الجريمة المستحيلة
------------------------------
كل جريمة تفترض صدور فعل مادى من الجانى ، وتتطلب جريمة القتل العمد إتيان الجانى نشاطاً مادياً ، يكون من شأنه إحداث النتيجة التى يعاقب عليها القانون .
إذ أن القانون لا يعاقب على النيات أو المقاصد الشريرة ، ولا على نية القتل مهما كانت واضحة جلية ، وإنما يتطلب نشاطاً مادياً يصدر عن الجانى ويكون من شأنه أحداث الوفاة ، فإن حدثت الوفاة فعلاً بناء على هذا النشاط كانت جريمة القتل تامة وأن اختلفت الوفاة رغم آتيان النشاط المادى لأسباب خارجة عن إرادة الجانى الذى توافر لديه قصد أحداثها ، فكانت الشروع فى القتل (1) ، ووسائل القتل متعددة ، منها ما يكون قاتلا بطبيعته ، ومنها ما لا يكون كذلك ، ولكنه قد يؤدى إليه استثناء وفى ظروف خاصة وسيان أن يقع القتل بهذا النوع من الوسائل أو غير ذاك .
ومن أمثلة الوسائل القاتلة بطبيعتها استعمال سلاح نارى أو آلة حادة أو السم أو الحرق أو الخنق أو الصعق بالكهرباء أو الإلقاء من أعلى أو فى اليم ، والوسائل غير القاتلة بطبيعتها نادرة وقلما يستعملها القاتل ، ومن أمثلتها لكم المجنى عليه على صدره أو ضربه بعصا عادية على رأسه ، وهى لا تحول دون القول بتوافر الجريمة قبل الجانى متى قام الدليل المقنع على توافر قصد القتل لديه بل قد تكون وسيلة القتل غير مادية أى معنوية صرف ، مثل القاء نبأ مؤلم بغتة إلى شيخ مريض بقصد قتله ، أو مثل وضع طفل صغير فى حالة ذعر للقضاء عليه ، وكلها أمور قد تكفى لقيام الجريمة على أرجح الآراء فى نظرنا ، متى ثبت قصد توافر القتل ، ورابطه السببية بين الفعل والموت .
فقد قضى : تكون الوسيلة قاتلة بطبيعتها أو لا تكون ، أمر لا تأثير له فى قيام الجريمة وكل الفارق بين النوعين هو أن الوسيلة القاتلة بطبيعتها غالبا ما تكون الدليل الأول فى إثبات قصد القتل حين أن الوسيلة غير القاتلة بطبيعتها قـد تكون الدليل الأول فى نفى هذا القصد ( 2 ) .
ومما يتصل ببحث فعل القتل ووسائله بحث الجريمة المستحيلة أى تلك التى لا يكون مقدرا لها أن تتم ، لأن الفعل الذى وقع ، بالكيفية وفى الظروف التى وقع فيها ما كان يؤدى إلى القتل ، وكذلك بحث إمكان وقوع القتل بوسيلة سلبية ، وهو ما يطلق عليه القتل بالترك أو الامتناع وأخيرا بحث رابطة السببية بين الوسيلة المستعجلة والنتيجة التى تحققت وهى فى خصوص القتل العمد وفاة المجنى عليه إذا توفى بالفعل
 
 الجريمة المستحيلة
الاستحالة فى الجريمة أما أن يكون مرجعها إلى فساد الوسيلة المستعملة وأما إلى الافتقار إلى صفة معينة فى محل الجريمة ، ومن أمثلة الاستحالة التى ترجع إلى وسيلة القتل استعمال بندقية غير صالحة للانطلاق ، أو أفرغت من الذخيرة على غير علم من الجانى ، أو استعمال مادة غير سامة ولكن بكمية غير كافية للقضاء على المجنى عليه
ومن أمثلة الاستحالة التى ترجع إلى محل الجريمة أن يكون المجنى عليه قد مات قبل إطلاق الرصاص عليه ، أو أن يكون غير موجود فى مكانه المألوف لحظة انفجار القنبلة المعدة لقتله .
