مقدمــة:
تصاعدت قى الآونة الأخيرة
حدة عمليات القرصنة البحرية فى أعالى البحار الأمر الذى أصبح يمثل مساساً وتهديداً
للملاحة البحرية الدولية ولحركة التجارة فى المياه الدولية.
وجدير بالذكر أنه إذا كان
النظام القانونى لمناطق أعالى البحار يقرر عدم خضوع هذه المناطق لسيادة أى دولة
وبالتالى لا تدخل فى إختصاص أى قانون وطنى؛ وإذا كان الأمر كذلك إلا أن هذا لا
يعنى ترك هذه المناطق الشاسعة مسرحاً للجرائم والفوضى؛ وإلا انتفى الهدف الذى من
أجلـه تقرر مبدأ حرية أعالى البحار؛ مع ما يستلزمه هذا المبدأ من ضرورة توطيد أمن
وسلامة جميع السفن التى تجوب مناطق أعالى البحار.
ويًلاحظ أن جريمة القرصنة
البحرية لاتهدد دولة معينة بالتحديد بل تهدد أمن وسلامة الأسرة الدولية ككل؛ الأمر
الذى جعل من القرصان عدواً للجنس البشرى؛ وأفعالـه موجهة ضد المجتمع الدولى وبالتالى
كان حرياً وصف السلوك غير المشروع الصادر منه بأنه يشكل جريمة دولية إذ من شأنه
المساس بالمصلحة الدولية الجديرة بالحماية الجنائية التى يقررها القانون الدولى
الجنائى.
ونظراً للآثار الجسيمة التى
تترتب على جريمة القرصنة البحرية من المساس بأمن وسلامة الملاحة البحرية الدولية
فضلاً عن الآثار الاقتصادية فقد استقر العرف الدولى منذ أمد بعيد على تخويل الدول
حق إلقاء القبض على سفن القرصنة التى تجوب أعالى البحار أو المناطق التى لا تخضع
لولاية دولة ما. كما أن لدول المجتمع الدولى الحق فى إلقاء القبض على الأشخاص المتهمين
باقتراف جريمة القرصنة البحرية ومحاكمتهم وعقابهم.
وقد ظل الأمر على هذا
المنوال يجد أساسه القانونى فى العرف الدولى إلى أن تم تجريم القرصنة البحرية
بموجب إتفاقية جنيف بشأن أعالى البحار لعام 1958. ثم بموجب إتفاقية الأمم المتحدة
لقانون البحار لعام 1982.
وليس بخاف على أحد ماتخلفه
أعمال القرصنة البحرية من مساس وتهديد لأمن وسلامة الملاحة البحرية للدول ككل
فضلاً عن الآثار الاقتصادية الناجمة عن تهديد حركة التجارة الدولية بالملاحة
الدولية. ولا ريب أن أكثر الدول تضرراً من الأثار السيئة الناجمة عن أعمال القرصنة
هى الدول النفطية، وإن كانت هذه الآثار يمكن أن تصيب أى من الدول المتقدمة
إقتصادياً.
لذلك يتعين على كافة الدول
لاسيما المتقدمة منها أن تتعاون لمواجهة وقمع أعمال القرصنة المذكورة فى أعالى
البحار أو فى إمكان آخر لا يخضع لولاية أى دولة.
وإدراكاً منا لهذا الهدف فسوف
نحاول فى هذا البحث دراسة بعض الأفكار التى من شأنها إلقاء مزيد من الضوء على
جريمة القرصنة البحرية كجريمة دولية من شأنها المساس بمصلحة دولية جديرة بالحماية
الجنائية الدولية التى يقررها القانون الدولى الجنائى والتى تتمثل فى سلامة وأمن
الملاحة البحرية فى أعالى البحار وذلك من خلال أربعة مباحث على النحو التالى:
المبحث الأول: الجذور التاريخية لجريمة القرصنة البحرية.
المبحث الثانى: التنظيم القانونى لجريمة القرصنة البحرية.
المبحث الثالث: الآثار الاقتصادية لجريمة القرصنة البحرية.
المبحث الرابع: الجهود الدولية لمواجهة ومكافحة جريمة
القرصنة البحرية.
* *
*
المبحث الأول
الجذور التاريخية
لجريمة القرصنة البحرية
سفينة تـَمْخـُرْ عُبابْ
البحر ترفع علماً خاصاً بها يعبر عن هويتها وعن طبيعة نشاطها الإجرامى، وقد تميّز
العلم المذكور بلونه الأسود بالجمجمة المرسومة عليه.
