يثير أحيانا بعض الصعوبات . ويستخلص قاضي الموضوع توافر القصد من فعل الجاني ، فهو يتحقق، كما قضت محكمة النقض، بتصرف الحائز في المال المسلم إليه على سبيل الأمانة بنية إضاعته على مالكه ولو كان هذا التصرف بتغيير حيازته الناقصة إلى ملكية كاملة مع بقاء عين ما تسلمه تحت يده . وقد يكون فعل الجاني دالا بذاته على قيام القصد، وأوضح ما يكون ذلك عندما يتخذ الفعل صورة التبديد ، إذ يعتبر التصرف في الشيء بالبيع أو الهبة أو المقايضة كافيا للقول بتوافر القصد.
أما إذا لم يصدر من الجاني فعل يدل على قيام القصد ، فلا يجوز استنتاج وجوده من مجرد تسليم الأشياء إلى الأمين وعدم رده لها . ولذلك قضى بأنه : " إذا كان الحكم قد أدان المتهم في تبديد أشياء تسلمها من المجني عليه بناء على مجرد قوله إن المتهم تسلم هذه الأشياء ثم لم يردها ، ولم يثبت قيام القصد الجنائي لدى المتهم وهو انصراف نيته إلى إضافة المال الذي تسلمه إلى ملكه واختلاسه لنفسه إضرارا بصاحبه- فذلك قصور يستوجب نقضه ".
ولكن يدق الأمر إذا اتخذ الفعل صورة الاختلاس حيث تتم الجريمة بمجرد تغيير نية الحائز من نية الحيازة المؤقتة إلى نية الحيازة الكاملة ، فيجب عندئذ أن يقوم الدليل على تغير النية ، ويستنتج القصد حينئذ من أي فعل يدل على هذا التغير، كإنكار الشيء أو إدعاء سرقته أو الفرار به . من ذلك ما قضى به من أنه إذا كانت الواقعة هي أن المتهم طلب إلى المجني عليه أثناء سيرهما معا في الطريق أن يسلمه السوارين اللذين معه مخافة أن يسقطا منه فأجابه إلى طلبه ، ولما وصلا إلى محطة السكة الحديد انتظر هو خارجها ، ولكن المتهم فر بالسوارين ولم يعد ، فالوصف الصحيح لهذه الواقعة هو أن تسلم المتهم السوارين كان على سبيل الوديعة وأن اختلاسه لهما هو خيانة للأمانة لا سرقة .
وأكثر الأفعال دلالة على تغير نية الحيازة لدى الجاني هو امتناعه عن رد الشيء عند مطالبته بذلك . وإذا كان الامتناع يعتبر قرينة على توافر القصد الجنائي لجريمة خيانة الأمانة ، فإن للمتهم أن ينفي هذه القرينة بكل الطرق ، ذلك أن القصد الجنائي لا يتحقق من مجرد قعود الأمين عن رد الأمانة .
