الطبيعة القضائية للتحكيم :
إذا كان التحكيم يبدأ بعقد فهو ينتهي بحكم ، وإذا كان يخضع لقواعد القانون المدني من حيث انعقاده ، فإنه يخضع لقواعد قانون المرافعات من حيث آثاره ونفاذه وإجراءاته ، وإذا كان يبطل بما تبطل به العقود ، فإن حكمه يطعن فيه - في كثير من التشريعات كما يطعن في الأحكام ، وينفذ كما تنفذ الأحكام.
ولكل ما تقدم ثار الجدل بين الفقهاء ، وتعددت مذاهبهم في هذا الصدد ، فمن قائل أن التحكيم تغلب عليه الصفة التعاقدية لأنه يتم بإرادة ذوي الشأن ، ولأن لهذه الإرادة سلطانا في صدد سلطة المحكم واختصاصه وفي صدد تطبيقه لقواعد القانون أو لقواعد العدالة وفي صدد تحديد مهل (مواعيد) نظر النزاع ، وفي صدد تعيين شخص المحكم ، وفي صدد إمكان نزول الخصوم عن حكمه أو عن الطعن فيه ... ومن قائل أن التحكيم يحتل مركزا وسطا بين التعاقد والقضاء ... ومن قائل أن التحكيم له طبيعة خاصة ، وأنه يجب النظر إليه نظرة مستقلة ، ولا يمكن تفسيره من ضوء المبادئ التقليدية ، لمحاولة ربطه بالعقد أو بالحكم القضائي . (إبراهيم نجيب سعيد ، رسالة دكتوراه عن التحكيم) .
وإنما ينظر إلى الهدف الذي يرمي إليه الخصوم من ولوجه ألا وهو السعى إلى العدالة على أسس تختلف عن المفهوم التقليدي للعدالة أمام المحاكم ، وبذلك ينتهي التحكيم الى كونه أداة خاصة لتطبيق قواعد خاصة يتحقق من ورائها الهدف الذي يسعى الخصوم للوصول إليه ، ومن هنا تبدو بوضوح الطبيعة الخاصة لنظام التحكيم ، ويبدو مدى تأثير العنصر التعاقدي (مشاركة التحكيم) على حكم المحكم ، فالدعوى بطلب بطلان حكم المحكم تتصل في مجموعها بحالات تعيب عقد التحكيم أو تنكره ، وهى بهذا الوصف تثير الشك في الصفة القضائية لحكم المحكم ، مما يبرر وقف تنفيذه بمجرد رفعها ، وهى أيضا - بالوصف المتقدم - تكفي وحدها كوسيلة للتظلم من الحكم (وهذا ما انتهى إليه قانون المرافعات المصري الجديد) .
وهكذا يتضح وفقا لهذا الرأى أن حكم المحكم لا يعد مجرد أثر من آثار التعاقد ، كما أنه من العسير اعتباره حكما قضائيا بحتا ، وإنما هو عمل قضائي acti juridictionnel ذو طبيعة خاصة ، ولا يمكن فهمه إلا في ضوء ارتباطه بنظام التحكيم في مجموعه ، وبعبارة أخرى ، حكم المحكم هو عمل قضائي مكن نوع خاص لأنه لا يصدر عن السلطة القضائية ، ولأنه لا تتبع بصدده الإجراءات القضائية المتبعة أمام المحاكم ، ولأنه لا يصدر في ذات الشكل المقرر للأحكام القضائية ، ولأنه من ناحية أخرى ، قد لا تطبق بصدده قواعد القانون التقليدية المقننة وإنما قد يرجع في صدده إلى العرف والعدالة . (إبراهيم سعد رسالة - التحكيم) .
وفي تقديرنا ، إذا نظرنا الى التحكيم من زاوية أنه قضاء إجباري ملزم للخصوم متى اتفقوا عليه ، وأن التملص منه لا يجدي على النحو المتقدم إيضاحه ، وأنه يحل محل قضاء الدولة الإجباري ، وأن المحكم لا يعمل بإرادة الخصوم وحدها ، نرى أن الصفة القضائية هى التي تغلب على التحكيم ، وأن حكم المحكم هو عمل قضائي شأنه شأن العمل القضائي الصادر من السلطة القضائية في الدولة .
وفي عبارة أخرى ، متى اتفق على التحكيم ، يكون هو الوسيلة الإجبارية لحماية الحق ، بتدخل من السلطة العامة وإجبار من جانبها ، وإذن ، تتأتى سلطة الإجبار في التحكيم من اتفاق الخصوم عليه وإقرار السلطة العامة له . فاتفاق التحكيم هو مصدر قضاء التحكيم الإلزامي .
وبعبارة أدق ، باتفاق التحكيم يحل قضاء التحكيم محل قضاء الدولة في حماية الحقوق ، ويكون إلزاما شأنه شأن قضاء الدولة ، فالتحكيم اتفاق ، ثم إجراءات تحل محل الإجراءات القضائية بنص القانون ، ثم حكم شأنه شأن الحكم الصادر من السلطة القضائية في الدولة .
وقد قضت محكمة النقض بأن : حكم المحكم له طبيعة أحكام القضاء . (نقض 6/2/1986 رقم 2186 لسنة 52ق) .
وقد قضت أيضا محكمة التمييز الكويتية بأن : أن حكم المحكمين قضاء يفصل في خصومة وله حجيته إلا أنه عمل قضائي ذو طبيعة خاصة . (طعن 148 لسنة 1986 تجاري جلسة 18/2/1987) وبأنه " التحكيم طريق استثنائي لفض الخصومات بشرط أن يكون تنفيذه ممكنا " (طعن بالتمييز رقم 41 ، 43 لسنة 1986 تجاري جلسة 5/11/1986) .