مجلة المحاماة - العدد الثامن
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث مسؤولية أمين النقل
للأستاذ محمد حامد رضوان المحامي من الدرجة الأولى الممتازة بإدارة قضايا الحكومة
تشغل
مسؤولية أمين النقل حيزًا ظاهرًا أمام القضاء وتثير الكثير من البحوث
وخاصةً عن ماهية الشروط الواردة في عقد النقل ومدى الأخذ بها وعن الخطأ
الجسيم والغش من جانب، والخطأ اليسير من جانب آخر وعن سلطة القاضي إزاء
هذه الشروط هذا ولما كانت مسؤولية أمين النقل تخضع لأحكام المواد (90) إلى
(104) من القانون التجاري ولأحكام القواعد العامة في الالتزامات فإن هذه
المسؤولية يجب النظر إليها على ضوء ما ورد في القانون المدني الجديد على
أنه يتعين بادئ ذي بدء التعرض لماهية عقد النقل من ناحية ولتعريفة النقل
من ناحية أخرى.
ماهية عقد النقل:
عقد النقل هو عقد يلتزم بموجبه شخص طبيعي أو معنوي، بالقيام بنقل بضائع أو
أشخاص بوسيلة من وسائل النقل من مكان إلى مكان آخر مقابل أجر معلوم وبشروط
معينة.
والرأي الثابت أن من عقود الإذعان [(1)] Contrat d’adhesion،
وليس من العقود الرضائية البحتة، كما يذهب إلى ذلك أمناء النقل أحيانًا،
بدعوى أن هذا النوع من العقود لا يتوفر إلا حيث يوجد احتكار قانوني أو
فعلي لشخص لشيء يعد ضروريًا للطرف الآخر، ولما كانت وسائل النقل متعددة
بين برية، بالسكة الحديد والسيارات والعربات، ونهرية، بالمراكب والسفن من
بخارية وشراعية فإن ركن الاحتكار يعد غير متوافر، ذلك أن هذا النوع من
العقود يتميز بتعلق العقد بسلع أو مرافق تعتبر من الضروريات الأولى
بالنسبة إلى المستهلكين أو المنتفعين وباحتكار هذه السلع والمرافق،
احتكارًا قانونيًا أو فعليًا أو قيام منافسة محدودة النشاط بشأنها وبتوجيه
عرض الانتفاع بها إلى الجمهور بشروط متماثلة على وجه الدوام بالنسبة لكل
فئة منها، ولذلك فإن عقد النقل هو دون ريب من هذه العقود، وأهمية هذا
البحث تبدو في أن القانون المدني الجديد وإن اعتبر المادة (100) تسليم
العامة بالشروط المقررة في هذا النوع من العقود قبولاً حقيقيًا يتوافر معه
قيام العقد، أخذًا بالرأي الغالب في الفقه والقضاء [(2)]، إلا أنه قد أجاز المادة (149) للقاضي أن يُعدل الشروط التعسفية فيها أو يعطي الطرف المذعن منها.
وقد اختلف الرأي حول طبيعة هذا العقد فيذهب الرأي إلى أنه من عقود التراضي
التي تنعقد بدون حاجة إلى أي إجراء وليست تذكرة النقل إلا صورة من صور
إثباته [(3)]،
ولكن الرأي الآخر يذهب إلى القول بأنه عقد عيني وإلى أن رضاء أمين النقل
والراسل ليس من نوع الرضاء في العقود العادية حيث تكون الإرادة حرة طليقة
بل إن رخاء الراسل لا يتم إلا بعد تسليم الأشياء المراد نقلها إلى أمين
النقل فعلاً وعندئذ فقط يقبل الشروط المعروضة عليه وعندئذٍ فقط يتم العقد،
أما قبل ذلك فليس ثمة عقد نقل بل قد يوجد عقد وعد بالنقل قد يترتب
التزامًا بالتعويض. [(4)]
وعقد النقل من العقود الملزمة لجانبين كما أنه ليس عقدًا شكليًا، وإذا
كانت المادة (95) من القانون التجاري المصري، و(100) من القانون الفرنسي
تنص على أن (تذكرة النقل هي عبارة من مشارطة بين المرسل وأمين النقل أو
بين المرسل والوكيل بالعمولة وبين أمين النقل) فإن هذا ليس معناه أن
الكتابة ركن في العقد أو أنها وسيلة الإثبات الوحيدة بل هي ترمي إلى أنه
يمكن تعرف شروط النقل وأحكامه من واقع البوليصة ولقد قضت محكمة النقض
الفرنسية بأن وضع البضائع في الردهة الداخلية للمحطة فيعترض معه قانونًا
أنها في طريق النقل ولو لم يحرر العقد بعد فهي بذلك لم تستلزم تحرير العقد
لإمكان تمامه. [(5)]
ولكن هل عقد النقل عقد مدني أم تجاري ؟ أما بالنسبة للناقل فإنه إذا كان
يتخذ النقل حرفة له فإن العقد يعد تجاريًا (م (2) تجاري مصري و(632)
فرنسي)، أما إذا كانت عمليات النقل عمليات فردية فهل معنى ذلك أنها ليست
من قبيل الأعمال التجارية ؟ وهنا يجب أن نُفرق في النظر إلى المسألة بين
الراسل والمرسل إليه من جهة وبين أمين النقل من جهة أخرى، فبالنسبة
للأولين لا يعد تجاريًا إلا إذا كان متعلقًا بتجارة أيهما وهذا الحل مبني
على نظرية الأعمال التجارية بالتبعية بالنسبة للتاجر يُعد تجاريًا إذا هو
أرسل بضاعته المبيعة للمشتري أو للوكيل بالعمولة لبيعها ولكنه يُعد مدنيًا
إذا هو نقل بعض أمتعته وحاجياته الخاصة، أما بالنسبة لأمين النقل إذا كان
شخصًا عاديًا لا يحترف النقل وإنما قام بعملية فردية فإذا كان النقل
بالمجان فالرأي الراجح في الفقه وفي القضاء أنه لا يوجد عقد نقل بل عقد
غير معين يخضع للقواعد العامة في الالتزامات أما إذا كان مقابل أجر فإن
العملية في ذاتها تعد عملاً تجاريًا ولو أن الشخص الذي يقوم بها ليس
تاجرًا ولهذا فقد قضت محكمة النقض الفرنسية بأن الدولة إذا باشرت بنفسها
النقل بالسكة الحديدية فإنها تقوم بعمل تجاري ولو أنها ليست تاجرة. [(6)]
وطرفا هذا العقد هما الراسل expédituer وأمين النقل voturieg أما المرسل إليه فمركزه هو مركز المستفيد من مشارطة عقدت لصالحه stipulation pour autrivi، ويكون الحق في رفع الدعوى بسبب هذا العقد لهؤلاء فقط. [(7)]
وشروط هذا العقد شروط مطبوعة وضعت مقدمًا في نموذج معين عام بالنسبة
للجميع ولا يمكن المناقشة فيها، كما أنها ترتكز على أساس التعريفة التي
يضعها أمين النقل بعد موافقة السلطات الحكومية وهي تقسم النقل إلى فئات
وأنواع متعددة مختلفة الشروط والأحكام، ولذلك فإنه يتعين علينا مناقشة هذه
التعريفة وماهيتها.
ماهية التعريفة:
( أ ) الصفة اللائحية: يثور البحث حول ماهية التعريفة ومدى وجوب
الأخذ بها وهل لها صفة تشريعية أم صفة جزائية، وأهمية هذا البحث مردها أن
عقد النقل يحيل إليها في الكثير من الشروط، ولما كانت هذه التعريفة تنقسم
إلى عدة أقسام لذلك تبدو أهمية تكييفها القانوني فهي تختلف باختلاف نوع
البضاعة وعما إذا كان النقل بالطريق السريع أو العادي كما أن هنالك تعريفة
عامة وتعريفة خاصة كما أن هنالك تعاريف متعددة.
فتحديد أجر النقل هو من العناصر الرئيسية في كل تعريفة وتدور حوله شروط
النقل، فالتعريفة ذات السعر المنخفض عن العادي تستلزم بالتبعية حتمًا
زيادة التزامات الراسل، ولكل تعريفة من هذه التعريفات شروطها المميزة،
والتعريفة ذات السعر المنخفض تستلزم تخفيض الأجر كما تشترط بعض شروط لصالح
أمين النقل كعدم مسؤوليته في حالة امتداد أجل النقل (التأخير) أو تحديد
المسؤولية في هذه الحالة أو إلقاء عبء شحن وتفريغ العربة على عاتق الراسل
أو المرسل إليه.
وفي فرنسا تعد التعريفة، رغم اعتراضات البعض، لائحة تشريعية تتمتع بما
تتمتع به اللوائح الإدارية من قوة وتدير الخطوط الحديدية هنالك الشركة
الأهلية للسكك الحديدية الفرنسية Societé National de chemins de fers،
وهنالك تقوم الشركة والحكومة معًا بتحضير مشروع هذه التعريفة وتتمتع
الإدارة بسلطة واسعة عند وضعها ومراجعتها ومردها إلى الصالح العام فإذا ما
وافقت الحكومة على ما تضمنته، وبعد أن تدخل عليها من التعديلات ما تراه،
وضعت التعريفة في صورة لائحة تقوم الحكومة بالتصديق عليها ونشرها بالجريدة
الرسمية وعندئذٍ تكتسب صفتها هذه وتكون ملزمة للكافة فلا يجوز الخروج على
أحكامها لا من الراسل أو المرسل إليه ولا من أمين النقل ولا يجوز التعديل
في أحكامها إلا بالطريق الذي وضعت به. [(8)]
وأما في مصر فقد صدرت تعريفة النقل بالسكة الحديد بموجب قرار من معالي
وزير المواصلات بتاريخ 3 مايو سنة 1930 وقد نشرت بالوقائع الرسمية بالعدد
66 الصادر في 10 يوليه سنة 1930، ولكن الاعتراضات التي وجهت إلى هذه
التعريفة وإلى مدى التمسك بها تقوم على أساس أنها لا يمكن أن تتجاوز قوة
القرار الوزاري ما دامت لا تستند إلى قانون يخول إصدارها فهي بذلك ليست
لائحة تفويضية، ولما كان عقد النقل تحكمه النصوص الخاصة في القانون
التجاري والنصوص العامة في باب الالتزامات في القانون المدني فإن هذه
الأحكام هي الواجبة التطبيق دون التعريفة لأنها لا يمكن أن تسمو إلى
مرتبتهما.
(ب) الصفة الجزائية:
إذا تركنا جانبًا الخلاف حول ماهية التعريفة من الناحية التشريعية ومدى
قوتها الإلزامية فإننا نجد أن رأيًا آخر يذهب إلى الأخذ بها على أساس آخر
فلقد ذهبت بعض الأحكام إلى أنه لما كانت بوليصة الشحن تحيل فيما تحويه من
شروط إلى التعريفة باعتبارها جزءًا رئيسيًا مكملاً لعقد النقل وخاصةً
بالنسبة للتعويضات عند قيام مسؤولية أمين النقل فإن ذلك يعد شرطًا جزائيًا
يتعين الأخذ به تطبيقًا لأحكام المادة (123) من القانون المدني القديم،
ولذلك فلقد أخذت هذه الأحكام بالتعويضات المقدرة في التعريفة وبالحدود
الواردة فيها. [(9)]
على أننا إذا رجعنا إلى أحكام الشرط الجزائي في القانون المدني الجديد
لوجدنا أن المادة (225) تنص على أنه إذا جاوز الضرر قيمة التعويض الإنفاقي
فلا يجوز للدائن أن يطالب بأكثر من هذه القيمة إلا إذا أثبت أن المدين قد
ارتكب غشًا أو خطأ جسيمًا، وتطبيقًا لأحكام هذه المادة فإننا لو اعتبرنا
أن إحالة بوليصة الشحن إلى التعريفة يعد شرطًا جزائيًا فإن الحدود التي
وردت بها تعد حدًا أقصى لا يجوز تجاوزه إلا في حالتي الغش والخطأ الجسيم
اللهم إلا إذا أمكن القول بأن هذا الشرط يقصد به إلى الإعفاء من المسؤولية
حيث لا تجيز نصوص القانون وأحكامه ذلك.
نطاق مسؤولية أمين النقل:
إذا لم تتضمن بوليصة النقل شروطًا خاصة أو كانت هذه الشروط مجرد تطبيق
للقواعد العامة في الالتزامات أو للأحكام الخاصة بعقد النقل في القانون
التجاري أو كانت هذه الشروط شروطًا مكتوبة لا مطبوعة فإنه في جميع هذه
الأحوال يتعين الأخذ بالقواعد العامة ويكون العقد في هذه الحالة عقدًا
رضائيًا بحتًا كسائر العقود، ويترتب على ذلك أن أمين النقل يلتزم بنقل
الشيء كاملاً وسليمًا من جهة معينة إلى جهة أخرى وبالشروط المتفق عليها
وخلال المدة التي حددها الطرفان، فإذا لم ينفذ التزامه فإنه يعد مرتكبًا
خطأ تعاقديًا يجعله مسؤولاً مسؤولية تعاقدية وعليه هو إما أن يثبت قيامه
بتنفيذ التزامه على الوجه المتفق عليه أو يدفع عن نفسه المسؤولية بإثبات
قيام السبب الأجنبي كالقوة القاهرة والحادث الفجائي أو العيب في الشيء أو
فعل الراسل أو المرسل إليه أو فعل الغير.