صور الاستحالة
1.  الاستحالة المطلقة : فالاستحالة تكون مطلقة إذا كانت الوسيلة لا تصلح للقتل بطبيعتها كما هى الحال فى إطلاق بندقية تالفة أو فى محاولة قتل شخص بمادة غير سامة ، وكذلك إذا انعدم موضوع  الجريمة أصلا كإطلاق مقذوف نارى على إنسان ميت ، ففى هذه الصور من الاستحالة لا محل للقول بالعقاب .
2. الاستحالة النسبية : إذا كانت الوسيلة مما يصلح للقتل ولكن بغير الكيفية أو الكمية التى استخدمها بها الجانى كما هى الحال إذا لم ينطلق المقذوف من المسدس رغم صلاحيته ، أو إذا كانت كمية السم دون القدر الكافى للقضاء على المجنى عليه وكذلك إذا كان محل الجريمة موجودا ولكن فى غير الموضع الذى ظنه فيه الجانى ففى مثل هذه الصور من الاستحالة ينبغى القول باعتبار الفعل جريمة خائبة ، وهى تعد حكم الشروع المعاقب عليه (3) .
3. الاستحالة القانونية : وتكون الاستحالة قانونية إذا انعدم فى الجريمة أحد أركانها القانونية كركن الإنسان الحى فى القتل أو ركن المادة السامة فى التسميم ، وفيها يفـلت الجانى من العقاب لانعدام الجريمة .
4. الاستحالة المادية : وتكون الاستحالة مادية إذا كانت الوسيلة غير صالحة لارتكاب الجريمة بصورة مطلقة أو نسبية وفيها لا يفلت الجانى من العقاب ، بل يدخل فعله فى دائرة الشروع المعاقب عليه .
وذلك لأن الوسيلة فى القتل لا تعد ركنا فيه يعتد الشارع بالتالي بمدى صلاحيتها الفعلية فى تحقيق مراد الجانى من سلوكه الإجرامي وكذلك الشأن فى كافة الجرائم كقاعدة عامة ، أما محل الجريمة فهو كقاعدة عامة ركن فيها ، ومن ثم يعتد الشارع حتما بتوافره فى الواقعة أو بعدم توافره .
ويقول الدكتور " روؤف عبيد " وقد وجهت إلى نظريات الاستحالة بأنواعها انتقادات جملة تتلخص فى خطورة ما تؤدى إليه من آفلات مجرمين خطرين من العقاب فى الكثير من الأحوال ، وفى أن التفرقة بين الاستحالتين المطلقة والنسبية ، والقانونية والمادية تفرقة قد تنطوى على التحكم وعدم الدقة لتداخل بعض صور الاستحالة تداخلا يحول دون إمكان وضع حدود فاصلة فيما بينها ، وفيما بينها وبين نطاق الجريمة الخائبة ، وبوجه عام الشروع المعاقب عليه ، وفضلا عن ذلك فالواقعة أما أن تكون ممكنة وأما القول بأنها قد تكون بين ، أى مستحيلة ولكن استحالتها نسبية فأمر يأبى أن يسلم به بعض الشراح .
ويبدو أنه تحت وطأة هذه الانتقادات أخذ شأن نظريات الجريمة المستحيلة يضعف تدريجياً ، واصبح الاتجاه الواضح بين الشراح الحديثين هو القول بأن القانون ينبغى أن يعاقب متعمد القتل متى اتخذ وسيلة صالحة فى نظره لتحقيق غرضه وخاب فى ذلك ، أيا كان مصدر خيبته فساد السلاح أو سوء استعماله ، وسواء أكان من الممكن أن تتم الجريمة لو باشرها بطريقة أخرى غير تلك التى اتبعها ، أم كان من المستحيل ذلك بل وأيا كان مصدر الاستحالة ونوعها ومداها ، ذلك لأن القانون لا يتطلب للعقاب على الشروع تحقق ضرر معين يصيب المجنى عليه أو المجتمع ، سوى الضرر العام المفترض من تجريم نفس الواقعة  بل أنه يعاقب فى الواقع على النية الإجرامية متى ظهرت بأفعال خارجية ذات صلة مباشرة بالجريمة ، ولا ريب أن للمذهب الشخصى الذى حملت لواءه المدرسة الوضعية الإيطالية الفضل الأول فى توجيه الفقه هذا الاتجاه الجديد .
