ظهور الدساتير
تنشأ
الدساتير بأساليب مختلفة ومتعددة، وقبل التعرض لأساليب نشأتها يتوجب علينا بحث
تاريخ، مكان وأسباب ظهورها والتطور الذي عرفته بفعل تزايد مهام الدولة.
1. تاريخ ومكان ظهور أول دستور:
إذا رجعنا لتاريخ العالم الإسلامي نجد أن أول
دستور عرف بالمفهوم الفني الحديث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرف
"بالصحيفة"، تلك الوثيقة التي أعدها رسول الإسلام لتنظيم أحوال دولة
المدينة بعد أن انتقل إليها من مكة.
البعض يرى بأن الحركة الدستورية أو أول بداية
لظهور الدستور تعود إلى القرن الثالث عشر وبالتحديد سنة 1215 عندما منح
الملك جان ستير الميثاق الأعظم للنبلاء الانجليز الثائرين عليه. والبعض الآخر
يؤكدون بأن تاريخ ظهور الحركة الدستورية الأولى بدأت تظهر معالمها في القرن السابع
عشر عندما وضع الجناح المؤيد لكرومويل في المجلس العسكري دستورا، وان كان البرلمان
وكرومويل ذاته لم يساندا ذلك المشروع فبقي كذلك بحيث لم يعرض على الشعب، وان كانت
بعض نصوصه اعتمدت فيما بعد لتنظيم السلطة وعادت فيما بعد مصدرا لتنظيم السلطة في
الولايات المتحدة الأمريكية(1).
أما
أول الدساتير المكتوبة ظهرت في المستعمرات البريطانية بأمريكا الشمالية كرد فعل للانفصال
عن إنكلترا، فأول دستور عرفه العالم الغربي في ولاية فرجينيا دستور جوان 1776، وقد
سابقه الإعلان للحقوق الذي يعتبر القاعدة الأساسية لأي حكومة في فرجينيا، ثم تلى
ذلك في عام 1781 صدور
دستور الاتحاد التعاهدي، وفي عام 1787 صدر الدستور الاتحادي للولايات المتحدة
الأمريكية. فالمثل الأمريكي كان سببا لاقتداء العديد من الدول به كفرنسا مثلا،
عرفت أول دستور مكتوب عام 1791، وقد سبقها قبل ذلك إعلان حقوق الإنسان
والمواطن الذي صدقت عليه الجمعية الوطنية في أوت 1789. فقد
أصبحت الدساتير المكتوبة من خصائص الدول الحديثة، نتيجة لرواج الأفكار الديمقراطية
والحركات السياسية التي نادت بمبدأ السيادة الشعبية، وبلورة فكرة العقد الاجتماعي،
ومبدأ الفصل بين السلطات...أمام هذه المزايا العديدة انتقات فكرة الدساتير
المكتوبة الى العديد من الدول الأوروبية، فصدر دستور السويد سنة 1809، والنرويج
وبلجيكا سنة 1831، وعلى إثر
الحرب العالمية الأولى، زاد انتشار الدساتير المكتوبة كنتيجة منطقية للحد من
التعسف في استعمال السلطة فصدر دستور روسيا يوم 10 يوليو 1918، فدستور
تركيا 1924ودستور
النمسا 1 أكتوبر 1920 (1).
2. أسباب ودوافع وضع الدساتير:
إن انهيار الحكم الملكي المطلق بعد الثورات
الأوربية وسيطرة البرجوازية على السلطة إلى جانب ظهور فكرة القومية وانحسار الاستعمار
كانت من الأسباب والدوافع الرئيسية في دسترة أنظمة الحكم، وكان غرض شعوب تلك
الأنظمة إثبات سيادتها الداخلية واستقلاليتها، وذلك بواسطة تنظيم الحياة السياسية
بوضع دستور يبين السلطات وعلاقاتها في الدولة الجديدة وعلاقاتها بالمحكومين والدول
الأخرى. وأن هذه الدول بوضع الدستور تؤهل نفسها لإقامة حوار بين السلطة والحرية
فكأنها تعلن للغير بأنها وصلت إلى مرحلة النضج السياسي، ولها الحق في الانضمام
للمجتمع الدولي(2). وكما أشرنا سابقا
على إثر الحرب العالمية الأولى، زاد انتشار الدساتير المكتوبة كنتيجة منطقية، بحيث
حددت اختصاصات الحكام ومدى السلطات التي تحت أيديهم
والواجبات المفروضة عليهم حتى لا تتكرر نفس التجربة (التعسف في استعمال السلطة)،
كما أن حركة التحرر، ساهمت بشكل فعال في انتشار هذه الظاهرة، بالأخص إذا علمنا أن
أغلب هذه الدول تفتقر إلى رصيد دستوري، كانعدام حياة دستورية سابقة..أو عدم وجود
أعراف سابقة..كل هذا كان سببا مباشرا لوضع دستور مكتوب الى جانب ضرورة اقتناء
وتدوين وثيقة دستورية للإنضمام في المجتمع الدولي مثل غينيا قد اعلن عن استقلالها
يوم 02 أكتوبر 1958، وفي ذلك الوقت كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة
منعقدة، ولكي يضمن الرئيس سيكوتوري الحصول على الموافقة، أصدر دستور في 10 نوفمبر 1958، واعلنت الأمم المتحدة عن قبولها كعضو في 12 نوفمبر 1958. وفي الكويت دستور 1962 إذ كانت قد قبلت في جامعة الدول العربية في 30 يوليو 1961 بمجرد اعلان استقلالها في 19 يونيو 1961، فإنها لم تقبل في
المم المتحدة ولم تنظم الى المجتمع الدولي إلا في 14 مايو 1963 أي بعد صدور دستورها في 11 نوفمبر 1962، وإذا كانت حركة الدساتير المكتوبة قد سادت الدول العربية، إلا أن بعض دول
الخليج تفتقر إلى دستور مكتوب ولا يوجد فيها دستور مدون على نسق الدساتير المعاصرة(3).
المبحث الثاني
الأساليب غير الديمقراطية لنشأة
الدساتير
يمكن
تعريف الأساليب غير الديمقراطية لنشأة الدساتير بأنها الأساليب التي لا يستأثر
الشعب وحده في وضعها، وإنما الذي يضعها هو الحاكم وحده (منحة) أو بالاشتراك مع
الأمة أو الشعب (عقد). وهما أسلوبان تزامنا مع تطور الملكية من ملكية مطلقة إلى
ملكية مقيدة(1).
1.
أسلوب المنحة:
يصدر الدستور في شكل
منحة إذا تنازل الحاكم بإرادته المنفردة عن بعض سلطاته للشعب، أو أن يحددها ببعض
القيود، بواسطة قواعد قانونية يمن بها على شعبه في صورة دستور. والأصل في هذه الدساتير
أن الحاكم هو مصدر السلطات، ومنبع الحقوق والحريات، يجمع بين يديه الوظائف والاختصاصات،
ومن بينها الاختصاص التأسيسي. غير أن انتشار الأفكار الديمقراطية، ونضج وعي الشعوب
بحقوقها، والدعوة إلى الحد من من السلطان المطلق، دفع الحكام إلى منح شعوبهم
دساتير، تنازلوا بموجبها عن جزء من سيادتهم، ليظهروا بمظهر المتفضلين على شعوبهم،
قبل أن تجبرهم الأوضاع على التنازل عن جٌل سيادتهم، وبالتالي يفقدون هيبتهم
وكرامتهم.
