العلاقه بين القانون الدولى و الدستور
من المعروف ان القانون الدولي عبارة عن قانون يحكم العلاقات بين الدول بالدرجة الاساس ، وان دخول الدول في مثل هذه العلاقات يكون لوجود حاجات خاصة لكل دولة تدفعها الى الدخول في مثل هذه العلاقات وان تنظيم اشباع هذه الحاجات التي قد تكون سياسية او اجتماعية او اقتصادية يحتاج الى قانون داخلي اول الامر لتنظيم عملية الدخول في العلاقات الدولية ومن ثم تنظيم كيفية التعامل مع القانون الذي يحكم هذه العلاقات بعد تكونها والقانون الاول هو الدستور اما القانون الثاني فهو القانون الدولي العام . وذلك على اعتبار ان مفهوم الدستور يرسي أسس التنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المجتمع الداخلي وينصرف بناءا على ذلك الى كل الافاق التي تحيط بالروابط القانونية المتعلقة بالسياسة والاجتماع والاقتصاد وهو بهذه المكانة يمثل الاطار الشامل لكل القواعد القانونية الوطنية ، ويفتح في مدلوله افاقا واقعية للتواصل الوثيق مع القواعد القانونية الدولية وبيان ذلك يكون في ان القانون الدولي ينطوي في مدلوله على النظام القانوني للعلاقات الدولية التي تشمل الروابط القانونية بانواعها والتي تتعدى حدود الدولة الواحدة بفعل النمو المطرد للتعاون على المستوى الدولي( [24]).
ويتضح مما تقدم ان المظهر الاول للعلاقة بين القانونين تكمن في ان الدستور يهيئ او ينظم مبدئيا للعلاقة التي سوف يحكمها القانون الدولي . اما ما تبقى من مظاهر العلاقة فيتمثل بالعلاقة التكوينية المتبادلة بين القانونين ، والتي تناولنا جزءا منها في الفصل الاول عند الحديث عن انتقال قواعد حقوق الانسان من القانون الداخلي الى القانون الدولي حيث ان هذه القواعد وانتقالها يمثلان السمة الاكثر وضوحا لتأثير الدساتير الوطنية في تكوين قواعد القانون الدولي ، وفضلاً عن ما تقدم نجد العلاقة التكوينية المتبادلة بين القانونين واضحة بالنسبة للعديد من ا لقواعد الاخرى المكونة للقانونين والتي يرجع اصلها الى القانون الاخر ، وبالنظر الى قدم الدساتير في الوجود على القانون الدولي نجد ان القانون الاول قد اثر في بداية الامر بالقانون الثاني . ومن الامثلة على ذلك ، اخذ القانون الدولي بمبدأ المسؤولية الدولية الذي يعود في اصله الى مبدأ المساءلة الدستورية للحكام والمسؤولين عن الإعمال غير المشروعة ، وكذلك مبدأ المساواة بين الدول ومبدأ تحريم تدخل الدول بعضها في شؤون البعض الاخر ، حيث ان مثل هذه المبادئ ليست في حقيقتها سوى مبادئ ناتجة عن الثورة الفرنسية الشهيرة ودساتير الدول المتأثرة بمبادئها( [25]) .
ومن جهة اخرى فان هناك العديد من  القواعد العرفية التي استقرت في القانون الدولي ليست في حقيقتها لا عبارة عن قواعد عرفية وطنية كانت تمارس في ظل احكام الدساتير الوطنية من قبل الاجهزة الدستورية للدول ومثال ذلك قاعدة ان رئيس الدولة ومهما كان وصفه او لقبه هو الممثل الاعلى للدولة في جميع علاقاتها الدولية ، حيث ان هذه القاعدة الثابتة في القانون الدولي ليست في اصلها الا قاعدة ظهرت واستقرت في احكام الدساتير، وتطور بعد ذلك واصبح رئيس الدولة يقوم بتمثيل الدولة في المجالين الدستوري والدولي( [26])، ومن الأمثلة الأخرى اخذ القانون الدولي بمبدأ استقلال القضاء بالنسبة إلى القضاء الدولي حيث ان هذا المبدأ يرجع في اصله الى الدساتير الوطنية التي أخذت بهذا المبدأ كضمانة للأفراد ، وعملاً بمبدأ الفصل بين السلطات المعروف في القانون الدستوري( [27]).
