لست
بحاجة إلى أن أُبين مضار المواد المخدرة وخطرها على الجماعة، فبلادنا لم
تفق بعد من ذكرى السنوات التي أعقبت الحرب الماضية، حين أنهكت المخدرات
قوانا العاملة حتى قُدر عدد المدمنين عليها في سنة 1930 وحدها بخمسمائة
ألف شخص، وحتى وقف الدكتور عبد الخالق سليم مقرر لجنة الشؤون الصحية بمجلس
النواب أثناء نظر قانون المخدرات ينبه إلى خطورة الحالة فقال:
(من المُسلم به أن الحرب العظمى كلفت المتحاربين ضحايا هائلة في النفس
وضحايا في المال، وقد انتشر الآن في البلاد وباء خطر جدًا، ليس على المال
والأنفس فحسب ولكنه وباء يسطو على الأخلاق فيفسدها، وعلى الكرامة فيسحقها
وعلى الإرادة فيسلبها وعلى عاطفة الشرف فيذهقها، حتى إذا سلم المصاب به من
الموت ولو إلى حين عاش ذليلاً بائسًا يتمنى الموت ولكنه لا يجد الشجاعة
الكافية للانتحار، ومما يزيد الإنسان أسى أن هذا الوباء قد بدأ ينشب
أظفاره في طبقة الفلاحين والعمال، تلك الطبقة التي عليها قوام العمران في
البلاد، وهذا الوباء… هو انتشار تعاطي المخدرات (مناقشات مجلس النواب جلسة
24 يناير سنة 1927).
فالإدمان على المخدرات يصيب الشخص في صحته وفي عقله وفي ماله، ويفسد خلقه
واستعداده للعمل بل إنه يؤثر حتى على ذرية المدمن الذين يرثون وهنًا
وانحطاطًا عن آبائهم، وهو وثيق الصلة بالإجرام يدفع إلى ارتكاب الجريمة،
ويخلق ميلاً إليها، ذلك أن التنبه الحادث من تعاطيها يدفع إلى أعمال العنف
والاعتداء والقتل (يراجع في ذلك الدكتور دوبري في كتاب ميرابان
La lutte anti toxique صـ 160).
والمواد المخدرة جميعًا تستوي في مضارها، سواء أكانت من المخدرات المعروفة
بالبيضاء (وأهمها الكوكايين والهيرويين والمورفين) أم من المخدرات السوداء
(وأظهر أنواعها الحشيش وهو المعروف بالقنب الهندي والأفيون) فلكل تفرقة
يراد إيجادها بين هذين النوعين تفرقة تحكمية خطرة.
لقد اقترح بعض أعضاء البرلمان أثناء مناقشة قانون المخدرات سنة 1927، عدم
التسوية في العقوبة بين نوعي المخدرات، وتشديد العقوبة بالنسبة للمخدرات
البيضاء، وكان مما قاله في ذلك الصدد الدكتور حسين يوسف عامر عضو مجلس
النواب في جلسة 8 فبراير سنة 1927 إن المخدرات تنقسم إلى قسمين مختلفين
تبعًا لجسامة الخطر الناتج من استعمال كل قسم منهما، فالحشيش والأفيون أقل
خطرًا من باقي المخدرات كالكوكايين والمورفين، وأنه لا جدال في أن استعمال
الأفيون والحشيش يؤثر في العقل والجسم إلى درجة محدودة خلافًا للكوكايين
الذي يؤدي حتمًا بمن يستعمله إلى الجنون في مدة سنتين كما قرر رجال الطب،
فضلاً عن إضعافه لقوة التناسل وإقلاله لشهية الأكل - أما الحشيش فبالعكس
من ذلك لأنه يفتح الشهية للطعام، وانتهى الدكتور عامر إلى أنه ما دام
الأمر كذلك فليس من المصلحة مطلقًا التسوية في العقوبة بين من يتجر في
الحشيش والأفيون ومن يتجر في باقي أنواع المخدرات الأخرى.
غير أن ذلك الرأي لم يلقَ قبولاً، حتى قال مقرر لجنة الشؤون الصحية بمجلس
النواب الدكتور عبد الخالق سليم بحق، أنه إذا كان تعاطي الكوكايين يقتل
الأشخاص بعد سنتين فما ذلك إلا لسرعة تأثيره في الجسم، ولكن تأثير الحشيش
كالسرطان متى دخل الجسم أصبح علاجه من المستحيلات وضرب مثلاً على أن مدى
الضرر لا تأثير له في تقرير العقوبة - أن من يزور سندًا على شخص يملك
خمسين فدانًا يعاقب بنفس العقوبة التي ينالها من يزور سندًا على شخص يملك
مائتي فدان.
(جلسة مجلس النواب 8 فبراير سنة 1927).
وانتهى البرلمان إلى التسوية في العقوبة بين من يتجر في المخدرات البيضاء
والسوداء، وإن كانت نصوص القانون مع ذلك لم تخل بما يشير إلى زيادة اهتمام
الشارع بمكافحة المخدرات البيضاء، فالمادة (46) من القانون قد نصت على
مكافآت أكثر سخاءً لمن يضبطون المواد المخدرة غير الأفيون والحشيش.
ولقد أردت أن أنبه هنا إلى خطر إيجاد أية تفرقة بين المخدرات البيضاء
والسوداء، بمناسبة ما أثير في إحدى اجتماعات لجان جامعة الدول العربية من
مناقشات تميل إلى إيجاد هذه التفرقة، ولعل اللجنة المشكلة في وزارة الصحة
العمومية لتعديل قانون المخدرات تبقى على هذه التسوية في عقوبة المخدرات
البيضاء والسوداء.
فمع التسليم بأن ضرر المخدرات البيضاء أسرع ظهورًا، فإن الضرر متحقق في
الحالتين، وقد سبق للدكتور حامد محمود حين كان مديرًا لأقسام الصحة
الاجتماعية بوزارة الصحة أن قرر (أنه لخطأ عظيم الاستهانة بالضرر الذي
يلحق البلاد من تزايد استعمال الحشيش والأفيون لأن خطر ذلك على البلاد
مزدوج - خطر على المدمنين أنفسهم وخطر على الجماعة العامة. إن مدمن
المخدرات مثل حامل ميكروب التيفوئيد ينشر مرضه بين الآخرين الذين
يخالطونه. والإدمان على الهيرويين سريع في نتائجه والمفروض أن حياة المدمن
على الهيرويين قصيرة بينما أن المدمن على الأفيون يعيش عدة سنوات وإن كانت
النتيجة في النهاية واحدة اضمحلال فوفاة - ومع ذلك فإن الخطر على الجماعة
من الإدمان على الأفيون أعظم من خطر الإدمان على الهيرويين لأن عدوى مدمن
الأفيون تبقى منتشرة عددًا أكثر من السنين فهوة كقدوة ومغرٍ يعدي نسبيًا
عددًا من الأشخاص أكثر من الذين يعديهم مدمن الهيرويين الذي حياته أقصر من
حياة الآخر) (التقرير السنوي لمكتب المخدرات عن سنة 1940 ص ل).
وقبل ذلك نشر طبيبان هنديان في يوليو سنة 1939 بحثًا مستفيضًا عن إدمان مخدر القنب الهندي (الحشيش) في مجلة (
Indian Research memories)
انتهيا فيه إلى أن تدخين الحشيش يؤدي إلى حالة تسمم شديد نتيجة مفعول
الحشيش على مراكز المخ العليا، وأنه إذا دام استعمال الحشيش مدة كبيرة
فإنه قد يتسبب عنه الجنون (تقرير مدير مكتب المخدرات بالولايات المتحدة
الأمريكية عن سنة 1942، المنشور في واشنجطون في مارس سنة 1943).
يضاف إلى ما تقدم أن التفرقة بين المخدرات البيضاء والسوداء غير منتجة،
لأنه من الأفيون وهو أحد المخدرات السوداء تستخرج بعض المخدرات البيضاء
وهي المورفين والهيرويين.
هذه هي مضار المخدرات بوجه عام، وقد كان أشد ما عانته مصر من هذه المخدرات
عقب الحرب العظمى، حين اشتد الإدمان على المخدرات البيضاء، مما أفزع الرأي
العام وأولي الأمر، فصدر القانون رقم (21) لسنة 1928 متأثرًا بخطورة
الحالة، حتى أنه صرح جهارًا أثناء نظر ذلك القانون في البرلمان، بأن روح
التشديد يجب أن تسوده، وأنشئ مكتب المخابرات العام للمواد المخدرة بقرار
من مجلس الوزراء في 2 مارس سنة 1929، وكانت نتيجة ذلك التشريع الجديد وما
بذله رجال مكتب المخدرات من جهود أن الحالة بدأت في التحسن، وما كان عام
1933 حتى صرح مدير مكتب المخدرات بأن خطر المخدرات الذي هدد البلاد
بالخراب منذ بضع سنوات قد زال وأصبحت مناوأته والسيطرة عليه ممكنة في
المستقبل. (تقرير مكتب المخدرات عام 1933).
وبقيام الحرب الأخيرة، توقفت تجارة المخدرات البيضاء عن نشاطها، ذلك أن
الصين وبلاد وسط أوروبا وهي موطن هذه المخدرات، قد أصبحت ميدانًا لحرب
ضروس وأصبح نقل هذه المخدرات عبر البحار متعذرًا.
غير أن تضاؤل كمية المواد البيضاء المضبوطة تم انعدامها، قد قابله تزايد
في كميات المواد السوداء (الحشيش والأفيون) التي تهرب إلى مصر عبر قنال
السويس فدل هذا على أن الإدمان على المخدرات ما زال كامنًا في النفوس،
وأنه وقد تعذر الحصول على المخدرات البيضاء فإن المدمن يستعيض عنها
بالمخدرات السوداء التي تُحدث نفس التأثير الضار.