وهكذا؛ وعلى الرغم من أن الشكل الخارجي للدستور الصادر بطريق المنحة يظهر على أنه
عمل قانوني صادر بالإرادة المنفردة للحاكم، فإن الدستور لم يكن ليصدر إلا نتيجة
لضغط الشعوب على حكامها، ووعيها بحقوقها، وخوف الحاكم من ثورتها وتمردها. ويسجل
لنا التاريخ أمثلة كثيرة لدساتير صدرت بطريق المنحة، ومنها الدستور الفرنسي لعام 1814 الذي
أصدره لويس الثامن عشر للأمة الفرنسية ، وجدير بالذكر إن معظم دساتير الولايات
الألمانية في القرن التاسع عشر صدرت بهذه الطريقة. ومن أمثلة الدساتير الممنوحة
كذلك: الدستور الإيطالي لعام 1848 والدستور الياباني لعام 1889، ودستور
روسيا لسنة 1906، وإمارة
موناكو لعام 1911، وكذلك
الدستور المصري لعام 1923، ودستور إثيوبيا لعام 1931، والقانون الأساسي لشرقي
الأردن لعام 1926، ودستور الإمارات العربية المتحدة لسنة 1971 وكذلك الدستور
القطري لسنة 1971(2).
ونتيجة لصدور الدستور بطريقة المنحة يثور تساؤل هام، حول قدرة الحاكم الذي منح الدستور
هل له الحق في سحبه أو إلغائه ؟ وللإجابة على هذا السؤال انقسم الفقه إلى اتجاهين
:-
*
يذهب أولهما إلى قدرة الحاكم على استرداد دستوره طالما كان هذا الدستور قد صدر
بإرادته المنفردة، عل شكل منحة، لأن من يملك المنح يملك الاسترداد. يساند هذا الرأي
أمثلة حدثت فعلاً، حيث أصدر شارل العاشر
ملك
فرنسا قراراً ملكياً عام 1830 بإلغاء دستور عام 1814، تحت حجة
أن المنحة أو الهبة في الحقوق العامة تشبه الهبة في الحقوق الخاصة، وكما يحق
للواهب الرجوع عن الهبة. يحق للملك الرجوع عن دستوره، إذا صدر عن الشعب جحود
للمنحة ونكران للجميل.
*ويذكر ثانيهما على الحاكم حق استرداد دستوره،
ما دام هذا الدستور قد صدر، حيث تترتب عليه حقوق للأمة، فلا يحق للحاكم - عندها -
المساس به إلا بالاستناد إلى الطرق القانونية المقررة بالدستور نفسه، حتى التسليم
بأن صدور الدستور كان وليداً للإرادة المنفرد للحاكم، لأن هذه الإرادة تصلح أن
تكون مصدراً للالتزامات، متى ما صادفت قبولاً من ذوي الشأن. وجدير بالإشارة أن
الدستور الصادر بطريقة المنحة يدرس على اعتبار أنه مرحلة تاريخية، تمثلت بالانتقال
من الملكيات المطلقة إلى الملكيات المقيدة، وقد انقضت وانتهت هذه المرحلة منذ زمن،
نتيجة لزوال الحكم الفردي، واستعادة معظم الشعوب لكامل حقوقها في السيادة والسلطة.
ومع ذلك، فما زالت بعض الدساتير تعتمد على الإرادة المنفردة للحاكم، في نشأتها وفي
إصدارها، منذ تسلمه للسلطة وحتى مماته، وإن أمكن استبداله بغيره...وقائمة الدساتير
التي صدرت بهذه الطريقة كبيرة. ولنا بعالمنا العربي أمثلة متعددة، حتى أن بعضها لا
يزال نافذاً إلى يومنا هذا(1).
2.
أسلوب العقد أو الاتفاق:
ينشأ
الدستور وفق طريقة العقد بناء على اتفاق بين الحاكم من جهة والشعب من جهة أخرى. أي
لا تنفرد إرادة الحاكم بوضع الدستور كما هو الحال في صدور الدستور على شكل منحة،
وإنما يصدر الدستور تبعاً لهذه الطريقة بتوافق إرادتي كل من الحاكم والشعب. ويترتب
على ذلك ألا يكون بمقدور أي من طرفي العقد الانفراد بإلغاء الدستور أو سحبه أو
تعديله. وعلى هذا النحو تٌمثل طريقة العقد أسلوباً متقدماً على طريقة المنحة، لأن
الشعب يشترك مع الحاكم في وضع الدستور في طريقة العقد، بينما ينفرد الحاكم بوضع
الدستور في طريقة المنحة. وبناء على ذلك؛ يعد أسلوب العقد مرحلة انتقال باتجاه
الأساليب الديمقراطية. خاصة وأن ظهور هذا الأسلوب - لأول مرة - كان نتيجة لنشوب
ثورات، في كل من انجلترا وفرنسا. ففي إنجلترا ثار الأشراف ضد الملك جون، فأجبروه
على توقيع العهد الأعظم في عام 1215، الذي يتعبر مصدراً أساسياُ للحقوق
والحريات. وبنفس الطريقة؛ تم وضع وثيقة الحقوق لعام1689 بعد اندلاع
ثورة ضد الملك جيمس الثاني، حيث اجتمع ممثلون عن الشعب، ووضعوا هذه الوثيقة، التي
قيدت سلطات الملك، وكفلت الحقوق والحريات الأساسية للأفراد. وتمت دعوة الأمير وليم
الأورنجي لتولي العرش، على أساس الالتزام بالقيود
الواردة بالوثيقة. وتشكل هاتان الوثيقتان جزءاً
هاماً من الدستور الإنجليزي الذي يتكون معظمه من القواعد العرفية.
أما في فرنسا فقدر صدر أول دستور فيها بطريقة العقد إثر ثورة سنة 1830 ضد الملك
شارل العاشر، ووضع مشروع دستور جديد من قبل جمعية منتخبة من قبل الشعب، ومن ثم
دعوة الأمير لويس فيليب لتولي العرش، إذا قبل بالشروط الواردة بالدستور الجديد.
وبعد قبول الأمير بهذه الشروط نودي به ملكاً على فرنسا.
