الحكم الشرعي لاستقطاع الأعضاء وزرعها
تبرعاً أو بيعاً
د. أمين محمد سلاّم البطوش
المصدر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد
53، ص317-34
مقدمة
إن
الله سبحانه وتعالى خلق هذا الإنسان وكرمه على خلقه ورباه على عينه، فهو الذي يقول
في محكم تنزيله مبرهناً على هذه الحقيقة التي لا مراء فيها: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي
آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}[1]. ويقول سبحانه وتعالى:
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا
وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ}[2]. فلما تقدم الإنسان في العلوم ومن بينها علم الطب والجراحة اختلف الناس
في استقطاع الأعضاء وزرعها بين مبيح ومانع، وما كان لشيء أن يجد أو يستجد إلا وله حكم
في كتاب الله تعالى لقوله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[3]،
نتيجة لذلك فإن هذا البحث يقدم محاولة لبيان ما في هذا الأمر من حكم شرعي.
وقد
جعلت هذا البحث من مقدمة وفصل واحد يحتوي ثمانية مباحث كما يلي:
فصل:
جسم الإنسان – كرامته وامتهانه:
ويحتوي
هذا الفصل ثمانية مباحث:
المبحث الأول: أدلة حرمة جسم الإنسان.
المبحث الثاني: إباحة التطبيب والجراحة.
المبحث الثالث: أهمية علم التشريح.
المبحث الرابع: مدى شرعية التشريح.
المبحث الخامس: قواعد الطب الإسلامي.
المبحث السادس: حكم الشرع في بعض الأعمال المستحدثة في الطب والجراحة.
المبحث السابع: حكم الانتفاع بأجزاء الآدمي في حالات الاضطرار.
المبحث الثامن: فتاوى العلماء في هذه المسألة.
ثم الخاتمة. راجياً من الله تعالى أن أكون قد وفقت للصواب فيه.
المبحث الأول: أدلة حرمة جسم الإنسان
إن
الله تعالى لما خلق الإنسان خلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وطرد
إبليس من أجله لعصيانه أن يسجد لآدم، وأسكن آدم الجنة، وعلمه الأسماء كلها، وجعله خليفته
في الأرض، فإن كان الإنسان لربه مطيعاً مخبتاً كان أفضل من الملائكة، وإن عصاه كان
أدنى من البهائم، كل هذا دليل على التكريم، فهل تراه يسلمه ويذله ويخزيه ما دام يسير
طبقاً لخط السير الذي رسمه له ربه، كلا وحاشا أن يكون ذلك.
فها
هو سبحانه يقول في حقه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[4] ويخلقه في أحسن صورة:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[5] وتتجلى فيه عظمته سبحانه
فيقول: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[6]. من أجل ذلك فقد تولاه ربه،
وأوصى باحترامه في شرائعه، وحرم قتله بغير حق قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}[7] وهذه قاعدة تحرم مساسه بغير حق. ورسول
الله صلى الله عليه وسلم قد بين في سنته أن أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء،
كما توعد الله قاتله بالعذاب يوم القيامة قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ
لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[8] هذا في الآخرة بالإضافة إلى عقوبة القصاص في الدنيا والحرمان
من الميراث إن كان القاتل من ورثة المقتول.
فإذا
كان قتل المسلم بغير حق لا يحتمل الإباحة، فكذلك فإن قطع عضو من أعضائه لا يحل ولو
كان بإذن المجني عليه[9] كما يرى ابن قدامة في المغني[10] ((بينما يرى الحنفية أن أعضاء
الإنسان كالمال بالنسبة لصاحبها)) وليس للإنسان أن يقتل نفسه قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[11] أو يتلف أعضاء جسمه قال تعالى:
{وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[12] لأن الحق في سلامة البدن حق
مشترك بين العبد وبين ربه[13]، وقد بلغت حرمة جسد الإنسان في نظر فقهاء الإسلام حدًّا
جعلهم يرون دفن ما يسقط منه كشعر أو ظفر[14].
قال
القرافي في الفروق ما نصه: "إن حق الله تعالى لا يتمكن العباد من إسقاطه والإبراء
منه بل إن ذلك يرجع إلى صاحب الشرع"[15].
ويضيف
القرافي: "حرم الله القتل والجرح صوناً لمهجة العبد وأعضائه ومنافعها عليه ولو
رضي العبد بإسقاط حقه في ذلك لم يعتبر رضاه ولم ينفذ إسقاطه"[16].
والإنسان
منذ بداية تكوينه وهو جنين في بطن أمه أدركته حماية الشرع، فالقرآن يؤرخ له ويقول:
{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا
* إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ
سَمِيعًا بَصِيرًا}[17]. وألزم الشرع الإسلامي من جنى على امرأة حامل فأسقطت جنينها
بغرة عبد كغرامة دنيوية هذا إن سقط ميتاً، أما إن سقط حياً ثم مات ففيه الدية كاملة.
حتى أن الأم لو تسببت بإسقاط جنينها بواسطة غيرها لزمتها دية الجنين كذلك، ولم يسلم
من أعان على هذا الأمر من تبعة مغبته.