سنتيجرام

جرام

كيلو جرام

فمنذ قيام الحرب كانت كمية الحشيش المضبوطة

78

372

459

وكمية الأفيون

5

417

1037



(إحصائية مكتب المخدرات عن سنة 1938).

وفي سنة 1944 قفزت كمية المخدرات من الحشيش إلى

85

244

1445

ومن الأفيون

1

412

1171

واستمرت هذه الزيادة حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها فبلغت مضبوطات عام 1947 من المواد السوداء.







الأفيون

80

873

3654

الحشيش

39

929

8459



(إحصائية مكتب المخدرات عام 1947 لم تُنشر بعد).


ولا
شك أن هذه الأرقام تدل في ذاتها على خطورة الحالة، فالمخدرات السوداء تهرب
إلى مصر عبر قنال السويس، على ظهور الجمال وفي بطونها، وفي سيارات الجيوش
المتحاربة وفي المراكب والقطارات والطائرات، ومصدرها الرئيس هو سوريا
للحشيش وتركيا للأفيون.
إن المخدرات تدخل مصر إذن، وتتداول بكثرة في داخلية البلاد هذه الأيام،
فما زال الإدمان عليها كامنًا في النفوس كما أسلفت، ويغري الكسب أصحاب
النفوس الضعيفة على الاتجار فيها، فإذا كان سعر الكيلو من الحشيش والأفيون
لا يتجاوز عشرين جنيهًا في سوريا، فإنه في مصر قد وصل إلى أكثر من مائة
وخمسين جنيهًا وقد بدى أخيرًا نوع من التعاون الإجرامي الخطير بين عصابات
تهريب المخدرات في البلاد العربية المتاخمة، وبين العصابات في مصر.




سنتيجرام

جرام

كيلو جرام

على أن دلائل كثيرة في مصر تدل على بدء تسرب المواد البيضاء إلى البلاد، حتى أنه ضبط من الكوكايين عام 1947

50

81

1

ومن الهيرويين

15

592

1



(إحصائية مكتب المخدرات عام 1947 لم تُنشر بعد).


ولو
أصبحت المخدرات البيضاء في متناول اليد، فإن البلاد ستسقط ثانيةً في
الهاوية التي تردت فيها بعد الحرب الماضية بل إن الخطر اليوم سيصبح
عظيمًا، ذلك أن الفلاحين لا يحصلون على غذاء كافٍ، وقد أنهكتهم أمراض
البلهارسيا والانكلستوما، فهم في حاجة إلى ما يجدد نشاطهم، فإذا وصل
الهيرويين إلى أيديهم بسعر رخيص فإن الكارثة ستكون شديدة.
ويبدو من ذلك التحليل المتقدم، أن المخدرات يكمن خطرها في ناحيتين:
1 - جلبها من الخارج وتداولها في الداخل.
2 - الإدمان عليها.
وسنعرض مقترحاتنا بالنسبة للخطرين على التوالي.