ولقد نصت المادة (97) من قانون التجارة على أن (أمين النقل ضامن للأشياء
المراد نقلها إذا تلفت أو عدمت إلا إذا حصل ذلك بسبب عيب ناشئ عن نفس
الأشياء المذكورة أو بسبب قوة قاهرة أو خطأ أو إهمال ن مرسلها) كما نصت
المادة (98) على أنه (إذا لم يحصل النقل في الميعاد المتفق عليه بسبب قوة
قاهرة فلا يترتب على التأخير إلزام أمين النقل بتعويضات).
ويسأل أمين النقل في حالات ثلاث أولاها حال ضياع الشيء المنقول كلية أو
جزئية، وثانيها حال إصابته بتلف، والحال الثالثة هي حال التأخير، وإلى
جانب الحالات والنصوص الخاصة التي سنتعرض لها فيما بعد فإن مسؤولية أمين
النقل حال عدم تضمن عقد النقل لشروط خاصة تقوم، كما في القواعد العامة،
على أساس خطأ مفترض قانونًا قبل أمين النقل لمجرد عدم قيامه بتنفيذ
التزامه ويكون شأنه كشأن الخطأ في المسؤولية التعاقدية غير قابل لإثبات
عكسه ولكن يكون لأمين النقل أن يدفع هذه المسؤولية بإثبات نفي قيام علاقة
السببية بين ركن الخطأ الثابت قانونًا من عدم التنفيذ وبين ركن الضرر الذي
يثبته مدعيه، وذلك بإثبات قيام السبب الأجنبي وأن الضرر يرجع إليه وحده
أما إذا كان يرجع لخطأ أمين النقل من ناحية وللسبب الأجنبي من ناحية أخرى
فإنه لا يسأل إلا بنسبة ما ارتكبه من خطأ.
ويكون أمين النقل عندئذٍ ملتزمًا بتعويض الطرف الآخر (الراسل أو المرسل إليه) عما لحقه من خسارة وما فاته من ربح بالقيد الذي ذكرناه.
على أنه تطبيقًا للقواعد العامة لا يكون مسؤولاً إلا عن الضرر المباشر فقط
أما الضرر غير المباشر فلا يسأل عنه إطلاقًا سواء أكان الخطأ المنسوب إليه
يسيرًا أو جسيمًا مصحوبًا بغش أو تدليس أو غير مصحوب، كما أنه حتى في نطاق
الضرر المباشر لا يسأل إلا عن الضرر المتوقع فقط إلا إذا كان الخطأ الذي
ارتكب جسيمًا أو مصحوبًا بغش أو تدليس فإنه يسأل في هذه الحالة عن الضرر
المباشر المتوقع وغير المتوقع، كما أن هذا التعويض يستحق دون حاجة إلى
التكليف الرسمي.
وإذا فقدت البضاعة أو تلفت فإن أمين النقل يلتزم بقيمتها ولكن الخلاف بين
الشراح والمحاكم في فرنسا على حالة السلع المسعرة تسعيرًا جبريًا فهل
تحتسب على أساس التسعير الرسمي وقت الشحن أم وقت وصول البضاعة، أما في
حالة التلف فيلتزم بالفرق بين قيمة البضاعة سليمة وقيمتها تالفة أما في
حالة التأخير فيلتزم بتعويض الضرر الذي ترتب عليه. [(10)]
ما قلناه خاص بنقل البضائع والأشياء على أن الأمر يختلف بعض الشيء بالنسبة
لنقل الأشخاص فإذا أصيب المسافر أثناء الطريق فهل يكون أساس الرجوع على
الناقل المسؤولية التعاقدية أم المسؤولية التقصيرية وعلى أساس إثبات خطأ
معين ارتكبه الناقل أم على أساس المسؤولية الشيئية، على أن الأمر من ناحية
أخرى يقتضي التفرقة بين النقل بأجر، وهو الصورة الغالبة والعادية وبين
النقل المجاني.
ففي حالة النقل بأجر لا ريب في أنه يربط المسافر بالناقل عقد نقل هو الذي
يحكم الرابطة القانونية بينهما على أنه يتعين معرفة التزامات الناقل فيه
وهل التزامه في هذه الحالة التزامًا بغاية فيلتزم بتمكين المسافر من
الوصول سليمًا إلى الجهة المتفق عليها أم هو التزام بوسيلة فيلتزم بأن يضع
تحت تصرفه وسيلة النقل إلى غايته [(11)]،
كان القضاء الفرنسي في بادئ الأمر يذهب إلى الرأي الثاني على أساس أنه لا
محل لمقارنة المسافر بالبضائع لأن له حركة ذاتية وإرادة خاصة ذلك لأنه في
حالة تلف البضائع أو ضياعها يفترض إهمال أمين النقل في المحافظة عليها لأن
له سيطرة تامة عليها أثناء نقلها أما الإنسان فهو كائن له إرادة خاصة وقد
يغافل أمين النقل ويتسبب في إلحاق الأذى بنفسه عن إهمال وتقصير، على أن
هذا القضاء، وعلى رأسه محكمة النقض، لم يستطع أن يثبت على هذا الرأي لكثرة
الحوادث ولأن الأخذ به يترتب عليه أن يتحتم على المسافر أو ورثته أن
يثبتوا خطأ معينًا ارتكبه أمين النقل وهو أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً في
بعض الأحوال لذلك لم يرَ بدًا من القول بأن أمين النقل يلتزم بموجب العقد
بنقل الشخص سليمًا ومعافى إلى الجهة المقصودة فإذا أصيب أثناء النقل كانت
مسؤوليته تعاقدية فيفترض قانونًا أنه قد ارتكب تقصيرًا ولا يستطيع أن
يدفعه إلا بإثبات نفي علاقة السببية بين الخطأ والضرر بإثبات قيام السبب
الأجنبي كالقوة القاهرة والحادث الفجائي وخطأ المصاب وفعل الغير، وهذه
المسؤولية تؤدي إلى نفس النتيجة التي يمكن الوصول إليها عن طريق الأخذ
بالمسؤولية الشيئية (المادة (1384) فقرة (1) مدني فرنسي).
هذا ويثار في هذا الصدد مسألة اجتماعية المسؤوليتين والخيرة بينهما فقد
يكون العمل الواحد إخلالاً بالتزام تعاقدي يحقق المسؤولية التعاقدية وهو
في الوقت ذاته عمل ضار يحقق المسؤولية التقصيرية وهنا تجتمع المسؤوليتان
فإذا أصيب المسافر أثناء الطريق، وأخذ بالرأي القائل بالتزام الناقل
بسلامته، كانت من جهة إخلالاً بهذا الالتزام التعاقدي فتحقق المسؤولية
التعاقدية وكانت من جهة أخرى عملاً ضارًا في ذاته فتجتمع إلى جانب
المسؤولية التعاقدية المسؤولية التقصيرية في مثل هذا الغرض لا يجوز
إطلاقًا الجمع بينهما وإنما يكون الرجوع على أساس إحداهما فقط، ولكن عن
أيتهما ؟ أيترك للمصاب الخيرة بين المسؤوليتين فيختار أكثرهما ملاءمة له ؟
أو أن المسؤولية التقصيرية لا تقوم إذا كان هناك عقد بين الطرفين يحدد مدى
المسؤولية فتبقى المسؤولية التعاقدية وحدها، ولا يكون هنالك مجالاً للخيرة
؟ اختلف الرأي في فرنسا فالبعض يأخذ بالرأي الأول والبعض الآخر يأخذ
بالرأي الثاني وإن كان الراجح هو الرأي الأول ؟ [(12)]
أما في مصر فتذهب بعض المحاكم إلى بناء المسؤولية على أساس المسؤولية
التعاقدية والبعض الآخر على أساس المسؤولية التقصيرية، هذا وقد حكمت محكمة
مصر الابتدائية في 13 مارس سنة 1951 بأنه بمجرد قيام المسافر بدفع الأجر
المفروض لمتعهد النقل فإنه يبرم بينهما عقد يلتزم فيه الناقل بتأمين سلامة
المسافر ووصوله سالمًا إلى المكان الذي يقصده وهذا الالتزام يستخلصه
القاضي تفسيرًا لإرادتي المتعاقدين المشتركة إذ أن المسافر ينتظر الوصول
سالمًا إلى المكان الذي يقصده ولو أن الناقل لم يتعهد بذلك ولو ضمنًا لما
أقدم المسافر على التعاقد كما ذكرت أن هذه المسؤولية لا يدفعها إلا إثبات
القوة القاهرة أو خطأ المصاب (المحاماة س 31 العدد الثامن - رقم (393) صـ
1386). [(13)]
ويختلف الأمر في حالة النقل المجاني [(14)]
ذلك لأنه لا يمكن القول بقيام عقد نقل في هذه الحالة ذلك لأن من عناصر هذا
العقد الجوهرية وضع أجر معين لأمين النقل ولذلك ذهب البعض إلى القول بوجود
عقد غير مسمى أقرب لعقود الوكالة والعارية منه لعقد النقل بجامع نية
التبرع في هذه العقود ولقد كانت هذه الفكرة موضع النقد في فرنسا ذلك لأن
فكرة التعاقد لم تدر بخلد الطرفين إطلاقًا ولذلك فإن القضاء الفرنسي رفض
الأخذ بالمسؤولية التعاقدية في هذه الحالة وكان أمامه أما الأخذ
بالمسؤولية الشيئية (المادة 1384/ 1)، وتشبيه حالة المسافر الذي يصاب
أثناء الطريق بحالة المارة التي تصدمها العربات والمركبات فيكون الحارس
القانوني مسؤول عن هذه الحوادث مسؤولية يفترض معها قيام الخطأ وهو فرض غير
قابل لإثبات عكسه ويكون المصاب مكلفًا في هذه الحالة بإثبات ركن الضرر،
وأما أن تبني المسؤولية في هذه الحالة على أساس إثبات التقصير في جانب
أمين النقل المادتان (1382)، (1383).
ولكن القضاء والفقه في فرنسا رفض أن يطبق حكم المادة (1384) فقرة أولى
(المسؤولية الشيئية) على حالة النقل المجاني لما في تطبيق حكم هذه المادة
على الشخص الذي يتطوع بتأدية خدمة مجانية لآخر من مصادمة للعدالة ولحسن
التقدير، ولهذا فلقد ذهب البعض إلى القول بأن الراكب بغير عوض يتحمل في
الواقع تبعة الأخطار المنظورة والعادية التي تنجم عن ركوبه ولكن أخذ على
هذا الرأي صعوبة تحديد فكرة قبول التبعة من ناحية والأفكار المنظورة
والعادية من ناحية أخرى كما أنه يحمل إرادة الطرفين فكرة لم تدر بخلدهما
وقت قيام الرابطة القانونية ولو أن الراكب أدرك مبلغ الخطر الذي يعرض نفسه
إليه وما في ركوبه المجاني من إسقاط لحقه قبل الناقل لما أقدم على الركوب
أو لفضل الركوب بأجر، كما أنه من ناحية أخرى فإن هذا الاتفاق المزعوم بفرض
وجوده غير صحيح ذلك لأن القضاء قد استقر على عدم جواز الاتفاق على الإعفاء
من المسؤولية التقصيرية، ولذلك فإن الرأي الراجح في فرنسا يبني المسؤولية
في هذه الحالة على أساس إثبات تقصير أمين النقل المادتين (1382)، (1383).
أما في مصر فلقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة في حكمها الصادر في 13
نوفمبر سنة 1930 بلتان 43/ 22 بأن من يقبل الركوب في سيارة تفضلاً من
صاحبها فلا يجوز له المطالبة بالتعويض عن الحوادث والأضرار التي تصيبه من
جراء ركوبه إلا إذا نشأت عن تقصير جسيم من قائد السيارة وبهذا المعنى
أيضًا حكم محكمة مصر المختلطة في 23 مايو سنة 1949 (بأن الراكب يعتبر
قابلاً لبقية الأخطار المتوقعة risques possibles).
على أن النقد الذي وجه إلى هذين الحكمين يرتكز على أنه لا يجوز الاستناد
على فكرة قبول الراكب لتبعة الركوب في سبيل تخفيف مسؤولية الناقل ذلك لأن
الاستناد لهذه الفكرة في القانون الفرنسي قصد به فقط استبعاد المادة
(1384) على حالة النقل المجاني ونظرية المسؤولية الشيئية لم يكن مأخوذًا
بها في مصر حتى صدور القانون المدني الجديد كما أنه لا مبرر لاشتراط
التقصير الجسيم لشغل مسؤولية الناقل في حالة النقل بغير عوض وأنه يمكن أن
يسأل حتى عن خطئه اليسير ويمكن الاستناد لفكرة الخدمة لتخفيف التعويض. [(15)]
دفع المسؤولية:
قلنا فيما سبق أنه إذا لم يوجد نص خاص في عقد النقل فإن الناقل يعد
مسؤولاً إذا لم يقم بتسليم الشيء كاملاً وسليمًا وفي الموعد المتفق عليه
ويفترض خطؤه حتى يقوم هو بإثبات أن مرد عدم التنفيذ راجع لسبب أجنبي خارج
عن إرادته وعندئذ تنقطع علاقة السببية بين الخطأ المفروض والضرر الذي أثبت
وتبرأ ذمة أمين النقل، وهذا السبب الأجنبي قد يكون قوة قاهرة أو حادثًا
فجائيًا وقد يكون خطأ الراسل أو المرسل إليه وقد يكون مرده إلى عيب في ذات
الشيء المنقول أو فعل الغير وفي كل هذه الأحوال تبرأ ذمة أمين النقل بشروط
سنتكلم عنها فيما بعد.