ويشار كذلك؛ إلى أن جميع الدساتير التي صدرت بطريقة العقد كانت من عمل جمعيات
منتخبة، والأمثلة على هذا النوع من الدساتير عديدة نذكر منها الميثاق الأعظم في
انجلتلرا سنة 1215 الذي هو جزء من دستور انجلترا، وكذلك قانون الحقوق الصادر سنة
1688 في نفس البلد، ودساتير كل من اليونان لسنة1844، ورومانيا
لسنة 1864، وبلغاريا
لسنة 1979، والقانون
الأساسي العراقي لعام 1925، والدستورين الكويتي لسنة 1962 والبحريني لسنة 1973. حيث
وضعت المجالس التشريعية في هذه الدول الدساتير المذكورة، ثم دعت أمراء أجانب لتولي
العرش على أساس الالتزام بأحكامها. وعلى الرغم من أن أسلوب العقد يعد أسلوبا
تقدمياً أكثر من أسلوب المنحة، فإنه لا يعد أسلوبا ديمقراطيا خالصاً، لأنه يضع إرادة
الحاكم على قدم المساواة مع إرادة الشعب، بينما تفترض الديمقراطية أن يكون الشعب
هو صاحب السيادة، لا يشاركه فيها ملك ولا أمير.
المبحث الثالث
الأساليب الديمقراطية لنشأة
الدساتير
يمكن تعريف الأساليب الديمقراطية في وضع الدساتير، بأنها
الأساليب التي تستأثر الأمة وحدها في وضعها دون مشاركة الحاكم ملكا كان أو أميرا
أو رئيسا للجمهورية. وبغض النظر عن التفصيلات والإجراءات المتبعة في وضع الدساتير
داخل إطار هذا المفهوم الديمقراطي في وضع الدساتير، يمكن جمع هذه الأساليب في
أسلوبين رئيسيين هما الجمعية التأسيسية وأسلوب الاستفتاء الشعبي(1).
1. أسلوب الجمعية التأسيسية:
تعد نشأة الدساتير
وفقاً لهذا الأسلوب منطلقة من مبدأ السيادة الشعبية، كما ينظر إليه أيضاً على أنه
من الأساليب الديمقراطية لخلق الدساتير حيث يمثل مرحلة أكثر تقدماً في نضال الشعوب
ضد الحاكم المطلق.
ويصدر الدستور وفقاً لأسلوب الجمعية التأسيسية
من مجلس أو جمعية تنتخب بصفة خاصة من الشعب ونيابة عنه، يعهد إليها بمهام وضع
وإصدار دستور جديد يصبح واجب النفاذ. ولذا فإن هذه الجمعية التأسيسية أو كما يطلق
عليها البعض اسم الجمعية النيابية التأسيسية هي في الواقع تجمع كل السلطات في
الدولة فهي سلطة تأسيسية تشريعية وتنفيذية. وهذا الأسلوب في وضع الدساتير هو الذي
تم إتباعه في وضع معظم الدساتير التي ظهرت عقب الحرب العالمية الأولى والحرب
العالمية الثانية. وكأمثلة تاريخية على أسلوب الجمعية التأسيسية نذكر دساتير
الولايات المتحدة الأمريكية عقب استقلالها من إنجلترا عام 1776م كما
اتخذته أمريكا أسلوباً في وضع وإقرار دستورها الاتحادي لعام 1787م وقد
انتشرت هذه الطريقة فيما بعد فاعتمد رجال الثورة الفرنسية هذا الأسلوب من ذلك دستور فرنسا لعام 1791م، وعام 1848م، وعام 1875م، وقد انتهج هذه الطريقة كل من اليابان
عام 1947م،
والدستور الإيطالي عام 1947م، والدستور التشيكوسلوفاكي عام 1948م، والدستور الروماني
عام 1948م،
والدستور الهندي 1949م، والدستور السوري عام 1950 وتعد هذه الطريقة أكثر ديمقراطية من الطريقتين
السابقتين، إذ أن الدستور يقوم بوضعه في هذه الحالة جمعية منتخبة من الشعب.
كما
أن هذه الطريقة تحتوي على العديد من المخاطر يمكن تلخيصها كالآتي:
2. أسلوب الاستفتاء الشعبي أو الاستفتاء الدستوري:
ينشأ الدستور وفقاً لهذا الأسلوب من خلال
الإرادة الشعبية الحرة، إذ يفترض أن يقوم الشعب أو يشترك بنفسه في مباشرة السلطة
التأسيسية، في هذه الحالة يصدر
الدستور مباشرة من الشعب الذي يوكل الأمر إلى جمعية منتخبة تكون مهمتها وضع مشروع
الدستور أو إلى لجنة معينة من قبل الحكومة أو البرلمان إن وجد، ومن أجل أن يكون استفتاء
دستوري يجب أن تكوّن أولا هيئة أو لجنة تقوم بتحضير مشروع الدستور وعرضه على الشعب
لاستفتائه فيه، لأخذ رأي الشعب في مشروع الدستور ، ولكن هذا المشروع لا تصبح له
قيمة قانونية إلا بعد عرضه على الشعب واستفتائه فيه وموافقته عليه. علماً بأنه
ليس بلازم أن تقوم بوضع الدستور -المراد الاستفتاء عليه- جميعة تأسيسية نيابية،
وإنما يفترض أن تكون هناك هيئة أو جمعية أو لجنة أو شخصية، قد أسند إليها وقامت
بالفعل بإعداد مشروع الدستور، كما حدث بالنسبة لبعض دساتير العالم. ولا
يختلف الأمر إذا كانت هذه الجمعية أو اللجنة التحضيرية للدستور منتخبة أو معينة،
إذ تقتصر مهمتها على مجرد تحضير الدستور فحسب تمهيداً لعرضه على الشعب للاستفتاء
عليه بالموافقة أو بالرفض، ويعتبر تاريخ إعلان نتيجة الاستفتاء هو الفصل في بدء
سريان الدستور والعمل بأحكامه.
وإذا كان بعض الفقهاء قد ذهب إلى عدم اعتبار أسلوب الاستفتاء الشعبي أسلوبا
متميزا عن أسلوب الجمعية التأسيسية أي عدم التفرقة بين الجمعية التأسيسية
والاستفتاء السياسي على أساس طريقة واحدة، بل يعتبرون الاستفتاء مكملا للجمعية
التأسيسية، فهو حلقة له ويستدلون بالعديد من القرائن التاريخية، فقد يوضع المشروع
الدستوري بواسطة جمعية تأسيسية، مثال ذلك دستور 1946، وقد يوضع عن طريق لجنة حكومية، ومثال ذلك
الدستور المصري الصادر سنة 1956، أو دستور الجمهورية الخامسة 1958.