ويلاحظ أن الجريمة لا تقع على الرغم من امتناع الأمين عن الرد إذا كان يستند في امتناعه إلى سبب مشروع ، كحق الحبس الذي تقرره له المادة 246 من القانون المدني التي تجيز له الامتناع عن الرد حتى يستوفي ما أنفقه على الشيء. وكوجود المقاصة إذا توافرت شروطها ، إذ تقرر المادة 362 من القانون المدني للمدين حق المقاصة بين ما هو مستحق عليه لدائنه وما هو مستحق له قبل هذا الدائن ، فيكون للأمين حينئذ ألا يرد الأمانة دون أن تقع بفعله جريمة خيانة الأمانة ، وأوضح ما يكون هذا الوضع حيث يوجد حساب بين الأمين والمجني عليه ، ولكن بشرط أن يكون دين الأمين مستحق الوفاء وقت المطالبة برد الأمانة ، وتطبيقا لذلك قضى بأنه إذا لم يكن التأمين المودع من المتهم لدى الشركة المستخدم فيها مستحق الوفاء طبقا لشروط الاستخدام فليس للمتهم أن يتمسك بحصول المقاصة بينه وبين ما عليه للشركة ، بل يجب عليه أن يرد لها كل ما يحصله من مال بصفته وكيلا عنها فإن لم يفعل رغم مطالبته عد مختلسا لما حصله وحق عليه العقاب . كذلك يشترط أن يكون الحساب حقيقيا الغرض من الدفع به تصفيته وإثبات وجود مقاصة تبرأ بها ذمة الأمين، فقد قضت محكمة النقض بأن مجرد وجود حساب بين الوكيل والموكل لا يستلزم حتما انتفاء جريمة التبديد ولا نية الاختلاس عند الوكيل ، فيجب على المحكمة أن تقوم بفحص الحساب وتصفيته حتى تستطيع بناء على ما يظهر لها أن تحكم في موضوع تهمة التبديد المرفوعة أمامها بالإدانة أو بالبراءة لأن قاضي الأصل هو قاضي الفرع . أما أن تبرئ المتهم بالتبديد لمجرد أن هناك حسابا بينه وبين المجني عليه وأن هذا الحساب لم يصف بعد بينهما فهذا مخالف للقانون .
كما قضت بأن مجرد الامتناع عن رد المال بسبب وجود حساب معلق لا تتحقق به أركان الجريمة وعلى المحكمة فحص الحساب وتصفيته بلوغا إلى غاية الأمر فيه.
وبديهي أن القصد الجنائي يجب أن يكون معاصرا لفعل الاختلاس أو الاستعمال أو التبديد . ولا يشترط لبيان القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة أن يتحدث عنه الحكم بعبارة صريحة مستقلة ، بل يكفي أن يكون مستفادا من ظروف الواقعة أن الجاني قد ارتكب الفعل المكون للجريمة عن عمد وبنية وحرمان المجني عليه من الشيء المسلم إضرارا به .
(37) د/ فوزية عبدالستار ، مرجع سابق ، ص 1019 .
**إثبات أركان جريمة خيانة الأمانة وعناصرها
- إثبات أركان جريمة خيانة الأمانة وعناصرها (25) :
يجوز إثبات هذه الأركان والعناصر بجميع طرق الإثبات أيا كانت قيمة الشيء موضوع الجريمة : فيجوز إثبات ارتكاب فعل الاختلاس أو التبديد أو الاستعمال بجميع الطرق ، ويجوز كذلك إثبات حصول الضرر، وإثبات القصد الجنائي بجميع الطرق . بل ان واقعة تسليم الشيء يجوز اثباتها بجميع الطرق.
**إثبات عقد الأمانة
- إثبات عقد الأمانة (26):
القاعدة أن إثبات عقد الأمانة يخضع لقواعد الإثبات التي قررها القانون المدني . وعله هذه القاعدة أن وجود العقد في ذاته " مسألة مدنية " ، فيقتضي المنطق أن يخضع إثباته للقواعد المدنية : فالجريمة ليست في وجود العقد حتى يخضع إثباته للقواعد الجنائية ، وإنما الجريمة في الإخلال به في صورة الاعتداء على ملكية المال الذي سلم بناء عليه . وعلى هذا النحو، فقد تقرر الأصل التالي " كيفية الإثبات ترتبط بنوع الموضوع المطروح على القضاء ، لا بنوع القضاء المطروح عليه الموضوع " : فإذا كانت المسألة مدنية خضع إثباتها للقواعد المدنية . ولو كانت معروضة على القضاء الجنائي.
ويعلل هذه القاعدة كذلك أنه إذا خول الشارع القضاء الجنائي أن يفصل في حقوق مدنية ، فإن ذلك لا يخول صاحب الحق أن يصل إلى حقه بغير الطريق الذي كان يسلكه أمام القضاء ذي الاختصاص الأصلي . ويعللها في النهاية أن قضاء القاضي الجنائي له حجيته على القاضي المدني ، ومن ثم تعين ألا يكتسبها إلا إذا استند إلى ذات وسائل الإثبات التي يقررها القانون المدني . وتطبق هذه القاعدة ، ولو لم يكن في الدعوى مدع مدني.
