النظام القانوني لمفاوضات العقود الدولية
الدكتور/ أحمد عبد الكريم سلامة*
إستهـلال
1. العقد قانون الأطراف
التعاقدي: إستقر الفكر القانوني على أن
العقد، عموما، هو توافق إرادتين أو أكثر على إحداث أثر قانوني معين. وهذا الأثر
القانوني effet Juridique هو
جوهر أو ثمرة التراضي أو الإتفاق بين أطراف العقد، وهو لا يكون كذلك إلا بمقتضى ما
وضعه هؤلاء من محددات وضوابط، التي من غيرها لا يمكن الركون إليه، ويظل هملا
تتلاطمه أهواء من تصوروه.
خذ مثلا، لو باع شخص سلعة لآخر، فإن التراضي
وتبادل الإرادات، أي الإيجاب والقبول بين الطرفين، يرتب أثرا هو نقل ملكية وحيازة
المبيع من البائع إلى المشتري، وهذا الأثر لا يتصور بغير أن يكون التراضي سليما
صادرا عن شخص ذي أهلية للتصرف، ويتم الإفتاق حول ماهية المبيع ومواصفاته، ووقت
ومكان تسليمه، وثمنه، ووقت ومكان وكيفية الوفاء به، وحكم تأخير الوفاء....
إن ما يتصوره أطراف العقد ويضعوه، حول كل تلك
المسائل، يعتبر في الواقع قواعد سلوكية إتفاقية تضبط علاقاتهم[1]،
وهي قواعد قانونية خاصة Lex privata تشبه
القواعد القانونية الصادرة من السلطة التشريعية المختصة[2].
2. القانون التعاقدي له
سمات القانون الرسمي: وليس
في ذلك مغالاة، فتلك القواعد القانونية الإتفاقية تحقق الهدفين الذين يطمح إليهما
أي تشريع وضعي رسمي: العدالة والأمان.
من ناحية العدالة la justice، فقد قيل إن
كل ما هو تعاقدي يكون عادلا[3]
فالشخص لا يرتضي إلا ما يكون في صالحه، أي ما يكون عادلا، وكما يقول KANT "عندما يقرر أحد شيئا في مواجهة آخر، فمن الممكن
أن ينطوي على بعض عدم العدالة، ولكن عدم العدالة يكون مستحيلا حينما يقرر الشخص
لنفسه"[4]. كما هو الحال في العقد، فإذا كان العقد يخلق
قواعد سلوكية قانونية، فإن تلك القواعد هي الأكثر عدالة، لأنها القواعد المتأيتة
من الإرادة والمقبولة من صانعها[5].
ومن ناحية الأمان La Securte، فإن القواعد المنظمة للعلاقة العقدية لا تتأتى من
مصدر خارجي، بل المتعاقدون هم صناعها، ليست غريبة عنهم، وتتوافق مع تطلعاتهم،
وتطبيقها، أو الدعوة إلى الإلتزام بها، لا يشكل إخلالا بتوقعات من تخاطبه. فكما أن القاعدة القانونية العادية هي نتاج
إرادة المجتمع المجسدة في السلطة التشريعية، فهي تتأتى من داخل المجتمع[6].
فإن
القاعدة الإتفاقية نتاج إرادة المتعاقدين، فهي تتأتى من داخل هؤلاء، وبالتالي فهي
لا تخل بتوقعاتهم، بل تعمل على إحترام حقوقهم المتولدة من العقد، وتحقيق التعاون
بينهم.
وليس غريبا هنا أن يعترف المشرع الوضعي ذاته بأن
العقد هو قانون أو شريعة المتعاقدين. وهو
قانون خاص تتغيا قواعده الغايتان المشار إليهما.
3. العقد الدولي وإعداد
القانون التعاقدي الدولي: ومع
التحفظ الواجب بخصوص فكر المدرسة الإجتماعية، والضوابط الواجبة على مبدأ سلطان
الإرادة[7]،
والعقد شريعة المتعاقدين حماية للطرف الضعيف في العقد عموما، فإن الفقه ما زال
يردد، بخصوص العقود الدولية مبدأ السيادة القاعدية Souverainete normative للمتعاقدين، أي مقدرتهم على خلق قواعد اتفاقية خاصة،
تضبط وتحكم علاقاتهم التعاقدية[8]. فالعقد خلاق لقواعد قانونية، ومصدر مستقل
للحقوق والإلتزامات.