والقـُرصان ذلك الرجل
المغامر الذى يركب البحر؛ إنتظاراً لتلك السفن المحملة بالبضائع حتى يسطو عليها
ويستولى على ماتحمله. ويقتل من يتعرض له.. ويحول بينه وبين الفوز بغنيمته. ذلك هو
الشكل الكلاسيكى للقرصان البحرى بزيه المميز غطاء رأسه الذى يشتهر به منذ أقدم
الصعور.
تـُرى هل مازالت هناك تلك
السفن وهؤلاء القراصنة؟.
لاشك أن الإجابة تكون
بالإيجاب.
لقد كان قرصان البحر فى
الماضى سبباً لقلق التجار حيث كانت سفنهم تتعرض إما للغرق وإما لمخاطر القرصنة.
وتجدر الإشارة إلى أن
قراصنة البحار لازالوا من أسباب أرق الكثير من الدول وبصفة خاصة فى منطقة جنوب شرق
آسيا حيث السواحل البحرية الممتدة.
وإطلالة سريعة على الجذور
التاريخية للقرصنة البحرية نجد أنها تعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
ويلاحظ أن مصطلح "قرصان"
قد استخدم فى عام 140 قبل الميلاد من قبل المؤرخ الرومانى بوليبيوس؛ وقد ذكرها
كذلك المؤرخ اليونانى بلوتارك فى حوالى عام مائة بعد الميلاد وذلك ليعبر به عن
أقدم تعريف واضح للقرصنة؛ فقد وصف القراصنة بأنهم أولئك الأشخاص الذين يهاجمون
بدون سلطة قانونية السفن وكذلك المدن الساحلية.
وقد وصفت
القرصنة لأول مرة فى عدد من الأعمال الأدبية القديمة مثل الإلياذة والأوديسه
اللتان كتبهما الشاعر اليونانى القديم. ويلاحظ أنه منذ زمن طويل لم يكن هناك تعريف
خالٍ من الغموض لمصطلح ومفهوم القرصنة؛ ولم يعتبر غزاة الشمال فى القرنين التاسع
والحادى عشر الميلاديين من القراصنة. وإنما كانوا يدعو "الفايكنج".
ولقد ذاع فى إنجلترا فى
العصور الوسطى مفهوم آخر للقرصنة فحواه أنهم من لصوص البحر. ويُلاحظ أن عمليات
القرصنة البحرية قد تزايدت فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر([1]).
أما فى القرن الثامن عشر الميلادى فقد ظهر مفهوم ومصطلح قرصان وينحصر فى وصف
القراصنة بأنهم أشخاص خارجون عن القانون. وتحوى قصص القراصنة الكثير من الطرائف
فقد تم أسر قيصر من قبل قوات القراصنة قرب جزيرة فارماكوزا؛ وذلك بعد وقت قصير من
فراره من جنود سولا فى عام 75 قبل الميلاد؛ وقد قام بعد الإفراج عنه عقب احتجازه
شهراً ونصف الشهر باتخاذ سفناً من ميناء موليتوس وقام بأسر القراصنة. وقد ذكر
المؤرخ "بلوتارك" إن قيصر أمر بدافع من الرحمة بذبحهم قبل الصلب".
وقد
بلغت القرصنة ذروتها خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ وبنهاية القرن السابع
عشر ومع نمو القوة المركزية القوية فى اليابان فى ظل التكنوجاوا شوجونيت (1603 –
1867)؛ وقد تم القضاء على معظم القراصنة فى الصين فى فترة حكم أسره شمى يانج.
وفى
القرن التاسع عشر ونظراً لزيادة حجم السفن التجارية؛ وتطور دوريات الحراسة البحرية
فى معظم الطرق الرئيسية على المحيط؛ فضلاً عن الاعتراف العام من قبل الحكومات
بالقرصنة فقد أدى ذلك كلـه إلى حدوث تراجع ملحوظ فى حجم القرصنة.
أما
فى القرن العشريين فقد ظهرت القرصنة البحرية فى بحر الصين الجنوبى ويلاحظ أن
عمليات اختطاف السفن قد أخذت شكلاً جديداً من أشكال القرصنة. وما ذلك إلا بفعل
التطور.