**تطلب الدليل الكتابي
- تطلب الدليل الكتابي (27) :
نصت المادة 60 من قانون الإثبات على أنه " في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانون تزيد قيمته على ألف جنية أو كان غير محدد القيمة ، فلا تجوز شهادة الشهود في إثبات وجوده أو انقضائه ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضى بغير ذلك " . والعبرة في تحديد قيمة التصرف هي بوقت صدوره ( المادة 60، الفقرة الثانية ) ، أي وقت التعاقد ، وليست بوقت النظر في الدعوي .
وتطبيقاً لذلك ، فإنه إذا كانت قيمة المال موضوع عقد الأمانة لا تزيد على ألف جنيهاً وقت التعاقد ، ولكنها صارت تزيد على ذلك عن النظر في الدعوى، فإن الإثبات بالبينة يكون جائزاً.
وقاعدة اشترط الدليل الكتابي إذا جاوزت قيمة التصرف ألف جنية لا تتعلق بالنظام العام ، ومن ثم يجوز الاتفاق على ما يخالفها ( المادة 60 من قانون الإثبات) ويجوز الاتفاق على ما يخالف هذه القاعدة وقت التعاقد أو وقت نظر الدعوي . ويجوز أن يكون الاتفاق في معني عدم تطلب الدليل الكتابي على الرغم من أن قيمة التصرف تزيد على ألف جنيهاً ، ويجوز أن يكون في معني اشترط الدليل الكتابي على الرغم من أن قيمة التصرف لا تزيد على ألف جنيهاً. وقد يستفاد قبول المدين ضمناً النزول عن اشتراط الدليل الكتابي أثناء نظر الدعوي، من عدم اعتراضه على الإثبات بالبينة الذي تقدم به خصمه ؛ ويستفاد من باب أولى من مساهمته في هذا الإثبات بمناقشته شهود الإثبات أو طلبه شهود نفي .
- الحالات التي لا يشترط فيها الدليل الكتابي علي الرغم من تجاوزقيمة العقد ألف جنيها : أهم هذه الحالات أن يكون العقد تجاريا ، وقد حرصت على الإشارة إلى هذا الاستثناء المادة 60 من قانون الإثبات ( في صدر فقرتها الأولى ). وذلك مع ملاحظة ان القانون التجاري تطلب الإثبات بالكتابة بالنسبة لعقود شركات المساهمة وشركات التضامن والتوصية.
ومن هذه الحالات كذلك أن يوجد مانع مادي أو أدبي يحول دون الحصول على الدليل الكتابي، أو أن يفقد المجني عليه سنده الكتابي بسبب أجنبي لا يد له فيه ( المادة 63 من قانون الإثبات) . والفصل في وجود المانع وما يترتب عليه من جواز الإثبات بالبينة من شأن قاضي الموضوع .
ومن هذه الحالات كذلك أن يوجد مبدأ ثبوت بالكتابة ، فقد نصت المادة 62 من قانون الإثبات على أنه " يجوز الإثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب إثباته بالكتابة إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة . وكل كتابة تصدر من الخصم ويكون من شأنها أن تجعل وجود التصرف المدعي قريب الاحتمال تعتبر مبدأ ثبوت بالكتابة " . ويتضح من هذا النص أن مبدأ الثبوت بالكتابة يفترض وجود كتابة ، وصدورها عن المتهم نفسه أو عن ممثله القانوني، وأن يكون من شأنها جعل وجود عقد الأمانة قريب الاحتمال . ومن أمثلة ما اعتبر مبدأ ثبوت بالكتابة اعتراف المتهم الضمني بوجود العقد ، واعترافه المنطوي على تناقض فيما بين أجزائه ، وأقواله في محضر الاستدلال أو التحقيق الابتدائي .