الباب الأول: مكافحة جلب المخدرات وتداوله

من
المُسلم به أن مكافحة الاتجار في المخدرات، لا تتأتي بالوسائل الداخلية
وحدها، بل إنه لا بد من نوع من التآزر الدولي في مكافحتها.
أولاً: الوسائل الداخلية:
1 - لعل أول ما يرد على الذهن هو منع تسرب المخدرات إلى الداخل، وهذه
المهمة تؤدي بطبيعتها عند الحدود والمواني المصرية، وهي تؤدي عند الحدود
الشرقية بوجه خاص هذه الأيام التي ازداد فيها تهريب المخدرات السوداء، لأن
الموطن الحقيقي لذلك التهريب كما أسلفت هو بلاد فلسطين وسوريا ولبنان.
ولا شك أن حُسن مراقبة الحدود المصرية الشرقية، من شأنه أن يؤدي إلى ضبط
كل من تسوله نفسه بأن يجلب المخدرات إلى مصر، وإلى ضبط ما يحمله من هذه
السموم غير أن هذه الرقابة في وقتنا الحاضر ليست موكولة إلى هيئة واحدة،
بل إنها موكولة إلى مكتب المخابرات العام للمواد المخدرة وإلى البوليس
ومصلحة الحدود ومصلحة خفر السواحل ومصلحة الجمارك، حتى أن قنال السويس
يقوم بحراسة شاطئها الشرقي رجال مصلحة الحدود، وشاطئها الغربي رجال مصلحة
خفر السواحل، وكانت نتيجة ذلك عدم التآزر بين رجال المصلحتين وعدم تبادل
المعلومات واشتراك القوات معًا في العمل فهذا التقسيم في المناطق وتعدد
الهيئات التي تتولى مكافحة التهريب، من شأنه أن يعرقل الجهود التي تبذل في
هذا السبيل وقد سبق لسعادة اللواء حسن عبد الوهاب باشا مدير عام خفر
السواحل أن اقترح في عام 1944 توحيد السلطات القائمة على مقاومة التهريب
وأن يتولاها موظف له منصب وكيل وزارة لشؤون التهريب، وأيد ذلك الاقتراح
سعادة اللواء رسل باشا مدير مكتب المخابرات العام للمواد المخدرة، في ذلك
الحين، ذاكرًا أن التهريب في مصر يمتد في الداخل والخارج منطويًا على
تجارة واسعة النطاق في الأسلحة والذخائر والمواد الغذائية وما إليها، وأنه
إذا أصبح في الإمكان تهريب البضائع من مختلف الأنواع دون الوقوع تحت طائلة
العقاب فمن الممكن أيضًا أن يهرب الناس، وإذا بالرقابة الضعيفة عند الحدود
تصبح ذات يوم خطرًا شديدًا على مصر.
(تقرير مكتب المخدرات عن سنة 1944 صـ 5).
ويتصل بإنشاء إدارة واحدة لمكافحة التهريب، وجوب تعزيز هذه الإدارة بعد
وافر من الضباط الأكفاء المثقفين، حتى لا يترك أمر جمع الاستدلالات
والتحريات إلى فئات البوليس الملكي والجنود - والاستعانة بالطائرات على
نطاق واسع لكشف زراعات الحشيش والخشخاش، وبالمراكب لمكافحة التهريب عبر
البحار.
2 - إذا لم تفد هذه الجهود في منع المخدرات من دخول البلاد وتسرب بعضها
إلى الداخل أو زرعها بعض الفلاحين طمعًا في الربح - فإنه يجب أن يتوافر
الجزاء الرادع على الاتجار فيها أو زراعتها.
إن القانون رقم (21) لسنة 1928 ينص في المادة (35) منه على معاقبة من
يُصدر أو يُجلب الجواهر المخدرة أو يبيعها أو يشتريها أو يُحرزها أو
يحوزها أو يقدمها للتعاطي أو يُسهل تعاطيها… بالحبس مع الشغل من سنة إلى
خمس سنوات وبغرامة من 200 جنيه إلى ألف جنيه.
وينص القانون رقم (42) لسنة 1942 الخاص بمنع زراعة الحشيش على عقوبة الحبس من ستة شهور إلى سنتين وغرامة من 100 جنيه إلى 200 جنيه.
بينما ينص المرسوم بقانون الصادر سنة 1926 المعدل بالقانون رقم (64) لسنة
1940 الخاص بمنع زراعة الخشخاش (الأفيون) على عقوبة الحبس مدة لا تزيد على
ستة شهور وبغرامة لا تتجاوز خمسين جنيهًا أو إحدى هاتين العقوبتين.
ويبدو من مراجعة هذه النصوص أن الشارع يفرق بين عقوبة من يحرز الحشيش أو
الأفيون، ومن يزرعه، مع أن زراعة الحشيش أو الخشخاش لا تقل خطوة عن إحرازه
بل قد تزيد أحيانًا، وهذه التفرقة بين جرائم الزراعة وغيرها لا تعرفها
قوانين المخدرات في الخارج (يراجع على سبيل المثال الذي يُحسن أن يُحتذى
قانون الأفيون والجواهر المخدرة لسنة 1929 الصادر في كندا).
على أن العقوبة حتى في حالة الجرائم الواردة بالمادة (35) من القانون رقم
(21) لسنة 1928 لم تعد كافية لردع المتجرين بالمخدرات ولمواجهة خطورة
الحالة، وهي أقل من نظيراتها في بعض التشريعات الأجنبية، فالتشريع الصيني
الصادر في 16 مايو سنة 1934 يجيز الحكم بالإعدام في جرائم بيع المواد
المخدرة وصناعتها ونقلها وفي القانون الإنجليزي الصادر في 17 مايو سنة
1923 يجوز أن يصل عقاب المتجرين في المخدرات إلى الأشغال الشاقة مدة عشر
سنوات وغرامة ألف جنيه، وفي الولايات المتحدة يجيز قانون جون ملر الصادر
في سنة 1922 إيصال مدة الحبس إلى عشر سنوات والغرامة إلى 5000 دولار.
وظاهر من ذلك أن الدول التي وجدت نفسها أمام خطر عظيم من انتشار هذه
المواد اضطرت إلى زيادة العقوبة زيادة تدفع أذاها، ففي هذه البلاد يعاقب
على جرائم المخدرات بعقوبة الجناية.
وقد اقترح في مصر أثناء مناقشة قانون المخدرات في البرلمان، جعل عقوبة
الاتجار في المخدرات جناية، غير أن لجنة الحقانية بمجلس النواب لم ترَ هذا
الرأي، (لأن اعتبار هذه الجريمة جناية سيصادف عقبات كثيرة عند تطبيق
القانون على الأجانب لعدم وجود محاكم جنايات بالمحاكم المختلطة، وعدم
ملاءمة قانون تحقيق الجنايات المختلط الذي وضع وقت إنشائها لروح الأنظمة
الحاضرة مما يستدعي إعادة النظر فيه، وهذا يستغرق وقتًا طويلاً، أما أن
تعتبر الجريمة جناية بالنسبة للمصري فقط فيحول ذلك دون اتجاره في تلك
المواد فيحتكرها الأجنبي ويلحق الضرر بأبناء البلاد فإذا ضُبط طُبقت عليه
عقوبة المخالفة، فهذا ظلم، كما أن التدرج في التشريع يقتضي عدم اعتبارها
جناية، فهذه الجريمة كانت المحاكم الأهلية تقضي فيها باعتبارها مخالفة إلى
عهد قريب.
وظاهر أن هذه الاعتبارات التي كانت قائمة وقت صدور القانون رقم (21) لسنة
1928 قد زالت الآن بزوال الامتيازات الأجنبية وخضوع الأجانب للتشريع
والقضاء المصريين لذا فمن المأمول، وهناك لجنة مشكلة في وزارة الصحة