كذلك
فقد تعرض زوجين بريطانيين ـ رجل وأمرأة معاً ـ للهجوم فى صيف عام 1996م بينما كانا
يبحران حول جزيرة كارفبو اليونانية بالبنادق والقنابل اليدوية. وقبل تلك الواقعة
بشهور هاجم رجال مسلحون الناقلة (سوكى)، وذلك عندما كانت على بعد ساعات قليلة من
سنغافورة؛ وقد أوثق القراصنة طاقم ناقلة الأنابيب ووضعوهم فى قارب نجاة وأبحروا
بهم؛ وقد تم إنقاذ الطاقم إلا أن الناقلة قد إختفت بعد ذلك.
أما
فى القرن الحادى والعشرين فحدث ولا حرج .. فقد ازدادت جرائم القرصنة البحرية فى
أعالى البحار.. وهاهى وسائل الإعلام المحلية والدولية على مختلف أنواعها
تطالعنا كل لحظة بما يقترفه القراصنة
الصوماليون من جرائم قرصنة فى خليج عدن وقبالة السواحل الصومالية ضد السفن التى
تجوب تلك المناطق، وذلك على نحو ماسيرد تفصيلاً بصدر البحث.
موقف
الشريعة الإسلامية من جريمة القرصنة البحرية:
لا
ريب أن القرصنة لا تتفق مع الإسلام لأنه يترتب عليها ابتزاز الأموال والاعتداء على
السلامة الجسدية وحياة الأشخاص كما أنها تمثل عائقاً خطيراً أمام حرية الملاحة
البحرية الدولية وقد أطلق أبن عابدين على القراصنة اسم "اللصوص والقطاع"([2]).
ويُلاحظ
أن فقهاء المسلمين يحرمون الاعتداء على السفن فى البحر ولو كانت مملوكة لأهل
الحرب؛ فقد أكد فقهاء المسلمين على عدم جواز الإعتداء على السفن فى البحر ولو كانت
مملوكة لأهل دار الحرب غير المسلمين؛ يقول الإمام أحمد "إذا ركب القوم فى
البحر فاستقبلهم فيه تجار مشركون من أرض العدو ويريدون بلاد الإسلام لم يعرضوا
لـه، ولم يقاتلوهم؛ وكل من دخل بلاد المسلمين من أرض الحرب بتجارة بويع (لم يتم
البيع له) ولم يسأل عن شئ".
وقد
أكد فقهاء المسلمين على ضرورة محاربة القرصنة بكل السبل وذلك أنهم قراصنة: "وإن
جاءت البوارج وقال أهل المركب عن هذه بوارج الهند، ولم يرتب المسلمون فى ذلك
وغنمهم أهل المركب وأطمأن قلب هذا المسلم أنهم هم العدو ورأى فيهم علامات أهل
الشرك، وهم فى الموضوع الذى قد أعتاد أهل الحرب من أهل الشرك يقطعون فيها السبل
ويسلبون الناس، وصح ذلك معه وتقرر فى قلبه فلا بأس عليه فى ذلك".
وتجدر
الإشارة إلى أنه مما يبرهن على محاربة القرصنة، ماحدث فى عهد عثمان – رضى اللـه
عنه – عندما بلغه أن قوماً من الحبشة أغاروا على بعض سواحل المسلمين وأصابوا منهم
أموالاً، وسبوا منهم سبياً كثيرا فاغتم لذلك عثمان غماً شديداً، ثم أرسل إلى جماعة
من الصحابة وغيرهم من المسلمين فدعاهم واستشارهم فى غزو الحبشة فأشار عليه المسلمون
ألا يغزوهم فى بلادهم، ولا يعجل عليهم حتى يبعث
إلى ملكهم فيسألـه عن ذلك فإن كان الذى فعلـه أصحابه عن أمره ورأيه هيأ لـه
المراكب؛ وأرسل إليه بالجند والمقاتلة، وإن كان ذلك من ساقها(عوام الناس) أغاروا
على سواحل المسلمين عن غير أمر ملكهم فرأيه أن يشحن السواحل بالخيل والرجال حتى
يكونوا على حذر. فعمل عثمان على ذلك، ثم دعا محمد بن مسلمه الأنصارى فوجهه إلى ملك
الحبشة فى عشرة نفر من المسلمين يسألـه عما فعل بأصحابه، وكتب إليه عثمان فى ذلك
كتاباً فلما قدم محمدم بن مسلمة بكتاب عثمان وقرأه أنكر ذلك أشد الإنكار، وقال
مالى بذلك من علم ثم أرسل إلى قرى الحبشة فى طلب السبى فجمعهم بأجمعهم؛ ودفعهم إلى محمد بن مسلمة
فأقبل بهم إلى عثمان وخبره بما كان من إنكار ملك الحبشة، وطلب السبي، فشحن عثمان
السواحل بعد ذلك بالرجال وقواهم بالسلاح والأموال فكانوا ممتنعين من الحبشة وغيرهم.