1 - القوة القاهرة والحادث الفجائي: المسألة الأولى التي تعرض هي
معرفة ما إذا كان المدلول القانوني لكل من هذين التعبيرين واحد أم لكل
منهما تعريفة وهل يتفقان في الحكم في الالتزامات عامة وفي عقد النقل خاصة،
الرأي الراجح في الفقه والقضاء لا يميز بينهما فهما اسمان مختلفان لمعنى
واحد، إذا نظر إليه من حيث إنه غير متوقع الحصول فهو حادث فجائي، وإذا نظر
إليه من حيث أنه لا يمكن دفعه فهو قوة قاهرة ولذلك فإن الفقهاء يحيلون في
تعريف كل منهما على الآخر.
والقوة القاهرة force majeves والحادث الفجائي cas fortivt
هو عائق يعترض تنفيذ المدين لالتزامه وقد يكون مصدره راجع لعوامل طبيعية
أو إنسانية كصاعقة أو زلزال أو فيضان أو حرف أو ثورة ومن ناحية أخرى فهو
حادث غير متوقع كما أنه لا تمكن مقاومته ولو أمكن توقعه ويشترط أن يؤدي
لاستحالة تنفيذ الالتزام استحالة تامة ومطلقة وعامة كما أنه يشترط ألا
يكون للمدين بالذات أو أي شخص يسأل عنه شأن في حصوله.
على أن هنالك رأي يفرق بين القوة القاهرة والحادث الفجائي وخاصة في عقد
النقل بالذات ويحصر إعفاء أمين النقل على الأولى دون الثاني وأساس هذا
الرأي أن المادة (97) تجاري مصري وما يقابلها في القانون الفرنسي قد نصت
على أن مسؤولية أمين النقل لا تنتفي إلا بإثبات القوة القاهرة أو خطأ أو
إهمال من مرسلها ولقد ذكرت هذه المادة القوة القاهرة دون الحادث الفجائي
مما يدل في نظرهم، على أن أمين النقل يُسأل حتى في حالة قيامه ويجعلون
أساس التفرقة بينهما ركن الخروج المادي l’extériaité de l’evenement للحادث عن نشاط المدين وشهرته من ناحية أخرى Son importance et son notoriorité
لأن وقوع الحادث داخل منشآت المدين يستحيل معه إقامة الدليل الذي ينفي
لأول وهلة كل شك في فطنة إسناده إليه أما شهرة الحادث ففيها ما يؤيد وقوعه
ولأن في أهميته ما يستحيل معه تحامي نتائجه فالحوادث غير العادية وحدها هي
التي تعتبر قوة قاهرة وهي التي يمكن دفع المسؤولية بها خلافًا للحوادث
الفجائية العادية التي ليس لها مثل هذا الأثر، فالحروب والزلازل والصواعق
والثورات وازدحام البضائع كل هذه عوامل خارجة عن إرادة أمين النقل وعن
نشاطه فلا يسأل عنها أما الحادث الفجائي فإنه أمر داخلي يتعلق بنشاط
المدين ولو لم تكن لإرادته دخل في حدوثه فهو على حد قولهم الخطر الملازم
للحرفة أو الصناعة ويمثلون لذلك بانفجار مصنع أو قاطرة أو عدم كفاية
الأدوات أو الأشخاص الذين يقومون بالعمل أو قلة وسائل النقل فكل هذه عوامل
يجب أن يتحمل تبعتها أمين النقل.
على أن الفقه والقضاء منذ عهد غير قصير لم يأخذ بالرأي القائل بالتفرقة
بين القوة القاهرة من جهة والحادث الفجائي من جهة أخرى سواء في عقد النقل
خاصةً أو في الالتزامات عامةً وانتهى الرأي إلى أن مدلولهما واحد ويترتب
عليهما إعفاء أمين النقل من المسؤولية وأن القانون إذا استعمل أحد اللفظين
فإنه يقصد أيضًا التعبير الآخر. [(16)]
2 - خطأ الراسل أو المرسل إليه: وقد يكون مرد عدم التنفيذ راجع
لخطأ من الراسل أو المرسل إليه فقد يرجع سبب التلف إلى عامل سابق على
الشحن أو لعيب في الحزم أو بسبب سوء الشحن والتفريغ إذا كان متفقًا على أن
يتم ذلك بمعرفة أحدهما. [(17)]
3 - العيب الخاص: ويقصد به أن يحوي الشيء المنقول آفة هلاكه
وإعدامه وقد يكون مرده حالة طبيعية، أو غير طبيعية ولكن لا دخل لأمين
النقل في حدوثها، من شأنها أن يهلك الشيء من ذات نفسه دون أن تتدخل عوامل
خارجية وذلك كقابلية البضاعة للفساد من تلقاء نفسها أو لأنها من الأشياء
التي تتلف بطبيعتها بسبب الموسم الذي تنقل فيه فكثير من الخضروات والفاكهة
تخمر وتتعفن خاصةً في فصل الصيف فإذا فسدت البضاعة في هذه الأحوال فلا
يكون الناقل مسؤولاً وهذا ما تنص عليه المادة (97) تجاري (أمين النقل ضامن
للأشياء المراد نقلها إذا تلفت أو عدمت إلا إذا حصل بسبب عيب ناشئ عن نفس
الأشياء…).[(18)]
4 - فعل الغير: وقد يكون مرد عدم التنفيذ راجع إلى فعل الغير فلا
يكون أمين النقل مسؤولاً على شريطة أن يكون هذا الغير شخصًا أجنبيًا عن
الناقل غير تابع له وألا يكون مسؤولاً عنه مسؤولية تعاقدية أو تقصيرية كما
يشترط القضاء الفرنسي أن تتوافر في فعل الغير شروط القوة القاهرة. [(19)]
الشروط المعدلة لأحكام المسؤولية:
1 - ماهيتها وسلطة المحكمة إزاءها: يندر أن تكون عقود النقل على
الصورة البسيطة التي بيناها بالاكتفاء بإحكام القواعد العامة دون اشتراط
شروط خاصة لأن ذلك غالبًا ما يكون مع صغار أمناء النقل أو من يقوم بعملية
عرضية، ولما كانت تتولى شؤون النقل في مصر مصلحة السكة الحديد بصفة رئيسية
وتقوم إلى جوارها شركات النقل المختلفة، ولذلك نجد أنها تشترط في بوالص
الشحن التي تعدها شروطًا كثيرة ترمي غالبًا إلى إعفائها من المسؤولية أو
الحد منها وتحديد التعويض في أضيق صورة ولا يتمتع الطرف الآخر بحرية
مناقشة هذه الشروط أو التعديل فيها.
ولما كانت عقود الإذعان تتميز بتعلق موضوعها بسلع أو مرافق ضرورية للجمهور
وباحتكارها أو قيام منافسة محدودة وبأن العرض موجه للجمهور عامة بشروط
واحدة لا تتغير بتغير الأشخاص ولا مجال للمناقشة فيها لذلك فإن هذه
العناصر متوافرة تمامًا في عقد النقل، على أنه إذا انتفت هذه العناصر
جميعًا أو إحداها فإن العقد لا يعد آنئذٍ عقد إذعان كما إذا ثبت أن شروط
النقل كانت مكتوبة لا مطبوعة أو كانت موضع مساومة وبحث جدي أو كانت مخالفة
للصور المطبوعة والمطبقة على الكافة.
ولقد انقسم الرأي حول طبيعة هذه العقود إلى فريقين أولهما ينكر عليها
صيغتها التعاقدية إذ أن العقد يوافق إرادتين عن حرية واختيار بينما هو في
هذا النوع من العقود مجرد إذعان أو انضمام لا يصدر عن إرادة حرة بل على
المتعاقد أن ينزل على حكم هذه الشركات فالرابطة القانونية بينهما قد خلقها
في الواقع إرادة المحتكر وحده ولذلك فإن أصحاب هذا الرأي يرون أن يفسر هذا
العقد وأن تحدد التزاماته وحقوقه على ضوء هذه الاعتبارات وعلى أساس
المصلحة العامة لمجموع الأفراد فتراعي مقتضيات العدالة وحسن النية وما
تستلزمه الظروف الاقتصادية أما الفريق الثاني فيرى أن حجج الفريق الأول
ساقطة ولا تصلح أساسًا للقول بإنكار صفة العقد على عقد حقيقي ثم بتوافق
إرادتين فكثير من العقود في العهد الحديث يتحقق فيها إضطرار أحد طرفيها أو
كليهما للتعاقد دون أن يذهب أحد إلى القول باعتبار هذا الاضطرار إكراه
مبطلاً للعقد كما أن انعدام المساواة بين المتعاقدين لا يمكن تجنبه فهو
كثير الحدوث في العقود الرضائية البحتة أليست شروط عقود الإيجار والعمل
ترمي غالبًا إلى رعاية مصلحة المؤجر ورب العمل أكثر من رعاية مصلحة
المستأجر والعامل ؟ لذلك فإن هذا الفريق يرى أن ركن الاضطرار في هذه
العقود أقل منه في غيرها فالكل أمام المحتكر سواء والعقود جميعًا على
وتيرة واحدة ولا توضع إلا بعد موافقة السلطات الحكومية ولهذا فإن هذا
الفريق يرى أن العقد في هذه الحالة عقد حقيقي يتم بتوافق إرادتين وأن علاج
الضعف المزعوم لا يكون بإنكار صفة العقد على عقد حقيقي تم بتوافق إرادتين
ولا بتمكين القاضي من تفسير هذا العقد بل بتقوية الجانب الضعيف سواء
بالوسائل الاقتصادية أو التشريعية والقضاء في فرنسا وفي مصر لم يتأثر
كثيرًا بالمذهب الأول بل أخذ كمبدأ عام بالمذهب الثاني ولكنه مع أخذه
باعتبار هذا النوع من العقود عقودًا حقيقية إلا أنه أخذ يتلمس الطرق للحد
من قسوتها وتعسفها بدعوى أنها تتناقض مع جوهر العقد أو لأنها مخالفة
للنظام العام والآداب أو لأن المتعاقد لم يكن ليستطيع الوقوف عليها وقت
التعاقد أو لتناقضها مع شروط مكتوبة.[(20)]
والقانون المدني الجديد وإن أخذ بالمذهب الثاني على النحو الذي طبقه
القضاء فاعتبر هذا النوع من العقود عقودًا حقيقية إلا أنه أعطى للقاضي
سلطة تعديل الشروط الجائزة أو الإعفاء منها، فالمادة (100) منه تنص على أن
(القبول في عقود الإذعان يقتصر على مجرد التسليم بشروط مقررة يضعها الموجب
ولا يقبل المناقشة فيها)، كما تنص المادة (149) على أنه إذا تم العقد
بطريقة الإذعان وكان قد تضمن شروطًا تعسفية فإنه يجوز للقاضي أن يُعدل هذه
الشروط أو أن يعفي الطرف المذعن منها وذلك وفقًا لما تقضي به العدالة ويقع
باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك، كما تنص المادة (151) فقرة ثانية على أنه
(لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضار بمصلحة
الطرف المذعن).. على أننا نرى من المفيد أن ننقل أولاً مذكرة المشروع
التمهيدي على المادة (149) ثم نتناول بعد ذلك سلطة المحكمة على ضوئها فلقد
جاء فيها (تناول المشروع فيما تقدم بيان الأحوال التي يتم فيها التعاقد
بطريقة الإذعان)، وقد قصد إلى التخفيف مما يلازم هذا الضرب من التعاقد من
شدة وحرج، بالنسبة للعاقد المذعن فأقام لصالحه استثناءين من إحكام القواعد
العامة في تفسير العقود فالأصل أن الحاجة إلى التفسير لا تعرض متى كانت
عبارة العقد واضحة ففي مثل هذه الحالة تطبق شروط التعاقد كما أفرغت بيد أن
الحكم يختلف فيما يتعلق بما يدرج في عقود الإذعان من الشروط الجائرة
فالالتجاء إلى التفسير يتعين بشأنها، ولو كانت واضحة العبارة بينة السياق
فمن واجب القاضي أن يثبت في هذه الحالة مما إذا كان العاقد قد تنبه إلى
هذه الشروط فإذا استوثق من تنبه هذا العاقد إليها كما لو كان العاقد الآخر
قد احتاط فجعل تلك الشروط مخطوطة باليد في عقد مطبوع، تحتم عليه أيضًا
إمضاء حكمها رعاية لاستقرار المعاملات أما إذا تبين أن العاقد المذعن لم
يتنبه إلى الشروط الجائزة فعليه أن يستبعدها وينزل على أحكام القواعد
العامة، في هذا النطاق الضيق يطبق هذا الاستثناء فلا يبلغ الأمر حد
استبعاد الشرط الجائر بدعوى أن المذعن قد أكره على قبوله، متى تنبه إليه
هذا العاقد وارتضاه فالإذعان لا يختلط بالإكراه، بل إن التوحيد بينهما أمر
ينبو به ما ينبغي للتعامل من أسباب الاستقرار ثم أن ما يولى من حماية إلى
العاقد المذعن ينبغي أن يكون محلاً لأحكام تشريعية عامة، كما هو الشأن في
حالة الاستقلال أو التشريعات خاصة. [(21)]
ولذلك فإن على القاضي أن يتبين أولاً ما إذا كانت عبارات العقد واضحة أم
غامضة فإن كانت الأخير كان عليه أن يُطبق قواعد التفسير فلا تفسر هذه
العبارات بما يضر مصلحة الطرف المذعن المادة (151) ف (2) أما إذا كانت
العبارة واضحة فإن على القاضي أن يبحث ما إذا كانت هذه الشروط تطابق
القواعد العامة أم أنها شروط جائرة تخالف في الكثير منها هذه القواعد وفي
هذه الحالة يتعين التفرقة بين حالة معرفة الطرف الآخر لها وقبوله التعاقد
عن علم بها أم أنه كان جاهلاً بها وفي هذه الحالة الأخيرة فقط يكون للقاضي
سلطة التعديل من هذه الشروط أو الإعفاء منها.