لتعديل قانون المخدرات، أن يكون تشديد العقوبة أحد أُسس التنقيح، وخصوصًا
بالنسبة للجرائم التي ترتكبها الجماعات.
ثانيًا: الوسائل الدولية:
يقضي واجب التضامن الدولي على العائلة الدولية أن يتعاون أفرادها لمكافحة
الإجرام وإذا كانت هذه الحقيقة مثمرة بالنسبة لسائر الجرائم الأخرى، فإنه
لا غناء عنها بالنسبة لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات، ذلك أنه
في بعض الدول تعتبر المخدرات تجارة وصناعة رابحة، ومهما سمت تشريعات
البلاد الداخلية، وسمت مراقبتها لحدودها لمنع تسرب هذه السموم إلى
مواطنيها - فإن التضامن الدولي - سيبقى أبدًا العامل الهام في القضاء على
المخدرات.
ومنذ أن عمت المخدرات العالم سارت الدول في هذا الطريق الدولي، فعقدت
اتفاقية لاهاي لمعالجة موضوع المخدرات المصنوعة وإنتاجها، وانتهز الحلفاء
اجتماع مؤتمر الصلح فضمنوا معاهدة فرساى نصًا لا يمت إلى الحرب والسياسة
بصلة، هو تنفيذ ما اتفق عليه في لاهاي، واعتبار التصديق على معاهدة فرساى
بمثابة تصديق على اتفاقيات لاهاي.
وبعد أن أنشئت عصبة الأمم كان أول عمل قامت به أن أصدرت جمعيتها العمومية
قرارًا في 15 ديسمبر سنة 1920 بتشكيل لجنة أسمتها المجلس الاستشاري
للأفيون والمخدرات الضارة الأخرى، وعقدت بعد ذلك مؤتمرات جنيف التي انتهت
إلى إبرام اتفاقية الأفيون الدولية في 19 فبراير سنة 1925 وتوالت بعد ذلك
المؤتمرات لتحديد صناعة المواد المخدرة وأبرمت الدول اتفاقية لتحديد صناعة
المواد المخدرة وتنظيم توزيعها في 13 يوليو سنة 1931 واتفاقية عقوبات
الاتجار في المخدرات في 29 يونيو سنة 1936.
وظلت لجنة الأفيون بعصبة الأمم تباشر أعمالها وأبحاثها، ورغم قيام الحرب
في سنة 1939 فإنها لم تتوقف عن القيام بواجباتها من واشنجطون، وبعد أن
وضعت الحرب أوزارها وألغيت عصبة الأمم واجتمع مندوبو دول العالم في مؤتمر
سان فرنسسكو وأعدوا ميثاق هيئة الأمم المتحدة، صرح مندوب الولايات المتحدة
بأن ميدان الإشراف الدولي على الاتجار بالعقاقير الخطرة هو من الميادين
التي تدخل في نطاق أعمال المجلس الاقتصادي والاجتماعي لهيئة الأمم المتحدة
وانتهى الأمر بأن أصبح لهيئة الأمم المتحدة من الإشراف والرقابة على صناعة
المخدرات والاتجار فيها في العالم ما كان لعصبة الأمم، وقرر المجلس
الاقتصادي والاجتماعي تشكيل لجنة للمواد المخدرة من خمسة عشر عضوًا يمثلون
خمس عشرة دولة من بينها مصر، وكان أول اجتماع لهذه اللجنة في 18 نوفمبر
سنة 1946 بمدينة نيويورك.
أشرت إلى هذه السلسلة من الجهود التي بذلتها دول العالم لأبين أهميتها
القصوى في مكافحة المخدرات، ولا شك أن هذه الأهمية تبدو كاملة بالنسبة
لمصر ذلك أن مصدر الخطر عليها يكمن وراء حدودها الشرقية، فالحشيش يزرع في
سوريا ولبنان وشرق الأردن، والأفيون المزروع في تركيا يهرب إلى مصر عن
طريق سوريا وفلسطين، فلا غرو إذن أن كل الجهود الداخلية التي تبذل في مصر،
تصبح غير مجدية، إذا ما استمرت البلاد المتاخمة لحدودنا الشرقية غير ملقية
بالاً إلى مكافحة المخدرات.
إن القانون في هذه البلاد يعاقب على جرائم المخدرات، وقد انضمت هذه البلاد
إلى هيئة الأمم المتحدة وأصبحت ملزمة بتوصياتها وقراراتها، غير أنه رغم
ذلك، فإن قوانين المخدرات في هذه البلاد غير منفذة فعلاً، وما زال الحشيش
معتبرًا كأنه جزء من ثروتها القومية ويزرع علنًا فيها، وكانت الحجة في ذلك
أن زراعة الحشيش في سوريا تقليدية ولا يمكن الاستعاضة عنه بمحصول آخر،
وفوق أنه لا يضر السوريين لعدم استهلاكهم له، فإنه يُدر عليهم أرباحًا
وافرة.
فمنذ عام 1939 حين توصل اللواء رسل باشا إلى التفاهم مع سلطات الانتداب
الفرنسي على إعدام زراعات الحشيش، قامت قيامة السوريين وصحفهم، حتى أن
إحدى هذه الصحف وهي صحيفة صوت الأحرار نشرت بعددها الصادر في 18 يوليو سنة
1939 مقالاً ترد فيه على دعاة الانتصار لمنع زراعة الحشيش ومما جاء في ذلك
المقال (أما اختراق قانون عصبة الأمم، فلست أدري إذا كان – جريمة، بعد أن
اخترقت كل قوانينها دول أوروبية تسبقنا أشواطًا - على الأقل في رأي أوروبا
- في ميادين الحضارة والرقي، وأما الكيد للإنسانية فلا أعرف ما إذا كان
جريمة في بلد ضعيف هزيل يؤثر أن يموت الغريب موتًا بطيئًا (وعلى الكيف)
بالحشيش على أن يموت جوعًا، ولا سيما بعد أن رأينا ونرى كيف تسام
الإنسانية، وكيف يطعنها كثير من الأقوياء والمتمدينين، طعنات لا هوادة
فيها ولا رحمة وإن قتل حرية شعب من الشعوب لأعظم - والله أعلم - من تصدير
الحشيش إلى محششين يحصلون عليه من غيرنا بأي طريقة كانت).
وذلك المقال المتجني يعيد إلى الأذهان ما كتبه أحد كتاب سوريا في صحيفة فرنسية تصدر في سوريا اسمها (
La Syrie)، إبان زيارة البعثة الطبية المصرية لسوريا عام 1924، إذ قال - إن سوريا ومصر شقيقتان لأن إحداهما تزرع الحشيش والأخرى تشربه.
فليس لنا أن نأمل إذن إلا في أن حكومات هذه البلاد وقد نالت استقلالها
وانضمت مع مصر إلى جامعة الدول العربية ستواجه هذه الحالة بروح مستنيرة
فإن كانت المخدرات هناك تجارة رابحة، فإنها تجلب على مصر شرًا ووباءً
مستطيرًا وقد أوصى مجلس الجامعة جميع الدول العربية بالتعاون لمكافحة
المخدرات غير أن الأمر يحتاج إلى إصدار تشريع موحد بشأن جرائم المخدرات
بين جميع الدول العربية أعضاء الجامعة - وإلى عقد اتفاقية تتعهد فيها كل
دولة بأن - تبذل كل مجهودها لمكافحة هذا الخطر في أراضيها.
ذلك هو طريق التضامن الدولي الذي سلكته من قبل دول العالم، والذي أقرته
عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة والاتفاقيات الدولية التي أسلفت الإشارة
إليها، فلعل تضامن الدول العربية لمكافحة المخدرات، يكون ناجعًا في درء
خطرها عن بلادنا.