كذلك
فقد ذكر المسعودى (فى التنبيه والإشراف) أنه فى عهد المعتصم قبض على سفن ومراكب
هندية كثيرة منها سفن القراصنة الذين كانوا يمارسون عمليات القتل والسلب والسرقة
فى المنطقة التى كانت تقع بين واسط والبصره وعمان وساحل فارس.
ويذكر
البلاذري أن السبب المباشر لفتح بلاد السند يعود إلى إرسال ملك سيلان إلى الحجاج
بين يوسف الثقفى بعض الفتيات المسلمات اللائى ولدن فى مملكته، وكن يتيمات، بسب موت
آبائهن التجار فى الجزيرة، ولكن حدث أن قبائل البوارج ـ وهم قرصان البحر فى المحيط
الهندى ـ هاجموا السفنية التى تحمل هؤلاء الفتيات واتخذوهن سبايا فغضب الحجاج،
وطالب فى الحال من زعيم البوارج بإطلاق سراح الفتيات، ولكنه لم يلب طلب الحجاج
إمعاناً منه فى السخرية بما طلب منه، فأرسل الحجاج جيشاً بقيادة القائد الشاب محمد
بن القاسم الثقفى، وتبع هذا الجيش أسطول بحرى ساعد بن القاسم أيضاً.
ويحكى
ابن حيان أنه فى سنة أربع وثلاثين ومائتن: غزى الأمير عبد الرحمن أسطولاً من
ثلاثمائة مركب إلى أهل جزيرتى ميوركة ومنوركة (أسبانيا) لنقضهم العهد وإضرارهم بمن
يمر إليهم من مراكب المسلمين، ففتح اللـه للمسلمين عليهم، وأضفرهم به.
أيضاً
من المعلوم أن الرشيد قد بلغ نفوذه حداً أدى
إلى التأثير فى أعمال خوارج البحر المسلمين وإحجامهم عن مهاجمة الشواطئ
الفرنجية والإيطالية. ولذلك فقد كتب البابا "ليون الثالث" بعد وفاته إلى
"شارلمان" أنه إذا كان خوارج البحر المسلمين لا يحترمون بعد حرمة
الشواطئ الفرنجية، فذلك لأن نفوذ الخليفة فى نفوسهم قد غاص بعد وفاته.
وقد
جاء فى مرسوم السلطان قايتباى إلى عمالـه بالتطبيق للشروط المتفق عليها مع فلونسا مايلى:
"جرى
العرف أنه إذا نهب قراصنة المسيحيين سفن المسلمين فى البحر ثم جاءت سفنهم إلى
موانينا فإن تجارنا وعمالنا يجبرونهم على دفع تعويض عما لحق بالمسلمين من أضرار
بواسطة القراصنة المسيحيين – فنأمرك أيها الأمير أن تبطل هذا، وألا يجبر هؤلاء
التجار على دفع التعويض أيَّا كان، ولايؤخذوا بجريرة القراصنة المسيحيين، ويوضع
هذا الأمر موضع التنفيذ مثل ماهو متبع مع البنادقة (نسبة إلى البندقية بإيطاليا)
تماماً وإذا وجدت سفنهم فى أى مكان تابع للسلطان وهاجمتها سفن القراصنة فعليكم مد
يد العون لها، ومساعدتها فى كل ما تطلبه .. لذلك نأمرك أيها السيد الأمير إتباع
ذلك معهم مثل ماهو متبع مع طائفة البنادقة".([3])
نخلص
من ذلك أن الشريعة الإسلامية قد حرمت وحاربت القرصنة وليس ذلك بمستغرب، فالشريعة
الإسلامية تحترم الملكية الخاصة وتحرم الطلم أياً كان نوعه ومكانه، سواء الظلم فى
البر أو القرصنة فى البحر. كما أن لفقهاء المسلمين أمثلة رائعة فى ردع القرصنة
واحترام الإتفاقيات الدولية وقد سبق
الإشارة إليها.
(1) انظر موقع: www.Arabbusiness.com.
(1) انظر: الأستاذ الدكتور/ أحمد أبو الوفا –
كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولى والعلاقات الدولية فى شريعة الإسلام – الجزء
السابع – البحار والأنهار الدولية – طبعة أولى- دار النهضة العربية – ص 178.
(1) انظر: الأستاذ الدكتور/ أحمد أبو الوفا –
مصدر سابق – ص 183.
