مقدمة :
إن الالتزام بكتمان أسرار الغير واجب
خلقي تقتضيه مبادئ الشرف والأمانة، حيث تكمن أهمية السر في اتصاله اللصيق بالحياة
الخاصة للفرد، فهو يمثل جانبا من أهم جوانب الحرية الشخصية والأصل أن للفرد الحق
في الاحتفاظ بأسراره في مكونات ضميره وله إن شاء أن يدلي بها أو ببعضها إلى من يثق
به، هنا يتوجب على المعهود له بالسر أن يكتمه، لان حفظ السر ميزة من المزايا
الاجتماعية، لا تلبث أن تنقلب واجبا أخلاقيا هاما، عندما يقبل الشخص معرفة أسرار غيره.
إلا انه كثيرا ما يجد المرء نفسه مضطرا إلى
البوح بسره إلى غيره بنية الحصول على خدمة أو مساعدة معينة، كما هو الحال عندما
يلتجئ الأشخاص إلى بعض المهنيين " كالأطباء والمحاميين وغيرهم"… ، هنا لا جدال في أن السرية تمثل
تطبيقا بل ضرورة للثقة المعهودة في هذه المهن، وإفشاء السر يشكل خيانة لهذه الثقة
ونقصا من مبادئ الشرف والأمانة.
والمتتبع لفكرة السر سواء في إطارها
الخاص أو المهني، يجد أنها فكرة قديمة نشأت تلقائيا مع نشأة المجتمعات، لهذا نجد
الشريعة الإسلامية قد تناولت هذا الموضوع قبل أن ينص عليه في القانون الوضعي.
وقد سادت هذه
القاعدة في التشريعات الوضعية منذ القدم، لهذا كان إفشاء الأسرار أمرا نادرا وكان
وخز الضمير والأخلاق كافيا للنهي عن هذا العمل الممقوت، فحفظ السر كان واجبا أخلاقيا
دونما الحاجة إلى أن يضطر المشرع إلى وضع نصوص جنائية تسبغ الحماية القانونية لهذا
الالتزام.
ولان حفظ السر أكثر
مشقة من إمساك جمرة متوهجة داخل الفم كما عبر عن ذلك سقراط، ولان الحياة الخاصة للأفراد
قد أصبحت مهددة أكثر للكشف عنها وعن أسرارها وخصوصياتها، بعد أن كانت في الماضي
يكسوها الخفاء لاعتبارات دينية وأخلاقية، بل وحتى بصفة تلقائية، فان جريمة إفشاء
السر المهني عرفت شيوعا في العصر الحديث، مما حذا بالقضاء الجنائي إلى التدخل في
تفسيرها وبالمشرع إلى احتوائها وتنظيمها.
فبات من الضروري أن يفرض القانون
عقابا على من يصيبون الأشخاص في سمعتهم بإفشاء أسرارهم، وعلى من يخونون ثقة وضعت
فيهم، والذين يلعبون بموضوعات خطيرة فينفذون النذالة بالإفشاء غير مكترثين لما
يترتب عن ذلك من فضائح وتفريق بين العائلات.
ولما أصبحت
التشريعات تؤمن بضرورة الحماية الجنائية للسر المهني؛ فما هو إذن الأساس القانوني
وراء اختيار نصوص زجرية لحماية السر المهني؟ وما هو الهدف التشريعي المتوخى من
هاته الحماية؟ وإذا كان الهدف من من الحماية الجنائية للسر المهني هي الحفاظ على
المصالح الاجتماعية وذلك عن طريق إقرار جزاءات في كل حالة يتم فيها الإخلال
بالالتزام بكتمان السر. فهل يمكن الحديث عن حدود الحماية الجنائية للسر المهني؟
ونظرا لأهمية
السر المهني في حماية مصالح الأفراد والمؤسسات، ارتأينا أن نبحث في هذا الموضوع،
من خلال الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها، ولذلك سنقسم هذا الموضوع إلى فصلين:
·
الفصل الأول:
المفهوم القانوني للسر المهني
·
الفصل
الثاني: حدود الحماية الجنائية للسر المهني
الفصل الأول:
المفهوم القانوني للسر المهني
تعد السرية أهم
ما يميز بعض المهن القضائية أو المساعدة للقضاء، التي لها خصوصياتها كالمحاماة
والتوثيق والعدالة ، عندما يتعلق الأمر بالمخالفات المهنية.