هذا وقد حكمت محكمة النقض المصرية في 25 مايو سنة 1950 بأن الشرط الوارد
في عقد من عقود الإذعان لا يُقاس قبوله على قبول المكره ولم يجز القانون
المدني للقاضي تعديل هذه الشروط أو الإعفاء منها إلا إذا كان شرط الإذعان
تعسفيًا، وهذا الحكم تفسير للمادتين (100)، (149) مدني جديد ولم تجز
محكمتنا العليا إبطال شرط من شروط عقد الإذعان بهذه الصفة فقط بل اشترطت
أن يكون هذا الشرط تعسفيًا ولا شكل أن خير مقياس للتفرقة في هذه الحالة هو
الرجوع للقواعد العامة لمعرفة مدى مطابقة الشرط أو مخالفته إياها.
وقد أخذ على هذا الحكم أنه لم يتبين حكمة التشريع فالمشرع قد رمى من وضع
المادة (149) إلى أن يخرج القاضي عن وظيفته وهو تطبيق العقد إلى شيء آخر
هو العمل على توازن شروط العقد بين العاقدين ليتعرف هل يوجد توازن حقيقي
أم لا يوجد ومدى الإكراه الاقتصادي الذي انتهى بالعاقد إلى الإذعان. [(22)]
وعلى ذلك فإن على المحكمة أن تُطبق هذه القواعد على عقد النقل ونجد أن
تطبيقها سيؤدي إلى الأخذ بذات الأحكام والمبادئ التي كان معمولاً بها، ولا
زالت، والتي تفرق بين شرط عدم المسؤولية من ناحية وشرط تحديد المسؤولية من
ناحية أخرى وكما تفرق من جانب بين حالة الخطأ الجسيم والغش والتدليس من
جانب وحالة الخطأ اليسير من جانب آخر.
2 - شرط عدم المسؤولية: إذا اشترط أمين النقل هذا الشرط في بوليصة
الشحن وارتكب بعد ذلك خطأ، سواء أكان مفرضًا أم مثبتًا، فما هو حكم هذا
الشرط ؟ هل يترتب عليه براءة ذمته ؟ أم يعد شرطًا باطلاً لا أثر له فتطبق
القواعد العامة السالفة الذكر ؟ هذا وقد يرتكب خطأ جسيمًا أو تدليسًا أو
غشًا أو قد يرتكب مجرد خطأ يسير والحكم في الحالتين لا يمكن أن يكون
واحدًا.
( أ ) الحالة الأولى: حالة الخطأ الجسيم والغش والتدليس: اختلف
الرأي في فرنسا حول التسوية بين الخطأ الجسيم من جانب والغش والتدليس من
جانب آخر فيذهب رأي إلى ضرورة أعمال التسوية بينهما في الحكم وأن شرط عدم
المسؤولية مع قيام إحداها شرط باطل وأنه يتعين في هذه الحالة الرجوع
للقواعد العامة للمسؤولية التعاقدية كما يرتكز أيضًا على أن قيام الغش
والتدليس والخطأ الجسيم يجعلنا إزاء المسؤولية التقصيرية حيث يكون هذا
الشرط باطلًل لأنه في الواقع إعفاء منها حيث تحرمه نصوص القانون وأحكامه
أما الرأي الآخر فيفرق بين الخطأ الجسيم من جانب والغش والتدليس من جانب
آخر ويكون أمين النقل في الأولى مسؤولاً مسؤولية تعاقدية يجوز معها
الاتفاق على تعديل أحكامها أما في الأخيرة (الغش والخطأ الجسيم) فيكون
أساس مسؤوليته هو المسؤولية التقصيرية التي لا يجوز الاتفاق على الإعفاء
منها. [(23)]
هذا وتنص المادة (217) من القانون المدني الجديد:
(1 - يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الحادث المفاجئ والقوة القاهرة.
2 - وكذلك يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسؤولية تترتب على عدم
تنفيذ التزامه التعاقدي إلا ما ينشأ عن غشه أو خطئه الجسيم ومع ذلك يجوز
للمدين أن يشترط عدم مسؤوليته عن الغش أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص
يستخدمهم في تنفيذ التزامه.
3 - ويقع باطلاً كل شرط يقضي بالإعفاء من المسؤولية المترتبة على العمل غير المشروع).
وهذه المادة تسوي بين الغش والخطأ الجسيم وتبطل شرط عدم المسؤولية حال
قيام المسؤولية التقصيرية وتُجيز الاتفاق على تحمل المدين عبء القوة
القاهرة وتبطل شرط عدم مسؤولية المدين ذاته عن غشه وخطئه الجسيم وإن
إجازته عن الغش والخطأ الجسيم الذي يقع من تابعيه في تنفيذ التزامه.[(24)]
وإذا طبقنا حكم هذه المادة على مسؤولية أمين النقل لوجدنا أن شرط عدم
المسؤولية الذي تشترطه مثلاً مصلحة السكة الحديدية في بوالص الشحن ترمي به
إلى إعفائها من المسؤولية عن كافة الأخطاء، بما في ذلك الغش، التي يرتكبها
تابعوها أو التي قد ترتكبها هي، وعلى ذلك فإنه يتعين تبيان مدلول الشرط
وهو يرمي إلى الغاية السالفة الذكر، فإذا كان الغش أو الخطأ الجسيم
منسوبًا إلى المصلحة ذاتها كشخص معنوي وكان الضرر المحقق الذي وقع نتيجة
طبيعية لهما فإن شرط عدم المسؤولية يعد في هذه الحالة باطلاً وتكون
المصلحة مسؤولة تطبيقًا للقواعد العامة أما إذا كان الغش أو الخطأ الجسيم
منسوبًا إلى أحد عمالها فإن هذا الشرط يُعد شرطًا صحيحًا وواجب العمل به
وتبرأ ذمة المصلحة في هذه الحالة، هذا ويجوز إثبات الغش والخطأ الجسيم
بكافة الوسائل بما في ذلك البينة والقرائن إلا أنه يتعين على من يتمسك
بهما أن يقدم الدليل المقنع للمحكمة على قيامهما ولا تكفي مجرد قرائن
بسيطة أو افتراضات مجردة.
على أنه إذا كان الرجوع على أمين النقل مع وجود هذا الشرط على النحو الذي
بيناه غير منتج لصحته فإن الراسل أو المرسل إليه يستطيع الرجوع على أساس
قواعد المسؤولية التقصيرية على أن يثبت الخطأ الجسيم أو الغش قبل شخص معين
من تابعي المصلحة وتكون المسؤولية مردها مسؤولية المتبرع عن الأخطاء التي
تقع من تابعه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها (م 174) على أنه إذا أخذ
بالمذهب الذي يقوم بعدم جواز الرجوع بالمسؤولية التقصيرية عند قيام
المسؤولية التعاقدية فعندئذٍ لا يكون هنالك مجال للرجوع.
(ب) الحالة الثانية: حالة الخطأ اليسير: إذا كان الخطأ الذي ارتكبه
أمين النقل خطأ يسيرًا فهل يكون شرط عدم المسؤولية صحيحًا أم باطلاً فتطبق
القواعد العامة ؟ أم يكون من شأنه قلب عبء الإثبات ؟ لإمكان الإجابة على
هذه الأسئلة فإن علينا أن نستعرض الحالة في فرنسا ثم في مصر.
1 - في فرنسا: في بادئ الأمر وعلى الأخص في الفترة ما بين سنة
1856، وسنة 1874 ذهب القضاء إلى القول ببطلان هذا الشرط لمخالفته للنظام
العام والآداب ولكنه تعرض لموجة شديدة من النقد من جانب الفقه لمخالفته
لقاعدة أساسية هي أن العقد شريعة المتعاقدين وأن هذا الشرط ليس فيه مخالفة
للنظام العام أو الآداب فضلاً عن أن القانون الروماني كان يأخذ به في غير
حالة الغش والخطأ الجسيم، ولذلك فلقد اضطر القضاء للعدول عن رأيه وهنا نجد
اتجاهان أولهما الأخذ بصحة هذا الشرط وأنه يترتب على الأخذ به انتفاء
المسؤولية التعاقدية وإن كان من الجائز الرجوع على أساس المسؤولية
التقصيرية في حالة الخطأ الجسيم والغش والتدليس، أما الاتجاه الثاني فيذهب
إلى القول بأن من شأن هذا الشرط قلب عبء الإثبات فيفترض أن عدم تنفيذ
الالتزام مرده القوة القاهرة وعلى الراسل أو المرسل إليه أن يثبت خطأ
معينًا قبل أمين النقل.
ولقد جاء بحكم محكمة النقض الفرنسية في 22 يوليه سنة 1902 بأن شرط عدم
المسؤولية عن التأخير أو التلف من شأنه أن يرفع المسؤولية عن عاتق الناقل
ما لم يثبت الحكم قبله خطأ معينًا (دالوز 1902 - 1 - 33)، كما جاء في حكم
آخر لنفس المحكمة صادر في 18 فبراير سنة 1902 بأنه إذا ورد بتعريفة شركة
السكة الحديد شرط عدم المسؤولية عن التأخير والتلف أثناء الطريق وأن تحميل
وتفريغ العربة يقع على عاتق الراسل أو المرسل إليه فإن هذا الشرط صحيح وأن
الحكم الذي يقضي بمسؤولية الشركة عن التلف لسبب واحد هو أن الشركة لم تتخذ
أثناء الطريق العناية الأولية ووقاية هذه البضائع من الأمطار فإنه حكم
خاطئ يتعين نقضه (دالوز 1902 - 1 - 477). [(25)]
وقد رأى المشرع الفرنسي في سنة 1905 أن يضيف فقرة جديدة إلى المادة (103)
من القانون التجاري الخاصة بمسؤولية أمين النقل في حالتي التلف والفقد
الكلي أو الجزئي وهذه الإضافة الجديدة تقضي بأن كل شرط مخالف لأحكام هذه
المادة مدون في بوليصة النقل أو أية ورقة أخرى يعد باطلاً، وقد صدرت هذه
الإضافة بناءً على مشروع قانون اقترحه أحد أعضاء البرلمان السير رابيير
وصدر التعديل في 17 مارس سنة 1905 والغاية منه تحريم شرط عدم المسؤولية في
حالتي التلف والضياع المنصوص عليها في المادة (103)، ولكنه لم يتعرض من
قريب أو بعيد للمادة (104) الخاصة بالمسؤولية في حالة التأخير ويرمي هذا
القانون إلى استبعاد الأخذ بالأحكام التي كانت تعفي أمين النقل كلية من
المسؤولية وكذلك الأحكام التي كانت تأخذ بأن من شأن هذا الشرط قلب عبء
الإثبات من على عاتق أمين النقل إلى عاتق الراسل أو المرسل إليه الذي كان
يتعين عليهما طبقًا للقواعد السابقة إثبات خطأ معين قبل أمين النقل وهو
عبء صعب إن لم يكن مستحيلاً فأراد الشارع بهذا التعديل أن يعفيهما من ذلك.
[(26)]
2 - في مصر: لا يوجد قانون مماثل لقانون رابيير الفرنسي الصادر في
17 مارس سنة 1905، ولذلك يتحتم الرجوع للقواعد العامة في الالتزامات ونصوص
القانون التجاري في عقد النقل ويكون الوضع هنا كالوضع في فرنسا قبل صدور
قانون رابيير ويكون هذا الشرط صحيح في حالة الخطأ اليسير ولكن لا يؤخذ به
في حالة الغش والخطأ الجسيم والتدليس - وما سبق أن قلناه عن حكم المادة
(217) من القانون المدني الجديد عند الكلام على حكم شرط عدم المسؤولية،
حالة الغش والخطأ الجسيم والتدليس يسري هنا من باب أولى، وقد سلمت بصحة
هذا الشرط وضرورة العمل به في غير حالة الغش محكمة استئناف مصر في حكمها
الصادر في 16 مارس سنة 1950 في القضية رقم (96) تجاري سنة 60 قضائية
والمنشور بمجلة التشريع والقضاء السنة الثانية العدد رقم (14) صـ 239 كما
أخذ القضاء المختلط بصحة هذا الشرط وإن أجاز للراسل إثبات الخطأ الجسيم أو
الغش قبل أمين النقل (بلتان س 41 صـ 119). [(27)]
3 - شروط تحديد المسؤولية: قد لا تذهب بوليصة النقل إلى حد اشتراط
عدم مسؤولية أمين النقل مكتفية بتحديدها والتخفيف من آثارها فلقد تنص على
أنه لا يُسأل عن الأضرار التي قد تترتب على تأخير شحن أو وصول البضاعة
وهذا الشرط يرد غالبًا في التعريفة ذات الأجر المخفض فترتضى المصلحة سلفًا
إنقاص أجر النقل عن سعره العادي في مقابل تحمل الراسل تبعة التأخير كما قد
تشترط البوليصة أن يكون شحن وتفريغ العربات المعدة للبضائع بمعرفة الراسل
أو المرسل إليه أو تشترط تحديد مسؤوليتها في حدود معينة بالنسبة للأشياء
الفنية التي تقتضي رعاية خاصة كما أن أمين النقل قد يشترط في البوليصة
تحديد التعويض الذي يستحقه الطرف الآخر بحد أقصى، وهذه الشروط إذا نظر لكل
منها
السنة الثانية والثلاثون سنة 1952
بحث مسؤولية أمين النقل
للأستاذ محمد حامد رضوان المحامي من الدرجة الأولى الممتازة بإدارة قضايا الحكومة
تشغل
مسؤولية أمين النقل حيزًا ظاهرًا أمام القضاء وتثير الكثير من البحوث
وخاصةً عن ماهية الشروط الواردة في عقد النقل ومدى الأخذ بها وعن الخطأ
الجسيم والغش من جانب، والخطأ اليسير من جانب آخر وعن سلطة القاضي إزاء
هذه الشروط هذا ولما كانت مسؤولية أمين النقل تخضع لأحكام المواد (90) إلى
(104) من القانون التجاري ولأحكام القواعد العامة في الالتزامات فإن هذه
المسؤولية يجب النظر إليها على ضوء ما ورد في القانون المدني الجديد على
أنه يتعين بادئ ذي بدء التعرض لماهية عقد النقل من ناحية ولتعريفة النقل
من ناحية أخرى.
