مصادر القانون الدولى

القانون الدولي لحقوق الانسان يعد فرعا من فروع القانون الدولي العام ، وبناءا على ذلك فانه كي نستطيع تحديد مصادر القانون الفرع لابد قبل ذلك من معرفة مصادر القانون الاصل وذلك للتمكن بعد ذلك من معرفة مدى امتلاك القانون الفرع لذات المصادر ، حيث ان تحقق ذلك يؤدي إلى تمكيننا من استخلاص نتيجتين مهمتين فيما يتعلق بالتعريف بالقانون الدولي لحقوق الانسان ، الاولى تتعلق بصحة اعتبار قواعده كقواعد قانونية والثانية تتعلق بصحة اعتبار مجموعة قواعده قانونا قائما بذاته وفرعا من فروع القانون الدولي العام .
وللتعرف على مصادر القانون الدولي العام فان خير ما يستعان به لهذا الغرض هو النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية باعتبارها الجهة القضائية التي تحتاج إلى البحث في مصادر هذا القانون في سبيل اعتماد الذي ينطبق منها على النزاع المعروض أمامها ، ويفيد هذا النظام الذي يمثل البيان المرجعي المقبول لتحديد تلك المصادر في مادته ( 38 ) والتي تتضمن كون ان المحكمة تمارس وظيفتها في الفصل في المنازعات الدولية المعروضة عليها بتطبيق المعاهدات الدولية ، العرف الدولي ، المبادئ العامة للقانون والمعترف بها من قبل الامم المتحضرة .
واذا علمنا مصادر القانون الدولي العام بحسب تحديد النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية ، نتساءل عن مصادر القانون الدولي لحقوق الانسان وهل هي ذات المصادر اعلاه ؟
قبل التطرق إلى مصادر القانون الدولي لحقوق الانسان قد يكون من المفيد ذكره انه لكون النظام القانوني الدولي نظاما غير مركزي ولا يوجد فيه سلطة تشريعية بالمعنى المعروف لدور هذه السلطة فان اغلب قواعد القانون الدولي العام قد نشات اما عن طريق الاتفاق او انها تظهر من خلال عملية التفاعل والتعامل بين الدول ( [96]).
وتتحدد مصادر القانون الدولي لحقوق الانسان فيما يأتي:
1. المعاهدات :
تعرف المعاهدة بانها اتفاق بين شخصين او اكثر من اشخاص القانون الدولي العام يهدف إلى احداث اثار قانونية معينة ( [97]) وقد اعطيت عدة مرادفات لتعبير ( معاهدة ) مثل اتفاقية او ميثاق او بروتوكول او عهد او نظام وقد حاول الكثير من الفقهاء التفرقة بين هذه المصطلحات الا انه وفي جميع الاحوال فان المعنى الاهم لها لا يخرج من إطار التعريف أعلاه ( [98]) .
وتمتاز المعاهدات بشكل عام بانها تعد الصيغة الاكثر تناسبا مع العلاقات الدولية التي تمتاز بتطورها وشدة تعقيدها ، حيث انها تأتي بقانون غير جامد وقابل للتطور وفي نفس الوقت محدد وغير مرن كالعرف كما انها الصيغة التي تتناسب مع قيام المجتمع الدولي الحديث على قاعدة السيادة وعدم قبول الخضوع لسلطة اعلى وقواعد لا تأتي عن إرادة الدول الصريحة . واذا كانت هذه الأوصاف تنطبق على المعاهدات ولها فائدة بشكل عام ، فان ذلك يبدو اكثر اهمية ويعطي فائدة اكبر لقواعد القانون الدولي الخاصة بحقوق الانسان حيث ان هذه القواعد كانت ولاتزال تعاني إلى حد ما من التشكيك في مدى الزاميتها ، لذلك كانت تحتاج إلى مصدر يزيل عنها احتمالات التشكيك ويعطيها قوة ودفع نحو التفعيل ، ويكون ذلك من خلال ادراجها ضمن المعاهدات الدولية ( [99]) لذلك نلاحظ انه على الرغم من ان قواعد القانون الدولي لحقوق الانسان تمثل في الوقت الحاضر تعبيراً عن ارادة المنظمات الدولية وتصدر في صيغ التصرفات لهذه المنظمات من قرارات وتوصيات واعلانات واتفاقيات الا ان هذه المنظمات تعمد لتأكيد القوة الملزمة للقواعد التي تتضمنها تصرفاتها سابقة الذكر والمشكوك في مدى الزاميتها ، إلى اللجوء إلى صيغة المعاهدات والاتفاقيات . وهذه الصيغة لا تتوقف عند مجرد اصدار التصرف او القرار بل انها تحتاج إلى عمل اخر تقوم به الدولة لتؤكد التزامها بالاتفاق وتحيله إلى التطبيق فعلا في الدائرة الدولية والدائرة الداخلية على السواء ( [100]) .