تصاعدت قى الآونة الأخيرة
حدة عمليات القرصنة البحرية فى أعالى البحار الأمر الذى أصبح يمثل مساساً وتهديداً
للملاحة البحرية الدولية ولحركة التجارة فى المياه الدولية.
وجدير بالذكر أنه إذا كان
النظام القانونى لمناطق أعالى البحار يقرر عدم خضوع هذه المناطق لسيادة أى دولة
وبالتالى لا تدخل فى إختصاص أى قانون وطنى؛ وإذا كان الأمر كذلك إلا أن هذا لا
يعنى ترك هذه المناطق الشاسعة مسرحاً للجرائم والفوضى؛ وإلا انتفى الهدف الذى من
أجلـه تقرر مبدأ حرية أعالى البحار؛ مع ما يستلزمه هذا المبدأ من ضرورة توطيد أمن
وسلامة جميع السفن التى تجوب مناطق أعالى البحار.
ويًلاحظ أن جريمة القرصنة
البحرية لاتهدد دولة معينة بالتحديد بل تهدد أمن وسلامة الأسرة الدولية ككل؛ الأمر
الذى جعل من القرصان عدواً للجنس البشرى؛ وأفعالـه موجهة ضد المجتمع الدولى وبالتالى
كان حرياً وصف السلوك غير المشروع الصادر منه بأنه يشكل جريمة دولية إذ من شأنه
المساس بالمصلحة الدولية الجديرة بالحماية الجنائية التى يقررها القانون الدولى
الجنائى.
ونظراً للآثار الجسيمة التى
تترتب على جريمة القرصنة البحرية من المساس بأمن وسلامة الملاحة البحرية الدولية
فضلاً عن الآثار الاقتصادية فقد استقر العرف الدولى منذ أمد بعيد على تخويل الدول
حق إلقاء القبض على سفن القرصنة التى تجوب أعالى البحار أو المناطق التى لا تخضع
لولاية دولة ما. كما أن لدول المجتمع الدولى الحق فى إلقاء القبض على الأشخاص المتهمين
باقتراف جريمة القرصنة البحرية ومحاكمتهم وعقابهم.
وقد ظل الأمر على هذا
المنوال يجد أساسه القانونى فى العرف الدولى إلى أن تم تجريم القرصنة البحرية
بموجب إتفاقية جنيف بشأن أعالى البحار لعام 1958. ثم بموجب إتفاقية الأمم المتحدة
لقانون البحار لعام 1982.
وليس بخاف على أحد ماتخلفه
أعمال القرصنة البحرية من مساس وتهديد لأمن وسلامة الملاحة البحرية للدول ككل
فضلاً عن الآثار الاقتصادية الناجمة عن تهديد حركة التجارة الدولية بالملاحة
الدولية. ولا ريب أن أكثر الدول تضرراً من الأثار السيئة الناجمة عن أعمال القرصنة
هى الدول النفطية، وإن كانت هذه الآثار يمكن أن تصيب أى من الدول المتقدمة
إقتصادياً.
لذلك يتعين على كافة الدول
لاسيما المتقدمة منها أن تتعاون لمواجهة وقمع أعمال القرصنة المذكورة فى أعالى
البحار أو فى إمكان آخر لا يخضع لولاية أى دولة.
وإدراكاً منا لهذا الهدف فسوف
نحاول فى هذا البحث دراسة بعض الأفكار التى من شأنها إلقاء مزيد من الضوء على
جريمة القرصنة البحرية كجريمة دولية من شأنها المساس بمصلحة دولية جديرة بالحماية
الجنائية الدولية التى يقررها القانون الدولى الجنائى والتى تتمثل فى سلامة وأمن
الملاحة البحرية فى أعالى البحار وذلك من خلال أربعة مباحث على النحو التالى:
المبحث الأول: الجذور التاريخية لجريمة القرصنة البحرية.
المبحث الثانى: التنظيم القانونى لجريمة القرصنة البحرية.
المبحث الثالث: الآثار الاقتصادية لجريمة القرصنة البحرية.
المبحث الرابع: الجهود الدولية لمواجهة ومكافحة جريمة
القرصنة البحرية.
* *
*
المبحث الأول
الجذور التاريخية
لجريمة القرصنة البحرية
سفينة تـَمْخـُرْ عُبابْ
البحر ترفع علماً خاصاً بها يعبر عن هويتها وعن طبيعة نشاطها الإجرامى، وقد تميّز
العلم المذكور بلونه الأسود بالجمجمة المرسومة عليه.