وأخيرا
ما يمكن قوله في هذه المسألة هو وجود اختلاف بين الجمعية التأسيسية والاستفتاء
الدستوري، فالأول يتخذ قوته الإلزامية بمجرد صدوره عن الجمعية، فلا يشترط فيه عرضه
على الشعب، وهذا فعلا ما حدث سنة 1946 في فرنسا، بحيث الجمعية التأسيسية
أقرها الدستور في مايو 1946، وعرضه على الشعب، فرفض الموافقة
عليه
مما أدى إلى إنشاء جمعية تأسيسية أخرى لصياغة المشروع من جديد وعرضه على الشعب في
أكتوبر 1946 الذي وافق
عليه. كما يجب التفرقة بين الاستفتاء الدستوري والاستفتاء السياسي، فقد تنتهج هذه
الطريقة لترويض الشعب لقبول الأوضاع السائدة، فهو إقراري (بمعنى إقرار مشروع
دستوري تضعه جمعية تأسيسية رغم اختلاف في تكوينها، كما حدث للدساتير الفرنسية (1793-1795-1946)، أو
دستور ايرلندا الحرة سنة 1973. وليس كاشفا للإرادة الشعبية، فالشعب
في هذا الموطن له دور سلبي، بحيث يستشار شكليا لتبييض وجه النظام الحاكم،
كالاستفتاء بشأن إبقاء نابليون قنصلا عاما مدى الحياة 1802 أو
استفتاء سنة 1804 بشأن
توارث الإمبراطورية في سلالة نابليون(1).
وقد
أتبع هذا الدستور في وضع دستورنا لسنة 1976 ودستور ايطاليا لسنة 1948 والعديد
من الدساتير الحديثة.كما تعتبر هذه الطريقة أكثر ديمقراطية من غيرها، إلا أنها لكي
تحقق تلك الميزة أهدافها يجب أن يكون الشعب واعيا ومدركا للعمل العظيم الذي يقوم
به، ونظرا لصعوبة تحقيق هذه الأمنية فان على السلطة التي تريد مشاركة الشعب فعلا
في اتخاذ القرارات الحاسمة أن تتجنب تقديم النصوص المعقدة له بل تقدمها فقط
للبرلمان بشرط أن يكون برلمانا وليس هيئة فنية استشارية وتقتصر على تقديم المسائل
البسيطة الواضحة على أن تسبقها حملة إعلامية وتنظم مناقشات حول الموضوع حتى يشعر
الشعب بأنه شارك فعلا في وضع النص ولم يقتصر على تقديم استشارة(2).
طريقة المعاهدات
الدولية : بعض الدساتير يمكن أن ترجع في نشأتها إلى معاهدات دولية مثل الدستور البولندي
لعام 1815 والدستور الألماني لعام 1871، حيث يكون الدستور مستمدا من معاهدة دولية.
المبحث الرابع
طرق وضع الدساتير الجزائرية
بعد أن تناولنا في هذه
الدراسة أساليب نشأة الدساتير بصفة عامة، يصبح لزاماً أن نقدم نبذة موجزة عن تطور
الدساتير الجزائرية ونشأته التي بدأت مراحلها عقب انتهاء الاستعمار الفرنسي الغاشم
للجزائر، وجلاء قواته عن أراضيها. خلال ثلاثين سنة من الاستقلال عرفت الجزائر حياة
دستورية مضطربة بين المشروعية والشرعية ازدادت تأزما بعد الثمانينات،
ففكرة إنشاء المجلس الدستوري الجزائري تعود إلى ما بعد الاستقلال
مباشرة، حيث تبناها المؤسس الدستوري في أول دستور للجمهورية الجزائرية، وهو
الدستور الصادر في 08 سبتمبر 1963
وذلك تأثرا بالنظام القانوني الفرنسي، الذي يتبنى نظام الرقابة على دستورية
القوانين عن طريق المجلس الدستوري. أما في الجزائر فقد عرفت دستورين برامج مشحونين
بالإيديولوجية الاشتراكية سنة (1963 – 1976)
ودستور قانون سنة (1989) وتعديل لهذا الأخير سنة (1996)،
ويرجع ذلك إلى تباين الأوضاع السياسية والاقتصادية والقانونية لكل مرحلة من مراحل
التجربة الدستورية الجزائرية، وخاصة في الفترة الممتدة بعد أحداث أكتوبر 1989.
سنحاول التعرض لكل مرحلة.
1.
دستور 08 سبتمبر 1963:
دستور 1963 كان
دستور برنامج، أي ذلك الدستور الذي يغلب عليه الطابع الإيديولوجي على الجانب
القانوني، ويعرف في الأنظمة الاشتراكية، فالدستور في هذه الحالة يكرس الاشتراكية
ويحددها هدفا ينبغي تحقيقه، كما يحدد وسائل تحقيقها ويكرس أيضا هيمنة الحزب
الحاكم، ومع ذلك كله فإنه يتناول الجوانب القانونية المتعلقة بتنظيم السلطة كما
يبين حقوق وحريات الأفراد ومجالاتها.
وضع
دستور 1963
كان
من اختصاصات المجلس التأسيسي المنشئ بحكم اتفاقية افيان، إلا أن الرئيس "أحمد
بن بلة" تملص عن هدا المبدأ بإعطاء الضوء الأخضر للمكتب السياسي في مناقشة
وتقويم مشروع دستور في جويلية 1963، وعرضه على المجلس التأسيسي للتصويت
عليه، ثم تقديمه للاستفتاء الشعبي في سبتمبر 1963، وإصداره
في 08 سبتمبر 1963، فرغم أن
المشرع الجزائري أخذ بالطريقة الديمقراطية (الجمعية التأسيسية والاستفتاء) إلا أن
هذه الطريقة يشوبها العديد من المخالفات، كمناقشة الدستور على المستوى الحزبي، مما
تبعه سلسلة من الاستقالات على مستوى المجلس التأسيسي (فرحات عباس، حسين آيت
أحمد...) (1).
بالرجوع إلى دستور 1963 نجد أن
المادة 63 منه تنص على مايلي: "يتألف المجلس
الدستوري من الرئيس الأول للمحكمة العليا ورئيس الغرفتين المدنية والإدارية في
المحكمة العليا وثلاث نواب يعينهم المجلس الوطني الشعبي وعضو يعينه رئيس
الجمهورية". ومن المعلوم أن هذا المجلس لم يشكل ليمارس نشاطه، وذلك نظرا لما
عرفته الجزائر آنذاك من أحداث وعدم الاستقرار، حيث أن الصراع من أجل السلطة كان
على أشده مما لم يسمح بتشكيل هذا المجلس، وما أحداث الانقلاب الذي عرفته الجزائر
في 19 جوان 1965
والذي أطلق عليه اسم التصحيح الثوري، حيث جمد الدستور فور استيلاء الثورة على
السلطة وحل محله أمر: 10 جويلية 1965،
وما ينبغي معرفته من خلال نص المادة السالفة الذكر هو طريقة التشكيل العضوي لهذا
المجلس، حيث نلاحظ أنه مزيج بين رجال السياسة ورجال القانون، أي أن المجلس
الدستوري الجزائري آنذاك كان ذو طبيعة مختلطة قضائية وسياسية، تضم رجالا تابعين
لسلك القضاء وأعضاء آخرين بالتمثيل السياسي.
تنشأ
الدساتير بأساليب مختلفة ومتعددة، وقبل التعرض لأساليب نشأتها يتوجب علينا بحث
تاريخ، مكان وأسباب ظهورها والتطور الذي عرفته بفعل تزايد مهام الدولة.