ويصل الفقه المشار اليه إلى القول إن العقد
الدولي يعتبر "القانون التعاقدي الدولي" أو "القانون الدولي
للأطراف المتعاقدة"[9]
، النابع من الحرية الدولية للإتفاقات[10]،
أو الحرية التعاقدية الدولية[11].
ومبدأ الحرية التعاقدية الدولية قد إعترف به
وأقره المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص UNIDROIT في
مجموعة المبادئ المتعلقة بعقود التجارة الدولية التي تبناها عام 1994، حيث نصت
المادة 1/1 على أن "يكون الأطراف أحرارا في إبرام العقد وفي تحديد
مضمونه"[12].
إذا كان الأمر كذلك، وحتى تأتي القواعد
القانونية الإتفاقية، التي يتكون منها هذا القانون التعاقدي Iex
contractualis الدولي مناسبة وكاملة،
وحتى يمكنها تحييد وإقصاء القوانين الوطنية، التي أضحت لا تتلاءم مع خصوصيات
المعاملات التجارية الدولية[13]،
فإن على الأطراف، التي ترغب في إبرام العقود الدولية، أن تبذل قصارى جهدها في
إعداد عقد جيد، محبوك الصياغة القانونية.
وهذا يقتضي الدخول مبكرا في مفاوضات ومناقشات تمهد لإبرام العقد النهائي،
وكذلك بذل الجهد في تحرير وصياغة العقد الدولي، حتى يكون كافيا بذاته مغنيا عن
اللجوء إلى القوانين الوطنية.
4. تقسيم: تعتبر المفاوضات Negociations – Pourparlers من المقدمات الأولية اللازمة، على الأقل في ظل
الأوضاع المعاصرة للمعاملات والمبادلات الإقتصادية للسلع والخدمات عبر الحدود،
لإبرام العقود الدولية، فتلك العقود تستتبع، بالضرورة إنتقال القيم الإقتصادية بين
الدول المختلفة، وتتأثر بها، من ثم، المصالح الحيوية للأفراد أطراف التعامل
الدولي، بل وتلك الدول ذاتها.
وقد أرسي الواقع العملي، وممارسات رجال الأعمال
وشركاء العمليات التجارية الدولية، بعض القواعد والتطبيقات التي تحكم بدء وسير وإنتهاء
مفاوضات العقود الدولية، وهي قواعد تبدو أساسية في ظل فراغ تشريعي حقيقي في مختلف
التشريعات المقارنة.
والتعرف على تلك القواعد المنظمة لمفاوضات العقودالدولية يستلزم منا أن نعرض
في:
مبحث أول: الأعداد للمفاوضات وخطابات النوايا.
مبحث ثان: تنظيم مفاوضات العقد الدولي.
المبحث الأول
الإعداد للمفاوضات وخطابات النوايا
5. تقديم: إن الإعداد للمفاوضات، التي
تسبق إبرام العقد الدولي، هو من العمليات الشاقة التي تستغرق وقتا وجهدا ونفقات،
بل يمكن القول إن المفاوضات التي يعد لها جيدا تنتهي، غالبا، بإبرام عقد ناجح، يتم
الإتفاق عليه، وتنفيذه، بطريقة سليمة هادئة ويحقق كل طرف ما يبتغيه من ورائه.
ومن بين ما يتم الإعداد له للمفاوضات التعاقدية،
الإتصال بين الأطراف ودعوة أحدهم الآخر للتحاور وتبادل الآراء حول العملية
التعاقدية المزمع الدخول فيها بينهم، ومن بين أهم وسائل الإتصال ما يسمى بخطابات
النوايا، والتي نعرض لها فيما يلي في مطلبين.
المطلب الأول
ماهية خطابات النوايا
أولا: تعريف خطاب النوايا وغاياته:
6. خطابات النوايا
والعقود الدولية المعاصرة: المتأمل في العقود الدولية المعاصرة، كعقود
إنشاء البنية التحتية، إقامة المطارات ومحطات الطاقة بنظام الـ B.O.T[14]، وعقود إنشاء المصانع بنظام
المفتاح في اليد cle en main أو
الإنتاج في اليد Produit en main وعقود
نقل التكنولوجيا وعقود خدمات المعلومات[15]
contral informatique وعقود
الإئتمان التأجيري الدولي[16]......
.
