: أخطاء الهدم والبناء
 
القاعدة المتبعة فى نطاق أخطاء الهدم والبناء هى تقرير المسئولية فى نطاق المبادئ العامة وحدها ، فلم يثر أحد فى شأنها شيئا من وجوه الاعتراض التى قابلناها عند تقرير مسئولية الأطباء ، ذلك أن أصول الهدم والبناء تتميز عن الأصول العلاجية بأنها أكثر استقرارا وأقل تراوحا ، وأدعى إلى العمل فى تريث وحيطة ، وقد يموت المريض بين يدى جراح مهمل ويكون موته مع ذلك قضاء وقدرا ، أو قد يقال خطأ الطبيب إصابة الأقدار ، أو قد يشفع للطبيب فى النهاية رغبته فى المبادرة والعمل فى عجل لإنقاذ حياة مريضه ، ولكن إذا مات الإنسان من سقوط جدار على أم رأسه ، فوراء موته يكمن دائما خطأ جنائى يستوجب البحث عن المسئول ، ومرض المريض أو إهماله فى المبادرة إلى العلاج كثيرا ما يتقاسم المسئولية عن الموت مع خطأ الطبيب ، إنما خطأ المهندس أو المالك قلما يجد سببا يتقاسم معه المسئولية من تصرف المجنى عليه .
والقاعدة فى تعيين المسئول هنا ، هى أن كل من يشترك فى أعمال الهدم والبناء يسأل عن نتائج خطئه الشخصى ، وذلك سواء أكان اشتراكه فيها بصفة مالك ، أم مهندس ، أم مقاول ، أم ملاحظ عمال ، أم عامل .
والمالك هو المسئول الأول عن إجراء الترميمات بمنزله ، بل حكم بأنه إذا كان صاحب البناء مع إعلانه بوجود خلل فيه يخشى أن يؤدى إلى سقوطه المفاجئ ، قد أهمل فى صيانته حتى سقط على من فيه ، فلا ينفى مسئوليته عن ذلك أن يكون الخلل راجعا إلى عيب فى السفل غير المملوك له " فإنه كان يتعين عليه حين أعلن بوجود الخلل فى ملكه أن يعمل على إبعاد الخطر عمن كانوا يقيمون فيه سواء بإصلاحه أم بتكليفهم إخلاءه ، ومادام هو لم يفعل فإن الحادث يكون قد وقع نتيجة عدم احتياطه وتلزمه تبعته " (1)
ويشبه ذلك ما حكم به من أن المالك مسئول عن سقوط البناء ولو تضافرت عوامل كثيرة فى هذا السقوط منها أخطاء وقعت فى تشييد البناء وضعف سمك الحائط المشترك ، وعدم بناء دورات المياه بالطوب الأحمر وتسرب مياه خزان الصرف من مواسير منزل مجاور اعتبر مالكه مسئولا هو الآخر عن نفس الحادث (2) .
والمالك دون المستأجر هو المطالب بتعهد ملكه وموالاته بأعمال الصيانة والترميم ، فإذا قصر فى ذلك كان مسئولا عن الضرر الذى يصيب الغير بهذا التقصير ، ولا يعفيه من المسئولية أن يكون المستأجر قد التزم قبله بأن يقوم بأعمال الترميم والصيانة اللازمة للعين المؤجرة ، إذ على المالك إخلاء لمسئوليته إزاء الغير أن يتحقق من قيام المستأجر بما التزم به فى هذا الشأن (3) .
وينبغى فى مثل هذه الصورة بداهة التمييز بين مسئولية المالك إزاء نفس المستأجر الذى تعهد بالقيام بأعمال الترميم والصيانة ، والتى تنتفى بداهة بسبب هذا التعهد نفسه عند حدوث تصدع أو انهيار للبناء ، وبين مسئولية المالك إزاء باقى المستأجرين الذين لم يكونوا طرفا فى مثل هذا التعهد وبالتالى لا ينبغى أن يضاروا به عند عدم تنفيذه على الوجه المطلوب ، فتبقى المسئولية قبل المالك قائمة ، أما المسئولية المدنية فتحكمها قواعد القانون المدنى التى تسمح بتحويل المسئولية أو بالتعاقد عليها طبقا لأوضاع معينة ليس هذا مقام تناولها .