والقـُرصان ذلك الرجل
المغامر الذى يركب البحر؛ إنتظاراً لتلك السفن المحملة بالبضائع حتى يسطو عليها
ويستولى على ماتحمله. ويقتل من يتعرض له.. ويحول بينه وبين الفوز بغنيمته. ذلك هو
الشكل الكلاسيكى للقرصان البحرى بزيه المميز غطاء رأسه الذى يشتهر به منذ أقدم
الصعور.
تـُرى هل مازالت هناك تلك
السفن وهؤلاء القراصنة؟.
لاشك أن الإجابة تكون
بالإيجاب.
لقد كان قرصان البحر فى
الماضى سبباً لقلق التجار حيث كانت سفنهم تتعرض إما للغرق وإما لمخاطر القرصنة.
وتجدر الإشارة إلى أن
قراصنة البحار لازالوا من أسباب أرق الكثير من الدول وبصفة خاصة فى منطقة جنوب شرق
آسيا حيث السواحل البحرية الممتدة.
وإطلالة سريعة على الجذور
التاريخية للقرصنة البحرية نجد أنها تعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
ويلاحظ أن مصطلح "قرصان"
قد استخدم فى عام 140 قبل الميلاد من قبل المؤرخ الرومانى بوليبيوس؛ وقد ذكرها
كذلك المؤرخ اليونانى بلوتارك فى حوالى عام مائة بعد الميلاد وذلك ليعبر به عن
أقدم تعريف واضح للقرصنة؛ فقد وصف القراصنة بأنهم أولئك الأشخاص الذين يهاجمون
بدون سلطة قانونية السفن وكذلك المدن الساحلية.
وقد وصفت
القرصنة لأول مرة فى عدد من الأعمال الأدبية القديمة مثل الإلياذة والأوديسه
اللتان كتبهما الشاعر اليونانى القديم. ويلاحظ أنه منذ زمن طويل لم يكن هناك تعريف
خالٍ من الغموض لمصطلح ومفهوم القرصنة؛ ولم يعتبر غزاة الشمال فى القرنين التاسع
والحادى عشر الميلاديين من القراصنة. وإنما كانوا يدعو "الفايكنج".
ولقد ذاع فى إنجلترا فى
العصور الوسطى مفهوم آخر للقرصنة فحواه أنهم من لصوص البحر. ويُلاحظ أن عمليات
القرصنة البحرية قد تزايدت فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر([1]).
أما فى القرن الثامن عشر الميلادى فقد ظهر مفهوم ومصطلح قرصان وينحصر فى وصف
القراصنة بأنهم أشخاص خارجون عن القانون. وتحوى قصص القراصنة الكثير من الطرائف
فقد تم أسر قيصر من قبل قوات القراصنة قرب جزيرة فارماكوزا؛ وذلك بعد وقت قصير من
فراره من جنود سولا فى عام 75 قبل الميلاد؛ وقد قام بعد الإفراج عنه عقب احتجازه
شهراً ونصف الشهر باتخاذ سفناً من ميناء موليتوس وقام بأسر القراصنة. وقد ذكر
المؤرخ "بلوتارك" إن قيصر أمر بدافع من الرحمة بذبحهم قبل الصلب".
وقد
بلغت القرصنة ذروتها خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ وبنهاية القرن السابع
عشر ومع نمو القوة المركزية القوية فى اليابان فى ظل التكنوجاوا شوجونيت (1603 –
1867)؛ وقد تم القضاء على معظم القراصنة فى الصين فى فترة حكم أسره شمى يانج.
وفى
القرن التاسع عشر ونظراً لزيادة حجم السفن التجارية؛ وتطور دوريات الحراسة البحرية
فى معظم الطرق الرئيسية على المحيط؛ فضلاً عن الاعتراف العام من قبل الحكومات
بالقرصنة فقد أدى ذلك كلـه إلى حدوث تراجع ملحوظ فى حجم القرصنة.
أما
فى القرن العشريين فقد ظهرت القرصنة البحرية فى بحر الصين الجنوبى ويلاحظ أن
عمليات اختطاف السفن قد أخذت شكلاً جديداً من أشكال القرصنة. وما ذلك إلا بفعل
التطور.