ماهية عقد النقل:
عقد النقل هو عقد يلتزم بموجبه شخص طبيعي أو معنوي، بالقيام بنقل بضائع أو
أشخاص بوسيلة من وسائل النقل من مكان إلى مكان آخر مقابل أجر معلوم وبشروط
معينة.
والرأي الثابت أن من عقود الإذعان [(1)] Contrat d’adhesion،
وليس من العقود الرضائية البحتة، كما يذهب إلى ذلك أمناء النقل أحيانًا،
بدعوى أن هذا النوع من العقود لا يتوفر إلا حيث يوجد احتكار قانوني أو
فعلي لشخص لشيء يعد ضروريًا للطرف الآخر، ولما كانت وسائل النقل متعددة
بين برية، بالسكة الحديد والسيارات والعربات، ونهرية، بالمراكب والسفن من
بخارية وشراعية فإن ركن الاحتكار يعد غير متوافر، ذلك أن هذا النوع من
العقود يتميز بتعلق العقد بسلع أو مرافق تعتبر من الضروريات الأولى
بالنسبة إلى المستهلكين أو المنتفعين وباحتكار هذه السلع والمرافق،
احتكارًا قانونيًا أو فعليًا أو قيام منافسة محدودة النشاط بشأنها وبتوجيه
عرض الانتفاع بها إلى الجمهور بشروط متماثلة على وجه الدوام بالنسبة لكل
فئة منها، ولذلك فإن عقد النقل هو دون ريب من هذه العقود، وأهمية هذا
البحث تبدو في أن القانون المدني الجديد وإن اعتبر المادة (100) تسليم
العامة بالشروط المقررة في هذا النوع من العقود قبولاً حقيقيًا يتوافر معه
قيام العقد، أخذًا بالرأي الغالب في الفقه والقضاء [(2)]، إلا أنه قد أجاز المادة (149) للقاضي أن يُعدل الشروط التعسفية فيها أو يعطي الطرف المذعن منها.
وقد اختلف الرأي حول طبيعة هذا العقد فيذهب الرأي إلى أنه من عقود التراضي
التي تنعقد بدون حاجة إلى أي إجراء وليست تذكرة النقل إلا صورة من صور
إثباته [(3)]،
ولكن الرأي الآخر يذهب إلى القول بأنه عقد عيني وإلى أن رضاء أمين النقل
والراسل ليس من نوع الرضاء في العقود العادية حيث تكون الإرادة حرة طليقة
بل إن رخاء الراسل لا يتم إلا بعد تسليم الأشياء المراد نقلها إلى أمين
النقل فعلاً وعندئذ فقط يقبل الشروط المعروضة عليه وعندئذٍ فقط يتم العقد،
أما قبل ذلك فليس ثمة عقد نقل بل قد يوجد عقد وعد بالنقل قد يترتب
التزامًا بالتعويض. [(4)]
وعقد النقل من العقود الملزمة لجانبين كما أنه ليس عقدًا شكليًا، وإذا
كانت المادة (95) من القانون التجاري المصري، و(100) من القانون الفرنسي
تنص على أن (تذكرة النقل هي عبارة من مشارطة بين المرسل وأمين النقل أو
بين المرسل والوكيل بالعمولة وبين أمين النقل) فإن هذا ليس معناه أن
الكتابة ركن في العقد أو أنها وسيلة الإثبات الوحيدة بل هي ترمي إلى أنه
يمكن تعرف شروط النقل وأحكامه من واقع البوليصة ولقد قضت محكمة النقض
الفرنسية بأن وضع البضائع في الردهة الداخلية للمحطة فيعترض معه قانونًا
أنها في طريق النقل ولو لم يحرر العقد بعد فهي بذلك لم تستلزم تحرير العقد
لإمكان تمامه. [(5)]
ولكن هل عقد النقل عقد مدني أم تجاري ؟ أما بالنسبة للناقل فإنه إذا كان
يتخذ النقل حرفة له فإن العقد يعد تجاريًا (م (2) تجاري مصري و(632)
فرنسي)، أما إذا كانت عمليات النقل عمليات فردية فهل معنى ذلك أنها ليست
من قبيل الأعمال التجارية ؟ وهنا يجب أن نُفرق في النظر إلى المسألة بين
الراسل والمرسل إليه من جهة وبين أمين النقل من جهة أخرى، فبالنسبة
للأولين لا يعد تجاريًا إلا إذا كان متعلقًا بتجارة أيهما وهذا الحل مبني
على نظرية الأعمال التجارية بالتبعية بالنسبة للتاجر يُعد تجاريًا إذا هو
أرسل بضاعته المبيعة للمشتري أو للوكيل بالعمولة لبيعها ولكنه يُعد مدنيًا
إذا هو نقل بعض أمتعته وحاجياته الخاصة، أما بالنسبة لأمين النقل إذا كان
شخصًا عاديًا لا يحترف النقل وإنما قام بعملية فردية فإذا كان النقل
بالمجان فالرأي الراجح في الفقه وفي القضاء أنه لا يوجد عقد نقل بل عقد
غير معين يخضع للقواعد العامة في الالتزامات أما إذا كان مقابل أجر فإن
العملية في ذاتها تعد عملاً تجاريًا ولو أن الشخص الذي يقوم بها ليس
تاجرًا ولهذا فقد قضت محكمة النقض الفرنسية بأن الدولة إذا باشرت بنفسها
النقل بالسكة الحديدية فإنها تقوم بعمل تجاري ولو أنها ليست تاجرة. [(6)]
وطرفا هذا العقد هما الراسل expédituer وأمين النقل voturieg أما المرسل إليه فمركزه هو مركز المستفيد من مشارطة عقدت لصالحه stipulation pour autrivi، ويكون الحق في رفع الدعوى بسبب هذا العقد لهؤلاء فقط. [(7)]
وشروط هذا العقد شروط مطبوعة وضعت مقدمًا في نموذج معين عام بالنسبة
للجميع ولا يمكن المناقشة فيها، كما أنها ترتكز على أساس التعريفة التي
يضعها أمين النقل بعد موافقة السلطات الحكومية وهي تقسم النقل إلى فئات
وأنواع متعددة مختلفة الشروط والأحكام، ولذلك فإنه يتعين علينا مناقشة هذه
التعريفة وماهيتها.
ماهية التعريفة:
( أ ) الصفة اللائحية: يثور البحث حول ماهية التعريفة ومدى وجوب
الأخذ بها وهل لها صفة تشريعية أم صفة جزائية، وأهمية هذا البحث مردها أن
عقد النقل يحيل إليها في الكثير من الشروط، ولما كانت هذه التعريفة تنقسم
إلى عدة أقسام لذلك تبدو أهمية تكييفها القانوني فهي تختلف باختلاف نوع
البضاعة وعما إذا كان النقل بالطريق السريع أو العادي كما أن هنالك تعريفة
عامة وتعريفة خاصة كما أن هنالك تعاريف متعددة.
فتحديد أجر النقل هو من العناصر الرئيسية في كل تعريفة وتدور حوله شروط
النقل، فالتعريفة ذات السعر المنخفض عن العادي تستلزم بالتبعية حتمًا
زيادة التزامات الراسل، ولكل تعريفة من هذه التعريفات شروطها المميزة،
والتعريفة ذات السعر المنخفض تستلزم تخفيض الأجر كما تشترط بعض شروط لصالح
أمين النقل كعدم مسؤوليته في حالة امتداد أجل النقل (التأخير) أو تحديد
المسؤولية في هذه الحالة أو إلقاء عبء شحن وتفريغ العربة على عاتق الراسل
أو المرسل إليه.
وفي فرنسا تعد التعريفة، رغم اعتراضات البعض، لائحة تشريعية تتمتع بما
تتمتع به اللوائح الإدارية من قوة وتدير الخطوط الحديدية هنالك الشركة
الأهلية للسكك الحديدية الفرنسية Societé National de chemins de fers،
وهنالك تقوم الشركة والحكومة معًا بتحضير مشروع هذه التعريفة وتتمتع
الإدارة بسلطة واسعة عند وضعها ومراجعتها ومردها إلى الصالح العام فإذا ما
وافقت الحكومة على ما تضمنته، وبعد أن تدخل عليها من التعديلات ما تراه،
وضعت التعريفة في صورة لائحة تقوم الحكومة بالتصديق عليها ونشرها بالجريدة
الرسمية وعندئذٍ تكتسب صفتها هذه وتكون ملزمة للكافة فلا يجوز الخروج على
أحكامها لا من الراسل أو المرسل إليه ولا من أمين النقل ولا يجوز التعديل
في أحكامها إلا بالطريق الذي وضعت به. [(8)]
وأما في مصر فقد صدرت تعريفة النقل بالسكة الحديد بموجب قرار من معالي
وزير المواصلات بتاريخ 3 مايو سنة 1930 وقد نشرت بالوقائع الرسمية بالعدد
66 الصادر في 10 يوليه سنة 1930، ولكن الاعتراضات التي وجهت إلى هذه
التعريفة وإلى مدى التمسك بها تقوم على أساس أنها لا يمكن أن تتجاوز قوة
القرار الوزاري ما دامت لا تستند إلى قانون يخول إصدارها فهي بذلك ليست
لائحة تفويضية، ولما كان عقد النقل تحكمه النصوص الخاصة في القانون
التجاري والنصوص العامة في باب الالتزامات في القانون المدني فإن هذه
الأحكام هي الواجبة التطبيق دون التعريفة لأنها لا يمكن أن تسمو إلى
مرتبتهما.
(ب) الصفة الجزائية:
إذا تركنا جانبًا الخلاف حول ماهية التعريفة من الناحية التشريعية ومدى
قوتها الإلزامية فإننا نجد أن رأيًا آخر يذهب إلى الأخذ بها على أساس آخر
فلقد ذهبت بعض الأحكام إلى أنه لما كانت بوليصة الشحن تحيل فيما تحويه من
شروط إلى التعريفة باعتبارها جزءًا رئيسيًا مكملاً لعقد النقل وخاصةً
بالنسبة للتعويضات عند قيام مسؤولية أمين النقل فإن ذلك يعد شرطًا جزائيًا
يتعين الأخذ به تطبيقًا لأحكام المادة (123) من القانون المدني القديم،
ولذلك فلقد أخذت هذه الأحكام بالتعويضات المقدرة في التعريفة وبالحدود
الواردة فيها. [(9)]
على أننا إذا رجعنا إلى أحكام الشرط الجزائي في القانون المدني الجديد
لوجدنا أن المادة (225) تنص على أنه إذا جاوز الضرر قيمة التعويض الإنفاقي
فلا يجوز للدائن أن يطالب بأكثر من هذه القيمة إلا إذا أثبت أن المدين قد
ارتكب غشًا أو خطأ جسيمًا، وتطبيقًا لأحكام هذه المادة فإننا لو اعتبرنا
أن إحالة بوليصة الشحن إلى التعريفة يعد شرطًا جزائيًا فإن الحدود التي
وردت بها تعد حدًا أقصى لا يجوز تجاوزه إلا في حالتي الغش والخطأ الجسيم
اللهم إلا إذا أمكن القول بأن هذا الشرط يقصد به إلى الإعفاء من المسؤولية
حيث لا تجيز نصوص القانون وأحكامه ذلك.
نطاق مسؤولية أمين النقل:
إذا لم تتضمن بوليصة النقل شروطًا خاصة أو كانت هذه الشروط مجرد تطبيق
للقواعد العامة في الالتزامات أو للأحكام الخاصة بعقد النقل في القانون
التجاري أو كانت هذه الشروط شروطًا مكتوبة لا مطبوعة فإنه في جميع هذه
الأحوال يتعين الأخذ بالقواعد العامة ويكون العقد في هذه الحالة عقدًا
رضائيًا بحتًا كسائر العقود، ويترتب على ذلك أن أمين النقل يلتزم بنقل
الشيء كاملاً وسليمًا من جهة معينة إلى جهة أخرى وبالشروط المتفق عليها
وخلال المدة التي حددها الطرفان، فإذا لم ينفذ التزامه فإنه يعد مرتكبًا
خطأ تعاقديًا يجعله مسؤولاً مسؤولية تعاقدية وعليه هو إما أن يثبت قيامه
بتنفيذ التزامه على الوجه المتفق عليه أو يدفع عن نفسه المسؤولية بإثبات
قيام السبب الأجنبي كالقوة القاهرة والحادث الفجائي أو العيب في الشيء أو
فعل الراسل أو المرسل إليه أو فعل الغير.