يدرك أنها، على خلاف العقود الدولية اليومية
البسيطة كالبيع أو النقل أو غيرها[17]،
تنطوي على العديد من المسائل الفنية الدقيقة، التي لا يمكن حسمها في جلسة أو
جلستين، بل يستلزم الأمر إجتياز مراحل متعاقبة ومستمرة صوب العقد النهائي[18]،
يتم فيها إتفاقيات تمهيدية Preliminary agreemenis تحرر
في مستندات تحضيرية documents preparatoires تبادل
فيها الأطراف الرؤية والمفاهيم حول أمور تتصل بالمفاوضات حول العقد النهائي، ولعل
من أهمها ما يسمى بخطاب النوايا أو التفاهم[19].
7. تعريف خطاب النية: وخطاب النية Lettre dintention[20]، أو خطاب التفاهم Letter
of understanding[21]، أو مذكرة التفاهم Memorandum
of understanding أو
مذكرة أساسيات الإتفاق heads of agreement ليس من
السهل وضع تعريف محدد له، وبالتالي تحديد وضعه القانوني، وذلك لأن الواقع العملي
يدل على أن لخطابات النوايا أشكالا مختلفة، وتتناول موضوعات شتى يتعذر الربط بينها
لإستخلاص محور تتمركز حوله كما سنتبين من خلال عرض غايات وأهداف تلك الخطابات. ومع
ذلك حاول البعض تقديم تعريف له، بالقول إنه "وثيقة مكتوبة قبل العقد النهائي
تعكس الإتفاقات أو الفهم المبدئي لطرف أو أكثر من أطراف التعاقد التجاري بغية
الدخول في عقد مستقبلي"[22].
غير أننا نرى أن خطاب النوايا يجب أن يعرف بما
يتفق مع مسماه، فنقول إنه مستند مكتوب يوجه من طرف يرغب في التعاقد على أمر معين
إلى الطرف الآخر يعرب فيه عن رغبته تلك، ويطرح فيه الخطوط العريضة للعقد المستقبل
المزمع إبرامه ويدعوه إلى التفاوض والدخول في محادثات حوله[23].
ونعتقد أن أي مستند لا ينطوي على إبداء الرغبة
في التعاقد، ولا يتضمن بيانا للنقاط الرئيسة والخطوط العريضة للعملية التعاقدية
المستقبلية، ولا يشتمل على دعوة الطرف الآخر للإلتفاء والجلوس سويا للتفاوض حولها،
لا يعتبر ذلك المستند خطابا للنوايا، بل يعد مستندا آخر يجب ان يسمى بإسمه.
*
دكتوراه الدولة في
القانون من جامعة باريس – حائز ثلاث مرات جائزة الدولة في العلوم القانونية – نائب
رئيس جامعة حلوان.
[1] قارن:
GROUHETTE:
Etude critique de la notion du Contrat, These Paris, dacty. 1965, P.635
وفي عرض هذا الفكر راجع:
V.HUEZE: La reglementation francaise des contrats
internatoinaux, etude critique des me thodes.
These Paris, Ed GLD, Joly, 1990, n. 82 ET ss., p. 43 ET ss.
JMJCQUET: Principe d'autononie ET contrats internationaux,
These, Paris,
ed. Econonica, 1983, n. 101 ET ss., p. 79 ET ss.
[2] قارن عكس ذلك:
V.HEUZE: these precitee, p. 61. ET ss.
[3] راجع:
A. FOUILLEE: La science sociale contemporaine, Paris, 1880, P. 410.
[4] راجع:
EKANT: Doctrine du Driot, Traduction Barni, Paris, 1889, P. 169.
[5] راجع:
PROUBIER: Theorie generale du droit, Paris, Sirey, 1951, P. 263
[6] أنظر تفصيلا:
J.DARBELLAY: La regle juridique, son fondement moral
et social, ed. De l'oeuver st-Augustin, st-Maurice, Fribourg, 1945, p.76
[7] راجع في نقد ذلك المبدأ:
EGOUNOT: Le
principe de l autonomit de l avolonte en Droit prive, contribution a l'etude
critique de l'individualisme juridique, These Dijon, 1912.
[8] راجع خصوصا:
Dominique BLANCO: Negocier ET rediger UN contrat
international, Paris,
Dunod, 2 eme ed., 1995, p. 34 – 35.
[9] راجع BLANCO:
المرجع السابق، ص 37-38.
[10] حول مفهوم هذا التعبير:
J-M. JACQUET: Principe
d'autononie ET contrats internationaux, these Paris, Ed Economiea, 1983 No 23
ET ss p. 23 ET ss.