الباب الثاني: علاج الإدمان على المخدرات

1
- تدل زيادة مضبوطات المخدرات في مصر على أن الإدمان على المخدرات ما زال
كامنًا في النفوس فالفلاح الذي أنهك الفقر وسوء التغذية قواه، كما أنهكته
أمراض البلهارسيا والانكلستوما في حاجة دائمًا إلى منبه يجدد نشاطه
وحيويته، وهو حين أصبحت المخدرات البيضاء صعبة المنال، استعاض عنها
بالمخدرات السوداء، وحين لا يستطيع الحصول على هذه لارتفاع ثمنها فإنا
نراه يلجأ إلى تعاطي الشاي الأسود المغلي، وهو سم لا يقل ضررًا عن
المخدرات، ولا يمكن أن يوجد تشريع يتناوله بالعقاب، ومن ذلك يبدو أن مشكلة
المخدرات في الحقيقة جزء من مشكلة الفقر والمرض التي تعانيها مصر.
وثمة سبب آخر يشجع الفلاحين على تعاطي المخدرات، وهو ذلك الاعتقاد الخاطئ
بأن المخدرات مباحة شرعًا، على خلاف الخمر فمن الملاحظ أن جمهور المدمنين
يتعاطون المخدرات ولا يتعاطون الخمر استنادًا إلى ذلك الاعتقاد، والحقيقة
أن كل مسكر خمر: وكل خمر حرام، فالخمر تطلق على كل ما يفقد الوعي أو ينقصه
كالمخدرات، وقد أفتى بذلك حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية عام 1940
- وجاء في فتواه (أنه لا يشك شاك ولا يرتاب مرتاب في أن تعاطي هذه المواد
حرام لأنها تؤدي إلى مضار جسيمة ومفاسد كثيرة فهي تفسد العقل وتفتك بالبدن
إلى غير ذلك من المضار والمفاسد، فلا يمكن أن تأذن الشريعة بتعاطيها مع
تحريمها لما هو أقل منها مفسدة وأخف ضررًا ولذلك قال بعض علماء الحنفية
(إن من قال بحل الحشيش زنديق مبتدع) وهذا منه دلالة على ظهور حرمتها
ووضوحها ولأنه لما كان الكثير من هذه المواد يخامر العقل وينبهه ويحدث من
الطرب واللذة عند متناوليها ما يدعوهم إلى تعاطيها والمداومة عليها كانت
داخلة فيما حرمه الله تعالى في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله - صلى الله
عليه وسلم - من الخمر والمسكر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه
السياسة الشرعية ما خلاصته (إن الحشيشة حرام يُحد متناولها كما يُحد شارب
الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في
الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة
وهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظًا أو معنى). (تراجع
الفتوى كاملة في تقرير مكتب المخدرات عن عام 1940 صـ 54).
وبمثل ذلك أفتى الشيخان الجليلان أحمد جربوع وعلي الحناوي في سوريا ومما
جاء في هذه الفتوى وقد نشرتها جريدة الجبل أول أغسطس سنة 1944 (أنه لمن
دواعي الأسف العميق أن يتصل بنا وجود أراضٍ في جبلنا الأشم زُرع فيها
القنب الهندي الذي يستخرج منه الحشيش، هذه النبتة التي حرمها الله ورسوله
والتي تخل بالشرف والدين، وتضر بالصحة والأخلاق ولأنها من المسكرات
القبيحة التي هي أشد خطرًا وضررًا من الخمر).
وجاء في كتاب المنن لمؤلفه الإمام الشعراني المتوفى سنة 973 هجرية، وهو سفر قيم أحاط فيه مؤلفه بمضار المخدرات وتحريمها ما نصه:
(ذكر الشيخ قطب الدين العسقلاني خليفة شيخ الشيوخ الشيخ شهاب الدين
السهرودي - رحمه الله تعالى-، في الحشيشة مائة وعشرين مضرة دنيوية
وأخروية، وقال الحكماء أنها تورث أكثر من ثلثمائة داء في البدن كل داء لا
يوجد له دواء في هذا الزمان فمنها - تنقيص القوى، وإحراق الدماء وتقليل
الحماء، وتنقيب الكبد وتقريح الجسد، وتجفيف الرطوبات، وتضعيف اللثات،
وتصفير اللون وتحفير الأسنان، وتورث البخر في الفم، وتولد السوداء،
والجذام، والبرص والخرص، واللقوة، وموت الفجأة، وتورث كثرة الخطأ
والنسيان، والضجر من الناس، وتولد الأعشاء في العيون، وتخلط العقول، وتورث
الجنون غالبًا، وتسقط المروءة، وتفسد الفكرة، وتولد الخيال الفاسد، ونسيان
الحال والمآل، والفراغ من أمور الآخرة، وتُنسي العبد ذكر ربه، وتجعله يفشي
أسرار الإخوان وتذهب الحياء، وتكثر المراء، وتنفي الفتوة والمروءة، وتكشف
العورة وتمنع الغيرة، وتتلف الكيس، وتجعل صاحبها جليسًا لإبليس، وتفسد
العقل وتقطع النسل، وتجلب الأمراض والأسقام مع تولد البرص والجذام، وتورث
الأبنه وتولد الرعشة وتحرك الدهشة وتسقط شعر الأجفان وتجفف المني، وتظهر
الداء الخفي، وتضر الأحشاء، وتبطل الأعضاء، وتقوي النفس، وتهز السعلة،
وتحبس البول، وتزيد الحرص، وتسهر الجفون، وتضعف العيون، وتورث الكسل عن
الصلاة وحضور الجماعات، والوقوع في المحظورات، وارتكاب الأجرام، وجماع
الآثام، والوقوع في الحرام، وأنواع الأمراض والسقام).
وهناك ظاهرة أخرى تستحق العناية، استفحل أمرها هذه الأيام وهي أن تعاطي
المخدرات والإدمان عليها قد بدأ يتسرب إلى الطبقة المتوسطة والمؤثرة. وليس
هناك تفسير لهذه الظاهرة إلا أنها نتيجة للتدهور الخلقي والانحلال
الاجتماعي الذي يعقب الحروب عادةً.
فنحن في حاجة ماسة إذن إلى دعاية منظمة تحمل على المخدرات وتعاطيها وإلى
إعداد قسم بمتحف فؤاد الأول الصحي تعرض فيه نماذج لما قد يصير إليه المدمن