ولا ينفى مسئولية المالك عن تأخره فى أعمال الصيانة والترميم أن يقال بتراخى جهة الإدارة فى إخلاء المنزل من سكانه بعد إذا تحقق لها خطر سقوط المنزل من سكانه بعد إذا تحقق لها خطر سقوط المنزل ، لأن تقدير وجوب هذا التدخل أو عدم وجوبه موكول للسلطة القائمة على أعمال التنظيم فإذا جاز القول بأن خطأها فى هذا التقدير يعرضها للمسئولية من ناحية القانون العام فذلك إنما يكون بوصفها سلطة عامة ذات شخصية اعتبارية من أخص واجباتها المحافظة على الأمن وعلى أرواح الناس ، كما أنه بفرض قيام هذه المسئولية فإن هذا لا ينفى مسئولية المتهم طالما أن الحكم قد أثبت قيامها فى حقه (4) ، كما لا ينفى مسئولية المالك أن ينعى على قرار هدم المبنى عدم استيفائه للشروط التى نص عليها القانون رقم 605 لسنة 1954، ذلك أن مجال البحث فى هذا القانون إنما يكون عند تطبيقه وأعمال أحكامه مجردا عن النتيجة التى وقعت بصرف النظر عن قرار الهدم (5) .
والمالك مسئول أيضا عن أعمال الهدم والبناء التى يجريها بمعرفته أو تحت إشرافه الخاص (6) ، ولذا حكم بأن صاحب البناء الذى يشرع فى هدمه ، سواء بنفسه أو بواسطة عمال يكلفهم بذلك تحت ملاحظته ، مسئول جنائيا ومدنيا عما يصيب الناس من الإضرار بسبب عدم اتخاذه الاحتياطات المعقولة التى تقى الأنفس والأموال ما قد يصيبها من الأضرار ، ويعتبر العمل جاريا تحت ملاحظته وإشرافه متى ثبت أنه كان عالما بحصوله ، ولم يثبت أنه عهد به فعلا لأشخاص ممن يقومون عادة بمثله تحت مسئوليتهم شخصيا (7) .
أما إذا تبين أن المالك قد عهد بالبناء كله أو بعضه إلى مقاول مختص يقوم بمثل هذا العمل عادة تحت مسئوليته فهو الذى يسئل وحده عن نتائج خطته دون المالك ولا محل لأن يشترك معه هذا الأخير فى أية مسئولية جنائية عما قد يصيب الناس من الأضرار عند إقامة البناء بسبب عدم اتخاذ الاحتياطات المعقولة (Cool .
أو بحسب تعبير محكمة النقض أن صاحب البناء لا يعتبر مسئولا جنائيا أو مدنيا عما يصيب الناس من الأضرار عن هدم البناء بسبب عدم اتخاذ الاحتياطات المعقولة إلا إذا كان العمل جاريا تحت ملاحظته وإشرافه الخاص فإذا عهد به كله أو بعضه إلى مقاول مختص بمثل هذا العمل عادة تحت مسئوليته فهو الذى يسأل عن نتائج خطئه ، ولما كان ذلك وكان الحكم المطعون فيه قد أثبت بالأدلة السائغة التى أوردها أن أعمال الترميمات فى العقار محل الحادث كانت تجرى تحت إشراف وملاحظة المهندس المحكوم عليه وانتهى إلى مساءلته وحده دون باقى المطعون ضدهم ( ملاك العقار ) وقضى برفض الدعوى المدنية قبلهم تبعا لانتقاء مسئوليتهم فإنه يكون قد أصاب صحيح القانون (9) .
ولا يغير من هذا الوضع شيئا أن يبين أن المالك كان فى أثناء إجراء عمليات الهدم أو الحفر أو البناء دائم التردد على مكانها ، فإن هذا التردد لا يحمله المسئولية عن أخطاء المقاول أو عمال المقاول ، لأنه لا يدل إلا على رغبته فى الاطمئنان على مجريات سير العمل دون أن يخوله بطبيعة الحال التداخل فى كيفية سيره (10) .