C.FERRY: La validite des contrats en droit
international prive, Thes Montpellier,
Ed, L.G.D.J., 1989, P. 95 et.ss.
[11] راجع BLANCO:
المرجع السابق ص 37.
[12] حول هذه المبادئ الهامة، راجع:
A.GLARDINA:
Les principes Unidroit sur les principes Unidroit sur les contrats
internatioaux, clunet 1995, p. 547.
D. BurdEAU: Les nouveaux principes
Unidroit, colloque de l'nstitut de la CCI, Paris 20 – 21 oclobgre 1994, Reu
Arb., 1995, P. 787.
J.P.
BERAUDO: Les principes Unidroit relatifs au droit durce international, J.C.P.
1995 doctrine 3842, p.189.
CKESSEDJIAN:
Une exercice de renovation des sources du droit des contrats du commerce international: Les principes proposes par
l"Unidroit, Rev. crit, 1996 p. 461 et ss.
Ch.
LARROUMET: La valeur des principes d'unidroit applicables aux contrats du
comerce international ,J.C.P.1997,doctrine 4011,p.147.
F.CBENEDICTE: Les contrats du commerce
international Une approche nouvelle: Les principes d'unidroit relatifs aux
contrats du commerce international, Rev. int. dr. comp., 1998 p. 463.
[13] راجع:
J.M JACQUET et ph. DELEBECQUE: Droit du commerce
international, Paris,
Dalloz 1997, p. 124.
[14] راجع:
B. de CAZALET: le contrat de construction dans le
cadre des projets en B.O.T (Buiild, Operate, Transfer), in Rev. dr. aff. Int,
1998, No 5, P. 405 et ss.
A.BRABANT:
Le contrat international de contruction,ed.Brylant,Bruxelles,1981.
HASSLER: Les
contrats de contruction densembles industriels, these, these, strabourg, 1979
[15] حول هذه العقود راجع:
A.BENSOUSSAN: informatique et telecom, ed., f.
Lefebvre, Paris,
1997, p.171. et ss.
J.HUET et H.MAISL: Droit de l'nformatique et des
telecommunications, Paris,
litec, 1989, P.4 et ss., p. 384 et ss.
I. de
LAMBERTERIE: les contrats en informatique, Paris, litec, 1983 P. DEPREZ et
V. FAUCHOUX: les contrats de l'internet et du multimedia, Paris, Dixit, 2000.
F.PROAL: La
responsabilite du fournisseur d'information en reseau, these Aix – Marseille,
P.U. Aix- Marsille, 1997, noo 567 et ss p. 283 et ss.
[16] حول هذا العقد راجع:
RMONACO: Le
contrat de credit – bail international, les petites affiches 1976 no92
– 97.
Ch. GAVALDA et E.M. BEY: Problematique Juridique du
leasing international, Gaz, Pal 1979 – 1 doct. P. 143.
FSTEINER et
BRIGAUD: Le leasing international ,in Banque , 1982 p. 1049.
MVASSEUR: La
location finaciere international, in REv .Jur .com ,1985,p.ss.
J.P.MATTOUT:Droit
bancaire international, 2 e ed.ed.Banque 1996 No 117 et ss.
[17] أنظر في هذا الخصوص:
St.
CHATILLON: droit des affaires internationales, Paris, ed Vuibert, 1994, P.135
[18] راجع:
M.SUCHANKOVA:
Les principes d'unidroit et la responsabilite precontractuelle en cas d'echec
des negociations, Rev. dr. aff. Int. 1997, No
6.p. 691 et s.
[19]
أنظر:
M.FONTAINE: Les letters d'intention dans les
negociations des contrats internationaux, in Rev. Dr. Pr. Com. Int, 1977 P. 2
et ss.
[20] راجع D.BLANCO:
المرجع السابق، ص 77، وكذلك.
M.FONTAINE: Droit des contrats internationaux, analyse
et redaction de clauses, Paris, ed FEC., 1989, P.5
[21] راجع:
R.B LAKE et
U.DRAETTA: Letter of intent and other Pre – contractual documents, Butter
worths legal Publishers, 1989, p. 3 et ss.
[22] أنظر: DRAETTA LAKE et: المرجع السابق، ص 5.
J.SCHMIDT: La negaciation du contrat international,
Rev. Droit et pratique du commerce international, 1983, p. 239.
[23] وهذا هو المفهوم العام عند الكلام عن خطاب النوايا،
راجع:
J.M JACQUET et ph. DELEBECQUE: Droit du commerce international Paris –
Dalloz, 1997. p. 124.