ولقد نصت المادة (97) من قانون التجارة على أن (أمين النقل ضامن للأشياء
المراد نقلها إذا تلفت أو عدمت إلا إذا حصل ذلك بسبب عيب ناشئ عن نفس
الأشياء المذكورة أو بسبب قوة قاهرة أو خطأ أو إهمال ن مرسلها) كما نصت
المادة (98) على أنه (إذا لم يحصل النقل في الميعاد المتفق عليه بسبب قوة
قاهرة فلا يترتب على التأخير إلزام أمين النقل بتعويضات).
ويسأل أمين النقل في حالات ثلاث أولاها حال ضياع الشيء المنقول كلية أو
جزئية، وثانيها حال إصابته بتلف، والحال الثالثة هي حال التأخير، وإلى
جانب الحالات والنصوص الخاصة التي سنتعرض لها فيما بعد فإن مسؤولية أمين
النقل حال عدم تضمن عقد النقل لشروط خاصة تقوم، كما في القواعد العامة،
على أساس خطأ مفترض قانونًا قبل أمين النقل لمجرد عدم قيامه بتنفيذ
التزامه ويكون شأنه كشأن الخطأ في المسؤولية التعاقدية غير قابل لإثبات
عكسه ولكن يكون لأمين النقل أن يدفع هذه المسؤولية بإثبات نفي قيام علاقة
السببية بين ركن الخطأ الثابت قانونًا من عدم التنفيذ وبين ركن الضرر الذي
يثبته مدعيه، وذلك بإثبات قيام السبب الأجنبي وأن الضرر يرجع إليه وحده
أما إذا كان يرجع لخطأ أمين النقل من ناحية وللسبب الأجنبي من ناحية أخرى
فإنه لا يسأل إلا بنسبة ما ارتكبه من خطأ.
ويكون أمين النقل عندئذٍ ملتزمًا بتعويض الطرف الآخر (الراسل أو المرسل إليه) عما لحقه من خسارة وما فاته من ربح بالقيد الذي ذكرناه.
على أنه تطبيقًا للقواعد العامة لا يكون مسؤولاً إلا عن الضرر المباشر فقط
أما الضرر غير المباشر فلا يسأل عنه إطلاقًا سواء أكان الخطأ المنسوب إليه
يسيرًا أو جسيمًا مصحوبًا بغش أو تدليس أو غير مصحوب، كما أنه حتى في نطاق
الضرر المباشر لا يسأل إلا عن الضرر المتوقع فقط إلا إذا كان الخطأ الذي
ارتكب جسيمًا أو مصحوبًا بغش أو تدليس فإنه يسأل في هذه الحالة عن الضرر
المباشر المتوقع وغير المتوقع، كما أن هذا التعويض يستحق دون حاجة إلى
التكليف الرسمي.
وإذا فقدت البضاعة أو تلفت فإن أمين النقل يلتزم بقيمتها ولكن الخلاف بين
الشراح والمحاكم في فرنسا على حالة السلع المسعرة تسعيرًا جبريًا فهل
تحتسب على أساس التسعير الرسمي وقت الشحن أم وقت وصول البضاعة، أما في
حالة التلف فيلتزم بالفرق بين قيمة البضاعة سليمة وقيمتها تالفة أما في
حالة التأخير فيلتزم بتعويض الضرر الذي ترتب عليه. [(10)]
ما قلناه خاص بنقل البضائع والأشياء على أن الأمر يختلف بعض الشيء بالنسبة
لنقل الأشخاص فإذا أصيب المسافر أثناء الطريق فهل يكون أساس الرجوع على
الناقل المسؤولية التعاقدية أم المسؤولية التقصيرية وعلى أساس إثبات خطأ
معين ارتكبه الناقل أم على أساس المسؤولية الشيئية، على أن الأمر من ناحية
أخرى يقتضي التفرقة بين النقل بأجر، وهو الصورة الغالبة والعادية وبين
النقل المجاني.
ففي حالة النقل بأجر لا ريب في أنه يربط المسافر بالناقل عقد نقل هو الذي
يحكم الرابطة القانونية بينهما على أنه يتعين معرفة التزامات الناقل فيه
وهل التزامه في هذه الحالة التزامًا بغاية فيلتزم بتمكين المسافر من
الوصول سليمًا إلى الجهة المتفق عليها أم هو التزام بوسيلة فيلتزم بأن يضع
تحت تصرفه وسيلة النقل إلى غايته [(11)]،
كان القضاء الفرنسي في بادئ الأمر يذهب إلى الرأي الثاني على أساس أنه لا
محل لمقارنة المسافر بالبضائع لأن له حركة ذاتية وإرادة خاصة ذلك لأنه في
حالة تلف البضائع أو ضياعها يفترض إهمال أمين النقل في المحافظة عليها لأن
له سيطرة تامة عليها أثناء نقلها أما الإنسان فهو كائن له إرادة خاصة وقد
يغافل أمين النقل ويتسبب في إلحاق الأذى بنفسه عن إهمال وتقصير، على أن
هذا القضاء، وعلى رأسه محكمة النقض، لم يستطع أن يثبت على هذا الرأي لكثرة
الحوادث ولأن الأخذ به يترتب عليه أن يتحتم على المسافر أو ورثته أن
يثبتوا خطأ معينًا ارتكبه أمين النقل وهو أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً في
بعض الأحوال لذلك لم يرَ بدًا من القول بأن أمين النقل يلتزم بموجب العقد
بنقل الشخص سليمًا ومعافى إلى الجهة المقصودة فإذا أصيب أثناء النقل كانت
مسؤوليته تعاقدية فيفترض قانونًا أنه قد ارتكب تقصيرًا ولا يستطيع أن
يدفعه إلا بإثبات نفي علاقة السببية بين الخطأ والضرر بإثبات قيام السبب
الأجنبي كالقوة القاهرة والحادث الفجائي وخطأ المصاب وفعل الغير، وهذه
المسؤولية تؤدي إلى نفس النتيجة التي يمكن الوصول إليها عن طريق الأخذ
بالمسؤولية الشيئية (المادة (1384) فقرة (1) مدني فرنسي).
هذا ويثار في هذا الصدد مسألة اجتماعية المسؤوليتين والخيرة بينهما فقد
يكون العمل الواحد إخلالاً بالتزام تعاقدي يحقق المسؤولية التعاقدية وهو
في الوقت ذاته عمل ضار يحقق المسؤولية التقصيرية وهنا تجتمع المسؤوليتان
فإذا أصيب المسافر أثناء الطريق، وأخذ بالرأي القائل بالتزام الناقل
بسلامته، كانت من جهة إخلالاً بهذا الالتزام التعاقدي فتحقق المسؤولية
التعاقدية وكانت من جهة أخرى عملاً ضارًا في ذاته فتجتمع إلى جانب
المسؤولية التعاقدية المسؤولية التقصيرية في مثل هذا الغرض لا يجوز
إطلاقًا الجمع بينهما وإنما يكون الرجوع على أساس إحداهما فقط، ولكن عن
أيتهما ؟ أيترك للمصاب الخيرة بين المسؤوليتين فيختار أكثرهما ملاءمة له ؟
أو أن المسؤولية التقصيرية لا تقوم إذا كان هناك عقد بين الطرفين يحدد مدى
المسؤولية فتبقى المسؤولية التعاقدية وحدها، ولا يكون هنالك مجالاً للخيرة
؟ اختلف الرأي في فرنسا فالبعض يأخذ بالرأي الأول والبعض الآخر يأخذ
بالرأي الثاني وإن كان الراجح هو الرأي الأول ؟ [(12)]
أما في مصر فتذهب بعض المحاكم إلى بناء المسؤولية على أساس المسؤولية
التعاقدية والبعض الآخر على أساس المسؤولية التقصيرية، هذا وقد حكمت محكمة
مصر الابتدائية في 13 مارس سنة 1951 بأنه بمجرد قيام المسافر بدفع الأجر
المفروض لمتعهد النقل فإنه يبرم بينهما عقد يلتزم فيه الناقل بتأمين سلامة
المسافر ووصوله سالمًا إلى المكان الذي يقصده وهذا الالتزام يستخلصه
القاضي تفسيرًا لإرادتي المتعاقدين المشتركة إذ أن المسافر ينتظر الوصول
سالمًا إلى المكان الذي يقصده ولو أن الناقل لم يتعهد بذلك ولو ضمنًا لما
أقدم المسافر على التعاقد كما ذكرت أن هذه المسؤولية لا يدفعها إلا إثبات
القوة القاهرة أو خطأ المصاب (المحاماة س 31 العدد الثامن - رقم (393) صـ
1386). [(13)]
ويختلف الأمر في حالة النقل المجاني [(14)]
ذلك لأنه لا يمكن القول بقيام عقد نقل في هذه الحالة ذلك لأن من عناصر هذا
العقد الجوهرية وضع أجر معين لأمين النقل ولذلك ذهب البعض إلى القول بوجود
عقد غير مسمى أقرب لعقود الوكالة والعارية منه لعقد النقل بجامع نية
التبرع في هذه العقود ولقد كانت هذه الفكرة موضع النقد في فرنسا ذلك لأن
فكرة التعاقد لم تدر بخلد الطرفين إطلاقًا ولذلك فإن القضاء الفرنسي رفض
الأخذ بالمسؤولية التعاقدية في هذه الحالة وكان أمامه أما الأخذ
بالمسؤولية الشيئية (المادة 1384/ 1)، وتشبيه حالة المسافر الذي يصاب
أثناء الطريق بحالة المارة التي تصدمها العربات والمركبات فيكون الحارس
القانوني مسؤول عن هذه الحوادث مسؤولية يفترض معها قيام الخطأ وهو فرض غير
قابل لإثبات عكسه ويكون المصاب مكلفًا في هذه الحالة بإثبات ركن الضرر،
وأما أن تبني المسؤولية في هذه الحالة على أساس إثبات التقصير في جانب
أمين النقل المادتان (1382)، (1383).
ولكن القضاء والفقه في فرنسا رفض أن يطبق حكم المادة (1384) فقرة أولى
(المسؤولية الشيئية) على حالة النقل المجاني لما في تطبيق حكم هذه المادة
على الشخص الذي يتطوع بتأدية خدمة مجانية لآخر من مصادمة للعدالة ولحسن
التقدير، ولهذا فلقد ذهب البعض إلى القول بأن الراكب بغير عوض يتحمل في
الواقع تبعة الأخطار المنظورة والعادية التي تنجم عن ركوبه ولكن أخذ على
هذا الرأي صعوبة تحديد فكرة قبول التبعة من ناحية والأفكار المنظورة
والعادية من ناحية أخرى كما أنه يحمل إرادة الطرفين فكرة لم تدر بخلدهما
وقت قيام الرابطة القانونية ولو أن الراكب أدرك مبلغ الخطر الذي يعرض نفسه
إليه وما في ركوبه المجاني من إسقاط لحقه قبل الناقل لما أقدم على الركوب
أو لفضل الركوب بأجر، كما أنه من ناحية أخرى فإن هذا الاتفاق المزعوم بفرض
وجوده غير صحيح ذلك لأن القضاء قد استقر على عدم جواز الاتفاق على الإعفاء
من المسؤولية التقصيرية، ولذلك فإن الرأي الراجح في فرنسا يبني المسؤولية
في هذه الحالة على أساس إثبات تقصير أمين النقل المادتين (1382)، (1383).
أما في مصر فلقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة في حكمها الصادر في 13
نوفمبر سنة 1930 بلتان 43/ 22 بأن من يقبل الركوب في سيارة تفضلاً من
صاحبها فلا يجوز له المطالبة بالتعويض عن الحوادث والأضرار التي تصيبه من
جراء ركوبه إلا إذا نشأت عن تقصير جسيم من قائد السيارة وبهذا المعنى
أيضًا حكم محكمة مصر المختلطة في 23 مايو سنة 1949 (بأن الراكب يعتبر
قابلاً لبقية الأخطار المتوقعة risques possibles).
على أن النقد الذي وجه إلى هذين الحكمين يرتكز على أنه لا يجوز الاستناد
على فكرة قبول الراكب لتبعة الركوب في سبيل تخفيف مسؤولية الناقل ذلك لأن
الاستناد لهذه الفكرة في القانون الفرنسي قصد به فقط استبعاد المادة
(1384) على حالة النقل المجاني ونظرية المسؤولية الشيئية لم يكن مأخوذًا
بها في مصر حتى صدور القانون المدني الجديد كما أنه لا مبرر لاشتراط
التقصير الجسيم لشغل مسؤولية الناقل في حالة النقل بغير عوض وأنه يمكن أن
يسأل حتى عن خطئه اليسير ويمكن الاستناد لفكرة الخدمة لتخفيف التعويض. [(15)]
دفع المسؤولية:
قلنا فيما سبق أنه إذا لم يوجد نص خاص في عقد النقل فإن الناقل يعد
مسؤولاً إذا لم يقم بتسليم الشيء كاملاً وسليمًا وفي الموعد المتفق عليه
ويفترض خطؤه حتى يقوم هو بإثبات أن مرد عدم التنفيذ راجع لسبب أجنبي خارج
عن إرادته وعندئذ تنقطع علاقة السببية بين الخطأ المفروض والضرر الذي أثبت
وتبرأ ذمة أمين النقل، وهذا السبب الأجنبي قد يكون قوة قاهرة أو حادثًا
فجائيًا وقد يكون خطأ الراسل أو المرسل إليه وقد يكون مرده إلى عيب في ذات
الشيء المنقول أو فعل الغير وفي كل هذه الأحوال تبرأ ذمة أمين النقل بشروط
سنتكلم عنها فيما بعد.