فالسر المهني
يكون من اجل المصلحة العامة ولفائدة القانون الذي يسهر على حماية الحقوق والمصالح.
ومن خلال هذا
المنطق، سنقسم هذا الفصل إلى مبحثين: )المبحث الأول (: الأساس القانوني للالتزام بالسر المهني، والهدف
التشريعي منه. ( المبحث الثاني ( : نطاق الحماية الجنائية للسر
المهني.
المبحث الأول:
الأساس القانوني للالتزام بالسر المهني والهدف التشريعي منه:
ليس الغرض من
السر المهني هو حماية مصالح الأفراد فقط، ولكن حماية المصلحة العامة أيضا، لما
يترتب على ممارسة بعض المهن في المجتمع من إفشاء العميل لأسراره الجسمانية
والعضوية والقانونية عندما يلجا إلى ممثلي هذه المهن طلبا لمساعدتهم، مضطرا إلى
التنازل عن أسراره التي تعد جزءا من حياته الخاصة إليهم، ومن جهة أخرى فان ممارسة هذه المهن تقتضي وجود ثقة متبادلة بين العميل والأمين
على السر، والا تعذر على هذا الأخير القيام بدوره في العلاج أو الدفاع إذا لم يفض
للعميل بكل الحقيقة في ثقة وأمان [1].
كما تقتضي
المصلحة الاجتماعية التزام الأمين بالمحافظة على أسرار عميله، وتختلف هذه المصلحة
الاجتماعية باختلاف المهن وطبيعة الأمناء الذين تواجههم، ومن اجل ذلك تدخل القانون
بالعقاب على إفشاء السر المهنة، كما نصت على ذلك العديد من القوانين واللوائح لهذه
المهن.
وإذا كان القانون هو المصدر
التشريعي لهذا الالتزام ، فما هو المصدر الحقيقي له؟ هل هو العقد بين الطرفين " الأمين والعميل " ؟ أم هو النظام العام ؟ وما هو
الهدف التشريعي المتوخى منه ؟
هذا ما سنحاول الإجابة
عليه من خلال المطلبين الآتيين، والمتمثلين في:
·
المطلب الأول:
الأساس القانوني للالتزام بالسر المهني
·
المطلب
الثاني: نطاق الحماية الجنائية للسر المهني
إن الحماية الجنائية للسر المهني بدأت
كنظام مقدس وعندما أريد تبريرها منذ القرن التاسع بدا النص الوحيد غير كاف لهذا
الالتزام مما دعى العديد من الفقهاء إلى القول بعدة نظريات لتبرير هذا الالتزام.[2]
وتدور النظريات المعتمدة كأساس للالتزام بالسر المهني حول
"نظرية
العقد" و "نظرية النظام العام" و نظرية المصلحة".
سنتحدث عن هاته النظريات
حتى نقف على الأساس القانوني الذي أخذ به المشرع في تبرير تدخله وحماية السر
المهني.
الفقرة الأولى: نظرية العقد
كأساس للالتزام بالسر المهني.
ذهب
أنصار هذه النظرية إلى أن أساس التزام الأمين بالسر المهني يكمن في اتفاقه مع مودع
السر، استنادا إلى أن الأمين ليس ملزما بتلقي الأسرار فاذا تلقاها فان ذالك يكون
باختياره وعندئذ يتم العقد[3].
واستند
أنصار هذه النظرية إلى عدة أسباب منها:
-
أن هذه النظرية تسمح بتفسير السر، فالعميل يبقى سيد سره،
ويستطيع أن يعفي الأمين من التزامه في أي وقت.
-
ان هذه النظرية بتحديدها من يفشي السر على أساس تسمح
بتقدير الضرر والتعويض المناسب استنادا للعقد.
ولم
يحدد القانون بنظرية العقد أي نوع من العقود هو أساس الالتزام بالسر المهني، فمنهم
من ربطه بعقد الوديعة تارة، أو بالوكالة. ومنهم من تمسك بنظرية العقد غير المسمى.
ونظرا
للنقد الموجه لهذه النظرية، فقد ذهب جانب آخر من الفقه الى ان الأساس القانوني
للسر المهني هو النظام العام.
