اللامركزية وأثرها على زيادة
الكفاءة والفاعلية الإدارية على النطاق المحلي

الدكتور/ خالد عمر عبدالله باجنيد
أستاذ القانون العام ورئيس قسم القانون العام
كلية الحقوق – جامعة عدن – الجمهورية اليمنية


المقدمة:
إذا كان في النظام المركزي ليس هناك حياة إدارية خارج إطار الأجهزة المركزية , مما يقود إلى اختزال الدولة و مؤسساتها في المركز , فان للامركزية على النطاق الإقليمي هي نظام يفضي إلى فكرة تسعى إلى فرض واقع جديد للإدارة تقوده الهيئات المحلية , حتى يتحقق التكامل في إدارة الشؤون المحلية في إطار توزيع الأدوار بين المركزي و المحلي .
ولا يكفي أن يتم إلا قرار باللامركزية كأسلوب للتنظيم الإداري , و لكن من الضروري معرفة ما هو المدى الذي يجعل اللامركزية تنتدرج ضمن إستراتيجية تفضىإلى جعل الهيئات المحلية تملك من المقومات التي تؤمن الكفاية و الفاعلية في أداء هذه الهيئات في إطار من الضوابط التي تزيد من هذا الفاعلية و لا تشلها أو تقيد حركتها . و هنا تكمن مضمون الاستقلالية و مداها , ونظام توزيع أعباء الوظائف العامة , باعتبارهما الأساس الذي يحدد فاعلية و تأثير الهيئات المحلية داخل الجماعة المحلية , و بالمقابل يأتي دور الرقابة ليحدد رؤية الدولة نحو البناء اللامركزي .

الفصل الأول: اللامركزية أسلوب للتكامل في إدارة الشؤون المحلية:
الدولة ليست كيان مختزل في صومعة مغلقه في قمة المركز , وأنما تتعدد أدواته , ليكون لكل منها دور في عملية البناء . وتتكامل هذه الأدوار حتى تتحقق الكفاية والفاعلية في عملية التسيير الإداري و تقديم الخدمات , والبناء الاجتماعي والاقتصادي , و تغيير المحيط المحلي في إطار التطور الشامل للدولة والمجتمع . وهنا تتجسد اللامركزية كطريق لقيادة شؤون الدولة المحلية , والحاجة إليها كأسلوب يسمح بالتنوع والتعدد في أساليب إدارة المجتمع .
وفي ظل الواقع المقيد بالممارسات التي تنضوي تحت عباءة المركزية , من المفيد أن نشير إلى الاتجاهات العامة لتلك المقومات التي لازالت تؤثر في العلاقات التنظيمية لإدارة الدولة , وعلاقة الدولة بالمحيط الاجتماعي .
المبحث الأول: اللامركزية كطريق لقيادة شؤون الدولة المحلية:
اللامركزية طريق امثل لإدارة شؤون الدولة في إطار من التكامل و التعدد في الأدوار , و بما يحقق القدرة في إدارة فعالة لشؤون الدولة على النطاق المحلي . و القول بشؤون الدولة المحلية يعود إلى أن الدولة كيان لا يختزل في المركز و إنما يتجسد في الإطار المركزي و كذلك المحلي .
واللامركزية كأسلوب للإدارة , أفرزته حاجة المجتمع الذي وصل إلى مرحلة من التطور , والذي انتج زيادة في حاجات المجتمع , مما أفضى إلى زيادة وظائف الدولة . ومع هذا الازدياد كان تقسيم العمل ضرورياً وحتمياً , لان ليس من الحكمة ولا العقلانية أن تتمركز كل الوظائف و كذلك الأداء في جهة واحدة .
وهناك من المقتضيات التي تجعل اللامركزية ضرورة قانونية و اجتماعية و حضارية , لان المجتمع بكل مكوناته البشـرية و المؤسسية لابد و أن يكون له دور في إدارة شؤون المجتمع وإشباع حاجاته المادية والروحية . و يمكننا أن نجمل هذه المقتضيات في الآتي :-
1- إن المجتمع يتكون من بشر أفرادا و جماعات , لكل منهم نوازعه و رغباته و رؤيتةللحياة والحاجات , و بالتالي تتشكل المصالح التي تربط بين الجماعات سواء اجتماعياً أو إقليميا , وهذه المصالح دون شك تتباين . فالاعتراف بتباين مصالح المجتمعات المحلية , يتطلب اتخاذ قرارات على الطبيعة بواسطة أشخاص يقيمون في موطن هذه المصالح والمشاكل التي تتولد في الوحدة المحلية، ويتأثرون بها بطريقة مباشرة , لانهم يدركون طبيعة مشكلاتهم و يهمهم حسمها قبل غيرها (1) .
2- في كل مرحلة من مراحل تطور المجتمع , تزداد الحاجات , وبالتالي تزداد وظائف الدولة لتلبية حاجات المجتمع ومتطلبات تنميته و تطوره ,وذا ما يشكل عبء لا يستهان به يلقي على ظهر الدولة وأن القيام بأعباء هذه الوظائف أمر غاية في الصعوبة والتعقيد والمشقة . وبهذا لايمكن لجهة بعينها أن تملك القدرة لان تكون كل شيء . وهذا ما يتطلب توزيع هذه الأعباء بين كل مكونات الدولة وتسخير كل الجهود حتى يعتبر التنفيذ ميسراً .
3- الدولة كيان يتشكل من المركز و الجماعات المحلية و المصلحيه . و الجماعات لها خصوصياتها وحاجاتها , و أدرى بظروفها و بواقعها . و قد لا تستطيع الحكومة المركزية استيعاب هذه الخصوصية و هذه الحاجات لبعدها عن الواقع المحلي .
4- إن بناء الدولة وإدارة المجتمع لا يمكن أن يتمان بجهود المركز دون الاستفادة من جهود وإمكانات المجتمع , و بخاصة الجماعات المحلية .
إن تلك المعطيات وغيرها تشكل دوافع هامة تجعل من اللامركزية ضرورة قانونية واجتماعية وحضارية , و ذلك لإدارة شؤون المجتمع بكفاية و فاعلية سواء على النطاق المركزي , و بصورة أكثر ضرورة على النطاق المحلي . تلك الدوافع التي تقضي بالتوزيع العقلاني للخدمات العامة . بين الأجهزة المركزية و الهيئات المحلية , و كذلك تنظيم التخطيط بين ما هو مركزي و ما هو محلي , بالأضافه إلى التمييز في أسلوب الإدارة بين ما يلاءم المركز و ما يلاءم الواقع المحلي . وأخيراً توزيع القوى الإيجابية بين المركز والمحلي بدلا من تركيزها في العاصمة بما يؤمن توطيد دعائم البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة. واللامركزية إذا بقدر ماهي الأسلوب الأمثل لتوزيع الوظيفة الإدارية بين المركز والمحلي على أساس الخصوصية والعقلانية , فهي بالتالي الطريق الهادف إلى تحقيق عدد من الأهداف يمكن أن نجملها في الآتي :-
أولا :- صياغة الوعي السياسي لدى الجماعات المحلية بفكرة المؤسسة وإدارة شؤون المجتمع , وذلك من خلال :-
1- تحقيق الاندماج السياسي للمواطن في الشؤون العامة و تدريبهم على فنون ممارسة العمل السياسي .فاللامركزية كما يقـول شارل ديباش يمكن أن تتشكل في الواقع, الإطار الملاءم للتربية السياسية (2).
