الجرائم الايجابية والجرائم السلبية
يعتمد تقسيم الجرائم الى ايجابية وسلبية على الصور التى يأخذها السلوك الاجرامى ، فإذا اتخذ صورة ايجابية كنا بصدد جريمة إيجابية. وتوجد هذه الصورة اذا تحققت الواقعة الاجرامية بواسطة فعل. واذا كانت الواقعة الاجرامية تتحقق بواسطة سلوك سلبى فإننا نكون بصدد جريمة سلبية. والمهم فى جميع الاحوال ان تتوافر عناصر الجريمة وفقا للتكييف القانونى لها سواء أكان التجريم متعلقا بالنهى عن ارتكاب فعل معين ، او متعلقا بالامتناع عن اتيان فعل معين . وفى كلتا الحالتين السابق بيانهما نكون بصدد سلوك اجرامى يأخذ صورة ايجابية (عن طريق العمل) ويأخذ صورة سلبية ( عن طريق الامتناع ). وذلك هو الذى يجعلنا نحرص منذ الآن على تعريف الجريمة بانها السلوك الانسان الذى يجرمه القانون فالفعل بحسب معناه يتضمن القيام بحركة ايجابية تعبر عن نوع من السلوك ، كما ان الامتناع عن القيام يعمل معين عن نوع من السلوك .
      ومعظم الجرائم التى تضمنها قوانين العقوبات فى الدول المتخلفة يتكون ركنها المادى من سلوك ايجابى يتجلى فى صورة الفعل الذى ينهى القانون عن اتيانه مثل جرائم القتل والجرح والضرب والسرقة والنصب والتزوير والتزييف ويطلق عليها الجرائم الايجابية .
     أما الجرائم السلبية فمثلها فى قانوننا العقابى جريمة الامتناع عن تسليم الطفل الى من له الحق فى حضانته شرعا ( المادتين 284،292 عقوبات) والامتناع عن دفع النفقة المحكوم بها ( المادة 293 عقوبات)، وجريمة عدم الابلاغ عن ما عنده من حيوانات مشتبها فى انها مصابة بأمراض . وتوجد كذلك بعض الجرائم السلبية منصوص عليها فى قانون الاجراءات الجنائية، مثل الامتناع عن الإدلاء بالشهادة أمام القاضى . (المادتين 117،279 اجراءات جنائية) .
 
-        أهمية التفرقة بين الجرائم الايجابية والجرائم السلبية :
     ليست هناك اهمية عمليه لهذه التفرقة سوى فى بيان ان الجريمة كما ترتكب بسلوك ايجابى فانها تقع بسلوك سلبى ، وكذلك فإن الجرائم السلبية لا يتصور وقوع الشروع فيها، لان الشروع يتطلب عملا ايجابيا يوقف او يخيب أثره لسبب لا دخل لإراده الجانى فيه. ومن ناحية اخرى فإن هذه التفرق تثير موضوع ارتكاب الجريمة او الجرائم الايجابية عن طريق الترك او الامتناع ونظرا لهذا الموضوع من اهمية، فإننا سنتناوله فى هذا المقام بشىء من التفصيل .
-        الجريمة الايجابية بالترك :
     نلاحظ أولا أن الجرائم السلبية التى ذكرنا بعض الأمثلة منها تتعلق جميعها بتجريم السلوك السلبى فى حد ذاته ، مثل امتناع الشاهد عن الحضور لأداء الشهادة أو امتناع القاضى عن القضاء ، وهذه الجرائم جميعها جرائم شكليه ، تتفق فى ان القانون يجرم الامتناع بغض النظر عما يمكن ان يترتب عليه من نتائج مادية ، مثلها فى ذلك مثل الجرائم التى يجرم القانون فيها انواعا معينة من السلوك الايجابى، وذلك دون تطلب تحقيق نتيجة معينة، كجريمة قيادة السيارة بأسرع من الحد المقرر او جريمة احراز السلاح بدون ترخيص .
    ولم نتعرض فيما سبق للجرائم التى يتطلب القانون فيها تحقيق نتيجة معينة ، وهى ما يعرفها الفقه بالجرائم المادية مثل جريمة القتل والسرقة والنصب . وبعض هذه الجرائم المادية يتصور انها تتحقق اما بسلوك ايجابى او سلوك سلبى  ففى جريمة القتل مثلا ، فإنها كما تتحقق بإطلاق عيار نارى على شخص، فإنها يمكن ان تحدث اذا كان هذا الشخص مريضا ويمتنع الجانى عن اعطائه الدواء. وقتل طفل كما يحدث بخنقه مثلا فإنه يمكن ان يتحقق بالامتناع عن اطعامه او بالامتناع عن ربط الحبل السرى له اذا كان حديث الولادة .
     وجريمة السرقة كذلك يمكن ان تقع بسلوك سلبى ، والمثل التالى يوضح ذلك. لا شك ان الركن المادى لجريمة السرقة يتكون من فعل الاستيلاء على مال منقول مملوك للغير، والاستيلاء يتضمن بالضرورة نشاط ايجابيا من الجانى. ولكن فى حالة المساهمة الجنائية، اذا اتفق شخص مع خادم فى منزل على سرقة بعض محتويات هذا المنزل من اثاث او مجوهرات او أموال ، وقسمت الادوار بينهما وكان دور الخادم ، يتلخص فى ترك الباب مفتوحا وعدم اغلاقه كما جرت العادة على ذلك فى ساعة معينة. فالذى لاشك فيه ان الخادم يعتبر شريكا فى جريمة السرقة بالرغم من ان كل ما قام به هو سلوك سلبى هو الامتناع عن اغلاق باب المنزل.