الدكتور/ أحمد عبد الكريم سلامة*
إستهـلال
1. العقد قانون الأطراف
التعاقدي: إستقر الفكر القانوني على أن
العقد، عموما، هو توافق إرادتين أو أكثر على إحداث أثر قانوني معين. وهذا الأثر
القانوني effet Juridique هو
جوهر أو ثمرة التراضي أو الإتفاق بين أطراف العقد، وهو لا يكون كذلك إلا بمقتضى ما
وضعه هؤلاء من محددات وضوابط، التي من غيرها لا يمكن الركون إليه، ويظل هملا
تتلاطمه أهواء من تصوروه.
خذ مثلا، لو باع شخص سلعة لآخر، فإن التراضي
وتبادل الإرادات، أي الإيجاب والقبول بين الطرفين، يرتب أثرا هو نقل ملكية وحيازة
المبيع من البائع إلى المشتري، وهذا الأثر لا يتصور بغير أن يكون التراضي سليما
صادرا عن شخص ذي أهلية للتصرف، ويتم الإفتاق حول ماهية المبيع ومواصفاته، ووقت
ومكان تسليمه، وثمنه، ووقت ومكان وكيفية الوفاء به، وحكم تأخير الوفاء....
إن ما يتصوره أطراف العقد ويضعوه، حول كل تلك
المسائل، يعتبر في الواقع قواعد سلوكية إتفاقية تضبط علاقاتهم[1]،
وهي قواعد قانونية خاصة Lex privata تشبه
القواعد القانونية الصادرة من السلطة التشريعية المختصة[2].
2. القانون التعاقدي له
سمات القانون الرسمي: وليس
في ذلك مغالاة، فتلك القواعد القانونية الإتفاقية تحقق الهدفين الذين يطمح إليهما
أي تشريع وضعي رسمي: العدالة والأمان.
من ناحية العدالة la justice، فقد قيل إن
كل ما هو تعاقدي يكون عادلا[3]
فالشخص لا يرتضي إلا ما يكون في صالحه، أي ما يكون عادلا، وكما يقول KANT "عندما يقرر أحد شيئا في مواجهة آخر، فمن الممكن
أن ينطوي على بعض عدم العدالة، ولكن عدم العدالة يكون مستحيلا حينما يقرر الشخص
لنفسه"[4]. كما هو الحال في العقد، فإذا كان العقد يخلق
قواعد سلوكية قانونية، فإن تلك القواعد هي الأكثر عدالة، لأنها القواعد المتأيتة
من الإرادة والمقبولة من صانعها[5].
ومن ناحية الأمان La Securte، فإن القواعد المنظمة للعلاقة العقدية لا تتأتى من
مصدر خارجي، بل المتعاقدون هم صناعها، ليست غريبة عنهم، وتتوافق مع تطلعاتهم،
وتطبيقها، أو الدعوة إلى الإلتزام بها، لا يشكل إخلالا بتوقعات من تخاطبه. فكما أن القاعدة القانونية العادية هي نتاج
إرادة المجتمع المجسدة في السلطة التشريعية، فهي تتأتى من داخل المجتمع[6].
فإن
القاعدة الإتفاقية نتاج إرادة المتعاقدين، فهي تتأتى من داخل هؤلاء، وبالتالي فهي
لا تخل بتوقعاتهم، بل تعمل على إحترام حقوقهم المتولدة من العقد، وتحقيق التعاون
بينهم.
وليس غريبا هنا أن يعترف المشرع الوضعي ذاته بأن
العقد هو قانون أو شريعة المتعاقدين. وهو
قانون خاص تتغيا قواعده الغايتان المشار إليهما.
3. العقد الدولي وإعداد
القانون التعاقدي الدولي: ومع
التحفظ الواجب بخصوص فكر المدرسة الإجتماعية، والضوابط الواجبة على مبدأ سلطان
الإرادة[7]،
والعقد شريعة المتعاقدين حماية للطرف الضعيف في العقد عموما، فإن الفقه ما زال
يردد، بخصوص العقود الدولية مبدأ السيادة القاعدية Souverainete normative للمتعاقدين، أي مقدرتهم على خلق قواعد اتفاقية خاصة،
تضبط وتحكم علاقاتهم التعاقدية[8]. فالعقد خلاق لقواعد قانونية، ومصدر مستقل
للحقوق والإلتزامات.