وبناءً على ما تقدم نجد ان هناك ارادة للمنظمات الدولية ملحقة بإرادتها في التوجيه نحو إعمال حقوق الانسان عن طريق الاعلانات والتوصيات والقرارات غير الملزمة الا وهي ارادة المنظمة لتحويل اثار هذه الاعلانات او التوصيات او القرارات إلى ما يضمن بصيغ قانونية الإعمال لما تحتويه ، لذلك نجد ان المنظمات الدولية كالامم المتحدة مثلا تحاول الضغط على ارادة الدول للانتقال بحقوق الانسان من مجرد التوصية مثلا لإيصالها إلى مرحلة الالزام بموجب اتفاقية ، ونستطيع تتبع مثل هذا القول من خلال تتبع تطور محتوى الكثير من وثائق حقوق الانسان والتي كان الامر في بدايته مجرد توصية من الجمعية العامة مثلا واذا بالحال يتطور إلى ان يصل إلى درجة الاتفاقية ، والمثال الواضح على ذلك الاعلان العالمي لحقوق الانسان والذي صدر عام 1948 على شكل توصية ثم تطور مضمونه إلى مشروعين لاتفاقيتين تم اقرارهما عام 1966 لتفعيل أحكامه وإضفاء صفة الإلزام عليه ويتكون القانون الدولي الاتفاقي لحقوق الانسان من مجموعة كبيرة من الاتفاقيات في مجال حقوق الانسان يتصف البعض منها بصفة العالمية وذلك اذا كانت الاتفاقية ذات نطاق عالمي وتضم غالبية دول العالم ، وتتصف بعضها بالعمومية وذلك اذا كانت ذات اتجاه عام في مجال حقوق الانسان وتضم او تنظم مجموعة من الحقوق الانسانية وقد تكون هذه الاتفاقيات خاصة برعاية افراد معينين يحتاجون إلى رعاية خاصة كالاطفال او النساء او المعوقين او قد تكون خاصة بحقوق انسانية او حق معين يحتاج إلى اهتمام وعناية خاصة وياتي في مقدمة هذه الاتفاقيات من حيث الاهمية ميثاق الامم المتحدة الصادر عام 1945 والعهدين الدوليين لحقوق الانسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية اذ تعتبر هذه الاتفاقيات من اهم الاتفاقيات الدولية العالمية وذات الاهمية البالغة في تكوين القانون الدولي لحقوق الإنسان كما علمنا عند تناولنا ذلك عند الكلام عن تطور القانون الدولي لحقوق الإنسان في المطلب السابق، كما ان هناك مجموعة من الاتفاقيات الإقليمية ذات الأهمية الكبيرة ، مثل الاتفاقيات الأوربية والأمريكية والأفريقية والتي لها دور كبير أيضاً في تكوين القانون الدولي لحقوق الانسان( [101]).
ومن الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية فئات معينة من بني البشر ، الاتفاقية الدولية الخاصة بجنسية المرأة المتزوجة لعام 1957 ، واتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز ضد المرأة لعام 1967 ، واتفاقية خفض حالات انعدام الجنسية لعام 1961 ، والاتفاقية الخاصة باللاجئين لعام 1951 وغيرها من الاتفاقيات لرعاية الأطفال والمتخلفين عقليا وكبار السن .
وإلى جانب الاتفاقيات السابقة وجدت العديد من الاتفاقيات الدولية المتخصصة بصيانة وضمان إعمال حقوق معينة بالذات وتخصيص آليات لحمايتها ، ومثال ذلك الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري لعام 1965 والاتفاقية الخاصة بمنع الرق لعام 1926 ، واتفاقية منع السخرة لعام 1957 وغيرها من الاتفاقيات الدولية التي تعنى بحقوق معينة من حقوق الإنسان .