ومن ناحية أخرى نجد ان العلاقة التكوينية بين الدساتير والقانون الدولي تتجسد في تأثير القانون الدولي في تكوين الدساتير ، حيث نجد ان القانون الدولي يسهم في تكوين الدساتير الوطنية ، ويأتي في مقدمة مساهمة القانون الدولي في تكوين الدساتير وكنتيجة طبيعية لوجود قواعد دولية لحقوق الانسان ، تأثرت الدساتير بالقواعد الدولية لهذه الحقوق ، حيث تاخذ هذه الدساتير من القانون الدولي قواعد معينة لحقوق الانسان وتدرجها ضمن الأجزاء التي تتضمنها والخاصة بحقوق الانسان .
والذي يلاحظ على تأثير القانون الدولي في تكوين الدساتير الوطنية ان دور القانون الدولي اما ان يكون دورا كليا او جزئيا في تكوين الدساتير الوطنية . ويكون دور القانون الدولي كليا في تكوين الدساتير عندما نكون امام حالة اقامة دستور بموجب احكام معاهدة دولية ، والمثال على ذلك الدستور السويسري لعام 1848 حيث كان يرجع في اساسه الى معاهدة 1291 والتي عقدت بين ثلاث مقاطعات شكلت اتحادا فيما بينها لاغراض دفاعية ، وكذلك الدستور الالماني الصادر عام 1867 وكذلك الدستور الحالي للولايات المتحدة الامريكية . وفضلاً عن هذه الامثلة فان ارجاع الدساتير من حيث التكوين الى اصل قانوني دولي يسري على جميع الدساتير الكونفدرالية حيث ان احكامها تجد اصولها في معاهدات ومواثيق دولية( [28]).
وبذلك نجد ان القانون الدولي يمكن ان يلعب دورا تكوينيا كليا في تأسيس الدساتير الوطنية . ومن جهة اخرى يمكن ان يلعب القانون الدولي دورا جزئيا في تكوين الدساتير الوطنية أي انه يمكن ان يسهم في اجزاء معينة من هذه الدساتير ويكون ذلك عن طريق اقتباس الدساتير لقواعد دولية او التأثر بها عند صياغة الدستور او تعديله بعد ذلك ، ومن الامثلة على ذلك فضلاً عن الاخذ بالقواعد الدولية لحقوق الانسان، الاشارة الى كون الدستور ياخذ بالقواعد الدولية بشكل عام فضلاً عن القواعد الدستورية التي يضمنها ومثال ذلك الدستور النمساوي الصادر عام 1920 حيث جاء في المادة (9) منه ( ان قواعد القانون الدولي المعترف بها على النطاق العالمي تعد جزءا من القوانين الجمهورية النمساوية ) ومن جهة اخرى هناك دساتير معينة تاخذ بمجموعة معينة  بالذات من القوانين الدولية ومثال ذلك الدستور الكوبي الصادر عام 1940 حيث جاء في المادة (7) منه والتي بينت ان الدستور يأخذ ( بمبادئ القانون الدولي وتطبيقاته التي تشجع التضامن الانساني واحترام سيادة الشعوب والمعاملة بالمثل والسلم والحضارة العالمية ) .
 
وعلى الرغم من كثرة الأمثلة بين الدساتير الوطنية على التأثر بالقوانين الدولية، الا ان اكبر درجات التأثر والتي تكون ذات أهمية وخصوصية وتأثير نوعي في الدستور هي التأثير بالقواعد الدولية لحقوق الإنسان . وذلك لما هناك من علاقة خاصة بين القانونين فيما يتعلق بحقوق الإنسان حيث أنها تشكل نقطة التقاء موضوعية بين القانونين وهذا ما سوف نتناوله في المطلب القادم.