1 - القوة القاهرة والحادث الفجائي: المسألة الأولى التي تعرض هي
معرفة ما إذا كان المدلول القانوني لكل من هذين التعبيرين واحد أم لكل
منهما تعريفة وهل يتفقان في الحكم في الالتزامات عامة وفي عقد النقل خاصة،
الرأي الراجح في الفقه والقضاء لا يميز بينهما فهما اسمان مختلفان لمعنى
واحد، إذا نظر إليه من حيث إنه غير متوقع الحصول فهو حادث فجائي، وإذا نظر
إليه من حيث أنه لا يمكن دفعه فهو قوة قاهرة ولذلك فإن الفقهاء يحيلون في
تعريف كل منهما على الآخر.
والقوة القاهرة force majeves والحادث الفجائي cas fortivt
هو عائق يعترض تنفيذ المدين لالتزامه وقد يكون مصدره راجع لعوامل طبيعية
أو إنسانية كصاعقة أو زلزال أو فيضان أو حرف أو ثورة ومن ناحية أخرى فهو
حادث غير متوقع كما أنه لا تمكن مقاومته ولو أمكن توقعه ويشترط أن يؤدي
لاستحالة تنفيذ الالتزام استحالة تامة ومطلقة وعامة كما أنه يشترط ألا
يكون للمدين بالذات أو أي شخص يسأل عنه شأن في حصوله.
على أن هنالك رأي يفرق بين القوة القاهرة والحادث الفجائي وخاصة في عقد
النقل بالذات ويحصر إعفاء أمين النقل على الأولى دون الثاني وأساس هذا
الرأي أن المادة (97) تجاري مصري وما يقابلها في القانون الفرنسي قد نصت
على أن مسؤولية أمين النقل لا تنتفي إلا بإثبات القوة القاهرة أو خطأ أو
إهمال من مرسلها ولقد ذكرت هذه المادة القوة القاهرة دون الحادث الفجائي
مما يدل في نظرهم، على أن أمين النقل يُسأل حتى في حالة قيامه ويجعلون
أساس التفرقة بينهما ركن الخروج المادي l’extériaité de l’evenement للحادث عن نشاط المدين وشهرته من ناحية أخرى Son importance et son notoriorité
لأن وقوع الحادث داخل منشآت المدين يستحيل معه إقامة الدليل الذي ينفي
لأول وهلة كل شك في فطنة إسناده إليه أما شهرة الحادث ففيها ما يؤيد وقوعه
ولأن في أهميته ما يستحيل معه تحامي نتائجه فالحوادث غير العادية وحدها هي
التي تعتبر قوة قاهرة وهي التي يمكن دفع المسؤولية بها خلافًا للحوادث
الفجائية العادية التي ليس لها مثل هذا الأثر، فالحروب والزلازل والصواعق
والثورات وازدحام البضائع كل هذه عوامل خارجة عن إرادة أمين النقل وعن
نشاطه فلا يسأل عنها أما الحادث الفجائي فإنه أمر داخلي يتعلق بنشاط
المدين ولو لم تكن لإرادته دخل في حدوثه فهو على حد قولهم الخطر الملازم
للحرفة أو الصناعة ويمثلون لذلك بانفجار مصنع أو قاطرة أو عدم كفاية
الأدوات أو الأشخاص الذين يقومون بالعمل أو قلة وسائل النقل فكل هذه عوامل
يجب أن يتحمل تبعتها أمين النقل.
على أن الفقه والقضاء منذ عهد غير قصير لم يأخذ بالرأي القائل بالتفرقة
بين القوة القاهرة من جهة والحادث الفجائي من جهة أخرى سواء في عقد النقل
خاصةً أو في الالتزامات عامةً وانتهى الرأي إلى أن مدلولهما واحد ويترتب
عليهما إعفاء أمين النقل من المسؤولية وأن القانون إذا استعمل أحد اللفظين
فإنه يقصد أيضًا التعبير الآخر. [(16)]
2 - خطأ الراسل أو المرسل إليه: وقد يكون مرد عدم التنفيذ راجع
لخطأ من الراسل أو المرسل إليه فقد يرجع سبب التلف إلى عامل سابق على
الشحن أو لعيب في الحزم أو بسبب سوء الشحن والتفريغ إذا كان متفقًا على أن
يتم ذلك بمعرفة أحدهما. [(17)]
3 - العيب الخاص: ويقصد به أن يحوي الشيء المنقول آفة هلاكه
وإعدامه وقد يكون مرده حالة طبيعية، أو غير طبيعية ولكن لا دخل لأمين
النقل في حدوثها، من شأنها أن يهلك الشيء من ذات نفسه دون أن تتدخل عوامل
خارجية وذلك كقابلية البضاعة للفساد من تلقاء نفسها أو لأنها من الأشياء
التي تتلف بطبيعتها بسبب الموسم الذي تنقل فيه فكثير من الخضروات والفاكهة
تخمر وتتعفن خاصةً في فصل الصيف فإذا فسدت البضاعة في هذه الأحوال فلا
يكون الناقل مسؤولاً وهذا ما تنص عليه المادة (97) تجاري (أمين النقل ضامن
للأشياء المراد نقلها إذا تلفت أو عدمت إلا إذا حصل بسبب عيب ناشئ عن نفس
الأشياء…).[(18)]
4 - فعل الغير: وقد يكون مرد عدم التنفيذ راجع إلى فعل الغير فلا
يكون أمين النقل مسؤولاً على شريطة أن يكون هذا الغير شخصًا أجنبيًا عن
الناقل غير تابع له وألا يكون مسؤولاً عنه مسؤولية تعاقدية أو تقصيرية كما
يشترط القضاء الفرنسي أن تتوافر في فعل الغير شروط القوة القاهرة. [(19)]
الشروط المعدلة لأحكام المسؤولية:
1 - ماهيتها وسلطة المحكمة إزاءها: يندر أن تكون عقود النقل على
الصورة البسيطة التي بيناها بالاكتفاء بإحكام القواعد العامة دون اشتراط
شروط خاصة لأن ذلك غالبًا ما يكون مع صغار أمناء النقل أو من يقوم بعملية
عرضية، ولما كانت تتولى شؤون النقل في مصر مصلحة السكة الحديد بصفة رئيسية
وتقوم إلى جوارها شركات النقل المختلفة، ولذلك نجد أنها تشترط في بوالص
الشحن التي تعدها شروطًا كثيرة ترمي غالبًا إلى إعفائها من المسؤولية أو
الحد منها وتحديد التعويض في أضيق صورة ولا يتمتع الطرف الآخر بحرية
مناقشة هذه الشروط أو التعديل فيها.
ولما كانت عقود الإذعان تتميز بتعلق موضوعها بسلع أو مرافق ضرورية للجمهور
وباحتكارها أو قيام منافسة محدودة وبأن العرض موجه للجمهور عامة بشروط
واحدة لا تتغير بتغير الأشخاص ولا مجال للمناقشة فيها لذلك فإن هذه
العناصر متوافرة تمامًا في عقد النقل، على أنه إذا انتفت هذه العناصر
جميعًا أو إحداها فإن العقد لا يعد آنئذٍ عقد إذعان كما إذا ثبت أن شروط
النقل كانت مكتوبة لا مطبوعة أو كانت موضع مساومة وبحث جدي أو كانت مخالفة
للصور المطبوعة والمطبقة على الكافة.
ولقد انقسم الرأي حول طبيعة هذه العقود إلى فريقين أولهما ينكر عليها
صيغتها التعاقدية إذ أن العقد يوافق إرادتين عن حرية واختيار بينما هو في
هذا النوع من العقود مجرد إذعان أو انضمام لا يصدر عن إرادة حرة بل على
المتعاقد أن ينزل على حكم هذه الشركات فالرابطة القانونية بينهما قد خلقها
في الواقع إرادة المحتكر وحده ولذلك فإن أصحاب هذا الرأي يرون أن يفسر هذا
العقد وأن تحدد التزاماته وحقوقه على ضوء هذه الاعتبارات وعلى أساس
المصلحة العامة لمجموع الأفراد فتراعي مقتضيات العدالة وحسن النية وما
تستلزمه الظروف الاقتصادية أما الفريق الثاني فيرى أن حجج الفريق الأول
ساقطة ولا تصلح أساسًا للقول بإنكار صفة العقد على عقد حقيقي ثم بتوافق
إرادتين فكثير من العقود في العهد الحديث يتحقق فيها إضطرار أحد طرفيها أو
كليهما للتعاقد دون أن يذهب أحد إلى القول باعتبار هذا الاضطرار إكراه
مبطلاً للعقد كما أن انعدام المساواة بين المتعاقدين لا يمكن تجنبه فهو
كثير الحدوث في العقود الرضائية البحتة أليست شروط عقود الإيجار والعمل
ترمي غالبًا إلى رعاية مصلحة المؤجر ورب العمل أكثر من رعاية مصلحة
المستأجر والعامل ؟ لذلك فإن هذا الفريق يرى أن ركن الاضطرار في هذه
العقود أقل منه في غيرها فالكل أمام المحتكر سواء والعقود جميعًا على
وتيرة واحدة ولا توضع إلا بعد موافقة السلطات الحكومية ولهذا فإن هذا
الفريق يرى أن العقد في هذه الحالة عقد حقيقي يتم بتوافق إرادتين وأن علاج
الضعف المزعوم لا يكون بإنكار صفة العقد على عقد حقيقي تم بتوافق إرادتين
ولا بتمكين القاضي من تفسير هذا العقد بل بتقوية الجانب الضعيف سواء
بالوسائل الاقتصادية أو التشريعية والقضاء في فرنسا وفي مصر لم يتأثر
كثيرًا بالمذهب الأول بل أخذ كمبدأ عام بالمذهب الثاني ولكنه مع أخذه
باعتبار هذا النوع من العقود عقودًا حقيقية إلا أنه أخذ يتلمس الطرق للحد
من قسوتها وتعسفها بدعوى أنها تتناقض مع جوهر العقد أو لأنها مخالفة
للنظام العام والآداب أو لأن المتعاقد لم يكن ليستطيع الوقوف عليها وقت
التعاقد أو لتناقضها مع شروط مكتوبة.[(20)]
والقانون المدني الجديد وإن أخذ بالمذهب الثاني على النحو الذي طبقه
القضاء فاعتبر هذا النوع من العقود عقودًا حقيقية إلا أنه أعطى للقاضي
سلطة تعديل الشروط الجائزة أو الإعفاء منها، فالمادة (100) منه تنص على أن
(القبول في عقود الإذعان يقتصر على مجرد التسليم بشروط مقررة يضعها الموجب
ولا يقبل المناقشة فيها)، كما تنص المادة (149) على أنه إذا تم العقد
بطريقة الإذعان وكان قد تضمن شروطًا تعسفية فإنه يجوز للقاضي أن يُعدل هذه
الشروط أو أن يعفي الطرف المذعن منها وذلك وفقًا لما تقضي به العدالة ويقع
باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك، كما تنص المادة (151) فقرة ثانية على أنه
(لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضار بمصلحة
الطرف المذعن).. على أننا نرى من المفيد أن ننقل أولاً مذكرة المشروع
التمهيدي على المادة (149) ثم نتناول بعد ذلك سلطة المحكمة على ضوئها فلقد
جاء فيها (تناول المشروع فيما تقدم بيان الأحوال التي يتم فيها التعاقد
بطريقة الإذعان)، وقد قصد إلى التخفيف مما يلازم هذا الضرب من التعاقد من
شدة وحرج، بالنسبة للعاقد المذعن فأقام لصالحه استثناءين من إحكام القواعد
العامة في تفسير العقود فالأصل أن الحاجة إلى التفسير لا تعرض متى كانت
عبارة العقد واضحة ففي مثل هذه الحالة تطبق شروط التعاقد كما أفرغت بيد أن
الحكم يختلف فيما يتعلق بما يدرج في عقود الإذعان من الشروط الجائرة
فالالتجاء إلى التفسير يتعين بشأنها، ولو كانت واضحة العبارة بينة السياق
فمن واجب القاضي أن يثبت في هذه الحالة مما إذا كان العاقد قد تنبه إلى
هذه الشروط فإذا استوثق من تنبه هذا العاقد إليها كما لو كان العاقد الآخر
قد احتاط فجعل تلك الشروط مخطوطة باليد في عقد مطبوع، تحتم عليه أيضًا
إمضاء حكمها رعاية لاستقرار المعاملات أما إذا تبين أن العاقد المذعن لم
يتنبه إلى الشروط الجائزة فعليه أن يستبعدها وينزل على أحكام القواعد
العامة، في هذا النطاق الضيق يطبق هذا الاستثناء فلا يبلغ الأمر حد
استبعاد الشرط الجائر بدعوى أن المذعن قد أكره على قبوله، متى تنبه إليه
هذا العاقد وارتضاه فالإذعان لا يختلط بالإكراه، بل إن التوحيد بينهما أمر
ينبو به ما ينبغي للتعامل من أسباب الاستقرار ثم أن ما يولى من حماية إلى
العاقد المذعن ينبغي أن يكون محلاً لأحكام تشريعية عامة، كما هو الشأن في
حالة الاستقلال أو التشريعات خاصة. [(21)]
ولذلك فإن على القاضي أن يتبين أولاً ما إذا كانت عبارات العقد واضحة أم
غامضة فإن كانت الأخير كان عليه أن يُطبق قواعد التفسير فلا تفسر هذه
العبارات بما يضر مصلحة الطرف المذعن المادة (151) ف (2) أما إذا كانت
العبارة واضحة فإن على القاضي أن يبحث ما إذا كانت هذه الشروط تطابق
القواعد العامة أم أنها شروط جائرة تخالف في الكثير منها هذه القواعد وفي
هذه الحالة يتعين التفرقة بين حالة معرفة الطرف الآخر لها وقبوله التعاقد
عن علم بها أم أنه كان جاهلاً بها وفي هذه الحالة الأخيرة فقط يكون للقاضي
سلطة التعديل من هذه الشروط أو الإعفاء منها.