2- تؤمن ربط المواطن المندمج في الجماعة المحلية بالقرارات التي تمس شؤونهم بصورة مباشرة . فالمجالس المحلية تؤمن الوسيلة لتحقيق هذا الهدف الذي يجعل القرارات أكثر تأثيراً لكونها تمس مشكلاتهم و تلبي حاجياتهم .
3- أنها تشكل الصياغة المثلى لتنظيم العمل في الدولة , لكونها تساهم في الخروج من رتابة الأسلوب الذي تسير علية الحكومة المركزية عندما تباشر خدماتها العامة في أرجاء الدولة , بصورة متشابهة ومتماثلة لتطبقه على جميع المواطنين وعلى جميع بقاع الدولة على السواء دون تمييز , ودون مراعاة للتفاوت الطبيعي بين الوحدات الإدارية المحلية المختلفة,وللظروف المحلية التي تستدعي تنوعا في النمط وتعدداً بالأسلوب ليتناسب مع حاجات تلك الوحدات وإمكانياتها وظروفها(3).
ثانياً :- تأمين الكفاءة الإدارية في إدارة الشؤون العامة , و بالصورة التي تهيئ السبل للإدارة المركزية بإدارة الإستراتيجيات بكفاءة عالية ,و عدم إضاعة وقتهم الثمين في تفاصيل المحليات التي هم بعيدين عنها ولا يملكون الإلمام بتفاصيلها وخباياها , وتترك الإمكانية بصورة واسعة للهيئات المحلية لادارة شؤونهم و اتخاذ القرارات المناسبة لكل ظرف , و بصورة خاصة مراعاة الظروف الخاصة بكل منطقة .
والكفاءة الإدارية تقوم على مبدأ يقضي بأن البنية المؤسسة على اللامركزية تعتبر الأكثر ملاءمة لإشباع الحاجات الإنسانية ,وكذلك الأكثر فاعلية , لكونه يؤمن مشاركة الجماعات المحلية , باعتبارهم الأقرب إلى موطن هذه الحاجات , في إدارة الشؤون العامة .
وبحكم أن الجماعات المحلية وهيئاتها هم الأكثر تأثراً بالواقع المحلي , وأصحاب المصلحة المباشرين في تطوير مناطقهم , فأن ذلك يزيد من اهتمامهم و بصورة متصاعدة في تطوير إمكاناتهم و تعزيز الموارد المالية , من خلال تطوير و تنويع مصادرها و توريدها , هذا من جانب , و في الجانب الأخر فان هذه الجماعات وهيئاتها هم الأكثر حرصا على الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة , بما يحقق اكبر قدر من الخدمات والمشروعات بأقل قدر من التكاليف , و بما يحقق افضل الخدمات بأيسر السبل .
فالكفاءة الإدارية التي تنتجها اللامركزية , والتي تعتبر أسلوباً لزيادة المرونة للتعامل مع الخصوصيات المحلية , تجسد حقيقة الحاجة لتنمية واقع المحليات وتطويرها مؤسسيا واجتماعياً واقتصادياً .ولذا فان فعالية العمل الإداري يندرج من حيث المبدأ في إطار إستراتيجية متماسكة ومتوائمة مع الغايات الواجب تحقيقها . فالإدارة تهدف في الأساس إلى تقديم الخيارات التي يتم وصفها كملهم , وذلك من خلال البحث عن عقلانية شاملة من أجل أيجاد الوسائل الأكثر ملاءمة للوصول إلى الأهداف المحددة والمتواءمة مع مقتضيات الواجب و البواعث (4).
المبحث الثاني: معوقات اللامركزية:
بالرغم من الاتجاهات التي أخذت تستشري في معظم الدول نحو اللامركزية , و اندراج هذه الفكرة ليس فقط على صعيد الدولة و إنما أيضاً على صعيد المجتمع بمؤسساته السياسية و الشعبية، إلا انه هناك معوقات بصورة أو بأخرى لازالت تسعى لكبح جماح الانطلاق نحو فكرة ينبغي أن ترسخ في البنيان السياسي و المؤسسي و الاجتماعي . فالواقع المحلي , و بخاصة في دول العالم الثالث , يفرض اليوم أكثر من أي وقت مضى , الحاجة إلى اللامركزية القادرة على تحقيق المعادلة بين الذات المحلية و المصالح الوطنية , باعتبارها العلاج الوحيد لازمة إدارة الدولة في الواقع المعاصر0
وفي هذا الجانب سنشير في اتجاهات عامة, إلى خلفية هذه المعوقات . والعودة إلى معطيات الرؤية السياسية و الممارسة الإدارية في مختلف الدول بان هناك لازال تشبث بالمركزية , وإن كان ذلك بصورة متفاوتة بين دولة وأخرى . ويقترن هذا التشبث في الواقع بالمخاوف من التوجه نحو التوسع باتجاه اللامركزية .
فإذا كان تأثير الإرث نحو المركزية ظل يلقي بظلاله حتى بعد المتغيرات السياسية أوروبيا ، فإن ذلك أقترن أيضا بالدوافع السياسية التي طغت على رؤية النظام السياسي الأوروبي في مركزة السلطة وعدم امتداد فكرة التعدد في إطار تنظيم إدارة الدولة 0وهذا ما جعل التخوف من الانتقال نحو لامركزية حقيقية تحقق حكم محلي ، يسيطر على رؤية الواقع الأوروبي المعاصر و بخاصة في فرنسا و الدول المتأثرة بنظامها القانوني و الإداري 0
وفي هذا الاتجاه تتبلور هذه المخاوف في رؤية البعض الذي ينظر إلى أن تأسيس الحكم المحلي يمكن أن يجعل من المحلي سلطة مضادة contre pouvoir 0 و كما يقول هوبرت بروسيه ، إن في النظام التمثيلي أو البرلماني في الغرب ، يرى البعض أن المحلي يعرف وينظر إليه كمضاد للسلطة 0 وهذا يكون عندما يصبح الإقليم أو المدينة في النظام التمثيلي البرلماني الغربي ، محكوما من قبل المعارضة ، وهي أقلية على الصعيد الوطني 0لتصبح ذات أغلبية على الصعيد المحلي. وبهذا تصبح في رؤية هؤلاء حصنا منيعا وقاعدة ، وقوة مضادة أيديولوجيا هذا إن لم يكن ضد المجتمع (5) .