كذلك
فقد تعرض زوجين بريطانيين ـ رجل وأمرأة معاً ـ للهجوم فى صيف عام 1996م بينما كانا
يبحران حول جزيرة كارفبو اليونانية بالبنادق والقنابل اليدوية. وقبل تلك الواقعة
بشهور هاجم رجال مسلحون الناقلة (سوكى)، وذلك عندما كانت على بعد ساعات قليلة من
سنغافورة؛ وقد أوثق القراصنة طاقم ناقلة الأنابيب ووضعوهم فى قارب نجاة وأبحروا
بهم؛ وقد تم إنقاذ الطاقم إلا أن الناقلة قد إختفت بعد ذلك.
أما
فى القرن الحادى والعشرين فحدث ولا حرج .. فقد ازدادت جرائم القرصنة البحرية فى
أعالى البحار.. وهاهى وسائل الإعلام المحلية والدولية على مختلف أنواعها
تطالعنا كل لحظة بما يقترفه القراصنة
الصوماليون من جرائم قرصنة فى خليج عدن وقبالة السواحل الصومالية ضد السفن التى
تجوب تلك المناطق، وذلك على نحو ماسيرد تفصيلاً بصدر البحث.
موقف
الشريعة الإسلامية من جريمة القرصنة البحرية:
لا
ريب أن القرصنة لا تتفق مع الإسلام لأنه يترتب عليها ابتزاز الأموال والاعتداء على
السلامة الجسدية وحياة الأشخاص كما أنها تمثل عائقاً خطيراً أمام حرية الملاحة
البحرية الدولية وقد أطلق أبن عابدين على القراصنة اسم "اللصوص والقطاع"([2]).
ويُلاحظ
أن فقهاء المسلمين يحرمون الاعتداء على السفن فى البحر ولو كانت مملوكة لأهل
الحرب؛ فقد أكد فقهاء المسلمين على عدم جواز الإعتداء على السفن فى البحر ولو كانت
مملوكة لأهل دار الحرب غير المسلمين؛ يقول الإمام أحمد "إذا ركب القوم فى
البحر فاستقبلهم فيه تجار مشركون من أرض العدو ويريدون بلاد الإسلام لم يعرضوا
لـه، ولم يقاتلوهم؛ وكل من دخل بلاد المسلمين من أرض الحرب بتجارة بويع (لم يتم
البيع له) ولم يسأل عن شئ".
وقد
أكد فقهاء المسلمين على ضرورة محاربة القرصنة بكل السبل وذلك أنهم قراصنة: "وإن
جاءت البوارج وقال أهل المركب عن هذه بوارج الهند، ولم يرتب المسلمون فى ذلك
وغنمهم أهل المركب وأطمأن قلب هذا المسلم أنهم هم العدو ورأى فيهم علامات أهل
الشرك، وهم فى الموضوع الذى قد أعتاد أهل الحرب من أهل الشرك يقطعون فيها السبل
ويسلبون الناس، وصح ذلك معه وتقرر فى قلبه فلا بأس عليه فى ذلك".
وتجدر
الإشارة إلى أنه مما يبرهن على محاربة القرصنة، ماحدث فى عهد عثمان – رضى اللـه
عنه – عندما بلغه أن قوماً من الحبشة أغاروا على بعض سواحل المسلمين وأصابوا منهم
أموالاً، وسبوا منهم سبياً كثيرا فاغتم لذلك عثمان غماً شديداً، ثم أرسل إلى جماعة
من الصحابة وغيرهم من المسلمين فدعاهم واستشارهم فى غزو الحبشة فأشار عليه المسلمون
ألا يغزوهم فى بلادهم، ولا يعجل عليهم حتى يبعث
إلى ملكهم فيسألـه عن ذلك فإن كان الذى فعلـه أصحابه عن أمره ورأيه هيأ لـه
المراكب؛ وأرسل إليه بالجند والمقاتلة، وإن كان ذلك من ساقها(عوام الناس) أغاروا
على سواحل المسلمين عن غير أمر ملكهم فرأيه أن يشحن السواحل بالخيل والرجال حتى
يكونوا على حذر. فعمل عثمان على ذلك، ثم دعا محمد بن مسلمه الأنصارى فوجهه إلى ملك
الحبشة فى عشرة نفر من المسلمين يسألـه عما فعل بأصحابه، وكتب إليه عثمان فى ذلك
كتاباً فلما قدم محمدم بن مسلمة بكتاب عثمان وقرأه أنكر ذلك أشد الإنكار، وقال
مالى بذلك من علم ثم أرسل إلى قرى الحبشة فى طلب السبى فجمعهم بأجمعهم؛ ودفعهم إلى محمد بن مسلمة
فأقبل بهم إلى عثمان وخبره بما كان من إنكار ملك الحبشة، وطلب السبي، فشحن عثمان
السواحل بعد ذلك بالرجال وقواهم بالسلاح والأموال فكانوا ممتنعين من الحبشة وغيرهم.
