قواعد عامة على عقود الأمانة
 
تسرى على عقود الأمانة المختلفة قواعد عامة تتعلق بتكييفها واستبدالها وإثباتها وبطلانها ، وسنتناول كل أمر من هذه الأمور بقدر اتصاله بجريمة خيانة الأمانة ، فى فرع خاص على التوالى .
 
المطلب الأول : تكييـف العقـد
 
من المتفق عليه أن تفسير عقد الأمانة وتكييفه ، أى إعطاءه وصفه القانونى الصحيح برده إلى نص خاضع له ، أمر يخضع لسلطان المحكمة دائما سواء فى النطاق الجنائى أو المدنى ( 1 ) والعبرة فى تكييف العقد هى بطبيعته كما يحددها القانون لا بالوصف الذى يصفه به الطرفان ، أى بحقيقة الواقع لا بصيغة ألفاظه ومن ثم يعد الفصل فيه فصل فى مسألة قانونية تخضع لرقابة النقض ، لا فى مسألة موضوعية ، ولذا قضى بأنه إذا وصف العقد بأنه وديعة إلا أنه اشترط فيه أن يقوم المودع عنده بدفع فوائد عن المبلغ ، وقام فعلا بدفعها فترة من الزمن فالعقد قرض لا وديعة ، والامتناع عن رد المبلغ لا يكون بالتالى خيانة أمانة ( 2 ) .
وإعطاء العقد وصفه الصحيح ليس دائما على نفس الدرجة من السهولة والوضوح ، لأن العقد كثيرا ما يكون متراوح الطبيعة ، أو مركبا من أكثر من نوع ، وأكثر صعوبات التكييف فى نطاق خيانة الأمانة ، تثار فيما يتعلق بعقود البيع : وبخاصة منها البيوع المؤجلة الثمن وهى تتطلب شيئا من الإيضاح على النحو الآتي :
عقـود البيـع :
عقد البيع ، ومثله المعارضة ، ناقل الملكية من تلقاء نفسه كقاعدة عامة لأنه عقد رضائى ، وهو ليس من عقود الأمانة ولا يتضمن التزاما بالرد وإن تضمن الالتزام بالتسليم ، ومن ثم فلا يكون عدم تنفيذ أى التزام من الالتزامات المترتبة عليه سببا فى قيام الجريمة ، ومن ذلك أن يمتنع البائع عن تسليم السلعة بعد تسليم الثمن سواء أكانت معينة بالذات ، أم من باب أولى معينة بالنوع فلا تنقل ملكيتها إلا بالفرز ، أو أن يمتنع المشترى عن دفع الثمن بعد تسلم السلعة .
إلا أنه قد يكون البيع مصحوبا بالإيداع ، كما إذا اتفق على أن الشئ المبيع يظل وديعة عند البائع إلى أن يتسلمه المشترى ، أو أن يظل الثمن وديعة عند المشترى إلى أن يطلبه البائع ، بغير أن يكون للوديع الحق فى استعمال النقود فلا مانع حينئذ من القول بخيانة الأمانة إذا بدد البائع الشئ المبيع ، أو إذا بدد المشترى الثمن ، وقلنا إن التسليم يكون حينئذ معنويا لا ماديا .
وينبغى فى مثل هذه الحالة تحديد لحظة انتقال ملكية الشئ المبيع لأنه يتوقف عليه تحديد لحظة بدأ الوديعة ، والمرجع فى ذلك يكون إلى قواعد القانون المدنى ، فمثلا إذا كان انتقال الملكية فى المبيع المعين بالذات ويلحق به المبيع جزافا يكون بالتعاقد ، فإنه فى المبيع المعين بالنوع لا بالذات يكون بالفرز أى بالعدد أو الوزن أو الكيل أو المقاس .
ومثلا البيع تحت شرط واقف لا ينعقد إلا عند تحقق الشرط ، ومن ذلك البيع بشرط المذاق أو التجربة ، وقد قلنا فى مناسبة سابقة فيما يتعلق بهذا البيع الأخير أن محكمتنا العليا ذهبت إلى أن وجود المبيع عند المشترى فى فترة التجربة إنما يكون على سبيل الوديعة فاختلاسه يكون خيانة أمانة لا سرقة ، وذلك ما لم يتحقق شرط قبول المبيع فيستند أثره عندئذ إلى الوقت الذى نشأ فيه البيع وينتفى بذلك فعل الاختلاس كلية