أما شارل ديباش يقول في صياغته لهذه المخاوف أنه تحت ستار الادعاء بسياسة التنسيق تسعى الدولة في كل خطوة تخطوها نحو اللامركزية ، إلى العودة للامساك حتى بتلك السلطات التي تمنحها للهيئات المحلية 0 فالتحكمية الناتجة عن أيديولوجية المصلحة العامة تنمو أكثر فأكثر في العاصمة ، كما هو الأمر في الخلايا اللامركزية 0 وهذا ما يجعل موظفي الإدارة المركزية الأكثر قسوة في معارضتهم للامركزية 0
إن هذا الموقف لا يعبر فقط عن القلق على المصلحة العامة ، ولكن أيضا يجسد إفرازات التشبث بهذه النزعة 0 ونظرا لقربهم من السلطة السياسية ، فإن موظفي الأجهزة المركزية يسعون لان يظهروا أنفسهم بأنهم غيورين على سلطاتهم0 وتحت إدعاء التنسيق أو التكامل ، فهم دائما على استعداد لاغتصاب الاختصاصات المحلية(6) وفي ظل هذه النزعة المركزية المجسدة قانونيا ومؤسسيا وسياسيا, تشكل المحلي في إطار مفهوم الإدارة المحلية النابع من لامركزية محكومة بنظام مركزي شمولي .
و في ظل هذه الرؤية لم يكن هناك مجالا ليتم تنظيم إدارة الدولة على أساس لامركزية تعزز من بنيان الدولة , وبخاصة للمشكلات السكانية والجغرافية وحركة التنقل , التي تعاني منها معظم دول العالم الثالث . مما يجعل المركزية أكثر مشقة على حياة الناس المعيشية , وتزيد من معاناتهم في تعاملهم مع إدارة الدولة .
وبالرغم من كل المعطيات التي تعطي الأولوية لقيام لامركزية حقيقية تؤمن الانتقال إلى نظام للحكم المحلي , إلا أن الإدارة المركزية في هذه الدول و بصورة متقاربة لازالت تنظر نظرة ريبة وشك تجاه المحليات .
وفي هذا المناخ تمت صياغة رؤية المركز تجاه المحليات ونشأت مخاوفه والتي يمكن أن نجملها في الآتي :
1- نرى بأن هناك اعتقاد لدى المركز بأن المجتمعات المحلية لازالت لم تصل إلى مستوى القدرة على استيعاب معنى الانتخاب , مما يجعلهم يسيؤن الاختيار لتكوين الهيئات المنتخبة (7) والتي بدورها ليست في المستوى المؤهل لقيادة الشؤون المحلية . وهذه الرؤية تتناسى أن هذه المجتمعات المحلية هي التي تتولى اختيار أعضاء البرلمان , والذين هم في الأصل ممن ينتمون إلى سكان هذه المناطق المحلية. فما هو الفرق إذا طالما أن المعايير واحدة في نظام الانتخاب والترشيح .
2- و يمتد هذا الاعتقاد لدى المركز في كونه هو الذي أنشأ الوحدات المحلية , حتى و إن يتم انتخابها , و بالتالي لابد وأن تظل تحت الوصاية حيث ينظر إلى الوحدات المحلية على أنها مجرد وحدات إدارية صرفة لا يحق لها أن تملك سلطة القرار . فالحكم ينبغي ألا يخرج عن المركز , وأن الحكم المحلي لا يقود إلا إلى خروج المحليات عن سيطرة الدولة التي لابد وأن تختزل في المركز . و هذا ما يجعل الفروق شاسعة بين المدنية و الريف في كل شيء .
3- إن اختزال الدولة في المركز ينتج في العديد من الدول فراغ إداري و مؤسسي و سياسي , حصر امتداد الدولة في الجانب الأمني فقط , و هذا الفراغ انعكس على طبيعة العلاقة بين الدولة والمواطن الذي يجد نفسه في العديد من الدول خارج إطار العلاقات القانونية و المؤسسية , مما ينعكس على ارتباطه بالدولة , و بالتالي يضعف ارتباطه بالمجتمع الوطني .
ففي المناطق الريفية لايرى المواطن إلا العرف و سلطة القبيلة , و في إطار ذلك تنجز معاملاته بالطرق غير الرسمية .و عندما يسعى إلى الأطر الرسمية عليه أن يرتحل إلى عاصمة الدولة ,وفي أحسن الأحوال عاصمة الإقليم , فذلك يكلف العناء و المال , وقد لا يستطيع أن ينجز معاملاته فيعود إلى الأطر غير الرسمية . وهنا يتم صياغة وعيه خارج إطار العلاقات القانونية و المؤسسية , مما يضعف إحساسه بالدولة .
الفصل الثاني: أثر اللامركزية على زيادة الكفاءة والفاعلية الإدارية:
الكفاءة و الفاعلية يعتبران غذاء الحياة في شريان الحياة الإدارية . عرفت الإدارة دوماً إنها موطن الداء و البيروقراطية و الأمراض الإدارية , و هي في كثير من الأحوال تجسد الصورة المؤلمة في ذهن المواطن . و إذا كان ذلك شأن الإدارة المركزية , فإن انتقال هذا الداء إلى النطاق المحلي , سيشكل عائقاً خطيراً أمام تنمية الحياة المحلية مؤسسياً و اجتماعياً و اقتصادياً , وبخاصة في دول العالم الثالث .
وبناء عليه ، إن اختيار اللامركزية ينبغي أن يعزز بإرادة سياسية و مقومات تقود إلى زيادة الكفاءة و الفاعلية الإدارية , وذلك من خلال صياغة الوعي، وصناعة المهارات و توسيع دائرة المشاركة , و القدرة على تحقيق التأثير الإيجابي في أوساط الجماعات المحلية .
المبحث الأول: وسائل زيادة الكفاءة والفاعلية الإدارية:
إذا كان التكيف و التعايش مع البيئة , والقدرة على مواجهة المشكلات وتشخيصها و حلها وتوظيف الموارد بالشكل الملاءم للأهداف و تحمل القدر المعقول من المخاطرة , تعتبر من مقومات الكفاءة و الفاعلية الإدارية , فان ذلك يقتضي في الإطار المحلي تأمين وسائل عديدة نرى أهمها في الاستقلالية الحقة والمرونة التي تحرر الهيئات المحلية من قيود الممارسات المركزية ,وكذلك تحمل هذه الهيئات مسؤولية المشاركة في استيعاب حاجات الدولة و المجتمع,وذلك من خلال توزيع عقلاني لوظائف الدولة بين المركز والمحلي .
أولاً: الاستقلالية وأثرها في تعميق روح المبادأة :
إن الإقرار باللامركزية الإدارية يفضي إلى قيام أشخاص إدارية محلية تتمتع بالاستقلالية في إطار الدولة الواحدة و سيادتها الموحدة و نطاقها القانوني .وبما أن اللامركزية,وكما يقول الفقيه الفرنسي Benoit تقوم على عناصر أساسية يمكن إجمالها في شؤون خاصةAffaires propres , وسلطات خاصة Autorites propres و موارد خاصة Ressources propres(Cool فإن الاستقلالية التي تحققها اللامركزية في إطارها الإقليمي للهيئات المحلية تعني من حيث الأساس :-
1- أن يتحقق الوجود القانوني للهيئات المحلية بوسيلة الانتخاب باعتبارها المعيار الأساسي لتحقيق الاستقلال المحلي.