نتيجة تعاطيه المخدرات، نحن في حاجة إلى من يعظون في المساجد والكنائس
ينبهون الناس إلى خطورة المخدرات ومضارها، وإلى أن يطوف الفانوس السحري
بلاد الريف يعرض على الفلاحين صورة الآدميين الذين أضنتهم هذه السموم
الفتاكة، حتى ينفروا من المخدرات وتعاطيها.
2 - والمدمن كما هو ظاهر مجرم مريض، يجب معالجته وهو أحيانًا يفزع من
إدمانه ومع ذلك لا يستطيع الإقلاع عن عادته بل إن منع المخدر عنه قد يسبب
له أضرارًا بالغة وقد يعرض حياته للخطر وقد وصف الدكتور جان بيرن (
Jean Perrin)
حالة مثل ذلك المدمن في كتابه - مسؤولية المدمن الجنائية - فقال (إن
المدمن يعلم أنه بتعاطيه المخدرات سيقع تحت طائلة العقاب، ولكن شيئًا لا
يستطيع إيقافه، لا الاعتبارات الأدبية، ولا عواطفه العائلية كإنسان عادي
ولا خشية العقاب، فالمدمن إنسان أناني لا يهتم إلا بإشباع غرائزه).
ومثل ذلك المجرم يختلف تمامًا عمن يزرع الحشيش أو الخشخاش أو يتجر فيهما،
فإنه لا يبغي كسبًا، ولا يحيق من فعله ضرر بالجماعة التي يعيش فيها إلا عن
طريق غير مباشر، بل إن كل المضار واقعة عليه، لذلك فيجب على المشرع أن
يهتم بمعالجته قبل أن يعمل على معاقبته، فإن فكرة العقوبة بالنسبة لذلك
النوع من المجرمين تفقد حكمتها والغرض منها، ومهمة المشرع تبدو بالنسبة له
مهمة تهذيبية علاجية (
but curatif).
ولا شك أن هذه الاعتبارات هي التي أوحت إلى واضعي قانون المخدرات رقم (21)
لسنة 1928، النص في المادة (36) منه في فقرتها الثانية على أنه يجوز
للمحكمة بدلاً من عقوبة الحبس أن تحكم بإرسال الجاني إلى إصلاحية خاصة
لمدة لا تقل عن ستة شهور ولا تزيد عن سنة.
غير أن المشرع قد جانبه التوفيق حين حرم المحكمة من جواز إبدال عقوبة
الحبس المحكوم بها، بالإرسال إلى الإصلاحية إذا كان قد سبق إرسال الجاني
إليها، ذلك أن حكمة الإرسال إلى الإصلاحية تتحقق أيضًا بالنسبة للمجرم
العائد، بل إنها قد لا تتحقق إلا بالنسبة لذلك النفر من المجرمين والمدمن
كما أسلفت مريض أكثر منه مجرم.
وليس ذلك هو الانتقاد الوحيد الذي يمكن ملاحظته على ذلك النص، فإن تحديد
مدة الإصلاحية عيب ملحوظ فيه، إذ لما كان الغرض من الإرسال إلى الإصلاحية
هو معالجة المدمن بغية شفائه، فإن الأولى هو عدم تحديد المدة التي يقضيها
المدمن في الإصلاحية، بل إنها تترك لتقدير أطبائه، ويكون له إذا زادت
المدة عن حد معين أن يتظلم إلى القاضي.
على أنه بصرف النظر عن هذين الانتقادين، فإن نص المادة (36) لم يوضع موضع
التنفيذ، إذ لم تنشأ الإصلاحية المشار إليها حتى اليوم، ورغم أن كلاً من
الحكومات المتعاقبة قد حرصت على أن تذكر في خطاب عرشها أنها جادة في إنشاء
هذه الإصلاحية - فإنها لم تخرج إلى حيز الوجود.
وكانت نتيجة ذلك النص العاطل عن التنفيذ أن بعض المحاكم قد قضت بإرسال
المتهم إلى الإصلاحية فلم يُنفذ الحكم وبرئ المتهم من عقوبة توقع عليه،
ولم تستطع محكمة النقض والإبرام شيئًا أمام هذه النتيجة بل إنها قررت في
حكمها الصادر في 6 يناير سنة 1941 (القضية رقم 385/ 11 قضائية - مجموعة
محمود عمر صـ 339 قاعدة رقم 180) بأن القاضي إذا رأى من وقائع الدعوى
المعروضة عليه أن المتهم في حالة تستدعي العلاج والإصلاح وأمر بإرساله إلى
المصحة فلا يجوز الطعن على حكمه بمقولة إن مصحة المدمنين على المخدرات إذا
كانت لم تنشأ بعد لم يكن للقاضي أن يختارها بل كان عليه أن يحكم بعقوبة
الحبس ذلك أن الحبس والإصلاحية ليسا عقوبتين متعادلتين يحكم القاضي بأيهما
حسب مشيئته في كل دعوى بغض النظر عن حالة كل متهم وظروفه، بل إن كلاً
منهما قد قرر ملاحظًا فيه غرض خاص - واستطردت المحكمة العليا فذكرت في
أسباب حكمها الحكمة من نص المادة (36) وميزت بين عقوبة الحبس والمقصود بها
تأديب الجاني عما وقع منه ليكف عن الرجوع إليه وليكون عبرة لغيره،
والإصلاحية وهي ليست إلا وسيلة من وسائل العلاج والإصلاح قررها القانون
للمدمنين - الذين تملكهم داء الاعتياد على تعاطي المخدرات حتى لم يعودوا
يقدرون على الإمساك عنها ولا يجدي عقاب في حدهم عنها، وأمثال هؤلاء إذا
نزل العقاب بهم فإنه يكون عديم الأثر في تقويمهم ولا يتحقق به الغرض الذي
قصده القانون من العقوبة.
وجود الإصلاحية إذن لا غناء عنه لمعالجة المدمنين، وطالما أن هذه
الإصلاحية لم تنشأ فإن أحكامنا ستظل دائرة في حلقة مفرغة، فهي تنزل
بالمتهم العقوبة فلا تجديه نفعًا - وإذا خرج من السجن ألحت عليه عادته،
فإذا ضُبط أنزلت به المحكمة العقوبة… وهكذا…
ومن الغريب أنه منذ سنة 1935 حين عُرضت على القضاء المصري قضية الأطباء
المعروفة، التي اُتهم فيها ثمانِ أطباء وصيدلي وفلاح بتسهيل تعاطي جواهر
مخدرة وإحرازها في غير الأحوال المشروعة وعدم إمساك الدفاتر الخاصة بقيد
هذه المواد - ودلت هذه القضية على وجود عدد كبير من متعاطي المخدرات من
أفراد الطبقات الوسطى يرغبون في الشفاء ولا يجدون المستشفى الذي يأويهم،
وهم لا يملكون المال ليضمنوا وسيلة مؤكدة للشفاء في باريس أو فيينا - من