ويصل الفقه المشار اليه إلى القول إن العقد
الدولي يعتبر "القانون التعاقدي الدولي" أو "القانون الدولي
للأطراف المتعاقدة"[9]
، النابع من الحرية الدولية للإتفاقات[10]،
أو الحرية التعاقدية الدولية[11].
ومبدأ الحرية التعاقدية الدولية قد إعترف به
وأقره المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص UNIDROIT في
مجموعة المبادئ المتعلقة بعقود التجارة الدولية التي تبناها عام 1994، حيث نصت
المادة 1/1 على أن "يكون الأطراف أحرارا في إبرام العقد وفي تحديد
مضمونه"[12].
إذا كان الأمر كذلك، وحتى تأتي القواعد
القانونية الإتفاقية، التي يتكون منها هذا القانون التعاقدي Iex
contractualis الدولي مناسبة وكاملة،
وحتى يمكنها تحييد وإقصاء القوانين الوطنية، التي أضحت لا تتلاءم مع خصوصيات
المعاملات التجارية الدولية[13]،
فإن على الأطراف، التي ترغب في إبرام العقود الدولية، أن تبذل قصارى جهدها في
إعداد عقد جيد، محبوك الصياغة القانونية.
وهذا يقتضي الدخول مبكرا في مفاوضات ومناقشات تمهد لإبرام العقد النهائي،
وكذلك بذل الجهد في تحرير وصياغة العقد الدولي، حتى يكون كافيا بذاته مغنيا عن
اللجوء إلى القوانين الوطنية.
4. تقسيم: تعتبر المفاوضات Negociations – Pourparlers من المقدمات الأولية اللازمة، على الأقل في ظل
الأوضاع المعاصرة للمعاملات والمبادلات الإقتصادية للسلع والخدمات عبر الحدود،
لإبرام العقود الدولية، فتلك العقود تستتبع، بالضرورة إنتقال القيم الإقتصادية بين
الدول المختلفة، وتتأثر بها، من ثم، المصالح الحيوية للأفراد أطراف التعامل
الدولي، بل وتلك الدول ذاتها.
وقد أرسي الواقع العملي، وممارسات رجال الأعمال
وشركاء العمليات التجارية الدولية، بعض القواعد والتطبيقات التي تحكم بدء وسير وإنتهاء
مفاوضات العقود الدولية، وهي قواعد تبدو أساسية في ظل فراغ تشريعي حقيقي في مختلف
التشريعات المقارنة.
والتعرف على تلك القواعد المنظمة لمفاوضات العقودالدولية يستلزم منا أن نعرض
في:
مبحث أول: الأعداد للمفاوضات وخطابات النوايا.
مبحث ثان: تنظيم مفاوضات العقد الدولي.
المبحث الأول
الإعداد للمفاوضات وخطابات النوايا
5. تقديم: إن الإعداد للمفاوضات، التي
تسبق إبرام العقد الدولي، هو من العمليات الشاقة التي تستغرق وقتا وجهدا ونفقات،
بل يمكن القول إن المفاوضات التي يعد لها جيدا تنتهي، غالبا، بإبرام عقد ناجح، يتم
الإتفاق عليه، وتنفيذه، بطريقة سليمة هادئة ويحقق كل طرف ما يبتغيه من ورائه.
ومن بين ما يتم الإعداد له للمفاوضات التعاقدية،
الإتصال بين الأطراف ودعوة أحدهم الآخر للتحاور وتبادل الآراء حول العملية
التعاقدية المزمع الدخول فيها بينهم، ومن بين أهم وسائل الإتصال ما يسمى بخطابات
النوايا، والتي نعرض لها فيما يلي في مطلبين.
المطلب الأول
ماهية خطابات النوايا
أولا: تعريف خطاب النوايا وغاياته:
6. خطابات النوايا
والعقود الدولية المعاصرة: المتأمل في العقود الدولية المعاصرة، كعقود
إنشاء البنية التحتية، إقامة المطارات ومحطات الطاقة بنظام الـ B.O.T[14]، وعقود إنشاء المصانع بنظام
المفتاح في اليد cle en main أو
الإنتاج في اليد Produit en main وعقود
نقل التكنولوجيا وعقود خدمات المعلومات[15]
contral informatique وعقود
الإئتمان التأجيري الدولي[16]......
.