الحالات التي يشترط فيها الدليل الكتابي على الرغم من عدم تجاوز قيمة العقد ألف جنيها : أهم هذه الحالات عدم جواز الإثبات بشهادة الشهود " فيما يخالف أو يجاوز ما اشتمل عليه دليل كتابي" ( المادة 61 من قانون الإثبات الفقرة أ) . فإذا أثبت العقد استلام المتهم المال المودع لدية أو المؤجر له أو أثبت تسلم الوكيل مبلغاً محدداً ، فلا يجوز إثبات ما يخالف ذلك أو يجاوزه عن طريق شهادة الشهود . ولكن يقيد من هذا الأصل أنه إذا كان العقد المكتوب يتضمن احتيالا على القانون ، كما لو كان عقداً صورياً منطوياً على غش يخفى عقداً حقيقيا، فإنه يجوز إثبات العقد الحقيقي بجميع الطرق . وذلك " لاختلاط الغش بالصورية ، حتى صارت هذه أداة الغش " .
- عدم تقيد المحكمة باشتراط الدليل الكتابي عند قضائها بالبراءة:
قضت محكمة النقض بأن" المحكمة في جريمة خيانة الأمانة في حل من التقيد بقواعد الإثبات المدنية عند القضاء بالبراءة ، لأن القانون لا يقيدها بتلك القواعد إلا عند الإدانة في خصوص إثبات عقد الأمانة إذا زاد موضوعه على ألف جنيهاً احتياطياً لمصلحة المتهم حتى لا تتقرر مسئوليته وعقابه إلا بناء علي الدليل المعتبر في القانون ، ولا كذلك البراءة لإنتفاء موجب تلك الحيطة وأسلاسا لمقصود الشارع في ألا يعاقب برئ مهما توافر في حقه من ظواهر الأدلة " .
**إثبات العقد عن طريق الاقرار
- إثبات العقد عن طريق الاقرار (28) :
إذا أقر المتهم بوجود عقد الأمانة كان إقراره حجة عليه ، وأعفي الادعاء من إثبات العقد ، والإقرار حجة أيا كانت قيمة العقد ( المادتان 103، 104 من قانون الإثبات) . وتطبق القواعد المدنية في شأن الإقرار أمام القضاء الجنائي ، سواء من حيث أركانه أو حيث أثره : فمن حيث تعريفه وأركانه ، لا يعتبر الإقرار دليل إثبات كامل إلا إذ صدر أمام القضاء ، أي أثناء جلسه المحاكمة ، ومن ثم لا يعتبر إقراراً ما يصدر عن المتهم في محضر التحقيق الابتدائي أو محضر الاستدلال ؛ وليست للإقرار حجية إلا في خصوص الدعوى التي صدر فيها. ومن حيث أثره ، فهو حجة قاطعة على المتهم ، فيعتبر العقد ثابتاً دون حاجة إلى تقديم دليل آخر . وباعتباره حجة قاطعة ، لا يجوز الرجوع فيه ، ولكن يجوز- باعتباره تعبيراً عن إرادة - الطعن فيه للغط أو التدليس أو الإكراه.
والإقرار غير قابل للتجزئة كأصل عام ، ولكنه يقبلها " إذا انصب على وقائع متعددة وكان وجود واقعة منها لا يستلزم حتما وجود الوقائع الأخرى" : فإذا أقر المتهم أنه تسلم النقود ولكن على سبيل القرص ، أو أقر أنه تسلم الشيء وأنه بعد ذلك رده ، أو أقر أنه تسلم النقود وأنه بعد ذلك استعملها في الغرض الذي حدده له المجني عليه ، فلا يجوز تجزئة هذا الإقرار، وأخذ المتهم باعترافه بواقعة التسليم ، ورفض ما أضافه إلى ذلك من تحديد لسند التسليم أو لواقعة أعقبته تفترض حتما واقعة التسليم ، ذلك أنه لا رد إلا بعد تسليم سابق ، ولا استعمال لمال في غرض معين إلا بعد سبق تسليمه . أما إذا أقر المتهم أنه تسلم النقود من المجني عليه ، وأضاف إلى ذلك أنه صار بعد ذلك دائناً له على نحو انقضي به الدينان بالمقاصة ، فإنه يجوز تجزئة هذا الإقرار ، والأخذ بشقه الخاص بتسلم المال واعتبار ذلك ثابتاً في حق المتهم ، ورفض شقة الخاص بدائنيته للمجني عليه وما يستتبعه ذلك من انقضاء حق المجني عليه.