1. تاريخ ومكان ظهور أول دستور:
إذا رجعنا لتاريخ العالم الإسلامي نجد أن أول
دستور عرف بالمفهوم الفني الحديث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرف
"بالصحيفة"، تلك الوثيقة التي أعدها رسول الإسلام لتنظيم أحوال دولة
المدينة بعد أن انتقل إليها من مكة.
البعض يرى بأن الحركة الدستورية أو أول بداية
لظهور الدستور تعود إلى القرن الثالث عشر وبالتحديد سنة 1215 عندما منح
الملك جان ستير الميثاق الأعظم للنبلاء الانجليز الثائرين عليه. والبعض الآخر
يؤكدون بأن تاريخ ظهور الحركة الدستورية الأولى بدأت تظهر معالمها في القرن السابع
عشر عندما وضع الجناح المؤيد لكرومويل في المجلس العسكري دستورا، وان كان البرلمان
وكرومويل ذاته لم يساندا ذلك المشروع فبقي كذلك بحيث لم يعرض على الشعب، وان كانت
بعض نصوصه اعتمدت فيما بعد لتنظيم السلطة وعادت فيما بعد مصدرا لتنظيم السلطة في
الولايات المتحدة الأمريكية(1).
|
أما
أول الدساتير المكتوبة ظهرت في المستعمرات البريطانية بأمريكا الشمالية كرد فعل للانفصال
عن إنكلترا، فأول دستور عرفه العالم الغربي في ولاية فرجينيا دستور جوان 1776، وقد
سابقه الإعلان للحقوق الذي يعتبر القاعدة الأساسية لأي حكومة في فرجينيا، ثم تلى
ذلك في عام 1781 صدور
دستور الاتحاد التعاهدي، وفي عام 1787 صدر الدستور الاتحادي للولايات المتحدة
الأمريكية. فالمثل الأمريكي كان سببا لاقتداء العديد من الدول به كفرنسا مثلا،
عرفت أول دستور مكتوب عام 1791، وقد سبقها قبل ذلك إعلان حقوق الإنسان
والمواطن الذي صدقت عليه الجمعية الوطنية في أوت 1789. فقد
أصبحت الدساتير المكتوبة من خصائص الدول الحديثة، نتيجة لرواج الأفكار الديمقراطية
والحركات السياسية التي نادت بمبدأ السيادة الشعبية، وبلورة فكرة العقد الاجتماعي،
ومبدأ الفصل بين السلطات...أمام هذه المزايا العديدة انتقات فكرة الدساتير
المكتوبة الى العديد من الدول الأوروبية، فصدر دستور السويد سنة 1809، والنرويج
وبلجيكا سنة 1831، وعلى إثر
الحرب العالمية الأولى، زاد انتشار الدساتير المكتوبة كنتيجة منطقية للحد من
التعسف في استعمال السلطة فصدر دستور روسيا يوم 10 يوليو 1918، فدستور
تركيا 1924ودستور
النمسا 1 أكتوبر 1920 (1).
2. أسباب ودوافع وضع الدساتير:
إن انهيار الحكم الملكي المطلق بعد الثورات
الأوربية وسيطرة البرجوازية على السلطة إلى جانب ظهور فكرة القومية وانحسار الاستعمار
كانت من الأسباب والدوافع الرئيسية في دسترة أنظمة الحكم، وكان غرض شعوب تلك
الأنظمة إثبات سيادتها الداخلية واستقلاليتها، وذلك بواسطة تنظيم الحياة السياسية
بوضع دستور يبين السلطات وعلاقاتها في الدولة الجديدة وعلاقاتها بالمحكومين والدول
الأخرى. وأن هذه الدول بوضع الدستور تؤهل نفسها لإقامة حوار بين السلطة والحرية
فكأنها تعلن للغير بأنها وصلت إلى مرحلة النضج السياسي، ولها الحق في الانضمام
للمجتمع الدولي(2). وكما أشرنا سابقا
على إثر الحرب العالمية الأولى، زاد انتشار الدساتير المكتوبة كنتيجة منطقية، بحيث
حددت اختصاصات الحكام ومدى السلطات التي تحت أيديهم
والواجبات المفروضة عليهم حتى لا تتكرر نفس التجربة (التعسف في استعمال السلطة)،
كما أن حركة التحرر، ساهمت بشكل فعال في انتشار هذه الظاهرة، بالأخص إذا علمنا أن
أغلب هذه الدول تفتقر إلى رصيد دستوري، كانعدام حياة دستورية سابقة..أو عدم وجود
أعراف سابقة..كل هذا كان سببا مباشرا لوضع دستور مكتوب الى جانب ضرورة اقتناء
وتدوين وثيقة دستورية للإنضمام في المجتمع الدولي مثل غينيا قد اعلن عن استقلالها
يوم 02 أكتوبر 1958، وفي ذلك الوقت كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة
منعقدة، ولكي يضمن الرئيس سيكوتوري الحصول على الموافقة، أصدر دستور في 10 نوفمبر 1958، واعلنت الأمم المتحدة عن قبولها كعضو في 12 نوفمبر 1958. وفي الكويت دستور 1962 إذ كانت قد قبلت في جامعة الدول العربية في 30 يوليو 1961 بمجرد اعلان استقلالها في 19 يونيو 1961، فإنها لم تقبل في
المم المتحدة ولم تنظم الى المجتمع الدولي إلا في 14 مايو 1963 أي بعد صدور دستورها في 11 نوفمبر 1962، وإذا كانت حركة الدساتير المكتوبة قد سادت الدول العربية، إلا أن بعض دول
الخليج تفتقر إلى دستور مكتوب ولا يوجد فيها دستور مدون على نسق الدساتير المعاصرة(3).
|
المبحث الثاني
الأساليب غير الديمقراطية لنشأة
الدساتير
يمكن
تعريف الأساليب غير الديمقراطية لنشأة الدساتير بأنها الأساليب التي لا يستأثر
الشعب وحده في وضعها، وإنما الذي يضعها هو الحاكم وحده (منحة) أو بالاشتراك مع
الأمة أو الشعب (عقد). وهما أسلوبان تزامنا مع تطور الملكية من ملكية مطلقة إلى
ملكية مقيدة(1).
1.
أسلوب المنحة:
يصدر الدستور في شكل
منحة إذا تنازل الحاكم بإرادته المنفردة عن بعض سلطاته للشعب، أو أن يحددها ببعض
القيود، بواسطة قواعد قانونية يمن بها على شعبه في صورة دستور. والأصل في هذه الدساتير
أن الحاكم هو مصدر السلطات، ومنبع الحقوق والحريات، يجمع بين يديه الوظائف والاختصاصات،
ومن بينها الاختصاص التأسيسي. غير أن انتشار الأفكار الديمقراطية، ونضج وعي الشعوب
بحقوقها، والدعوة إلى الحد من من السلطان المطلق، دفع الحكام إلى منح شعوبهم
دساتير، تنازلوا بموجبها عن جزء من سيادتهم، ليظهروا بمظهر المتفضلين على شعوبهم،
قبل أن تجبرهم الأوضاع على التنازل عن جٌل سيادتهم، وبالتالي يفقدون هيبتهم
وكرامتهم.