الاستحالة فى القضاء المصرى
أما عن اتجاه القضاء المصرى فيما يتعلق بالجريمة المستحيلة ، فهو يميل كقاعدة عامة إلى قرار التفرقة بين الاستحالتين المطلقة والنسبية ، مع ميل إلى التوسع فى تحديد نطاق الاستحالة النسبية لإخضاع الكثير من الصور إلى العقاب ولم يبدر منه بعد ما ينبئ عن رغبة التحول عن هذا الاتجاه .
ومن أحكامه الواضحة فى هذا الشأن ما قضى به " من أنه لا تعتبر الجريمة مستحيلة إلا إذا لم يكن فى الإمكان تحقيقها مطلقا ، كان تكون الوسيلة التى استخدمت فى ارتكابها غير صالحة بالمرة لتحقيق الغرض المقصود منها ، إما إذا كانت تلك الوسيلة تصلح بطبيعتها لذلك ولكن الجريمة لم تتحقق بسبب ظرف خارج عن إرادة الجانى ، فإن ما اقترفه يعد شروعا منطبقا على المادة 45 ع . (4)
وكان هذا الحكم فى قضية انتوى فيها الجانى قتل المجنى عليه واستعمل لهذا الغرض بندقية ثبتت صلاحيتها إلا أن المقذوف لم ينطلق منها لفساد كبسولته وقد ضبطت مع الجانى طلقة أخرى كبسولتها سليمة ولكن لم تسنح الفرصة لاستعمالها (5) ، ويراعى أن ضبط الكبسولة السليمة ليس من شأنه أن يغير من الموقف شيئا من ناحية ضرورة اعتبار الواقعة شروعا معاقبا عليه .
استعمال وسيلة ساذجة :
من المسلم به مع ذلك أنه لا محل للقول بقيام الشروع فى القتل إذا كانت الوسيلة المستعملة ليست قاصرة فحسب عن أحداث النتيجة المنشودة ، بل تنم فوق هذا عن سذاجة واضحة أو نقص بين فى إدراك الجانى ، كمحاولة تسميم المجنى عليه بوضع مادة غير سامة فى طعامه أو تعقبه بوسائل السحر والشعوذة أو استعمال مسدس أطفال لإحداث القتل أو استخدام وسيلة صالحة للقتل فى نظر الرجل العادى ولكن أستخدمها فى جثه هامدة ، وأساس عدم العقاب فى مثل هذه الأحوال هو أن الجريمة تكون تصورية أو وهمية لا وجود لها إلا فى مخيلة مرتكبها دون أن يحس من عداه بعنصرها المادى المكون لها ، والذى لا خطر منه على المجنى عليه ولا ضرر ، وجلى أنه إذا انعدم الإدراك لدى الجانى انتقى بذلك أساس المساءلة الجنائية حتى بغير بحث فى مدى توافر الركن المادى فى الجريمة .
__________________________
(1) د / فتوح عبد الله الشاذلى - جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال صـ 16
(2) راجع نقض 9/10/1950 أحكام النقض س 2 رقم 5 صـ12 16/10/1950 نفس المجموعة رقم 26 صـ60 .
(3)  د/ روؤف عبيد ـ جرائم الاعتداء على الأشخاص و الأموال ـ ص 16
(4) جلسة 31/5/1970 ، مجموعة أحكام النقض س 71 ، رقم 179 ، ص 760
(5) نقض 1/1/1962 أحكام النقض س 13 رقم 2 صـ10