وقد نص القانون المدنى على البيع بشرط التجربة مقررا أنه يعد بيعا " معلقا على شرط واقف وهو قبول المبيع ، إلا إذا تبين من الاتفاق أو الظروف أن البيع معلق على شرط فاسخ " ( م 421/2 مدنى ) وإذا تحقق الشرط الفاسخ فيكون تحققه أيضا بأثر رجعى ، ويعتبر المبيع وديعة بين يدى المشترى ، فإذا اختلسه فهو خائن للأمانة 
البيوع مؤجلة الثمن :
لتحديد لحظة انتقال الملكية أهمية عملية خاصة فيما يتعلق بالبيوع المؤجلة الثمن ، وهذه العقود توصف أحيانا بأنها عقود إيجار تنقلب إلى عقود بيع عند دفع آخر قسط من الأجرة ، ويطلق عليها اسم البيوع الإيجارية ، وقد انتشرت انتشارا خاصا فى عصرنا الحالى ، وأثارت خلافا طويلا حول حقيقة طبيعتها ، خصوصا من ناحية اتصالها بجريمة خيانة الأمانة  .
ويمكن القول بصفة عامة أن الراجح هو تغليب صفة البيع فيها باعتبار أن نية الطرفين الحقيقية هى نقل الملكية ، وأن حقيقة العقد هى أنه بيع بالتقسيط أما وصفه بأنه إيجار ينقلب إلى بيع فهو وصف زائف يعطيه البائع العقد حتى يطمئن إلى أن نقل الملكية إلى المشترى يكون موقوفا على استيفاء الثمن كله منه ، رغم تسليم المبيع إليه ، ومن ثم إلى حرصه على الشئ المبيع ، وإلا عد خائنا الأمانة .
وقد جرى قضاؤنا السائد على الأخذ بالرأى المتقدم ، كما أقره صراحة القانون المدنى فى المادة 430 منه ، التى بينت فى فقراتها الثلاث الأولى بعض أحكام البيع إذا كان مؤجل الثمن ، ثم أضافت فى فقرتها الرابعة أنه " تسرى أحكام الفقرات الثلاث السابقة ولو سمى المتعاقدان البيع إيجارا " ففصل بذلك فى مسألة ظلت محل خلاف أمدا طويلا فى بلادنا ، ولا تزال فى فرنسا ، وطبقا للمادة 430 هذه " إذا كان البيع مؤجل الثمن جاز للبائع أن يشترط أن يكون نقل الملكية إلى المشترى موقوفا على استيفاء الثمن كله حتى ولو تم تسليم المبيع" فإذا تضمن البيع مثل هذا الشرط ولم توف الأقساط كلها فتكون يد المشترى على الشئ المبيع يد مودع لديه لا مالك ، أى يد أمين فحسب ، أما إذا وفيت الأقساط جميعا فإن انتقال الملكية إلى المشترى " يعد مستندا إلى وقت البيع " على حد تعبير الفقرة الثالثة منها ، وتنتفي بالتالي جريمة خيانة الأمانة ولو كان المشترى قد تصرف فى الشئ المبيع تصرف المالك ثم قام بعدئذ بدفع باقى الثمن برمته
ثم صدر القرار بالقانون رقم 100 لسنة 1957 فى شأن بعض البيوع التجارية وقد نص فى المادة 42 منه على أنه " يحظر على المشترى بدون إذن سابق من البائع أن يتصرف بأى نوع من أنواع التصرفات فى السلعة موضوع التقسيط قبل الوفاء بثمنها " كما نصت المادة 45 منه على أنه " مع عدم الإخلال بعقوبة أشد ينص عليها قانونا يعاقب كل مخالف لأحكام المواد من 33 إلى 37 ومن 39 إلى 42 بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة لا تجاوز مائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين " .
عقد القرض :
وقد عرفت المادة 538 مـن القانون المدنى عقد القرض بأنه " عقد يلتزم به المقرض أن ينقل إلى المقترض ملكية مبلغ من النقود أو أي شيء مثلي أخر ، على أن يرد إليه المقترض عند نهاية القرض شيئا مثله في مقداره ونوعه وصفته .
وفقا لهذا النص فإن عقد القرض يلزم المقرض بنقل الملكية إلى المقترض ويلتزم المقترض رد ما اقترضه فى نهاية المدة المحددة بالعقد ، وطالما أن هذا العقد ينقل الملكية إلى المقترض ، فإن المقترض إذا تصرف فى هذا المال أو بدده أو رفضه رد مثله فى نهاية القرض لا يعد خائنا للأمانة (1) .
 