**إثبات العقد عن طريق اليمين
- إثبات العقد عن طريق اليمين (29) :
هل يجوز إثبات عقد الأمانة عن طريق اليمين ؟ اليمين اما حاسمة وأما متممة وصورة اليمين الحاسمة في دعوى خيانة الأمانة أن يعوز المجني عليه الدليل الكتابي على عقد الأمانة فيوجه إلى المتهم اليمين ، ويحتكم بذلك إلى دينه وضميره ، فإذا حلف بأنه لا وجود للعقد اعتبرت الجريمة غير متوافرة الأركان ، أما إذا نكل عن اليمين اعتبر العقد قائما ، وقضي بإدانته إذا توافرت سائر أركان جريمته .
وصورة اليمين المتممة أن يوجد دليل غير كامل على عقد الأمانة ، فيسعي القاضي إلى تكملته عن طريق اليمين ، مثال ذلك أن يوجد مبدأ ثبوت فيسعي القاضي إلى تكلمته عن طريق اليمين المتممة بوجهها إلى المجني عليه بالكتابة ثم لا يوجد دليل يكلمه كشهادة منصبة مباشرة على العقد ، أو المتهم ، أيهما يوحي بثقة أكثر في تقديره .
ويقول د/ محمود نجيب حسنى : لا نرى ما يحول بين المجني عليه الذي لا يحوز دليلاً على عقد الأمانة وبين أن يوجه اليمين الحاسمة إلى المتهم ، فلا وجود لقاعدة تحظر عليه ذلك ، ثم ان موضوع الإثبات ( أي العقد) مدني بحت ، ومن ثم يخضع إثباته للقواعد المدنية ، ومن بينهما جواز توجيه اليمين الحاسمة. ولكن محكمة النقض الفرنسية رفضت ذلك ، وعللت رفضها بأنه لا يجوز توجيه اليمين أمام القضاء الجنائي . وهذه الحجة غير صحيحه فما يمتنع توجيهه هو اليمين التي يكون موضوعها الفعل الإجرامي ، إذ لا يجوز وضع المتهم في الحرج ، واما أن يحنث في يمينه واما أن يعترف بجريمته إذ يعتبر ذلك نوعا من الإكراه على الاعتراف . ولكن ذلك غير متحقق في الفرض الذي نعاجله ، فموضوع اليمين ليس الفعل الإجرامي ، ولكنه عقد مدني . وقد أجمع الفقه والقضاء على وجوب معالجته من حيث الإثبات كما يعالج أي موضوع مدني . وليس ثمة ما يحول كذلك دون أن يوجه القاضي اليمين المتممة إلى المتهم أو المجني عليه ليستكمل الدليل الذي توافر لديه كي يصل إلى اقتناع في شأن وجود العقد أو عدم وجوده . وأوضح فروض توجيه اليمين المتممة أن يوجد مبدأ ثبوت بالكتابة على وجود العقد ، ولا توجد شهادة أو قرينة تكمل هذا المبدأ، فيستكمل القاضى عن طريق اليمين المتممة اقتناعه ، تبعاً لما إذا حلف أو نكل من وجهت إليه هذه اليمين.
(24) ، (25) ، (26) ، (27) ، (28) ، (29) : د/ محمود نجيب حسنى ، مرجع سابق ، ص 1156 وما بعدها .