يدرك أنها، على خلاف العقود الدولية اليومية
البسيطة كالبيع أو النقل أو غيرها[17]،
تنطوي على العديد من المسائل الفنية الدقيقة، التي لا يمكن حسمها في جلسة أو
جلستين، بل يستلزم الأمر إجتياز مراحل متعاقبة ومستمرة صوب العقد النهائي[18]،
يتم فيها إتفاقيات تمهيدية Preliminary agreemenis تحرر
في مستندات تحضيرية documents preparatoires تبادل
فيها الأطراف الرؤية والمفاهيم حول أمور تتصل بالمفاوضات حول العقد النهائي، ولعل
من أهمها ما يسمى بخطاب النوايا أو التفاهم[19].
7. تعريف خطاب النية: وخطاب النية Lettre dintention[20]، أو خطاب التفاهم Letter
of understanding[21]، أو مذكرة التفاهم Memorandum
of understanding أو
مذكرة أساسيات الإتفاق heads of agreement ليس من
السهل وضع تعريف محدد له، وبالتالي تحديد وضعه القانوني، وذلك لأن الواقع العملي
يدل على أن لخطابات النوايا أشكالا مختلفة، وتتناول موضوعات شتى يتعذر الربط بينها
لإستخلاص محور تتمركز حوله كما سنتبين من خلال عرض غايات وأهداف تلك الخطابات. ومع
ذلك حاول البعض تقديم تعريف له، بالقول إنه "وثيقة مكتوبة قبل العقد النهائي
تعكس الإتفاقات أو الفهم المبدئي لطرف أو أكثر من أطراف التعاقد التجاري بغية
الدخول في عقد مستقبلي"[22].
غير أننا نرى أن خطاب النوايا يجب أن يعرف بما
يتفق مع مسماه، فنقول إنه مستند مكتوب يوجه من طرف يرغب في التعاقد على أمر معين
إلى الطرف الآخر يعرب فيه عن رغبته تلك، ويطرح فيه الخطوط العريضة للعقد المستقبل
المزمع إبرامه ويدعوه إلى التفاوض والدخول في محادثات حوله[23].
ونعتقد أن أي مستند لا ينطوي على إبداء الرغبة
في التعاقد، ولا يتضمن بيانا للنقاط الرئيسة والخطوط العريضة للعملية التعاقدية
المستقبلية، ولا يشتمل على دعوة الطرف الآخر للإلتفاء والجلوس سويا للتفاوض حولها،
لا يعتبر ذلك المستند خطابا للنوايا، بل يعد مستندا آخر يجب ان يسمى بإسمه.
*
دكتوراه الدولة في
القانون من جامعة باريس – حائز ثلاث مرات جائزة الدولة في العلوم القانونية – نائب
رئيس جامعة حلوان.
[1] قارن:
GROUHETTE:
Etude critique de la notion du Contrat, These Paris, dacty. 1965, P.635
وفي عرض هذا الفكر راجع:
V.HUEZE: La reglementation francaise des contrats
internatoinaux, etude critique des me thodes.
These Paris, Ed GLD, Joly, 1990, n. 82 ET ss., p. 43 ET ss.
JMJCQUET: Principe d'autononie ET contrats internationaux,
These, Paris,
ed. Econonica, 1983, n. 101 ET ss., p. 79 ET ss.
[2] قارن عكس ذلك:
V.HEUZE: these precitee, p. 61. ET ss.
[3] راجع:
A. FOUILLEE: La science sociale contemporaine, Paris, 1880, P. 410.
[4] راجع:
EKANT: Doctrine du Driot, Traduction Barni, Paris, 1889, P. 169.
[5] راجع:
PROUBIER: Theorie generale du droit, Paris, Sirey, 1951, P. 263
[6] أنظر تفصيلا:
J.DARBELLAY: La regle juridique, son fondement moral
et social, ed. De l'oeuver st-Augustin, st-Maurice, Fribourg, 1945, p.76
[7] راجع في نقد ذلك المبدأ:
EGOUNOT: Le
principe de l autonomit de l avolonte en Droit prive, contribution a l'etude
critique de l'individualisme juridique, These Dijon, 1912.
[8] راجع خصوصا:
Dominique BLANCO: Negocier ET rediger UN contrat
international, Paris,
Dunod, 2 eme ed., 1995, p. 34 – 35.
[9] راجع BLANCO:
المرجع السابق، ص 37-38.
[10] حول مفهوم هذا التعبير:
J-M. JACQUET: Principe
d'autononie ET contrats internationaux, these Paris, Ed Economiea, 1983 No 23
ET ss p. 23 ET ss.
C.FERRY: La validite des contrats en droit
international prive, Thes Montpellier,
Ed, L.G.D.J., 1989, P. 95 et.ss.