هذا وقد حكمت محكمة النقض المصرية في 25 مايو سنة 1950 بأن الشرط الوارد
في عقد من عقود الإذعان لا يُقاس قبوله على قبول المكره ولم يجز القانون
المدني للقاضي تعديل هذه الشروط أو الإعفاء منها إلا إذا كان شرط الإذعان
تعسفيًا، وهذا الحكم تفسير للمادتين (100)، (149) مدني جديد ولم تجز
محكمتنا العليا إبطال شرط من شروط عقد الإذعان بهذه الصفة فقط بل اشترطت
أن يكون هذا الشرط تعسفيًا ولا شكل أن خير مقياس للتفرقة في هذه الحالة هو
الرجوع للقواعد العامة لمعرفة مدى مطابقة الشرط أو مخالفته إياها.
وقد أخذ على هذا الحكم أنه لم يتبين حكمة التشريع فالمشرع قد رمى من وضع
المادة (149) إلى أن يخرج القاضي عن وظيفته وهو تطبيق العقد إلى شيء آخر
هو العمل على توازن شروط العقد بين العاقدين ليتعرف هل يوجد توازن حقيقي
أم لا يوجد ومدى الإكراه الاقتصادي الذي انتهى بالعاقد إلى الإذعان. [(22)]
وعلى ذلك فإن على المحكمة أن تُطبق هذه القواعد على عقد النقل ونجد أن
تطبيقها سيؤدي إلى الأخذ بذات الأحكام والمبادئ التي كان معمولاً بها، ولا
زالت، والتي تفرق بين شرط عدم المسؤولية من ناحية وشرط تحديد المسؤولية من
ناحية أخرى وكما تفرق من جانب بين حالة الخطأ الجسيم والغش والتدليس من
جانب وحالة الخطأ اليسير من جانب آخر.
2 - شرط عدم المسؤولية: إذا اشترط أمين النقل هذا الشرط في بوليصة
الشحن وارتكب بعد ذلك خطأ، سواء أكان مفرضًا أم مثبتًا، فما هو حكم هذا
الشرط ؟ هل يترتب عليه براءة ذمته ؟ أم يعد شرطًا باطلاً لا أثر له فتطبق
القواعد العامة السالفة الذكر ؟ هذا وقد يرتكب خطأ جسيمًا أو تدليسًا أو
غشًا أو قد يرتكب مجرد خطأ يسير والحكم في الحالتين لا يمكن أن يكون
واحدًا.
( أ ) الحالة الأولى: حالة الخطأ الجسيم والغش والتدليس: اختلف
الرأي في فرنسا حول التسوية بين الخطأ الجسيم من جانب والغش والتدليس من
جانب آخر فيذهب رأي إلى ضرورة أعمال التسوية بينهما في الحكم وأن شرط عدم
المسؤولية مع قيام إحداها شرط باطل وأنه يتعين في هذه الحالة الرجوع
للقواعد العامة للمسؤولية التعاقدية كما يرتكز أيضًا على أن قيام الغش
والتدليس والخطأ الجسيم يجعلنا إزاء المسؤولية التقصيرية حيث يكون هذا
الشرط باطلًل لأنه في الواقع إعفاء منها حيث تحرمه نصوص القانون وأحكامه
أما الرأي الآخر فيفرق بين الخطأ الجسيم من جانب والغش والتدليس من جانب
آخر ويكون أمين النقل في الأولى مسؤولاً مسؤولية تعاقدية يجوز معها
الاتفاق على تعديل أحكامها أما في الأخيرة (الغش والخطأ الجسيم) فيكون
أساس مسؤوليته هو المسؤولية التقصيرية التي لا يجوز الاتفاق على الإعفاء
منها. [(23)]
هذا وتنص المادة (217) من القانون المدني الجديد:
(1 - يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الحادث المفاجئ والقوة القاهرة.
2 - وكذلك يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسؤولية تترتب على عدم
تنفيذ التزامه التعاقدي إلا ما ينشأ عن غشه أو خطئه الجسيم ومع ذلك يجوز
للمدين أن يشترط عدم مسؤوليته عن الغش أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص
يستخدمهم في تنفيذ التزامه.
3 - ويقع باطلاً كل شرط يقضي بالإعفاء من المسؤولية المترتبة على العمل غير المشروع).
وهذه المادة تسوي بين الغش والخطأ الجسيم وتبطل شرط عدم المسؤولية حال
قيام المسؤولية التقصيرية وتُجيز الاتفاق على تحمل المدين عبء القوة
القاهرة وتبطل شرط عدم مسؤولية المدين ذاته عن غشه وخطئه الجسيم وإن
إجازته عن الغش والخطأ الجسيم الذي يقع من تابعيه في تنفيذ التزامه.[(24)]
وإذا طبقنا حكم هذه المادة على مسؤولية أمين النقل لوجدنا أن شرط عدم
المسؤولية الذي تشترطه مثلاً مصلحة السكة الحديدية في بوالص الشحن ترمي به
إلى إعفائها من المسؤولية عن كافة الأخطاء، بما في ذلك الغش، التي يرتكبها
تابعوها أو التي قد ترتكبها هي، وعلى ذلك فإنه يتعين تبيان مدلول الشرط
وهو يرمي إلى الغاية السالفة الذكر، فإذا كان الغش أو الخطأ الجسيم
منسوبًا إلى المصلحة ذاتها كشخص معنوي وكان الضرر المحقق الذي وقع نتيجة
طبيعية لهما فإن شرط عدم المسؤولية يعد في هذه الحالة باطلاً وتكون
المصلحة مسؤولة تطبيقًا للقواعد العامة أما إذا كان الغش أو الخطأ الجسيم
منسوبًا إلى أحد عمالها فإن هذا الشرط يُعد شرطًا صحيحًا وواجب العمل به
وتبرأ ذمة المصلحة في هذه الحالة، هذا ويجوز إثبات الغش والخطأ الجسيم
بكافة الوسائل بما في ذلك البينة والقرائن إلا أنه يتعين على من يتمسك
بهما أن يقدم الدليل المقنع للمحكمة على قيامهما ولا تكفي مجرد قرائن
بسيطة أو افتراضات مجردة.
على أنه إذا كان الرجوع على أمين النقل مع وجود هذا الشرط على النحو الذي
بيناه غير منتج لصحته فإن الراسل أو المرسل إليه يستطيع الرجوع على أساس
قواعد المسؤولية التقصيرية على أن يثبت الخطأ الجسيم أو الغش قبل شخص معين
من تابعي المصلحة وتكون المسؤولية مردها مسؤولية المتبرع عن الأخطاء التي
تقع من تابعه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها (م 174) على أنه إذا أخذ
بالمذهب الذي يقوم بعدم جواز الرجوع بالمسؤولية التقصيرية عند قيام
المسؤولية التعاقدية فعندئذٍ لا يكون هنالك مجال للرجوع.
(ب) الحالة الثانية: حالة الخطأ اليسير: إذا كان الخطأ الذي ارتكبه
أمين النقل خطأ يسيرًا فهل يكون شرط عدم المسؤولية صحيحًا أم باطلاً فتطبق
القواعد العامة ؟ أم يكون من شأنه قلب عبء الإثبات ؟ لإمكان الإجابة على
هذه الأسئلة فإن علينا أن نستعرض الحالة في فرنسا ثم في مصر.
1 - في فرنسا: في بادئ الأمر وعلى الأخص في الفترة ما بين سنة
1856، وسنة 1874 ذهب القضاء إلى القول ببطلان هذا الشرط لمخالفته للنظام
العام والآداب ولكنه تعرض لموجة شديدة من النقد من جانب الفقه لمخالفته
لقاعدة أساسية هي أن العقد شريعة المتعاقدين وأن هذا الشرط ليس فيه مخالفة
للنظام العام أو الآداب فضلاً عن أن القانون الروماني كان يأخذ به في غير
حالة الغش والخطأ الجسيم، ولذلك فلقد اضطر القضاء للعدول عن رأيه وهنا نجد
اتجاهان أولهما الأخذ بصحة هذا الشرط وأنه يترتب على الأخذ به انتفاء
المسؤولية التعاقدية وإن كان من الجائز الرجوع على أساس المسؤولية
التقصيرية في حالة الخطأ الجسيم والغش والتدليس، أما الاتجاه الثاني فيذهب
إلى القول بأن من شأن هذا الشرط قلب عبء الإثبات فيفترض أن عدم تنفيذ
الالتزام مرده القوة القاهرة وعلى الراسل أو المرسل إليه أن يثبت خطأ
معينًا قبل أمين النقل.
ولقد جاء بحكم محكمة النقض الفرنسية في 22 يوليه سنة 1902 بأن شرط عدم
المسؤولية عن التأخير أو التلف من شأنه أن يرفع المسؤولية عن عاتق الناقل
ما لم يثبت الحكم قبله خطأ معينًا (دالوز 1902 - 1 - 33)، كما جاء في حكم
آخر لنفس المحكمة صادر في 18 فبراير سنة 1902 بأنه إذا ورد بتعريفة شركة
السكة الحديد شرط عدم المسؤولية عن التأخير والتلف أثناء الطريق وأن تحميل
وتفريغ العربة يقع على عاتق الراسل أو المرسل إليه فإن هذا الشرط صحيح وأن
الحكم الذي يقضي بمسؤولية الشركة عن التلف لسبب واحد هو أن الشركة لم تتخذ
أثناء الطريق العناية الأولية ووقاية هذه البضائع من الأمطار فإنه حكم
خاطئ يتعين نقضه (دالوز 1902 - 1 - 477). [(25)]
وقد رأى المشرع الفرنسي في سنة 1905 أن يضيف فقرة جديدة إلى المادة (103)
من القانون التجاري الخاصة بمسؤولية أمين النقل في حالتي التلف والفقد
الكلي أو الجزئي وهذه الإضافة الجديدة تقضي بأن كل شرط مخالف لأحكام هذه
المادة مدون في بوليصة النقل أو أية ورقة أخرى يعد باطلاً، وقد صدرت هذه
الإضافة بناءً على مشروع قانون اقترحه أحد أعضاء البرلمان السير رابيير
وصدر التعديل في 17 مارس سنة 1905 والغاية منه تحريم شرط عدم المسؤولية في
حالتي التلف والضياع المنصوص عليها في المادة (103)، ولكنه لم يتعرض من
قريب أو بعيد للمادة (104) الخاصة بالمسؤولية في حالة التأخير ويرمي هذا
القانون إلى استبعاد الأخذ بالأحكام التي كانت تعفي أمين النقل كلية من
المسؤولية وكذلك الأحكام التي كانت تأخذ بأن من شأن هذا الشرط قلب عبء
الإثبات من على عاتق أمين النقل إلى عاتق الراسل أو المرسل إليه الذي كان
يتعين عليهما طبقًا للقواعد السابقة إثبات خطأ معين قبل أمين النقل وهو
عبء صعب إن لم يكن مستحيلاً فأراد الشارع بهذا التعديل أن يعفيهما من ذلك.
[(26)]
2 - في مصر: لا يوجد قانون مماثل لقانون رابيير الفرنسي الصادر في
17 مارس سنة 1905، ولذلك يتحتم الرجوع للقواعد العامة في الالتزامات ونصوص
القانون التجاري في عقد النقل ويكون الوضع هنا كالوضع في فرنسا قبل صدور
قانون رابيير ويكون هذا الشرط صحيح في حالة الخطأ اليسير ولكن لا يؤخذ به
في حالة الغش والخطأ الجسيم والتدليس - وما سبق أن قلناه عن حكم المادة
(217) من القانون المدني الجديد عند الكلام على حكم شرط عدم المسؤولية،
حالة الغش والخطأ الجسيم والتدليس يسري هنا من باب أولى، وقد سلمت بصحة
هذا الشرط وضرورة العمل به في غير حالة الغش محكمة استئناف مصر في حكمها
الصادر في 16 مارس سنة 1950 في القضية رقم (96) تجاري سنة 60 قضائية
والمنشور بمجلة التشريع والقضاء السنة الثانية العدد رقم (14) صـ 239 كما
أخذ القضاء المختلط بصحة هذا الشرط وإن أجاز للراسل إثبات الخطأ الجسيم أو
الغش قبل أمين النقل (بلتان س 41 صـ 119). [(27)]
3 - شروط تحديد المسؤولية: قد لا تذهب بوليصة النقل إلى حد اشتراط
عدم مسؤولية أمين النقل مكتفية بتحديدها والتخفيف من آثارها فلقد تنص على
أنه لا يُسأل عن الأضرار التي قد تترتب على تأخير شحن أو وصول البضاعة
وهذا الشرط يرد غالبًا في التعريفة ذات الأجر المخفض فترتضى المصلحة سلفًا
إنقاص أجر النقل عن سعره العادي في مقابل تحمل الراسل تبعة التأخير كما قد
تشترط البوليصة أن يكون شحن وتفريغ العربات المعدة للبضائع بمعرفة الراسل
أو المرسل إليه أو تشترط تحديد مسؤوليتها في حدود معينة بالنسبة للأشياء
الفنية التي تقتضي رعاية خاصة كما أن أمين النقل قد يشترط في البوليصة
تحديد التعويض الذي يستحقه الطرف الآخر بحد أقصى، وهذه الشروط إذا نظر لكل
منها