وهكذا؛ وعلى الرغم من أن الشكل الخارجي للدستور الصادر بطريق المنحة يظهر على أنه
عمل قانوني صادر بالإرادة المنفردة للحاكم، فإن الدستور لم يكن ليصدر إلا نتيجة
لضغط الشعوب على حكامها، ووعيها بحقوقها، وخوف الحاكم من ثورتها وتمردها. ويسجل
لنا التاريخ أمثلة كثيرة لدساتير صدرت بطريق المنحة، ومنها الدستور الفرنسي لعام 1814 الذي
أصدره لويس الثامن عشر للأمة الفرنسية ، وجدير بالذكر إن معظم دساتير الولايات
الألمانية في القرن التاسع عشر صدرت بهذه الطريقة. ومن أمثلة الدساتير الممنوحة
كذلك: الدستور الإيطالي لعام 1848 والدستور الياباني لعام 1889، ودستور
روسيا لسنة 1906، وإمارة
موناكو لعام 1911، وكذلك
الدستور المصري لعام 1923، ودستور إثيوبيا لعام 1931، والقانون الأساسي لشرقي
الأردن لعام 1926، ودستور الإمارات العربية المتحدة لسنة 1971 وكذلك الدستور
القطري لسنة 1971(2).
ونتيجة لصدور الدستور بطريقة المنحة يثور تساؤل هام، حول قدرة الحاكم الذي منح الدستور
هل له الحق في سحبه أو إلغائه ؟ وللإجابة على هذا السؤال انقسم الفقه إلى اتجاهين
:-
|
*
يذهب أولهما إلى قدرة الحاكم على استرداد دستوره طالما كان هذا الدستور قد صدر
بإرادته المنفردة، عل شكل منحة، لأن من يملك المنح يملك الاسترداد. يساند هذا الرأي
أمثلة حدثت فعلاً، حيث أصدر شارل العاشر
ملك
فرنسا قراراً ملكياً عام 1830 بإلغاء دستور عام 1814، تحت حجة
أن المنحة أو الهبة في الحقوق العامة تشبه الهبة في الحقوق الخاصة، وكما يحق
للواهب الرجوع عن الهبة. يحق للملك الرجوع عن دستوره، إذا صدر عن الشعب جحود
للمنحة ونكران للجميل.
*ويذكر ثانيهما على الحاكم حق استرداد دستوره،
ما دام هذا الدستور قد صدر، حيث تترتب عليه حقوق للأمة، فلا يحق للحاكم - عندها -
المساس به إلا بالاستناد إلى الطرق القانونية المقررة بالدستور نفسه، حتى التسليم
بأن صدور الدستور كان وليداً للإرادة المنفرد للحاكم، لأن هذه الإرادة تصلح أن
تكون مصدراً للالتزامات، متى ما صادفت قبولاً من ذوي الشأن. وجدير بالإشارة أن
الدستور الصادر بطريقة المنحة يدرس على اعتبار أنه مرحلة تاريخية، تمثلت بالانتقال
من الملكيات المطلقة إلى الملكيات المقيدة، وقد انقضت وانتهت هذه المرحلة منذ زمن،
نتيجة لزوال الحكم الفردي، واستعادة معظم الشعوب لكامل حقوقها في السيادة والسلطة.
ومع ذلك، فما زالت بعض الدساتير تعتمد على الإرادة المنفردة للحاكم، في نشأتها وفي
إصدارها، منذ تسلمه للسلطة وحتى مماته، وإن أمكن استبداله بغيره...وقائمة الدساتير
التي صدرت بهذه الطريقة كبيرة. ولنا بعالمنا العربي أمثلة متعددة، حتى أن بعضها لا
يزال نافذاً إلى يومنا هذا(1).
2.
أسلوب العقد أو الاتفاق:
|
ينشأ
الدستور وفق طريقة العقد بناء على اتفاق بين الحاكم من جهة والشعب من جهة أخرى. أي
لا تنفرد إرادة الحاكم بوضع الدستور كما هو الحال في صدور الدستور على شكل منحة،
وإنما يصدر الدستور تبعاً لهذه الطريقة بتوافق إرادتي كل من الحاكم والشعب. ويترتب
على ذلك ألا يكون بمقدور أي من طرفي العقد الانفراد بإلغاء الدستور أو سحبه أو
تعديله. وعلى هذا النحو تٌمثل طريقة العقد أسلوباً متقدماً على طريقة المنحة، لأن
الشعب يشترك مع الحاكم في وضع الدستور في طريقة العقد، بينما ينفرد الحاكم بوضع
الدستور في طريقة المنحة. وبناء على ذلك؛ يعد أسلوب العقد مرحلة انتقال باتجاه
الأساليب الديمقراطية. خاصة وأن ظهور هذا الأسلوب - لأول مرة - كان نتيجة لنشوب
ثورات، في كل من انجلترا وفرنسا. ففي إنجلترا ثار الأشراف ضد الملك جون، فأجبروه
على توقيع العهد الأعظم في عام 1215، الذي يتعبر مصدراً أساسياُ للحقوق
والحريات. وبنفس الطريقة؛ تم وضع وثيقة الحقوق لعام1689 بعد اندلاع
ثورة ضد الملك جيمس الثاني، حيث اجتمع ممثلون عن الشعب، ووضعوا هذه الوثيقة، التي
قيدت سلطات الملك، وكفلت الحقوق والحريات الأساسية للأفراد. وتمت دعوة الأمير وليم
الأورنجي لتولي العرش، على أساس الالتزام بالقيود
الواردة بالوثيقة. وتشكل هاتان الوثيقتان جزءاً
هاماً من الدستور الإنجليزي الذي يتكون معظمه من القواعد العرفية.
أما في فرنسا فقدر صدر أول دستور فيها بطريقة العقد إثر ثورة سنة 1830 ضد الملك
شارل العاشر، ووضع مشروع دستور جديد من قبل جمعية منتخبة من قبل الشعب، ومن ثم
دعوة الأمير لويس فيليب لتولي العرش، إذا قبل بالشروط الواردة بالدستور الجديد.
وبعد قبول الأمير بهذه الشروط نودي به ملكاً على فرنسا.
ويشار كذلك؛ إلى أن جميع الدساتير التي صدرت بطريقة العقد كانت من عمل جمعيات
منتخبة، والأمثلة على هذا النوع من الدساتير عديدة نذكر منها الميثاق الأعظم في
انجلتلرا سنة 1215 الذي هو جزء من دستور انجلترا، وكذلك قانون الحقوق الصادر سنة
1688 في نفس البلد، ودساتير كل من اليونان لسنة1844، ورومانيا
لسنة 1864، وبلغاريا
لسنة 1979، والقانون
الأساسي العراقي لعام 1925، والدستورين الكويتي لسنة 1962 والبحريني لسنة 1973. حيث
وضعت المجالس التشريعية في هذه الدول الدساتير المذكورة، ثم دعت أمراء أجانب لتولي
العرش على أساس الالتزام بأحكامها. وعلى الرغم من أن أسلوب العقد يعد أسلوبا
تقدمياً أكثر من أسلوب المنحة، فإنه لا يعد أسلوبا ديمقراطيا خالصاً، لأنه يضع إرادة
الحاكم على قدم المساواة مع إرادة الشعب، بينما تفترض الديمقراطية أن يكون الشعب
هو صاحب السيادة، لا يشاركه فيها ملك ولا أمير.