2- إضفاء الأهلية القانونية على هذه الهيئات لممارسة اختصاصاتها في اللحظة الزمنية التي تتمثل في الامتداد الزمني للحظة وجودها القانوني ,وفي النطاق المكاني المحدد لممارسة سلطاتها ، والحدود التي يقدرها القانون .
3- الاعتراف لها بالشخصية القانونية التي تجعلها مؤهلة لامتلاك سلطة التصرف , وحق التقاضي،وبالمقابل تحملها أعباء المسؤولية و مترتباتها .
4- الاعتراف لها بالاستقلال المالي , والذي يجعل لها مركز مالي مستقل و موارد مالية , وسلطة التصرف بالإنفاق في إطار ما هو محدد .
إن هذه المقومات هي نتاج معطيات قانونية قابلة للتكييف وفق رؤية المركز حول طبيعة هذه الاستقلالية و مداها و مضمونها . فالاستقلالية قد تكون معززة بضمانات قانونية مدعمة بإرادة سياسية , تجعل من القانون أداة فاعلة لتعزيز قدرات الهيئات المحلية في الوجود والتصرف والإمكانات، وقد يكون القانون بقدر ما يشير إلى هذه الاستقلالية, يقيدها من خلال نصوصه, فتتحول إلى محيط هامشي تابع يفقد الاستقلالية مضمونها الحقيقي0 وقد يسعى المشرع بتحميل القانون أكثر من معنى ليتيح المجال للإدارة المركزية في تكييف فكرة الاستقلالية وفق رؤيتها والحاجة الآنية .
وهنا تكمن إشكالية الاستقلالية ، إن التعبير عنها في نصوص القانون لا يكفي لإقرار تأثيرها في الحياة المحلية , وإنما الأمر مرهون بمدى امتداد هذا التأثير دون قيود في كل وقت و كل شيء و كل موقع على النطاق المحلي الزماني و المكاني ,ومدى قدرة الهيئات المحلية على تحقيق المعادلة بين تعزز مقومات الدولة المركزية و تأكيد المصالح المحلية , مع امتلاكها القدرة في التصرف .
إن قراءة النص القانوني و مراقبة الممارسة السياسية و الإدارية حول مقومات الاستقلالية التي يتم إقرارها للهيئات المحلية في معظم الدول , نجد إن هذه الإشكالية لازالت تهيمن على جدول العلاقة بين المركز و المحلي , سواء على صعيد النص القانوني أو على صعيد الممارسة السياسية و الإدارية .
وهنا أضحت الاستقلالية تحمل معنى التبعية دون أن تشير إلى ذلك . فالرؤية لازالت تعبر عن الموقف من الهيئات المحلية التي تنظر إليها على أنها قاصر , وان المجتمعات المحلية لم تصل بعد إلى المستوى العلمي و الثقافي فضلاً عن الوعي القومي(9).
إن جعل الانتخاب أساس وجود الهيئات المحلية لم يضع حداً لهذه الإشكالية ، حيث لم تصل الاستقلالية إلى المسـتوى الذي يحقق المدى , والذي يجعلها أداة تأثير على المستوى المحلي , وأساس قوة للنطاق الوطني . فالقانون الذي جعل من الانتخاب أساس وجود الهيئات المحلية هو أيضاً من جعل من ممثل السلطة المركزية المعين مركزياً على رأس النطاق المحلي و أداة الوصايا على الهيئات المحلية,في فرنسا الوالي prefet والمحافظ في الكثير من الدول ...الخ (10) بل هناك من الفقهاء من لا يزال يرى أن الانتخاب ليس ركناً في اللامركزية , فالاستقلالية للهيئات المحلية يمكن ان تتحقق دون انتخاب , بمعنى يمكن إن تتحقق بطرق أخرى , وهذا يعني أن التعيين لا يمنع من تمتع المجالس بالاستقلالية ,وهذا رأي العديد من الفقهاء في فرنسا.
ومن الفقهاء في مصر من يرى هذا الرأي ، منهم الدكتور محمد فؤاد المهنا الذي يقول بأنه لم يعد اختيار أعضاء السلطة اللامركزية بالانتخاب شرطاً أساسياً لوجود اللامركزية الإدارية(11).كما نجد نفس الرأي عند الدكتور فؤاد العطار الذي يرى بأن الشرط الأول لتحقيق اللامركزية هو استقلال الهيئات المحلية,وأي وسيلة تؤدي لتحقيق هذا الشرط تعد صالحة في ذاتها لتحقيق النظام اللامركزي . ومن تم يستوي أن تكون هذه الوسيلة الانتخاب أو التعيين أو الجمع بينهما (12) بل هناك من يرى أن الوصايا التي يعتبرها البعض أداة إضعاف لاستقلالية الهيئات المحلية , و تهميش لنظام اللامركزية , هي عنصر من عناصر اللامركزية ذاتها , بحيث لا يتصور قيام اللامركزية بدونها , فلامركزية بدون وصايا ,ولا وصايا بدون لامركزية . و هذه الوصايا بحكم الغرض الذي تستهدفه لايمكن إن يعهد بها إلا إلى الحكومة أو الهيئة التابعة لها(13).
إن هذه الرؤية تسعى إلى تغليب نظام الوصايا التي تفرض مركزية التدخل في أداة الهيئات المحلية , على نظام الرقابة الذي يسعى إلى تحقيق التوازن بين استقلالية حقة و مؤثرة للهيئات المحلية ,ورقابة من المركز للتحقق من حركة أداء هذه الهيئات ومدى التزامها بالمشروعية وموائمة تصرفاتها مع مقتضيات القانون , دون إن يمتد ذلك إلى التدخل في هذا الأداء .
فالاستقلالية بالنسبة للهيئات المحلية ليست مجرد شعار , وإنما ضرورة قانونية و سياسية ومؤسسية , تفرضها الحاجة لقيام إدارة فعالة سواء على النطاق الوطني أو المحلي , تسعى إلى استيعاب الخصوصيات , وطبيعة التحديات , وتنوع الحاجات بهدف تحقيق الأهداف بكفاءة و فاعلية . وهذا لا يمكن أن يتم في ظل دولة تسعى إلى اختزال نفسها في المركز فقط ,وتربط المحيط المحلي بسلاسل تقيد تفكيره و حركته و إبداعه .