وإذا قتل أحد سكان المنزل خطأ نتيجة عدم اتخاذ مالكه الاحتياطات اللازمة لحماية السكان عند إجراء إصلاحات به فإنه لا يشترط لمسئولية صاحب المنزل أن تكون هناك رابطة قانونية بينه وبين المجنى عليه ، ومن ذلك أن يكون الأخير مستأجرا من باطن أحد المستأجرين ، كما أنه لا ينفى مسئولية المالك أن يكون قد نبه على المستأجر الأصلي بالإخلاء ، فمتى أقدم على إجراء الإصلاحات كان عليه أن يتخذ الاحتياطات اللازمة لتقوية السقف الذى سقط وعدم وضع أنقاض الأسقف التى هدمها على السقف الذى سقط ... وعدم إذعان المجنى عليهم لطلب الإخلاء الموجه إليهم من الطاعن بفرض حصوله لا ينفى عنه الخطأ الموجب لمسئولية الحادث إذ يصح فى القانون أن يكون الخطأ الذى أدى إلى وقوع الحادث مشتركا بين المتهم والمجنى عليه فلا ينفى خطأ أحدهما مسئولية الآخر . (11)
وإنما يشترط فى مثل هذه الحالة ألا يكون هناك تعارض بين إجراء الترميم المطلوب والاستمرار فى شغل المكان ، أما إذا تعذر إجراء الترميم إلا بعد الإخلاء ورفض المستأجر الإذعان لطلب الإخلاء بما أدى إلى انهيار البناء وتعذر القول بأن مسئولية المالك تظل قائمة ، إذ لا مسئولية جنائية بغير خطأ إذا توافر للواقعة ما ذكرنا من اعتبارات ، وإذا عهد المالك بعملية الهدم أو الترميم إلى شخص مختص كان مسئولا دونه عن الأخطاء الفنية فيها ، ومن ذلك أن يعهد بتصميم العملية إلى مهندس فيخطئ فنيا فى التصميم ، أو أن يعهد بعملية التنفيذ إلى مهندس أو مقاول فيخطئ فيها أيهما بما يؤدى إلى إصابة أحد الأشخاص أو قتله .
وتكون مسئوليتهما نافية حينئذ لمسئولية المالك (12) ، إلا إذا تولى إدارة العمل أو تدخل فيه ، أو اختار مقاولا تنقضه التجربة أو المران أو مشهورا بعدم الكفاءة ، أو لا يظهر من حالته ما يحمل على الثقة به .
ومن ذلك أن مالكا قام ببناء دور ثان فى منزله رغم معارضة المهندس له لأن البناء لا يتحمله ، ولكن قام الأخير تحت إلحاح المالك بعمل التصميم اللازم كما قام مقاول بتنفيذه ، ثم انهار البناء وقتل شخصا فاعتبر المالك مسئولا بمفرده عن القتل الخطأ دون المهندس أو المقاول ، وهو حكم محل نظر بالنسبة للمقاول بالأقل لأنه إنقاذ عند التنفيذ لرأى خاطئ صادر من غير مختص وذلك متى ثبت أنه كان يعلم أن الدور الأول لا يتحمل دورا آخر فوقه ، وحتى إذا كان لا يعلم بذلك قد يقال أنه كان عليه أن يتحقق من سلامة المبنى قبل بناء الدور الجديد أما بالنسبة للمهندس فقد يقال إن الخطأ ليس فى نفس التصميم على أية حال بل هو فى فكرة الارتفاع بالمبنى فى حد ذاتها ، وهى التى اعترض عليها فلم يقم بدور ما فى عملية البناء .
ولذا يعد أقرب إلى الصواب حكم آخر فى قضية شرفة منزل سقطت وقتلت من كان بها ، وتبين أن سبب السقوط يرجع إلى خطأ فنى فى عملية الأسمنت المسلح نشأ من تداخل المالك والمقاول مسئولين بمنعه من تركيب الكوابيل ، فاعتبرت المحكمة المالك والمقاول فى عمل يخالف الأصول الفنية وينقاد إلى رأى خاطئ صادر عن غير مختص .