المطلب الثانى : استبـدال العقـد
 
قد يستبدل عقد الأمانة بآخر أثناء الحيازة ، وتغيير سند الحيازة بإحلال عقد من عقود الأمانة محل عقد أمانة آخر أمر لا أهمية له فى نطاق خيانة الأمانة لأنه لا يترتب عليه تغيير فى صفة الحيازة ، ومن ذلك أن يحل إيجار محل عارية أو وديعة محل رهن .
وإنما تكون لتغيير سند الحيازة أهمية خاصة ، إذا حل محل عقد الأمانة عقد آخر ناقل الحيازة التامة ، ومن ذلك أن يحل بيع محل الوديعة أو الإيجار ، فعندئذ يتغير الوضع بداهة بتغيير صفة الحيازة من مؤقتة إلى تامة ، بما يترتب عليه من وجوب القول بانتقاء الجريمة عند التصرف فى المال المبيع
وينبغى فى الاستبدال الذى يحدث هذا الأثر أن يكون حقيقيا لا صوريا ، وأن يكون باتا ، فلا عبرة باستبدال معلق على شرط واقف إذا لم يتحقق هذا الشرط  .
كما ينبغى أن يكون الاستبدال قد وقع قبل وقوع فعل الاختلاس أو التبديد ، فلا عبرة بالاستبدال اللاحق له ( 1 ) ، إذ يكون عندئذ بمثابة الرضاء اللاحق لوقوع الجريمة ، ولذا فإنه لا عبرة أيضا بتنازل صاحب الأمانة عنها بعد حصول التبديد بالفعل وذلك أية كانت صورة هذا التنازل كما حكم بأنه إذا منح المجنى عليه إلى المتهم بخيانة الأمانة مهلة للرد فإن ذلك أمر لا يقلب عقد الأمانة إلى عقد دين عادى لأن التأجيل لا يغير سبب الدين .
 