2. العرف :
يعد العرف المصدر الرسمي الثاني من مصادر القانون الدولي العام ، وعلى الرغم من مزايا الاتفاقيات الدولية كمصدر للقانون الدولي ، الا ان العرف تبقى له الأهمية الكبيرة لتنظيم العلاقات الدولية ، وان الكثير من الفقهاء يرون ان للعرف اهمية على صعيد العلاقات الدولية تفوق أهمية الاتفاقيات وذلك نظرا إلى كونه ينظم العلاقات في مجتمع غير منظم بشكل تام إلى الان ، الا وهو المجتمع الدولي ، وتاتي اهمية العرف الدولي من ناحيتين الأولى لكونه أوجد معظم قواعد القانون الدولي العام والثانية لكونه يتفوق على المعاهدات بكون قواعده عامة وشاملة ، أي انها ملزمة لجميع الدول في حين ان القوة الالزامية في المعاهدات تقتصر على الدول المتعاقدة ويتكون العرف باطراد الدول على اتباع قواعد معينة في سلوكهم دون ان تكون ملزمة ، وبمرور الزمن والاستمرار في اتباع هذه القواعد يتولد شعور لدى الدول بالزاميتها وترتيب جزاء على مخالفتها وقد كان ولا يزال للعرف اهمية ودور كبير في ايجاد وتطبيق القانون سواء داخلياً او دولياً ( [102]) .
واذا كانت هذه الاهمية للعرف واضحة كمصدر مهم للقانون بشكل عام فانها قد تكون اكبر بالنسبة إلى حقوق الانسان سواء على الصعيد الداخلي او الدولي ، فإن من المعروف وكما تناولنا فيما تقدم انه قد كانت هناك اهمية ودور كبير للعرف في تكوين قواعد حقوق الانسان على الصعيد الداخلي وان اغلب قواعد هذا القانون فيما يتعلق بحقوق الانسان كانت في بداية الامر عبارة عن اعراف ، كما قد علمنا مما تقدم ان قواعد حقوق الانسان عندما انتقلت من النطاق الداخلي إلى النطاق الدولي كانت قد دخلت القانون الاخير على شكل قواعد دولية عرفية تطور الامر بها بعد ذلك واصبحت بأشكال وصيغ دولية اخرى .
ويعد العرف من ناحية اخرى المصدر الأكثر ملاءمة من مصادر القانون الدولي لتلبية متطلبات تكوين قانون دولي لحقوق الإنسان حيث انه من المعروف ان مبادئ حقوق الانسان تكونت بجهود ونضال واسهام كبير للبشرية كلها على اختلاف الامم والحضارات كما ان هذه المبادئ نابعة من اصول يرجع الكثير منها إلى تعاليم الاديان وقواعد الاخلاق العامة إذ ان العرف هو الوسيلة الفعالة التي تتيح لهكذا قانون ان يتكون ويتطور ويواكب كل الحاجات البشرية على  اختلاف الاماكن والعصور ويضاف إلى ما تقدم ان اهمية العرف لحقوق الإنسان يكمن في كون انه اذا اصبحت قاعدة معينة من قواعد حقوق الانسان جزءا من قانون العرف الدولي، فان ذلك يعني انها سوف تكون ملزمة لجميع الدول الاعضاء في الاسرة الدولية عكس الحال فيما يتعلق باتفاقيات محدودة من اتفاقيات حقوق الانسان حيث انها لا تسري الا على الدول الاطراف فيها .
ومنذ انتقال قواعد حقوق الانسان من الصعيد الداخلي إلى الصعيد الدولي برزت العديد من القواعد العرفية لحقوق الانسان والتي كون مجموعها القانون الدولي العرفي لحقوق الانسان ، ومثال ذلك القواعد التي تحكم سلوك المحاربين والقواعد التي تحمي ضحايا الحرب وعادات الفرسان ( [103]) ونظرية التدخل الانساني والمساعدة الانسانية والحد الادنى في معاملة الاجانب ويضاف إلى ذلك العديد من القواعد التي ظهرت من خلال جهود المنظمات الدولية وخاصة الامم المتحدة وذلك من خلال نشاطاتها الانسانية.
وهناك رأي يذهب إلى ان الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي جاءت به الامم المتحدة عام 1948 اذا لم يكن يحضى بالقوة الالزامية للمعاهدات فان قبوله وعدم معارضته من قبل الدول سواء الاعضاء او غير الاعضاء في الامم المتحدة قد كون مجموعة من القواعد العرفية التي كان لها دور كبير في إعمال حقوق الانسان على الصعيد الدولي. ( [104])
3. المبادئ العامة للقانون :
يقصد بالمبادئ العامة للقانون ، تلك المبادئ الاساسية التي تقرها وتستند اليها الانظمة القانونية الداخلية في مختلف الدول المتمدنة ، وتضم هذه المبادئ مجموعة من القواعد الاساسية التي تشترك في احترامها واقرارها اغلب الانظمة القانونية المعروفة كالنظام الاسلامي والانجلوسكسوني واللاتيني والجرماني حيث تشترك كل هذه الانظمة في الاخذ بمبادئ معينة مثل العقد شريعة المتعاقدين ومبدأ احترام الحقوق المكتسبة ومبدأ عدم مشروعية التعسف في استعمال الحق ومبدأ المسؤولية التقصيرية والتعاقدية وغير ذلك من المبادئ المعروفة ، ولهذه المبادئ بشكل عام صيغة عامة قائمة على اساس مراعاة العدالة والانصاف والمساواة وعلى اساس هذه الصيغة المقبولة بشكل عام فان تطبيق هذه المبادئ لا يقتصر على الصعيد الداخلي فحسب بل انه يتعدى حدود العلاقات الفردية إلى نطاق العلاقات الدولية ، وانه اذا لم يكن بين الدول علاقة قائمة على قاعدة اتفاقية او عرفية فانه يجوز لهذه الدول ان تلجا إلى هذه المبادئ لتنظيم العلاقات فيما بينها وتستوحي منها الحلول للخلافات الناشئة بينها أي انه اذا كان الاصل لهذه المبادئ ان تطبق على الصعيد الداخلي فانه يجوز اللجوء اليها وتطبيقها على الصعيد الدولي عند وجود الحاجة إلى ذلك لسد النقص في القواعد الدولية العرفية او الاتفاقية ( [105]) . وقد اقر النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية ذلك في المادة ( 38 ) منه.