وبناءًًًًً عليه فاستقلالية الهيئات المحلية ينبغي أن يتم صياغتها قانونا وممارسة في الاتجاه نحو تأسيس نظام للامركزية فعالة ومتوازنة ، لا تطغى فيها المركزية ولا تمس فيها وحدة الدولة وسيادتها ، ولا تهمل الخصوصيات ، وإنما تتوزع المهام بين مكونات الدولة ،وتتعدد المصالح وتتوازن في إطار الوحدة ، وتعمل على تحقيق الإدارة الحسنة Le bon administration بطريقة سهلة وميسرة وعادلة، وبأسلوب علمي فعال، والنهوض بالمجتمعات المحلية، والارتفاع بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي فيها (14) ، وتقوم على اعتبارات يمكن أن نجملها في الآتي :
1- وجود مصالح محلية متميزة عن المصالح القومية 0 فالدولة ليست نسق واحد تتوحد فيه الحاجات و الميول والنوازع و الرغبات 0 فالمجتمع يتميز دوما بالتنوع و بالتالي فهو بحاجة إلى التعدد في كل شيء ، لان هناك دوما مصالح تتعدد 0 والدولة بقدر ما تحقق فعاليتها من خلال ضمانها لهذا التعدد والتمايز ، فإن فعاليتها تزداد تأثيرا من خلال قدرتها على إدارة هذا التعدد والتمايز في إطار من التوازن بين المصالح والتكامل في تحقيق الأهداف .
2- إن بناء المجتمع بصورة سليمة وعادلة ومتوازنة لا يمكن أن يتم فقط بجهود الحكومة والإدارة المركزية ، دون الأخذ بعين الاعتبار بالقدرات الجبارة للجهود الاجتماعية ، ومهما كانت قدرات المركز ، فهناك استحالة لأن يقوم بكل شيء ويحقق الأهداف 0 وهنا لابد و أن تتكامل جهود الحكومة و جهود الهيئات المحلية في إطار من الوحدة و التمايز الذي يراعي الخصوصيات المحلية والاعتراف بتباين مصالح المجتمعات المحلية .
- إن بناء المجتمعات المحلية و تنميتها لايمكن أن يتحققا إلا بتأسيس نظام مؤسسي اجتماعي في النطاق المحلي , يفضي إلى القضاء على استئثار العاصمة على كل السلطات و الاختصاصات والإمكانات , والهيمنة على كل المرافق , بحيث تتاح الفرص للمجتمعات المحلية لإظهار مواهبهم في موطن إقامتهم , وتسخير الإمكانات في سبيل البناء و التنمية سواء على الصعيد المؤسسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي , وذلك في الاتجاه نحو تقليل الفوارق بين العاصمة و المحيط ، وبين المدن والريف , وتحقيق الفعالية في إنجاز المهام وتقديم الخدمات , وتخفيف الأعباء على السلطة المركزية في ظل تشعب وظائف الدولة و تعقدها و تنوعها ..
3- إن هذه الاستقلالية لا تكتسب مضمونها الفعال والمؤثر , إلا بجعل الانتخاب أساس الوجود القانوني للهيئات المحلية و قيادتها التنفيذية , بحيث يختفي عنصر التعيين سواء في المجالس المحلية أو للقيادة التنفيذية كالمحافظ أو مدير المديرية .إن الانتخاب هو مفتاح اللامركزية الحقة التي تؤسس مؤسسات محلية فاعلة و مؤثرة وتتجسد أهمية الانتخاب في كونه :-
أ- يعزز من مقومات الاستقلالية , بحيث تصبح الهيئات المحلية قادرة على التصرف في كل شيء وفي كل وقت دون وصاية , و بما يحقق في إطار السياسة العامة للدولة و القانون تحقيق المصالح المحلية .
ب - ربط الهيئات المحلية والقيادات التنفيذية بالناس ومصالحهم , لان ذلك سيجعلهم يدركون أن وجودهم واستمرارهم بينهم مرهون برضا الناخبين في الجماعات المحلية , مما يفرض عليهم أن يسخروا جهودهم و الإمكانات المتاحة في تنمية و تطوير الواقع المحلي , وإشباع حاجات الناس المادية والروحية . فالانتخاب سيجعل إذاًًالهيئات المنتخبة بصورة عامة و المحافظ المنتخب بصورة خاصة يتجهون بعينهم باتجاه الجماعات المحلية , و ذلك على عكس المحافظ المعين الذي سيتجه إلى إرضاء المركز أكثر من رضا المحيط المحلي الذي يقوده و يعمل فيه . وهذا ما يعطي الاستقلالية قوة دفع مؤثرة .
ج - ولتعزيز هذا الارتباط أكثر فأكثر لابد من إعطاء الحق للناخبين في سحب الثقة من العضو أو المحافظ المنتخب في حالة الإخلال بالواجب و ذلك وفق ضوابط صارمة, بحيث يقدم الطلب إلى المجالس المنتخبة نفسها أو للقضاء الإداري ليفصل في طلب العزل .
ثانياً: توزيع أعباء وظائف الدولة مقرونة بسلطة القرار:
إن توزيع وظائف الدولة لازالت تشكل إشكالية , هي من إفرازات النزعة المركزية التي تهيمن على رؤية و سلوك الإدارة المركزية في أغلب الدول , إن لم يكن جميعها .وإن كان ذلك بصورة متفاوتة , أي بين دول لازالت فيها النزعة المركزية تهيمن على التشريع والتنظيم و الممارسة , و دول مرنة تسعى إلى فرض مركزية مخففة . فالدولة لازالت مختزلة في المركز , والاختصاصات مكرسة أيضاً في المركز , و كذلك الأمر بالنسبة لسلطة القرار . والهيئات المحلية كوحدات تنفيذية صرفة تدور في فلك البنيان الإداري المركزي .
وفي ظل هذه الرؤية تتمركز الوظائف في المركز , باعتباره كل شيء في الدولة حتى في أبسط الأنشطة المحلية , بالرغم من بعده عن الواقع المحلي . بل أن هذه النزعة المركزية دفعت دول عديدة إلى إعادة النظر فيما أقر من اختصاصات للهيئات المحلية , و ذلك بالاستيلاء مجدداً على اختصاصات الهيئات المحلية , والاستئثار بكل الأنشطة أو معظمها سواءًًًً بتقليص اختصاصاتها , أو بجعلها غير قادرة على القيام بأعباء المسؤولية الملقاة على عاتقها ,وذلك بتقليص إمكاناتها المالية؛ففي بريطانيا نجد إن نظام توزيع أعباء الوظائف العامة يظل محكوماً بإرادة البرلمان الذي يملك من خلال القوانين التي يصدرها , أن يحدد هذه الاختصاصات بصورة تتسم بالتغيير الدائم . ومن سمات تحديد هذه الاختصاصات، أنها تتم على سبيل الحصر .
- فالبرلمان يمنح الاختصاص ومن ثم يحرم المجالس المحلية منها , بل يعطي القانون الوزير المختص سلطة تقدر كيفية ممارسة المجالس لبعض هذه الاختصاصات .
- قد تحدد هذه الاختصاصات لمجالس معينة دون الأخرى و قد تكون اختصاصات لمجالس أوسع ما هو محدد لمجالس أخرى(15).