المطلب الثالث : إثبـات العقـد
 
يعد إثبات عقد الأمانة من الأمور الأولية ، التى يتوقف عليها الحكم فى دعوى خيانة الأمانة ، والتى تختص المحكمة الجنائية بالفصل فيها طبقا للقاعدة العامة التى وضعتها (م 221 إ.ج) كما تختص أيضا بالفصل فى الدفوع المتصلة بالعقد مثل حصول الرد أو التخالص أو المقاصة أو تغيير سند الحيازة أو عدم تسليم السلعة أو وجوب حساب بين الطرفين لم تتم تصفيته بعد إلى آخر هذه الأمور التى يصح أن تثار فى الدعوى الجنائية وتتصل بها فقاضى الدعوى هو قاضى الدفع كما هو معلوم .
وبحسب الأصل تكون المحكمة الجنائية مقيدة فيما يتعلق بإثبات الأمور المدنية البحت بقواعد الإثبات التى رسمها القانون المدنى ، لأنه إذا قيل بغير ذلك لكان لصاحب المال أن يتهرب من قيود الإثبات المدنية بولوج الطريق الجنائى دائما وعلى ذلك استقر القضاء منذ زمن بعيد ونص عليه قانون الإجراءات فى المادة 225 منه
إلا أن محكمة النقض قد أوردت على هذه القاعدة تحفظا هاما عندما ذهبت إلى أن المحكمة فى جريمة خيانة الأمانة تصبح فى حل من التقييد بقواعد الإثبات المدنية عند القضاء بالبراءة ، لأن القانون لا يقيدها بتلك القواعد إلا عند الإدانة فى خصوص إثبات عقد الأمانة إذا زاد موضوعه عن عشرين جنيها احتياطا لمصلحة المتهم حتى لا تتقرر مسئوليته وعقابه إلا بناء على الدليل المعتبر فى القانون ، ولا كذلك البراءة لانتقاء موجب تلك الحيطة وسلاسا لمقصود الشارع فى إلا يعاقب برئ مهما توافر فى حقه من ظواهر الأدلة ( 1 ) ، كما أن العبرة فى القول بثبوت قيام عقد من هذه العقود فى صدد توقيع العقاب تكون بالواقع ، إذ لا يصح تأثيم إنسان ولو بناء على اعترافه بلسانه أو كتابة متى كان ذلك مخالفا للحقيقة ( 2 ) .
وبعبارة أخرى أن محكمة النقض طبقت مبدأ اقناعية الدليل فى المواد الجنائية فى شأن ثبوت عقد الأمانة أمام القضاء الجنائى عند القضاء بالإدانة ، ولم تطبق قاعدة أخذ الخصم بإقراره السائدة فى الأمور المدنية ، لاعتبارات جمة لعل أهمها خطورة المسئولية الجنائية وما ترتبه من آثار بالمقابلة بالمسئولية المدنية وأيضا لتعذر الفصل بين اقتناع القاضى الجنائى بتوافر العقد واقتناعه بسائر العناصر الجنائية عند الاتجاه إلى توقيع العقوبة
وتنطبق هنا أيضا قواعد الإثبات المدنية الأخرى ، مثل عدم جواز تجزئة الإقرار على صاحبه " إلا إذا انصب على وقائع متعددة  وكان وجود واقعة منها لا يستلزم حتما وجود الوقائع الأخرى " ( م 104/2 من قانون الإثبات رقم 25 لسنة 1968 ) .   
وقد قضى " بأن قاعدة عدم تجزئة الإقرار هذه يؤخذ بها حيث يكون الإقرار هو الدليل الوحيد على المتهم بخيانة الأمانة ، أما إذا كان الأمر على غير ذلك فلا مانع من القول بالتجزئة (1) .
ذلك فيما يتعلق بإثبات الأمور المدنية الصرف ، أما فيما يتعلق بإثبات عناصر الجريمة الأخرى ، مثل فعل الاختلاس أو التبديد وركن الضرر والقصد الجنائى ، فهو مما يخضع للقواعد العامة فى الإثبات الجنائى فتجوز فيه كافة الطرق بما فيها البينة والقرائن ( 2) .
 
المطلب الرابع : بطلان سند الحيازة
 
قد يلحق سند الحيازة سبب من أسباب البطلان المختلفة ، سواء أكان هذا السند عقدا ، أم حكما قضائيا كما فى حالة النيابة القضائية ، ولا أهمية فى نطاق خيانة الأمانة لكون سند الحيازة صحيحا أم باطلا ، وأيا كان نوع البطلان ومصدره .
فمناط العقاب فى الجريمة ليس فى الإخلال بشروط العقد وما يرتبه من التزامات كما قلنا ، بل هو فى الاعتداء على ملكية الرقبة فى المال المسلم بمقتضى العقد ، فكون العقد باطلا أمر لا ينفى وقوع التسليم مع قيام الالتزام بالرد كما لا ينفى إمكان حصول التبديد بسوء نية مع توافر ركن الضرر ، وهذه هى كل عناصر الجريمة ، ولذا قضى بقيام خيانة الأمانة فى قضية شخص وكََل فى استئجار منزل لغرض مخالف للآداب وتسلم مبلغا لهذا الغرض فاختلسه لنفسه .
___________________________
( 1 ) راجع نقض 15/3/1956 أحكام النقض س 7 رقم 105 ص353
( 2 ) نقض 2/11/1926 المحاماة س 7 عدد 364
(1)  د/ نجيب حسنى  ـ شرح قانون العقوبات ـ ص 1200 .
( 1 )  نقض 19/5/1941 القواعد القانونية ج 5 رقم 264 ص520
( 1 ) نقض 9/6/1974 س 25 رقم 122 ص573
( 2 ) نقض 27/10/1969 س 20 رقم 232 ص1176
(1)  نقض 29/10/1951 أحكام النقض س 3 رقم 47 ص120
( 2)  نقض 16/10/1961 س 12 رقم 155 ص797