**الركن المادي لخيانة الأمانة
الركن المادي لخيانة الأمانة (30)
تمهيد : عبر الشارع في المادة 341 من قانون العقوبات عن الركن المادي لجريمة خيانة الأمانة بقوله " كل من اختلس أو استعمل أو بدد مبالغ أو أمتعة.. اضرارا بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها " . وقد أشار الشارع بألفاظ " اختلس أو استعمل أو بدد " الى الفعل الذي تقوم به الجريمة ، وأشار بلفظ " اضرارا " إلى الضرر الذي يترتب علي الفعل وتقوم به النتيجة الإجرامية . ويعني ذلك ان الركن المادي لخيانة الأمانة يتطلب فعلاً ونتيجة وعلاقة سببه تربط بينهما .
الفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة
**النظرية العامة للفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة
النظرية العامة للفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة :
على الرغم من تنوع الصور التي يتخذها الفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة ، إذ قد يكون اختلاساً أو تبديدا أو استعمالاً ، فإنها تجتمع في إطار نظرية عامة جوهرها فكرة " تغيير المتهم نوع حيازته " فالفرض أن المتهم كان يحوز الشيء المملوك لغيره حيازة ناقصة يعترف فيها بحقوق المجني عليه ويسلم له بسلطاته على الشيء ، ويقر بأن ذلك الشيء موجود في حيازته على نحو مؤقت كي يؤدي عليه أو بواسطته عملاً معيناً بتصريح من المجني عليه ؛ ولكنه وجه إرادته إلى تغيير نوع حيازته إلى حيازة كاملة ، فجحد حقوق المجني عليه ، وأنكر سلطاته على الشيء ، وقرر الاحتفاظ به لنفسه ، سالكا إزاءه مسلك المالك. وقد عبرت محكمة النقض عن هذه الفكرة في قولها " ان جريمة خيانة الأمانة تتحقق بكل فعل يدل على أن الأمين اعتبر المال الذى أؤتمن عليه مملوكاً له يتصرف فيه تصرف المالك " .
ويتضح بذلك أن جوهر الفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة هو هذا " الاتجاه الإرادي" هو" إرادة تغيير نوع الحيازة من ناقصة إلى كاملة " ، بما يفترضه ذلك بالضرورة من ادعاء سلطات المالك على الشيء وإهدار سلطات المالك الشرعي . ويعني ذلك أن جوهره ظاهرة نفسية قوامها الاتجاه الإرادي السابق. ولكن الفعل لا يقوم بظاهرة نفسية فحسب ، بل لا بد له من ماديات تعبر عن هذه الظاهرة ، وتتيح له أن يحتل مكانة بين عناصر الركن المادي للجريمة . وقد اجتهد الشارع في تحديدها بالألفاظ الثلاثة التي استخدمها في نص خيانة الأمانة.
**عنصر الضرر في خيانة الأمانة
عنصر الضرر في خيانة الأمانة (34 ) :
لا يكفي لتوافر الركن المادي في خيانة الأمانة أن يعتدي الجاني على ملكية الشيء الذي أؤتمن عليه بفعل يتخذ صورة الاختلاس أو التبديد أو الاستعمال، وإنما يلزم بالإضافة إلى ذلك أن يكون من شأن هذا الفعل إلحاق الضرر بالمجني عليه سواء كان هو مالك الشيء أو غيره . وقد تطلب المشرع عنصر الضرر صراحة بنصه في المادة 341 عقوبات على عقاب " كل من اختلس أو استعمل أو بدد مبالغ أو أمتعة .... إضرارا بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها ".
فالضرر عنصر في الركن المادي في خيانة الأمانة لا تقوم هذه الجريمة بدونه. وفي هذا تختلف خيانة الأمانة من ناحية عن السرقة والنصب من ناحية أخرى، حيث أنه لا يلزم لقيام الجريمتين الأخيرتين سوى وقوع الاعتداء على الملكية بالوسيلة التي حددها القانون في كل منهما وذلك بغض النظر عن حدوث ضرر نتيجة لهذا الاعتداء أم لا ، كما إذا كان استيلاء الجاني على المال المملوك لغيره بمقابل يعادل قيمته . ومن التطبيقات العملية لانتفاء جريمة خيانة الأمانة بسبب تخلف الضرر أن يكون للوكيل في ذمة موكله دين نقدي مستحق الوفاء لا تقل قيمته عما بدده من المبالغ التي حصلها لحساب هذا الأخير، ففي هذه الحالة يقبل من الوكيل الدفع بحصول المقاصة بين ما هو مستحق له وبين المبالغ التي بددها فلا يسأل عن خيانة الأمانة لتخلف عنصر الضرر .