وفي فرنسا , فإن تحديد اختصاصات الهيئات المحلية سواء على صعيد الأقاليم Region أو المديرياتDepartements أو البلدياتMunicipals فهو من صنع المشرع الفرنسي الذي وضع اختصاصات في الأساس خدمية و اجتماعية للبلديات و المديريات, و اختصاصات ذات طابع اقتصادي و اجتماعي بالنسبة للأقاليم إلى جانب اختصاصات خدمية في المجالات الاجتماعية (16).
وبالرغم من هذه الاختصاصات التي حددها القانون للهيئات المحلية إلا أن هناك قيود خاصة ذات طابع تنظيمي وردت على حرية المحليات , و هناك قيود عامة تمس هذه الحرية . فمن حيث القيود التنظيمية تلك التي تتعلق بمبدأ التخصص , أي الغرض الذي وجدت من أجله المحليات ألا وهو خدمة المواطنين وعلى قدم المساواة في نطاق هذه المحليات , أما المرافق القومية فهي من اختصاص السلطة المركزية 0 وكذلك الأمر مع ما يتعلق ببعض المسائل ذات الصبغة التجارية و الصناعية ، و ذلك بهدف عدم الاعتداء على حرية التجارة والصناعة و عدم منافسة الأفراد و الشركات الخاصة ،إلا في حدود الشروط الموضوعة بهذا الشأن (17).
أما القيود العامة , فهي الأكثر حدة و تمس مضمون اللامركزية التي تتم من خلال دور الوصايا التي يمارسها الوالي , و كذلك ما تجسده الممارسة الإدارية التي تسعى من خلال ستار التنسيق و المواءمة, إلى تضييق الخناق على اختصاصات المحليات . كما أن دور الوالي في فرنسا كما يقول شارل ديباش كان دوما دور إعاقة وشكل أكثر منه سلطة حث ودفع و تصرف (18). وبالرغم من الإصلاحات التي تمت في إطار المحليات إلا أن النزعة المركزية لازالت تلقي بظلالها على واقع المحليات , و غالباً ما تحرص الإدارة المركزية بأن تمركز الأعباء في يدها سواء بصورة مباشرة أو تحت ستار الممارسة العملية . فالوالي يمارس وصاية قوية , ويملك امتيازات سلطوية متميزة . هذا إلى جانب سلطاته الواسعة في مجال البوليس الإداري , أي الضبط الإداري التي تقع تحت سلطته مباشرة , فهو المسؤول الأساسي فقط لتأمين النظام العام (19).
فالوالي هو تجسيد حي لنقل المركزية إلى النطاق المحلي , و ليس فقط لممارستها من العاصمة و تحت شعار الإدعاء بالتنسيق و الموائمة تسعى الإدارة المركزية إلى اتخاذ تدابير و ممارسة سلطات تكون قد منحتها للهيئات المحلية . فباسم الكفاية و الفاعلية , فإلادارة المركزية تظهر نفسها كمعارض شرس للامركزية و غالباً ما يعبر عن هذا الموقف تحت ستار الحرص على المصلحة العامة (20).
ومع ذلك بدأ منذ عام 1982م تخفيف وطأة المركزية في جانب الرقابة ذلك بصدور القانون رقم 213لعام 1982م الذي جعل قرار الهيئات المحلية و الذي يجوز لها اتخاذه مباشرة , نافذ دون أن يملك الوالي حصر إيقافه أو تعطيله . و اصبح القضاء الإداري و كذلك الغرفة المحلية للمحاسبات , هما الجهات المختصة بالرقابة و إلغاء القرارات غير المشروعة يكون من اختصاص القضاء الإداري من خلال دعوى الإلغاء , و المسائل ذات الشأن المالي يكون من اختصاص الغرفة المحلية للمحاسبات (21).
أما في دول العالم الثالث , فنجد أن الظروف , وإن اختلفت في بعض جوانبها, إلا أنها متشابهة . فالمركزية هي القوت اليومي في حياة الدولة و المجتمع . وبإطلالة على تقرير هيئة الأمم حول إصلاح الحكم المحلي و الصادر عام 1971م , نجد تجسيداً حياً لرؤية هذه الدول أو معظمها حول فكرة الحكم و مدى تشبتها بالمركزية ومركزة السلطة و الأعباء .
وقد أشار التقرير إلى تجربة كينيا في هذا الصدد , و التي قامت بصياغة رؤيتها باتجاه المركزية من خلال القانون الصادر في عام 1970م , و الذي بموجبه تم نقل الكثير من اختصاصات المقاطعات للسلطة المركزية , و رافق ذلك أيضاً تقليص الموارد المتاحة لها وحرمان هذه المقاطعات من مواردها المالية , مما جعلها عاجزة عن الوفاء بأعباء المسؤولية .
ونفس هذا الاتجاه أظهره التقرير , بالنسبة لدول أمريكا اللاتينية التي أخذت في السبعينات بتعزيز قبضة السلطة المركزيــة على كل الأمور , و لم تترك إلا النـذر القليل من الاختصاصات بيد الهيئات المحلية (22). وفي التجربة المصرية و من خلال القانون رقم 43لسنة 1979م يمكننا إن نستخلص طبيعة توزيع وظائف الدولة بين المركز المحلي , وما حدد في هذا الإطار من اختصاصات للهيئات المحلية . فهذه الاختصاصات تتمحور في الأساس على الرقابة و الإشراف و التنفيذ و ليس على اختصاصات أصيلة مدعمة بسـلطة قرار فعلية . وعند تعداد هذه الاختصاصات في القانون نجد تبدأ بعبارات الرقابة – الإشراف – تنفيذ – اقتراح – دراسة.
فهي اختصاصات تتسم بالعمومية و لاتجسد سلطة فعلية وعندما يتعلق الأمر بسلطة الإقرار فنجدها مشروطة بموافقة مركزية , كفرض الرسوم ذات طابع محلي, وإقرار القواعد العامة للتعامل مع الجماهير, وتحديد وإقرار خطة المشاركة الشعبية للمعاونة في المشروعات المحلية0 وهنا تفرض المركزية على الهيئات المحلية وباسم الكفاءة, ومعالجات نقاط القوة و التطوير (23) وتزداد حدة هذه الإشكالية في مايمنحه القانون للإدارة المركزية من سلطات تصل إلى حد :-
- إبطال أو إيقاف بعض تصرفات الهيئات المحلية .
- الموافقة المسبقة لإجراء التصرف أو المصادقة علية بعد إجرائه .
- حق الحلول من قبل الإدارة المركزية بدلا من الهيئات المحلية للقيام بأعمال معينة .
- سلطة حل المجالس المحلية المنتخبة أو إيقافها 0
- جعل المحافظ المعين و الممثل للسلطة المركزية في المحافظة صاحب القرار الأقوى على النطاق المحلي , و الذي يملك أيضاً حق الاعتراض على قرار الهيئات المحلية (24).