كذلك
فقد ذكر المسعودى (فى التنبيه والإشراف) أنه فى عهد المعتصم قبض على سفن ومراكب
هندية كثيرة منها سفن القراصنة الذين كانوا يمارسون عمليات القتل والسلب والسرقة
فى المنطقة التى كانت تقع بين واسط والبصره وعمان وساحل فارس.
ويذكر
البلاذري أن السبب المباشر لفتح بلاد السند يعود إلى إرسال ملك سيلان إلى الحجاج
بين يوسف الثقفى بعض الفتيات المسلمات اللائى ولدن فى مملكته، وكن يتيمات، بسب موت
آبائهن التجار فى الجزيرة، ولكن حدث أن قبائل البوارج ـ وهم قرصان البحر فى المحيط
الهندى ـ هاجموا السفنية التى تحمل هؤلاء الفتيات واتخذوهن سبايا فغضب الحجاج،
وطالب فى الحال من زعيم البوارج بإطلاق سراح الفتيات، ولكنه لم يلب طلب الحجاج
إمعاناً منه فى السخرية بما طلب منه، فأرسل الحجاج جيشاً بقيادة القائد الشاب محمد
بن القاسم الثقفى، وتبع هذا الجيش أسطول بحرى ساعد بن القاسم أيضاً.
ويحكى
ابن حيان أنه فى سنة أربع وثلاثين ومائتن: غزى الأمير عبد الرحمن أسطولاً من
ثلاثمائة مركب إلى أهل جزيرتى ميوركة ومنوركة (أسبانيا) لنقضهم العهد وإضرارهم بمن
يمر إليهم من مراكب المسلمين، ففتح اللـه للمسلمين عليهم، وأضفرهم به.
أيضاً
من المعلوم أن الرشيد قد بلغ نفوذه حداً أدى
إلى التأثير فى أعمال خوارج البحر المسلمين وإحجامهم عن مهاجمة الشواطئ
الفرنجية والإيطالية. ولذلك فقد كتب البابا "ليون الثالث" بعد وفاته إلى
"شارلمان" أنه إذا كان خوارج البحر المسلمين لا يحترمون بعد حرمة
الشواطئ الفرنجية، فذلك لأن نفوذ الخليفة فى نفوسهم قد غاص بعد وفاته.
وقد
جاء فى مرسوم السلطان قايتباى إلى عمالـه بالتطبيق للشروط المتفق عليها مع فلونسا مايلى:
"جرى
العرف أنه إذا نهب قراصنة المسيحيين سفن المسلمين فى البحر ثم جاءت سفنهم إلى
موانينا فإن تجارنا وعمالنا يجبرونهم على دفع تعويض عما لحق بالمسلمين من أضرار
بواسطة القراصنة المسيحيين – فنأمرك أيها الأمير أن تبطل هذا، وألا يجبر هؤلاء
التجار على دفع التعويض أيَّا كان، ولايؤخذوا بجريرة القراصنة المسيحيين، ويوضع
هذا الأمر موضع التنفيذ مثل ماهو متبع مع البنادقة (نسبة إلى البندقية بإيطاليا)
تماماً وإذا وجدت سفنهم فى أى مكان تابع للسلطان وهاجمتها سفن القراصنة فعليكم مد
يد العون لها، ومساعدتها فى كل ما تطلبه .. لذلك نأمرك أيها السيد الأمير إتباع
ذلك معهم مثل ماهو متبع مع طائفة البنادقة".([3])
نخلص
من ذلك أن الشريعة الإسلامية قد حرمت وحاربت القرصنة وليس ذلك بمستغرب، فالشريعة
الإسلامية تحترم الملكية الخاصة وتحرم الطلم أياً كان نوعه ومكانه، سواء الظلم فى
البر أو القرصنة فى البحر. كما أن لفقهاء المسلمين أمثلة رائعة فى ردع القرصنة
واحترام الإتفاقيات الدولية وقد سبق
الإشارة إليها.
(1) انظر موقع: www.Arabbusiness.com.
(1) انظر: الأستاذ الدكتور/ أحمد أبو الوفا –
كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولى والعلاقات الدولية فى شريعة الإسلام – الجزء
السابع – البحار والأنهار الدولية – طبعة أولى- دار النهضة العربية – ص 178.
(1) انظر: الأستاذ الدكتور/ أحمد أبو الوفا –
مصدر سابق – ص 183.