المبحث الثالث
الأساليب الديمقراطية لنشأة
الدساتير
يمكن تعريف الأساليب الديمقراطية في وضع الدساتير، بأنها
الأساليب التي تستأثر الأمة وحدها في وضعها دون مشاركة الحاكم ملكا كان أو أميرا
أو رئيسا للجمهورية. وبغض النظر عن التفصيلات والإجراءات المتبعة في وضع الدساتير
داخل إطار هذا المفهوم الديمقراطي في وضع الدساتير، يمكن جمع هذه الأساليب في
أسلوبين رئيسيين هما الجمعية التأسيسية وأسلوب الاستفتاء الشعبي(1).
1. أسلوب الجمعية التأسيسية:
تعد نشأة الدساتير
وفقاً لهذا الأسلوب منطلقة من مبدأ السيادة الشعبية، كما ينظر إليه أيضاً على أنه
من الأساليب الديمقراطية لخلق الدساتير حيث يمثل مرحلة أكثر تقدماً في نضال الشعوب
ضد الحاكم المطلق.
ويصدر الدستور وفقاً لأسلوب الجمعية التأسيسية
من مجلس أو جمعية تنتخب بصفة خاصة من الشعب ونيابة عنه، يعهد إليها بمهام وضع
وإصدار دستور جديد يصبح واجب النفاذ. ولذا فإن هذه الجمعية التأسيسية أو كما يطلق
عليها البعض اسم الجمعية النيابية التأسيسية هي في الواقع تجمع كل السلطات في
الدولة فهي سلطة تأسيسية تشريعية وتنفيذية. وهذا الأسلوب في وضع الدساتير هو الذي
تم إتباعه في وضع معظم الدساتير التي ظهرت عقب الحرب العالمية الأولى والحرب
العالمية الثانية. وكأمثلة تاريخية على أسلوب الجمعية التأسيسية نذكر دساتير
الولايات المتحدة الأمريكية عقب استقلالها من إنجلترا عام 1776م كما
اتخذته أمريكا أسلوباً في وضع وإقرار دستورها الاتحادي لعام 1787م وقد
انتشرت هذه الطريقة فيما بعد فاعتمد رجال الثورة الفرنسية هذا الأسلوب من ذلك دستور فرنسا لعام 1791م، وعام 1848م، وعام 1875م، وقد انتهج هذه الطريقة كل من اليابان
عام 1947م،
والدستور الإيطالي عام 1947م، والدستور التشيكوسلوفاكي عام 1948م، والدستور الروماني
عام 1948م،
والدستور الهندي 1949م، والدستور السوري عام 1950 وتعد هذه الطريقة أكثر ديمقراطية من الطريقتين
السابقتين، إذ أن الدستور يقوم بوضعه في هذه الحالة جمعية منتخبة من الشعب.
كما
أن هذه الطريقة تحتوي على العديد من المخاطر يمكن تلخيصها كالآتي:
1- نعمان أحمد الخطيب، مرجع
سبق ذكره ، ص486.
بتفوق السلطة التشريعية على باقي السلطات الأخرى، لكون أغلب الأعضاء فيها تراودهم
فكرة الترشح للمرة الثانية.- الاعتماد على فكرة الجمعية التأسيسية
يحتمل فيها استحواذ هذه الأخيرة على جميع الاختصاصات، مما قد يخلق عجزا
وانسدادا أثناء معالجة المشاكل الشائكة وقت الأزمات. - احتمال رفض الشعب للجمعية التأسيسية بعد
إقرارها للدستور، وهذا فعلا ما حدث في دستور الجمعية الفرنسية الرابعة سنة 1946م،
مما بدد الطاقات والمجهودات(1).
2. أسلوب الاستفتاء الشعبي أو الاستفتاء الدستوري:
ينشأ الدستور وفقاً لهذا الأسلوب من خلال
الإرادة الشعبية الحرة، إذ يفترض أن يقوم الشعب أو يشترك بنفسه في مباشرة السلطة
التأسيسية، في هذه الحالة يصدر
الدستور مباشرة من الشعب الذي يوكل الأمر إلى جمعية منتخبة تكون مهمتها وضع مشروع
الدستور أو إلى لجنة معينة من قبل الحكومة أو البرلمان إن وجد، ومن أجل أن يكون استفتاء
دستوري يجب أن تكوّن أولا هيئة أو لجنة تقوم بتحضير مشروع الدستور وعرضه على الشعب
لاستفتائه فيه، لأخذ رأي الشعب في مشروع الدستور ، ولكن هذا المشروع لا تصبح له
قيمة قانونية إلا بعد عرضه على الشعب واستفتائه فيه وموافقته عليه. علماً بأنه
ليس بلازم أن تقوم بوضع الدستور -المراد الاستفتاء عليه- جميعة تأسيسية نيابية،
وإنما يفترض أن تكون هناك هيئة أو جمعية أو لجنة أو شخصية، قد أسند إليها وقامت
بالفعل بإعداد مشروع الدستور، كما حدث بالنسبة لبعض دساتير العالم. ولا
يختلف الأمر إذا كانت هذه الجمعية أو اللجنة التحضيرية للدستور منتخبة أو معينة،
إذ تقتصر مهمتها على مجرد تحضير الدستور فحسب تمهيداً لعرضه على الشعب للاستفتاء
عليه بالموافقة أو بالرفض، ويعتبر تاريخ إعلان نتيجة الاستفتاء هو الفصل في بدء
سريان الدستور والعمل بأحكامه.
وإذا كان بعض الفقهاء قد ذهب إلى عدم اعتبار أسلوب الاستفتاء الشعبي أسلوبا
متميزا عن أسلوب الجمعية التأسيسية أي عدم التفرقة بين الجمعية التأسيسية
والاستفتاء السياسي على أساس طريقة واحدة، بل يعتبرون الاستفتاء مكملا للجمعية
التأسيسية، فهو حلقة له ويستدلون بالعديد من القرائن التاريخية، فقد يوضع المشروع
الدستوري بواسطة جمعية تأسيسية، مثال ذلك دستور 1946، وقد يوضع عن طريق لجنة حكومية، ومثال ذلك
الدستور المصري الصادر سنة 1956، أو دستور الجمهورية الخامسة 1958.