وبالنسبة للتجربة اليمنية نجد أن هذه الإشكالية تأخذ مدها حيث سطوة المركزية تمتد بظلالها على صعيد الممارسة السياسية و الإدارية . و بالرغم أن الأساس الدستوري للبناء المحلي يتحدث عن سلطة محلية تملك سلطة القرار , حيث ينص الدستور في الباب الرابع الذي اعتبر المجالس المحلية جزء من سلطة الدولة إلا أن قانون الإدارة المحلية رقم 4 لسنة 2000 م و المعدل بالقانون رقم 5 لسنة 2000 م جسد موقفا مركزياً تسعى الدولة على تخفيف وطأته من خلال توسيع نطاق مصادر الموارد المالية للجهات المحلية , إلا أن ذلك يظل الحلقة الأضعف في ظل سلطات واسعة للمركز و محافظ معين ذو صلاحيات واسعة تدخل المجالس المحلية المنتخبة تحت عباءة سلطاته و تأثيره ,وقد جسد القانون دور الأجهزة المركزية في مواجهة المجالس المحلية من خلال الرقابة التي يمارسها المركز حيث تمتد إلى سلطة الاعتراض على قرارات المجالس المحلية , إلى المصادقة و الموافقة على قرارات هذه المجالس , بالإضافة إلى السلطات الواسعة الممنوحة للمحافظ في مواجهة المجالس المحلية .(راجع المواد 144و292/ أمن القانون رقم 4لسنة 2000مو المعدل بالقانون رقم 55لسنة 2000 م بشأن السلطة المحلية ، واللائحة التنفيذية للقانون 0
وتأسيسا على ما تقدم , نجد أن وظائف الدولة في معظمها تتمركز في المركز , بالصورة التي تجعل اللامركزية محكومة بنزعة المركزية . و هذا ما يدعو إلى تأسيس توازنا عقلانياً في توزيع أعباء وظائف الدولة , بما يحقق الكفاية و الفاعلية في أداء إدارة الدولة على الصعيد المركز و المحلي .
و يقصد بالتوازن هنا , أن يتم تحديد وظائف الدولة حسب طبيعتها و توزيعها بما يتلاءم و دور و مكانة كل من المركز و المحلي . و هذا ما يفرض تصنيف وظائف الدولة على أساس الإستراتيجيات وتلك الوظائف الاعتيادية . فتترك الوظائف المتعلقة بالإستراتيجيات للإدارة المركزية , لكونها تتعلق برسم السياسات وبناء المشروعات الكبرى وتأمين أسس الخدمات الإستراتيجية , مثل رسم السياسات لتطوير التعليم من مقومات و مناهج و مراكز بحث و الجامعات ... الخ , أو رسم السياسية وتأمين المقومات لتطوير التطبيب و حماية المجتمع من الأوبئة الخطيرة و السياسيات الدوائية , أو رسم السياسات لتحقيق الأمن الغذائي من خلال الإنتاج الوطني ... الخ , وترك تسير المؤسسات التعليمية الأساسية و المستشفيات و المشروعات الاقتصادية العادية و الحرفية والطرقات الداخلية وتجميل المدن و تموينات الكهرباء والماء وغيرها , من المشروعات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية , وما يتعلق بتطويرها , للهيئات المحلية , لكونها الأقرب إلى استيعاب ذلك والأقدر على تسييرها .
إن توزيع الأعباء تعبر عن نفسها في مفهوم المشاركة بين مكونات الكيان الواحد , وذلك للوفاء بحاجات الدولة على النطاق الوطني و النطاق المحلي , بما تجعل هذه المشاركة وسيلة لتعزيز الكفاءة و الفاعلية في الأداء ويجعل تنمية المحيط المحلي أساس للتنمية الوطنية الشاملة , تراعي فيها الخصوصيات المحلية والمقتضيات الوطنية .
وهنا ينبغي استيعاب هذه المشاركة , لكونها تندرج في جدول أولويات البناء المؤسسي الهادف إلى تحقيق التنوع في الإدارة , لتصبح إنمائية قادرة على أن تسبر كل مجالات التغيير و فعالة مؤثرة قادرة على استيعاب الحاجات و الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة .
كما أن هذه المشاركة تؤكد استيعاب حقيقة مفادها أن وظائف الدولة أخذت مدى من الاتساع يستحيل أن تقوم الإدارة المركزية , بكل أو معظم أعباء هذه الوظائف , لأنها و إن كانت على قمة إدارة الدولة , إلا أنها الأضعف قدرة على الوفاء بكل حاجات الدولة , لكونها الأبعد عن موطن هذه الحاجات و المشكلات . مما يفقد أداء الإدارة المركزية الفاعلية والتأثير 0 وهنا تكمن أهمية المشاركة التي تقضي بأن توزيع أعباء هذه الوظائف بصورة عقلانية و مدروسة بين المركز و كل الهيئات المحلية في مواطنها .
المبحث الثاني: الرقابة كأداة حث وتفعيل:
إذا كان من مقتضيات الكفاءة و الفاعلية في إدارة الشؤون المحلية , أن تتمتع الهيئات المحلية باستقلالية حقه , تحمل كل أبعاد القوة والتأثير في الإقرار والتصرف , فإن ذلك لابد وأن يقترن بوجود نظام فعال للرقابة يؤمن إلى جانب التحقق من سلامة تصرفات الهيئات المحلية والتزامها بالسياسات و القانون النافذة ,التوازن في المصالح والترابط في الغايات و الوحدة في الكيان .
وواقع الممارسة الرقابية على المجالس المحلية ليس متجانساً في مختلف الدول . فالرقابة في شقها الإداري , نجدها في فرنسا تتسم بالشدة والنزعة المركزية . و كان الوالي افضل ترجمة لهذه الصورة من صور الرقابة التي تصل إلى حد التدخل . وجاء القانون رقم 213لسنة 1982م والمعدل بالقانون رقم 623لسنة 1982م ليلغي نظام الوصايا الإدارية والمالية في صورتها الصارمة , ونقل سلطة الرقابة على الهيئات المحلية إلى القضاء الإداري والغرفة المحلية للمحاسبات (25).
وفي بريطانيا , ولأسباب تاريخية , فإن الهيئات المحلية تتمتع بحرية أوسع , دون أن يلغي ذلك الإدارة المركزية في الحياة المحلية . ف0هناك من الرقابة الإدارية التي تمارس على الهيئات المحلية في صورة تصديق الوزير المختص على لوائح الضبط الإداري التي تصدرها هذه الهيئات , وكذلك على بعض المشروعات المحلية , والمشروعات الإنسانية كالطرق والمجاري والمباني .
أما في الجانب المالي فأن الرقابة المركزية تتم بسبب الإعانات المالية الحكومية , وذلك من خلال فحص ميزانية المشروع المطلوب إعانته , وكذلك الأمر في حالة الاقتراض من السلطة المركزية أو فرض رسوم محلية إضافية (26).