[1] غنام محمد غنام، الحماية الجنائية لأسرار الأفراد لدى الموظف العمومي،.دار
النهضة العربية القاهرة
[2] احمد كامل سلامة، الحماية الجنائية للأسرار المهنية، دار النهضة العربية
القاهرة .1988
ص3
[3] - أحمد كامل سلامة: مرجع
سابق، ص: 87
إن الالتزام بكتمان أسرار الغير واجب
خلقي تقتضيه مبادئ الشرف والأمانة، حيث تكمن أهمية السر في اتصاله اللصيق بالحياة
الخاصة للفرد، فهو يمثل جانبا من أهم جوانب الحرية الشخصية والأصل أن للفرد الحق
في الاحتفاظ بأسراره في مكونات ضميره وله إن شاء أن يدلي بها أو ببعضها إلى من يثق
به، هنا يتوجب على المعهود له بالسر أن يكتمه، لان حفظ السر ميزة من المزايا
الاجتماعية، لا تلبث أن تنقلب واجبا أخلاقيا هاما، عندما يقبل الشخص معرفة أسرار غيره.
إلا انه كثيرا ما يجد المرء نفسه مضطرا إلى
البوح بسره إلى غيره بنية الحصول على خدمة أو مساعدة معينة، كما هو الحال عندما
يلتجئ الأشخاص إلى بعض المهنيين " كالأطباء والمحاميين وغيرهم"… ، هنا لا جدال في أن السرية تمثل
تطبيقا بل ضرورة للثقة المعهودة في هذه المهن، وإفشاء السر يشكل خيانة لهذه الثقة
ونقصا من مبادئ الشرف والأمانة.
والمتتبع لفكرة السر سواء في إطارها
الخاص أو المهني، يجد أنها فكرة قديمة نشأت تلقائيا مع نشأة المجتمعات، لهذا نجد
الشريعة الإسلامية قد تناولت هذا الموضوع قبل أن ينص عليه في القانون الوضعي.
وقد سادت هذه
القاعدة في التشريعات الوضعية منذ القدم، لهذا كان إفشاء الأسرار أمرا نادرا وكان
وخز الضمير والأخلاق كافيا للنهي عن هذا العمل الممقوت، فحفظ السر كان واجبا أخلاقيا
دونما الحاجة إلى أن يضطر المشرع إلى وضع نصوص جنائية تسبغ الحماية القانونية لهذا
الالتزام.
ولان حفظ السر أكثر
مشقة من إمساك جمرة متوهجة داخل الفم كما عبر عن ذلك سقراط، ولان الحياة الخاصة للأفراد
قد أصبحت مهددة أكثر للكشف عنها وعن أسرارها وخصوصياتها، بعد أن كانت في الماضي
يكسوها الخفاء لاعتبارات دينية وأخلاقية، بل وحتى بصفة تلقائية، فان جريمة إفشاء
السر المهني عرفت شيوعا في العصر الحديث، مما حذا بالقضاء الجنائي إلى التدخل في
تفسيرها وبالمشرع إلى احتوائها وتنظيمها.
فبات من الضروري أن يفرض القانون
عقابا على من يصيبون الأشخاص في سمعتهم بإفشاء أسرارهم، وعلى من يخونون ثقة وضعت
فيهم، والذين يلعبون بموضوعات خطيرة فينفذون النذالة بالإفشاء غير مكترثين لما
يترتب عن ذلك من فضائح وتفريق بين العائلات.
ولما أصبحت
التشريعات تؤمن بضرورة الحماية الجنائية للسر المهني؛ فما هو إذن الأساس القانوني
وراء اختيار نصوص زجرية لحماية السر المهني؟ وما هو الهدف التشريعي المتوخى من
هاته الحماية؟ وإذا كان الهدف من من الحماية الجنائية للسر المهني هي الحفاظ على
المصالح الاجتماعية وذلك عن طريق إقرار جزاءات في كل حالة يتم فيها الإخلال
بالالتزام بكتمان السر. فهل يمكن الحديث عن حدود الحماية الجنائية للسر المهني؟
ونظرا لأهمية
السر المهني في حماية مصالح الأفراد والمؤسسات، ارتأينا أن نبحث في هذا الموضوع،
من خلال الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها، ولذلك سنقسم هذا الموضوع إلى فصلين:
·
الفصل الأول:
المفهوم القانوني للسر المهني
·
الفصل
الثاني: حدود الحماية الجنائية للسر المهني
الفصل الأول:
المفهوم القانوني للسر المهني
تعد السرية أهم
ما يميز بعض المهن القضائية أو المساعدة للقضاء، التي لها خصوصياتها كالمحاماة
والتوثيق والعدالة ، عندما يتعلق الأمر بالمخالفات المهنية.