غير أنه لا يشترط في الضرر أن يكون محققا أي واقعا فعلا ، بل يكفي أن يكون محتمل الوقوع . وتطبيقا لذلك حكم في فرنسا بأنه إذا عهد شخص لآخر بتقديم أوراق معينة إلى إحدى المصالح وسلمه مبلغا من النقود لكي يشتري به طوابع أميرية يلصقها على هذه الأوراق قبل تقديمها فتمكن المستلم من الحصول على طوابع مستعملة ولصقها بعد أن محا الختم الذي كان عليها ثم قدم الأوراق إلى المصلحة المختصة التي اعتمدتها دون أن تفطن إلى هذا التلاعب واختلس هو النقود التي كانت قد سلمت إليه من صاحب الأوراق فهذا الاختلاس تقوم به جريمة خيانة الأمانة ، إذ أن صاحب الأوراق معرض للرجوع عليه بثمن الطوابع .
كذلك قضى عندنا بأنه متى كان الحكم قد أثبت وجود عجز في أكياس السماد التي سلمت إلى مشتريها من الجمعية الزراعية ثم دان أمين الشونة ومساعده في تبديد السماد فلا يجدي في دفع التهمة عنهما القول بأن ركن الضرر غير متوفر في الجريمة إذ الجمعية الزراعية قد حصلت على كامل حقها ، إذ هذا القول مردود بأنه يكفي لتحقيق الجريمة أن يلحق بالمشترين من الجمعية ضرر حتى يتعدى الضرر إليها أيضا.
ولا يلزم كذلك أن يكون الضرر ماديا ، وإنما يجوز أن يكون أدبيا محضا كالضرر الذي يتحقق بتبديد أشياء ليست لها سوى قيمة تذكارية ، والضرر الذي يصيب المجني عليه في سمعته أو اعتباره . ولهذا قضى مثلا بأنه يعد خائنا للأمانة العامل بإحدى شركات الألبان الذي يضيف إلى اللبن المسلم إليه لتوزيعه كمية من الماء ويحتفظ لنفسه بثمن الزيادة في اللبن الناجمة عن الخلط بالماء، وذلك لأن الشركة المجني عليها وإن لم يلحقها ضرر مادي لأنها حصلت على ثمن اللبن الذي سلمته إلى العامل لتوزيعه كاملا إلا أنها معرضة مع ذلك لأن يصيبها ضرر أدبي يتمثل في إهدار سمعتها وفقدان ثقة عملائها.
ويسوي القانون أخيرا بين الضرر الذي يصيب مالك الشيء أو صاحبه وبين الضرر الذي يلحق واضع اليد عليه . وقد قصد القانون بذلك أن يصل بالعقاب إلى الجاني حيث يكون الشيء قد سلم إليه من شخص آخر خلاف مالكه سواء كان هذا الشخص حائزا للشيء كمستأجره أومرتهنه رهنا حيازيا أو كانت يده عليه لا تعدو أن تكون يدا عارضة كما هو الشأن في حالة الخادم الذي يعير أحد الجيران شيئا مملوكا لمخدومه . ففي هذه الحالات إذا اختلس الأمين الشيء أو بدده عد خائنا للأمانة ولو أن الضرر المباشر المترتب على فعله يلحق شخصا آخر خلاف مالك الشيء هو حائزه السابق أو من كانت له عليه اليد العارضة ، ويتمثل هذا الضرر في إلزامه بالتعويض قبل المالك .
(34 ) د/ عمر السعيد رمضان ، مرجع سابق ، ص 652 وما بعدها .
**تمام الجريمة والعقاب عليها
تمام الجريمة والعقاب عليها (38)