    ونعتقد ان يجب ان نفرق بين نوعين من الجريمة الايجابية: الجريمة الايجابية التى يجرم فيها النشاط الايجابى فى حد ذاته ، والجريمة الايجابية التى يجرم فيها القانون نتيجة معينه ، وهذه التفرقة فى الواقع هى التفرقة بين الجريمة الشكلية والجريمة المادية .
     ففى النوع الاول وهو الخاص بالجرائم الايجابية الشكلية: فأنها لا تتصور الا ايجابية ، لان القانون جرم السلوك الايجابى فى حد ذاته ، مثل جريمة قيادة السيارات بأسرع من الحد المقرر ، او جريمة إحراز السلاح بدون ترخيص . ففى هذه الجرائم لابد من عمل ايجابى والا فلا تتحقق الجريمة .
      وهناك جرائم شكلية لا تتحقق الا بسلوك فقط ، لان القانون جرم الامتناع فى حد ذاته مثل جريمة امتناع الشاهد عن الحضور امام القاضى للادلاء بالشهادة فمثل هذه الجريمة لا تتصور إلا بتوافر سلوك سلبى ولا يمكن تحققها فى صورة ايجابية أو سلبى .
 
      أما بالنسبة للنوع الثانى من الجرائم الإيجابية التى يتطلب القانون فيها ضرورة حدوث نتيجة دون أن يحدد نوع السلوك فيها ، مثل جرعة القتل فإنها يمكن أن يتحقق فى صورة سلوك إيجابى أو سلبى  ويشترط لامكانية القول بيتوافر المسئولية الجنائية  فى كلتا الصورتين الايجابية والسلبية ، أن تقوم رابطة السببيه بين السلوك وبين النتيجة من ناحية ، والعمد او القصد الجنائى من ناحية أخرى .
    ونعتقد ان هذه النظرة هى التى يجب ان تعالج بها مشكلة وقوع الجريمة الايجابية بالترك أو الامتناع .
    أما الصور الخاصة التى يكون هناك فيها التزام تعاقدى او قانونى يوجب على الشخص القيام بعمل لم يقم به ، فنعتقد انها تعالج حالات خاصة يصعب فيها إثبات القصد الجنائى ، كحالة الممرضة التى تمتنع عن اعطاء الدواء للمريض مما يترتب عليه الوفاة ، او المجولجى الذى لم يقم بتحويل القطار الى الخط المناسب ، مما يترتب عليه الصدام الذى أدى الى وفاة واصابة عدد من الناس، لانه لوثبت القصد الجنائى فى هذه الحلات فلا شبهة فى المساءلة عن جريمة القتل العمد ، كما لو أرادت الممرضة أن تتخلص من المريض بالاتفاق مع احد أقاربه ، أو لو كان محولجى السكة الحديد يعلم بوجود عدوه فى القطار فأراد ان يتسبب فى قتلة ، ففى هذه الاحوال يتساوى الامتناع مع القيام بعمل ايجابى ، لأن الجانى حقق النتيجة الاجرامية التى يريدها بواسطة الوسيلة التى كانت فى يده .
-        موقف القضاء المصرى من مشكلة الجرائم الايجابية بالترك :
     لا نستطيع القول بأن هناك اتجاه واضح للقضاء المصرى فى حل مشكلة وقوع الجرائم الايجابية بطريق الترك او الامتناع فالحالات التى عرضت على محاكمنا قليلة ، والاحكام التى صدرت فيها متضاربه. فقد قضت محكمة الجنايات ببراءة الام التى تركت وليدها يموت بعد ولادته لانها تركته بدون عناية من تهمة القتل العمد، وذلك على اساس انها لم ترتكب فعلا ايجابيا يستفاد منه توافر عنصر القصد الجنائى الخاص وهو هنا نية ازهاق روح الطفل .( جنايات الزقازيق9/2/1924-المحاماه رقم 558 - س5) .
      وفى قضية اخرى اعتبر قاضى الاحالة جريمة الام التى امتنعت عن ربط الحبل السرى لوليدها جنحة قتل خطأ . (قضية رقم 799 لسنة1921، المحاماه رقم 95-س2 احالة المنيا) .
      وفى قضية أخرى قررت محكمة دكرنس ادانة حارس على زراعة قطن محجوز عليه عن جريمة تبديد لانه لم يعمل على جمع المحصول فى الوقت المناسب بعد ان نضج حتى اتلفته الرياح. (دكرنس 21/2/:1933 ،المحامان، س14، رقم 375) .
                   وقد أصدرت محكمة النقض المصرى حكما باعتبار الجانى الذى يقوم بتعجيز شخص عن الحركة ، فضربة ضربا مبرحا وتكره فى مكان منعزل محروما من وسائل الحياة حتى مات ، مرتكبا لجريمة قتل عمد. ولكننا نعتقد ان هذه الحالة لا تعتبر عن حل لمشكلة وقوع الجريمة الايجابية بالترك او الامتناع ، لأن الجانى قام بعمل ايجابى واضح بنية القتل وحرك العوامل التى تؤدى الى هذه النتيجة. (نقض 28/12/35،1936 لمجموعة القواعد القانونيه -ح4 رقم27، ص27) ، (راجع فى تفصيل ما تقدم من المرجع السابق دكتور عبد الاحد جمال الدين والدكتور جميل عبد الباقى الصغير)