ورؤى انعدام الخطأ من جانب المالك فى قضية سقوط منزل وإصابة امرأة مارة فى الطريق لأن مهندس التنظيم كان قد عاينه ووجده آيلا للسقوط قبل الواقعة بأربع وعشرين ساعة فقط فطلب إخلاءه ولكنه انهار قبل مضى الفترة المحددة ، وكانت حالة التداعى مما لا يدرك إلا بعين الفنى المختص (15) ، وخلل البناء الذى يسأل عنه المالك هو الخلل الظاهر الذى تنبئ عنه ظواهر الحال ، أما إذا تبين مثلا أن سبب سقوط الشرفة هو تآكل الكمرات الحديدية ، وهو من العيوب الفنية التى يتعذر اكتشافها إلا بتكسير الخرسانة وهدم السقف فإن مسئولية المالك تصبح منتفية ، لأنه حيث لا خطأ ولا تقصير فلا مسئولية جنائية وإن جاز أن تتوافر المسئولية المدنية فحسب .
ورؤى عدم مساءلة مهندس التنظيم الذى أرسل إلى ناظرة وقف أخطارا ينبه عليها فيه بإزالة حائطين من حوائط البناء الموقوف المشمول بنظارتها لخطورة حالتهما ثم لم يحرك ساكنا بعد ذلك ، وقصر فى رفع تقرير إلى رئيسه عن المعاينة التى أجراها للنظر فيما يتبع من إجراءات ، ولم يسع إلى استكشاف الخلل فى باقى أجزاء البناء بعد مشاهدة الخلل فى الحائطين ، للتعرف على ما كان بجمالون داخلى من تآكل وانحراف ، ذلك أن هذا التقصير من جانبه " ليس هو العامل الذى أدى مباشرة أى وقوع الحادث أو ساهم فى وقوعه ، وكان انهدام الحائط أمرا حاصلا بغير هذا التقصير نتيجة حتمية لقدم البناء وإهمال ناظرة الوقف فى تقصيره لا تتحقق به رابطة السببية اللازمة لقيام المسئولية الجنائية  ، فانحصرت المسئولية بذلك فى ناظرة الوقف دون مهندس التنظيم ، وأما أخطاء العمال فيسأل عنها العامل المخطئ ، وكذلك من يقوم بملاحظته سواء أكان المالك ، أم المهندس ، أم المقاول ، أم الملاحظ المكلف بالمراقبة ، وفى الجملة تقع المسئولية على كل من يمكن نسبة خطأ شخصى إليه لاشتراكه فى العمل ، وتقدير وقائع الاشتراك مسألة موضوعية .
_________________________________
(1) نقض 19/2/1945 القواعد القانونية ج 6 رقم 507 صـ650 .
(2) نقض 3/2/1969 أحكام النقض س 20 رقم 42 صـ192 .
(3) نقض 12/5/1969 أحكام النقض س 20 رقم 140 صـ696 .
(4) نقض 22/3/1960 أحكام النقض س 11 رقم 59 صـ296 .
(5) نقض 14/10/1963 أحكام النقض س 14 رقم 112 صـ603 .
(6) نقض 28/3/1908 مج س 9 عدد 120 .
(7) نقض 7/2/1929 القواعد القانونية ج 1 رقم 154 صـ163 .
(Cool نقض 14/11/1968 س19 رقم 179 صـ904 .
(9) نقض 3/2/1974 أحكام النقض س25 رقم 19 صـ80 .
(10) راجع نقض 10/2/1969 أحكام النقض س20 رقم 49 صـ231 .
(11) نقض 14/10/1963 س14 رقم 112 ص 603 .
(12) نقض 30/4/1963 أحكام النقض س14 رقم 73 صـ366 .
(13) نقض 27/11/1939 مج س 41 عدد 133 صـ331 .
(14) نقض 26/4/1955 أحكام النقض س6 رقم 263 صـ881 .
(15) نقض 28/3/1908 مج س 9 عدد 120 .