وإذا كانت هذه المبادئ تضم خير القواعد القانونية لتنظيم العلاقات بين الافراد من حيث تحقيق غايات العدالة والانصاف والمساواة على اختلاف الاماكن والعصور وانها كانت ايضا خير قواعد لحل النزاعات بين الدول من حيث تحقيق ذات الغايات ، واذا كان اللجوء إلى هذه المبادئ على النطاق الدولي يكون جائزا في حالات معينة كما علمنا ، فان في هذا اللجوء ايجابية في كل الاحوال فيما يتعلق بحقوق الانسان حيث ان هذه المبادئ مرتبطة في اصلها وفلسفتها بحقوق الانسان وان عودة تطبيقها على هذا الانسان وان كان بوسائل دولية لا يعد الا بمثابة تطبيق القاعدة المناسبة والمفعلة لحقوق الانسان في اصلها على موضوعها الاصلي الا وهو الانسان .
ويظهر من التعداد السابق للمصادر الاساسية للقانون الدولي لحقوق الانسان والتي تتطابق مع تعداد المصادر الاساسية للقانون الدولي العام والتي جاء بها النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية ان القانون الدولي لحقوق الانسان يمكن اعتباره فرعا مستقلا من فروع القانون الدولي العام له خصوصيته وطبيعته المرتبطة بموضوعاته ومحوره الا وهو الانسان ، وله مصادره الخاصة وذات الخصوصية المرتبطة بطبيعته والمستقلة عن بقية مصادر القانون الدولي العام ، الا انه وعلى الرغم مما تقدم فان هناك من يذهب إلى وجود علاقة قوية او تداخل بين القانون الدولي لحقوق الانسان وقانون اخر ذي طبيعة دولية وخصوصية قريبة من القانون موضوع البحث الا وهو ما يعرف بالقانون الدولي الانساني . فما علاقة القانون الدولي لحقوق الانسان بالقانون الدولي الانساني وما مدى التداخل والتقارب بينهما وهل انهما يشكلان قانونا واحدا ام انهما فرعان مستقلان من فروع القانون الدولي العام ؟
وسوف نحاول الاجابة عن هذه التساؤلات في المطلب القادم .
 
علمنا مما تقدم ان هناك العديد من العوامل التي تدفع إلى الاعتراف بذاتية خاصة للقانون الدولي لحقوق الانسان الا انه على الرغم من ذلك نجد ان هناك عدداً كبيراً من الكتاب يذهبون إلى وجود علاقة قوية جدا لهذا القانون مع مجموعة من القواعد الدولية ذات الخصوصية القريبة من خصوصية قواعد هذا القانون ، وهي قواعد ما يعرف بالقانون الدولي الانساني ، ويصل الربط بين القانونين بالبعض إلى درجة اعتبار كل من القانونين يمثلان شيئا واحدا (قانون موحد) .
من المعروف ان للقانون الدولي لحقوق الانسان علاقة بغيره من القوانين سواء الداخلية منها او الدولية ، حاله في ذلك حال أي قانون ( [106]) ولكن هذه العلاقة مع القوانين الاخرى تتخذ بعداً أخر ذا خصوصية وتداخل إلى حد تولد عنه خلاف فقهي بالنسبة للقانون الدولي الانساني، ومن استعراض هذه الاتجاهات الفقهية حول ذلك نستطيع ان نتعرف على حقيقة العلاقة بين القانونين ، وسوف نعرض لذلك فيما يأتي بعد اعطاء ايجاز تعريفي بالقانون الدولي الانساني .