الغريب أنه منذ ذلك الحين وقد وضحت الحاجة إلى إنشاء المصحة التي أشار
إليها القانون، فإن الصيحات التي بذلها دعاة الإصلاح لم تلبث حتى خفتت
تدريجيًا وتلاشت.
وقد حرصت محكمة المخدرات التي أصدرت الحكم في هذه القضية على أن تبدي
ملاحظاتها على خلو البلاد من مؤسسة لعلاج المدمنين على المخدرات والعناية
بهم، فذكرت في أسباب حكمها (أنه إذا كانت الحكومة المصرية قد تهاونت في
إنشاء المصحات للعلاج ورأت في المدمن مجرمًا تلقيه في السجون فمجرد أن
تعرضه لخطر الموت في حالة المنع الفجائي من المخدر هو أمر لا يعدو
النظريات المحضة، بدليل إحصائياتها من السجون، فالمصحة لازمة إذا لم تكن
لبدء العلاج فلإتمامه كما تقدم، وطالما أنها لم تنشأ فستستمر الحكومة
والبلاد في حلقة مفرغة يعود فيها المدمن إلى إدمانه كلما انتهت مدة عقوبته
أو علاجه بمعرفة الطبيب الممارس، وهي حالة تدعو إلى الأسى (حكم محكمة
المخدرات الصادر في 2 يونيو سنة 1935 والذي تأيد بأسبابه استئنافيًا في 6
أغسطس سنة 1935 المحاماة السنة السادسة عشرة صـ 674).
وقد تنبهت كل البلاد المتمدينة التي دهمها خطر الإدمان على المخدرات إلى
وجوب إنشاء مصحات للعلاج فأصدرت البرازيل حديثًا تشريعًا مؤداه أن يرسل
المدمنون الذين يحكم عليهم لتعاطي المخدرات إلى إصلاحيات خاصة.
وفي الصين نص تشريع سنة 1934 على معالجة مدمني المخدرات في مصحات خاصة،
وفي الولايات المتحدة أنشأت في سنة 1935 مصحتان لإيواء الرجال والنساء، ثم
أنشأت بعد ذلك مستشفيات لعلاج المدمنين في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
وفي إنجلترا أنشأت كذلك إصلاحيات خاصة لعزل المدمنين، وقد ذكر الدكتور برانث وايت
Branth waite
مفتش الإصلاحيات في إنجلترا، في هذا الصدد (أن أنظمة السجن العادية لا
تصلح لمعالجة حالة المدمنين كما أنها لا تتلاءم بصفة عامة مع حالة الأشخاص
المصابين بعاهات عقلية وذلك لأن المدمن يحتاج إلى عناية خاصة واستحمام
منتظم ورياضة بدنية، كل ذلك بقصد استئصال العلل البدنية الطبيعية التي
تعتبر في الواقع سببًا مباشرًا لاختلال التوازن العقلي، وأن غرف السجون
الصغيرة بل وأبنيتها الضيقة لا تتفق مطلقًا مع ما تتطلبه حالة المدمن من
الأعمال الشاقة الصحية المستمرة والرياضة والعمل مع زملائه طول اليوم تحت
ملاحظة دقيقة، فضلاً عن وسائل التهذيب الواجبة، ولا نزاع في أن تعويدهم
على النظام أمر واجب ومن المستحب ألا تبلغ أساليب النظام في صرامتها
أساليب السجون بل تكون على نمط النظام العسكري أو المتبع في سفن الملاحة
كما أنه يحسن بقدر الإمكان أن يعدل عن العقاب الصارم إلى أمور يكون من
شأنها تشجيعهم على العمل طمعًا في المكافأة وحبًا في التحلي بالخُلق الحسن
لا أن يدفعوا إلى العمل خشية العقاب، وأهم أمر يجب الالتفات إليه هو
المعالجة الطبية لتلك العقلية الشاذة في إبان ظهورها، وكلما كانت
الإصلاحية أشبه في كل أنظمتها بمصح عقلي كلما كانت النتائج أجدى وأنفع).
ويُحسن بنا بمناسبة الحديث عن التشريعات الأجنبية أن نذكر تلك الرغبة
القديمة التي سبق أن أبداها المؤتمر الطبي الذي انعقد بمدينة بيزانكن
Besançn
في فرنسا عام 1923، في أن تعمل الحكومات على إنشاء مصحات لعلاج المدمنين
على المخدرات، وقد انتهى كذلك العلماء في ألمانيا وعلى رأسهم لوان
Lewin
إلى أن الإدمان على المخدرات كالإدمان على الخمور، كلاهما مرض وأن
المدمنين يجب أن يعالجوا في مصحات خاصة، وفي سويسرا صدر قانون في مقاطعة
زيورخ يمنح السلطات العامة حق حجز المدمنين في الإصلاحيات (يراجع في ذلك
رسالة الدكتور جان بيران
Jean Perrin السابق الإشارة إليها صـ 19 و20).
على أن إرسال المدمنين إلى المصحات يجب ألا يقتصر على من يحكم عليه في
إحدى جرائم المخدرات، بل إن المصحات يجب أن تفتح أبوابها لكل من يرغب في
العلاج من المدمنين ولو لم يحكم عليه في جريمة ما.
وليس الغرض من حجز المدمنين في مصحات هو حاجتهم إلى العلاج والرعاية فحسب
بل إن هناك غرضًا آخر هو عزل مسجوني المواد المخدرة عزلاً تامًا عن باقي
المسجونين لأنه قد يحدث من اختلاطهم انتشار استعمال المخدرات، وفي ذلك
يقول الدكتور ماسيجروف وهو ثقة من كبار الأطباء إن خطر المدمن وعدواه
تفوقان بعشرة أمثال الخطر المتخلف من الأبرص والعدوى منه، وليس المقصود
بالعدوى الاحتكاك الجسمي بل المقصود هو الاحتكاك العقلي والاجتماعي.
ومنذ 3 أكتوبر سنة 1932 خصصت مصلحة السجون مزرعة في طرة لإقامة المحكوم
عليهم طبقًا للمادة (35) من قانون المخدرات بالحبس لأكثر من سنة يعملون
فيها كالمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وذلك لحصرهم في بيئة واحدة ومنع
انتقال شرورهم إلى غيرهم (تقرير مصلحة السجون السنوي 1934 - 1935 صـ 4)
على أن إنشاء مثل هذه المؤسسة لإيواء المدمنين كان أولى وأجدر.
وليس أدل على أن إرسال المجرم المدمن إلى السجن إجراءً ليس فيه أي نفع وأن
العقوبة التي يقضي بها عليه لا تفيد أثرها وهو الزجر - من أن بعض هؤلاء