[11] راجع BLANCO:
المرجع السابق ص 37.
[12] حول هذه المبادئ الهامة، راجع:
A.GLARDINA:
Les principes Unidroit sur les principes Unidroit sur les contrats
internatioaux, clunet 1995, p. 547.
D. BurdEAU: Les nouveaux principes
Unidroit, colloque de l'nstitut de la CCI, Paris 20 – 21 oclobgre 1994, Reu
Arb., 1995, P. 787.
J.P.
BERAUDO: Les principes Unidroit relatifs au droit durce international, J.C.P.
1995 doctrine 3842, p.189.
CKESSEDJIAN:
Une exercice de renovation des sources du droit des contrats du commerce international: Les principes proposes par
l"Unidroit, Rev. crit, 1996 p. 461 et ss.
Ch.
LARROUMET: La valeur des principes d'unidroit applicables aux contrats du
comerce international ,J.C.P.1997,doctrine 4011,p.147.
F.CBENEDICTE: Les contrats du commerce
international Une approche nouvelle: Les principes d'unidroit relatifs aux
contrats du commerce international, Rev. int. dr. comp., 1998 p. 463.
[13] راجع:
J.M JACQUET et ph. DELEBECQUE: Droit du commerce
international, Paris,
Dalloz 1997, p. 124.
[14] راجع:
B. de CAZALET: le contrat de construction dans le
cadre des projets en B.O.T (Buiild, Operate, Transfer), in Rev. dr. aff. Int,
1998, No 5, P. 405 et ss.
A.BRABANT:
Le contrat international de contruction,ed.Brylant,Bruxelles,1981.
HASSLER: Les
contrats de contruction densembles industriels, these, these, strabourg, 1979
[15] حول هذه العقود راجع:
A.BENSOUSSAN: informatique et telecom, ed., f.
Lefebvre, Paris,
1997, p.171. et ss.
J.HUET et H.MAISL: Droit de l'nformatique et des
telecommunications, Paris,
litec, 1989, P.4 et ss., p. 384 et ss.
I. de
LAMBERTERIE: les contrats en informatique, Paris, litec, 1983 P. DEPREZ et
V. FAUCHOUX: les contrats de l'internet et du multimedia, Paris, Dixit, 2000.
F.PROAL: La
responsabilite du fournisseur d'information en reseau, these Aix – Marseille,
P.U. Aix- Marsille, 1997, noo 567 et ss p. 283 et ss.
[16] حول هذا العقد راجع:
RMONACO: Le
contrat de credit – bail international, les petites affiches 1976 no92
– 97.
Ch. GAVALDA et E.M. BEY: Problematique Juridique du
leasing international, Gaz, Pal 1979 – 1 doct. P. 143.
FSTEINER et
BRIGAUD: Le leasing international ,in Banque , 1982 p. 1049.
MVASSEUR: La
location finaciere international, in REv .Jur .com ,1985,p.ss.
J.P.MATTOUT:Droit
bancaire international, 2 e ed.ed.Banque 1996 No 117 et ss.
[17] أنظر في هذا الخصوص:
St.
CHATILLON: droit des affaires internationales, Paris, ed Vuibert, 1994, P.135
[18] راجع:
M.SUCHANKOVA:
Les principes d'unidroit et la responsabilite precontractuelle en cas d'echec
des negociations, Rev. dr. aff. Int. 1997, No
6.p. 691 et s.
[19]
أنظر:
M.FONTAINE: Les letters d'intention dans les
negociations des contrats internationaux, in Rev. Dr. Pr. Com. Int, 1977 P. 2
et ss.
[20] راجع D.BLANCO:
المرجع السابق، ص 77، وكذلك.
M.FONTAINE: Droit des contrats internationaux, analyse
et redaction de clauses, Paris, ed FEC., 1989, P.5
[21] راجع:
R.B LAKE et
U.DRAETTA: Letter of intent and other Pre – contractual documents, Butter
worths legal Publishers, 1989, p. 3 et ss.
[22] أنظر: DRAETTA LAKE et: المرجع السابق، ص 5.
J.SCHMIDT: La negaciation du contrat international,
Rev. Droit et pratique du commerce international, 1983, p. 239.
[23] وهذا هو المفهوم العام عند الكلام عن خطاب النوايا،
راجع:
J.M JACQUET et ph. DELEBECQUE: Droit du commerce international Paris –
Dalloz, 1997. p. 124.