فالسر المهني
يكون من اجل المصلحة العامة ولفائدة القانون الذي يسهر على حماية الحقوق والمصالح.
ومن خلال هذا
المنطق، سنقسم هذا الفصل إلى مبحثين: )المبحث الأول (: الأساس القانوني للالتزام بالسر المهني، والهدف
التشريعي منه. ( المبحث الثاني ( : نطاق الحماية الجنائية للسر
المهني.
المبحث الأول:
الأساس القانوني للالتزام بالسر المهني والهدف التشريعي منه:
ليس الغرض من
السر المهني هو حماية مصالح الأفراد فقط، ولكن حماية المصلحة العامة أيضا، لما
يترتب على ممارسة بعض المهن في المجتمع من إفشاء العميل لأسراره الجسمانية
والعضوية والقانونية عندما يلجا إلى ممثلي هذه المهن طلبا لمساعدتهم، مضطرا إلى
التنازل عن أسراره التي تعد جزءا من حياته الخاصة إليهم، ومن جهة أخرى فان ممارسة هذه المهن تقتضي وجود ثقة متبادلة بين العميل والأمين
على السر، والا تعذر على هذا الأخير القيام بدوره في العلاج أو الدفاع إذا لم يفض
للعميل بكل الحقيقة في ثقة وأمان [1].
كما تقتضي
المصلحة الاجتماعية التزام الأمين بالمحافظة على أسرار عميله، وتختلف هذه المصلحة
الاجتماعية باختلاف المهن وطبيعة الأمناء الذين تواجههم، ومن اجل ذلك تدخل القانون
بالعقاب على إفشاء السر المهنة، كما نصت على ذلك العديد من القوانين واللوائح لهذه
المهن.
وإذا كان القانون هو المصدر
التشريعي لهذا الالتزام ، فما هو المصدر الحقيقي له؟ هل هو العقد بين الطرفين " الأمين والعميل " ؟ أم هو النظام العام ؟ وما هو
الهدف التشريعي المتوخى منه ؟
هذا ما سنحاول الإجابة
عليه من خلال المطلبين الآتيين، والمتمثلين في:
·
المطلب الأول:
الأساس القانوني للالتزام بالسر المهني
·
المطلب
الثاني: نطاق الحماية الجنائية للسر المهني
إن الحماية الجنائية للسر المهني بدأت
كنظام مقدس وعندما أريد تبريرها منذ القرن التاسع بدا النص الوحيد غير كاف لهذا
الالتزام مما دعى العديد من الفقهاء إلى القول بعدة نظريات لتبرير هذا الالتزام.[2]
وتدور النظريات المعتمدة كأساس للالتزام بالسر المهني حول
"نظرية
العقد" و "نظرية النظام العام" و نظرية المصلحة".
سنتحدث عن هاته النظريات
حتى نقف على الأساس القانوني الذي أخذ به المشرع في تبرير تدخله وحماية السر
المهني.
الفقرة الأولى: نظرية العقد
كأساس للالتزام بالسر المهني.
ذهب
أنصار هذه النظرية إلى أن أساس التزام الأمين بالسر المهني يكمن في اتفاقه مع مودع
السر، استنادا إلى أن الأمين ليس ملزما بتلقي الأسرار فاذا تلقاها فان ذالك يكون
باختياره وعندئذ يتم العقد[3].
واستند
أنصار هذه النظرية إلى عدة أسباب منها:
-
أن هذه النظرية تسمح بتفسير السر، فالعميل يبقى سيد سره،
ويستطيع أن يعفي الأمين من التزامه في أي وقت.
-
ان هذه النظرية بتحديدها من يفشي السر على أساس تسمح
بتقدير الضرر والتعويض المناسب استنادا للعقد.
ولم
يحدد القانون بنظرية العقد أي نوع من العقود هو أساس الالتزام بالسر المهني، فمنهم
من ربطه بعقد الوديعة تارة، أو بالوكالة. ومنهم من تمسك بنظرية العقد غير المسمى.
ونظرا
للنقد الموجه لهذه النظرية، فقد ذهب جانب آخر من الفقه الى ان الأساس القانوني
للسر المهني هو النظام العام.
[1] غنام محمد غنام، الحماية الجنائية لأسرار الأفراد لدى الموظف العمومي،.دار
النهضة العربية القاهرة
[2] احمد كامل سلامة، الحماية الجنائية للأسرار المهنية، دار النهضة العربية
القاهرة .1988
ص3
[3] - أحمد كامل سلامة: مرجع
سابق، ص: 87