المدمنين يعودون إلى تعاطي المخدرات وهم ما زالوا في السجن لم يوفوا مدة
العقوبة المحكوم بها عليهم، ولقد أحصيت عدد هذه الحالات التي ضُبطت في
خلال عام 1947 بالقاهرة فوجدتها أربع عشرة حالة، وإنه من المؤسف حقًا أن
تتسرب المخدرات إلى داخل السجون، وهذه الحالة تستدعي وجوب تشديد الرقابة.
ولهذه الاعتبارات المتقدمة، فإن أشعر تمامًا بأن كل الجهود المبذولة لن
تؤتي ثمارها المرجوة في القضاء على الإدمان على المخدرات، اللهم إلا إذا
أنشئت الإصلاحية التي أشارت إليها المادة (36) من القانون.
3 - تقضي المادة (55) من قانون العقوبات بأنه يجوز للمحكمة عند الحكم في
جناية أو جنحة بالغرامة أو بالحبس مدة لا تزيد عن سنة أن تأمر في نفس
الحكم بإيقاف تنفيذ العقوبة إذا رأت من أخلاق المحكوم عليه أو ماضيه أو
سنه أو الظروف التي ارتكب فيها الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود
إلى مخالفة القانون، وقد أُدخل ذلك المبدأ في القانون المصري، لأول مرة
سنة 1904 وهو مستنبط من القانون البلجيكي الصادر في 31 مايو سنة 1888
(قانون لدجون) وكذا من القانون الفرنسي الصادر في 26 مارس سنة 1891 (قانون
بيرانجيه) وقد أسس ذلك المبدأ كما جاء في تعليقات الحقانية على قانون سنة
1904، على فكرة أنه من المستحسن وقاية من يرتكبون الجرائم لأول مرة من
تأثيرات السجون المفسدة للأخلاق كلما كان هناك أمل في أن هذه الرأفة لا
تكون في غير موضعها.
وتنص المادة (40) من قانون المخدرات رقم (21) لسنة 1928 على أنه لا يجوز
الحكم بإيقاف تنفيذ الحبس لمن يحكم عليه في جريمة من الجرائم المنصوص
عليها في هذا القانون. ويفسر ذلك النص الذي جاء على خلاف القواعد العامة،
أن قانون المخدرات صدر في وقت كان انتشار المخدرات فيه على أشده وكان
التشديد مطابقًا لرغبات الرأي العام الذي هاله تفشي الإدمان على هذه
المواد، حتى أنه ذكر جهارًا في مجلس البرلمان أن روح الشدة يجب أن تسود
نصوص القانون وأنه إذا أدت شدة القانون إلى تضحية بعض الحالات الفردية
فذلك تبرره سلامة المجموع، وذكرت لجنة الحقانية بمجلس النواب في تقريرها
عن القانون، أنه لا محل لإيقاف التنفيذ بالنسبة لهذه الطبقة من المجرمين.
ومع التسليم بأن جرائم المخدرات من الجرائم الخطيرة التي يجب تشديد
العقوبة بالنسبة لها، فإن الحكمة التي حدت بالشارع إلى أن يدخل نظام إيقاف
تنفيذ العقوبة في قانون العقوبات، متحققة في هذه الحالة أيضًا.
وقد تبين لي من مراجعة كثير من القضايا أن بعض النشء تفتنه المخدرات ويرغب
في تقليد غيره من أنداده، فيقدم على تعاطيها غير مقدر خطورتها فإذا أوقعه
حظه العاثر وقُدم إلى المحاكمة، فإن القاضي لا يملك غير أن يقضي بمعاقبته.
وقد يكون في دخوله السجن واتصاله بغيره من المسجونين مفسدة.
على أنه مع تقدير وجوب عدم حرمان المحكوم عليه من إيقاف تنفيذ العقوبة
فظاهر أنه لا محل لذلك الإيقاف إلا في جرائم التعاطي والاستعمال الشخصي
التي نصت عليها المادة (36) من القانون. أما غيرها من الجرائم الواردة
بالمادة (35) فهي جرائم شديدة الخطورة، لا يستأهل مرتكبها أي تخفيف أو
رحمة.
وظاهر أيضًا أنه لا محل لإيقاف التنفيذ في جرائم التعاطي إلا بالنسبة لمن
يحكم عليه لأول مرة، أما العائد فشخص لم يفلح الحكم السابق في تهديده
وزجره، وهو فضلاً عن ذلك قد يعد مدمنًا، وهناك وسائل لعلاجه نظمها القانون
وهي إرساله إلى الإصلاحية.
وفي هذه الحدود التي بيناها، ليست هناك أية خشية من إجازة الحكم بإيقاف
التنفيذ، فإن أمر ذلك الإيقاف متروك لفطنة القاضي وحُسن تقديره، يزن
الاعتبارات التي تدعو إليه، كما يقدر العقوبة التي يحكم بها، وهو في قضائه
خاضع لرقابة محكمة ثاني درجة، إذا رأت النيابة العمومية رفع الأمر إليها
ولا شك أن الحكم بإيقاف التنفيذ خير من أن يتلمس القضاة سُبل البراءة، في
كثير من القضايا التي كانت ظروفها تبرر التغاضي عن معاقبة المتهمين فيها -
لأن الحكم القاضي بوقف تنفيذ العقوبة هو حكم بالإدانة يبقى مسلطًا على
المحكوم عليه مدة خمس سنين.
ومهما يكن الأمر فلا يمكن القول بأن مثل جرائم التعاطي إذا ارتكبها متهم
لأول مرة أشد خطرًا من مواد الجنايات التي يجوز الحكم بإيقاف التنفيذ فيها
طبقًا للمادة (55) عقوبات.


الخلاصة

يتبين مما تقدم أن مخاطر المخدرات هي:
أولاً: في جلبها وتداولها.
ثانيًا: في الإدمان عليها.
وأن لمكافحة الخطر الأول وسائل داخلية ووسائل دولية.
ومقترحاتنا بالنسبة للوسائل الداخلية هي:
1 - إنشاء إدارة واحدة لمكافحة التهريب.
2 - تشديد العقوبة بالنسبة لجرائم الزراعة وجرائم المادة (35).
وبالنسبة للوسائل الدولية:
1 – تقنين قانون موحد بين البلاد العربية.
2 – اتفاقية بين البلاد العربية لمكافحة المخدرات.
أما معالجة الخطر الثاني فيكون عن طريق:
1 – الدعاية.
2 - إصلاحيات المدمنين.
3 - إجازة وقف التنفيذ في جرائم التعاطي.






جمال الدين العطيفي
وكيل نيابة مخدرات مصر