وفي مصر تتسم الرقابة الإدارية على الهيئات المحلية بسعة نطاقها , و تقوم على نظام الوصايا , وابتداء من دور الحكومة مروراً بالوزراء المختصين , انتهاء بالمحافظ المعين الذي يملك سلطة الوصايا على المجالس المحلية , تشكل صورة الرقابة الإدارية على هذه المجالس في مصر(27).
وفي الجمهورية اليمنية , فان الرقابة المركزية على المجالس المحلية تتم إطار اتساع سلطات المركز ومفهوم الوصاية , حيث نجد تجسيداً قانونياً لذلك في قانون السلطة المحلية رقم 44لعام 2000م والمعدل بالقانون رقم 55لسنة 2000م واللائحة التنفيذية للقانون .
وتتسم هذه الرقابة التي تمارسها الحكومة و الوزراء المختصين و المحافظين بامتدادها على كافة مجالات نشاط الهيئات المحلية , و التي حددها القانون في صيغة التصديق والاعتراض على تصرفات هذه الهيئات 0أما الرقابة في شقها القضائي , فتمارس في بريطانيا من قبل القضاء العادي منذ الأساس وفي فرنسا من قبل القضاء الإداري و ذلك منذ عام 1982م. وصورة هذه الرقابة تتمثل في قيام الحكومة أو الإدارة المركزية بالتوجه إلى القضاء في حالة مخالفة الهيئات المحلية لأحكام القانون وذلك لإجبارها على احترامه . وأن تقديم الدعوى أمام القضاء العادي يعود إلى طبيعة النظام القضائي الموحد الذي يرى الدولة وهيئاتها كالأفراد يخضعون للقانون الخاص وبالتالي ينطبق عليها ما ينطبق على الأفراد من الطعون المقدمة أمام القضاء (28).
أما في فرنسا , فالأمر يستند إلى نظام القضاء المزدوج الذي يعتبر الجهة القضائية للفصل في كل نزاع إداري , و بحكم أن الهيئات تعتبر من أشخاص القانون العام ، فالرقابة القضائية على هذه الهيئات يمارسها القضاء الإداري ليس فقط بمناسبة طعون الأشخاص ضد قرارات المجالس , و لكن أيضاً بمناسبة قيام المحافظ بإحالة تصرفات الهيئات المخالفة للقانون إلى القضاء الإداري من أجل إلغاء هذه القرارات . و هذا ما جسده القانون رقم 213لسنة 1982مو المعدل بالقانون رقم 623لسنة 1982م.
أما في جمهورية مصر العربية فالرقابة القضائية , و إن تمت فأنها تتم بمناسبة طعون الأفراد ضد قرارات تمس مراكزهم القانونية و ذلك في إطار دعوى الإلغاء أو دعوى التعويض . و هكذا الأمر في الجمهورية اليمنية . و بالتالي لم تصل رقابة القضاء في هذه الدول إلى الأسلوب السائد في بريطانيا و كذلك في فرنسا بعد عام 1982م.
أما الرقابة البرلمانية , و إن كانت تتم بمناسبة إصدار البرلمان للتشريعات , و ما يمكن أن يتم من تعديلات لاختصاصات الهيئات المحلية وفقاً لمقتضيات الحاجة أو رؤية السلطة المركزية , كما يمكن أن تظهر عند استجواب الوزير المختص أو مناقشة الميزانيات المحلية .
إلا أن حدود هذه الرقابة في بريطانيا ضيقة للغاية , لان من النادر أن يتدخل البرلمان للمراقبة المباشرة لكونه لا يملك الآلية التي تمكنه من مراقبة المجالس المحلية , وهكذا الأمر في فرنسا حيث يتم ذلك عن طريق متابعة نشاط هذه الهيئات المحلية و توجيه الحكومة إلى أوجه القصور عن طريق الاستجواب و أما في مصر , فتمتد هذه الرقابة إلى حد حق أعضاء البرلمان حضور جلسات المجالس المحلية و المشاركة وتقديم الاقتراحات و الأسئلة و طلبات الإحاطة دون أن يكون لهم حق التصويت . هذا إلى جانب ما يقدم من تقارير سنوية من قبل وزير الحكم المحلي أمام البرلمان . و الرقابة , بالرغم من أهميتها لكونها مدعوة لكبح جماح من يسعى للخروج عن أحكام القانون , إلا أنها ينبغي أن تجسد التوازن بين كيانات الدولة الواحدة بالصور التي تميز بين الرقابة والتدخل .
والرقابة في ظل السلطات الواسعة للإدارة المركزية والمجسدة في سلطات التصديق والاعتراض ....الخ , على تصرفات المجالس المحلية ، تختلف عن تلك الرقابة التي تمارس على هيئات محلية تملك سلطة الإقرار الشامل في مجال الاختصاصات المحلية . فالأولى تمارس على المجالس لوحدات منفذة لما توافق علية الإدارة المركزية , في حين أن الثانية تمارس على ما تقره هذه الهيئات المحلية من قرارات . وكلما اتسعت اختصاصات الهيئات المحلية كسلطة إقرار , كلما ينبغي أن تعزز الرقابة , و لكن أن تكون رقابة أداء تراقب كيف تتصرف هذه الهيئات , حيث ينبغي ألا تمتد هذه الرقابة لتتحول إلى أداة إعاقة تشل حركة المجالس المحلية . فالتدخل يتم عند خروج المجالس عن مقتضيات القانون , وهنا لابد من آلية تفرض احترام القانون على المجالس بإلغاء تصرفاتها غير المشروعة , وفي حالة رفضها أن يكون القضاء هو الفيصل .
وفي هذا الاتجاه ينبغي أن تعزز الرقابة القضايئة لتمارس رقابتها على المجالس المحلية ,هذا إلى جانب أنها جهة تفصل بين المركز والمحلي في حالة تنازع الاختصاص,أو حجب الإدارة المركزية لاختصاصات أو إمكانات مالية ترى المجالس أنه من حقها . فالرقابة بقدرما تكون أداة عرقلة وإعاقة وشلل , فإنها يمكن أن تكون أداة حث وتفعيل, وذلك عندما تمارس لتبيان نقاط القوة والضعف في ممارسة الهيئات المحلية , لتتخلص من الضعف وتنمي نقاط القوة وترفع من قدراتها. وهنا لابد أن تستوعب الإدارة المركزية و الهيئات المحلية , بأنهم ليسوا أطراف متنافسة متناحرة تتسابق لاغتنام الفرص , وإنما أطراف لكيان واحد , يكمل كل منهما الآخر تحقيقا للأهداف المشتركة في بناء الدولة و المجتمع .

نتائج وتوصيات:
و بعد .. نستخلص من هذه الدراسة أن اللامركزية أضحت ضرورة قانونية و سياسية و حضارية , ولايمكن أن يتم صياغة إدارة فعالة دون تعزيز مقوماتها . و مع ذلك فاللامركزية لازالت بين بنيان الطعون الذي يدور في فلك المركزية , وعتبة الانطلاق نحو بنيان الحكم على النطاق المحلي . ونجد مثال فرنسا التي تأصل نظامها على المركزية منذ بيروقراطية لو