|
وأخيرا
ما يمكن قوله في هذه المسألة هو وجود اختلاف بين الجمعية التأسيسية والاستفتاء
الدستوري، فالأول يتخذ قوته الإلزامية بمجرد صدوره عن الجمعية، فلا يشترط فيه عرضه
على الشعب، وهذا فعلا ما حدث سنة 1946 في فرنسا، بحيث الجمعية التأسيسية
أقرها الدستور في مايو 1946، وعرضه على الشعب، فرفض الموافقة
عليه
مما أدى إلى إنشاء جمعية تأسيسية أخرى لصياغة المشروع من جديد وعرضه على الشعب في
أكتوبر 1946 الذي وافق
عليه. كما يجب التفرقة بين الاستفتاء الدستوري والاستفتاء السياسي، فقد تنتهج هذه
الطريقة لترويض الشعب لقبول الأوضاع السائدة، فهو إقراري (بمعنى إقرار مشروع
دستوري تضعه جمعية تأسيسية رغم اختلاف في تكوينها، كما حدث للدساتير الفرنسية (1793-1795-1946)، أو
دستور ايرلندا الحرة سنة 1973. وليس كاشفا للإرادة الشعبية، فالشعب
في هذا الموطن له دور سلبي، بحيث يستشار شكليا لتبييض وجه النظام الحاكم،
كالاستفتاء بشأن إبقاء نابليون قنصلا عاما مدى الحياة 1802 أو
استفتاء سنة 1804 بشأن
توارث الإمبراطورية في سلالة نابليون(1).
وقد
أتبع هذا الدستور في وضع دستورنا لسنة 1976 ودستور ايطاليا لسنة 1948 والعديد
من الدساتير الحديثة.كما تعتبر هذه الطريقة أكثر ديمقراطية من غيرها، إلا أنها لكي
تحقق تلك الميزة أهدافها يجب أن يكون الشعب واعيا ومدركا للعمل العظيم الذي يقوم
به، ونظرا لصعوبة تحقيق هذه الأمنية فان على السلطة التي تريد مشاركة الشعب فعلا
في اتخاذ القرارات الحاسمة أن تتجنب تقديم النصوص المعقدة له بل تقدمها فقط
للبرلمان بشرط أن يكون برلمانا وليس هيئة فنية استشارية وتقتصر على تقديم المسائل
البسيطة الواضحة على أن تسبقها حملة إعلامية وتنظم مناقشات حول الموضوع حتى يشعر
الشعب بأنه شارك فعلا في وضع النص ولم يقتصر على تقديم استشارة(2).
طريقة المعاهدات
الدولية : بعض الدساتير يمكن أن ترجع في نشأتها إلى معاهدات دولية مثل الدستور البولندي
لعام 1815 والدستور الألماني لعام 1871، حيث يكون الدستور مستمدا من معاهدة دولية.
|
المبحث الرابع
طرق وضع الدساتير الجزائرية
بعد أن تناولنا في هذه
الدراسة أساليب نشأة الدساتير بصفة عامة، يصبح لزاماً أن نقدم نبذة موجزة عن تطور
الدساتير الجزائرية ونشأته التي بدأت مراحلها عقب انتهاء الاستعمار الفرنسي الغاشم
للجزائر، وجلاء قواته عن أراضيها. خلال ثلاثين سنة من الاستقلال عرفت الجزائر حياة
دستورية مضطربة بين المشروعية والشرعية ازدادت تأزما بعد الثمانينات،
ففكرة إنشاء المجلس الدستوري الجزائري تعود إلى ما بعد الاستقلال
مباشرة، حيث تبناها المؤسس الدستوري في أول دستور للجمهورية الجزائرية، وهو
الدستور الصادر في 08 سبتمبر 1963
وذلك تأثرا بالنظام القانوني الفرنسي، الذي يتبنى نظام الرقابة على دستورية
القوانين عن طريق المجلس الدستوري. أما في الجزائر فقد عرفت دستورين برامج مشحونين
بالإيديولوجية الاشتراكية سنة (1963 – 1976)
ودستور قانون سنة (1989) وتعديل لهذا الأخير سنة (1996)،
ويرجع ذلك إلى تباين الأوضاع السياسية والاقتصادية والقانونية لكل مرحلة من مراحل
التجربة الدستورية الجزائرية، وخاصة في الفترة الممتدة بعد أحداث أكتوبر 1989.
سنحاول التعرض لكل مرحلة.
1.
دستور 08 سبتمبر 1963:
دستور 1963 كان
دستور برنامج، أي ذلك الدستور الذي يغلب عليه الطابع الإيديولوجي على الجانب
القانوني، ويعرف في الأنظمة الاشتراكية، فالدستور في هذه الحالة يكرس الاشتراكية
ويحددها هدفا ينبغي تحقيقه، كما يحدد وسائل تحقيقها ويكرس أيضا هيمنة الحزب
الحاكم، ومع ذلك كله فإنه يتناول الجوانب القانونية المتعلقة بتنظيم السلطة كما
يبين حقوق وحريات الأفراد ومجالاتها.
|
وضع
دستور 1963
كان
من اختصاصات المجلس التأسيسي المنشئ بحكم اتفاقية افيان، إلا أن الرئيس "أحمد
بن بلة" تملص عن هدا المبدأ بإعطاء الضوء الأخضر للمكتب السياسي في مناقشة
وتقويم مشروع دستور في جويلية 1963، وعرضه على المجلس التأسيسي للتصويت
عليه، ثم تقديمه للاستفتاء الشعبي في سبتمبر 1963، وإصداره
في 08 سبتمبر 1963، فرغم أن
المشرع الجزائري أخذ بالطريقة الديمقراطية (الجمعية التأسيسية والاستفتاء) إلا أن
هذه الطريقة يشوبها العديد من المخالفات، كمناقشة الدستور على المستوى الحزبي، مما
تبعه سلسلة من الاستقالات على مستوى المجلس التأسيسي (فرحات عباس، حسين آيت
أحمد...) (1).
بالرجوع إلى دستور 1963 نجد أن
المادة 63 منه تنص على مايلي: "يتألف المجلس
الدستوري من الرئيس الأول للمحكمة العليا ورئيس الغرفتين المدنية والإدارية في
المحكمة العليا وثلاث نواب يعينهم المجلس الوطني الشعبي وعضو يعينه رئيس
الجمهورية". ومن المعلوم أن هذا المجلس لم يشكل ليمارس نشاطه، وذلك نظرا لما
عرفته الجزائر آنذاك من أحداث وعدم الاستقرار، حيث أن الصراع من أجل السلطة كان
على أشده مما لم يسمح بتشكيل هذا المجلس، وما أحداث الانقلاب الذي عرفته الجزائر
في 19 جوان 1965
والذي أطلق عليه اسم التصحيح الثوري، حيث جمد الدستور فور استيلاء الثورة على
السلطة وحل محله أمر: 10 جويلية 1965،
وما ينبغي معرفته من خلال نص المادة السالفة الذكر هو طريقة التشكيل العضوي لهذا
المجلس، حيث نلاحظ أنه مزيج بين رجال السياسة ورجال القانون، أي أن المجلس
الدستوري الجزائري آنذاك كان ذو طبيعة مختلطة قضائية وسياسية، تضم رجالا تابعين
لسلك القضاء وأعضاء آخرين بالتمثيل السياسي.