أضف
إلى ذلك أن المرأة الحامل لو كان عليها القصاص أو الحد فإنه لا يجوز التنفيذ حتى تتم
حملها وتضعه وترضع وليدها وتربيه إلى الوقت الذي يستغني بنفسه عنها سواء كان الحد بالنفس
أو الأطراف[18]. ويجوز في الشرع الإسلامي شق بطن الأم الميتة لاستخراج ولدها من رحمها،
لأن مصلحة حفظ حياته أعظم من مفسدة انتهاك حرمة بدنها الميت[19].
وقد
أجمعت المذاهب الإسلامية على تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح إلا لعذر، أما قبل نفخ الروح
فإن العلماء قد اختلفت أقوالهم بين الإباحة والكراهة والتحريم[20]. ولكن إن ثبت بطريق
موثوق أن الجنين يؤدي إلى وفاة أمه فيجب إسقاطه تطبيقاً لقاعدة ارتكاب أخف الضررين،
وهذا يعتبر تضحية بالجزء (الفرع) في سبيل إنقاذ الكل (الأصل)[21].
وأما
بعد الموت فقد تولى الشرع الإسلامي حفظ الإنسان وحمى جثته من عبث العابثين، فالرسول
صلى الله عليه سولم يقول: ((كسر عظم الميت ككسره حياً)) وفي رواية: ((كسر عظم الميت
ككسر عظم الحي في الإثم))[22]، ومن أراد المزيد من هذه الأدلة فعليه بالرجوع إلى المذاهب
الفقهية وما كتب في أبواب الجنائز، فسيتبين له الأمر بجلاء ووضوح عظيم الحرمة في مساس
الأجساد الميتة.
المبحث الثاني: إباحة التطبيب والجراحة
بالرغم
مما تقدم بيانه من تعظيم الشرع لحرمة جسم الإنسان، فإن ضرورة العلاج أو الحاجة إليه
تفسح المجال وتبرر المحظور الشرعي. فالتداوي أمر مأمور به شرعاً حفظاً لهذا الإنسان،
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع
له دواء غير داء واحد الهرم))[23].
وتعلم
الطب في الإسلام فرض من فروض الكفاية التي يتعين على طائفة من الأمة القيام به وإلا
أثمت الأمة جميعاً[24]. وهذا العمل وإن كان من فروض الكفاية فإنه يحتاج إلى شروط إليك
بعضها:
1
- أن يباشر العمل الطبي مختص فيه مع كون الحاجة ملحة لنتجنب من لا يحذق هذا الفن، فلابد
من كونه حاذقاً بصيراً عارفاً[25]. فإن كان غير ذلك فما يحصل من أضرار على يديه كان
فيها ضامناً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن))[26].
2
- أن يكون القصد العلاج والرعاية للمصالح المشروعة مع المعرفة بأن الطبيب لا يهدف من
عمله غرضاً خاصاً ولا البحث عن الكشف العلمي، بل جل هدفه علاج المريض ومنفعته.
3
- أن يمارس عمله الطبي وفقاً لأصول صنعة الطب وإلا كان ضامناً خشية أن يتولد ما هو
أعظم.
4
- إن كان المريض قاصراً، يشترط الإذن من وليه[27].
المبحث الثالث: أهمية علم التشريح
إن
للتشريح أهمية كبيرة إذ بدونه لا يعرف الطبيب مكان العضو ولا كيفية اتصاله بالبدن،
كما أن للتشريح أهمية أخرى وذلك في الكشف عن السبب الحقيقي للموت في قضايا الجنايات،
هذه الأهميات تقف أمام نظرة الناس إلى الجثة الآدمية نظرة ملؤها التقديس والحرمة، ولقد
قام علماء من المسلمين القدامى بتشريح الجسم الإنساني وإن كانوا لم يقولوا صراحة بجواز
التشريح كابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية الصغرى وابن الهيثم الذي قام بتشريح
العين[28].
ولقد
استشهد الفقهاء في مواقف عديدة على تصحيح آرائهم على نتائج علم التشريح في زمانهم.
أما قبله فكأنها إباحة غير صريحة لهذا العلم.
وإليك
أقوال المذاهب في هذا الموضوع:
الحنفية:
((حامل ماتت وولدها حي يضطرب، يشق بطنها من الأيسر ويخرج ولدها... ولو مات الولد في
بطنها وهي حية وخيف على الأم قطع وأخرج بخلاف ما لو كان حياً))[29].
وكذلك
لو بلع مال غيره ولا مال له هل يشق ؟ قولان، الأول: نعم وإن كانت حرمة الآدمي أعلى
من صيانة حرمة المال، إلا أنه أزال حرمته بتعديه.
وجاء
في الأشباه والنظائر لابن نجيم تحت قاعدة (الأشد يزال بالأخف) أنه يجوز شق بطن الميتة
لإخراج الولد إن كانت ترجى حياته بخلاف ما إذا ابتلع لؤلؤة فمات فإنه لا يشق بطنه لأن
حرمة الآدمي أعظم من حرمة المال.
المالكية:
اختلفوا في شق بطن المرأة، وقيده البعض بأن يكون في السابع أو التاسع أو العاشر[30].
الشافعية:
إذا ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي يشق جوفها لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه
ما إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت، واشترطوا لذلك حياة الطفل بأن يكون له ستة شهور
فصاعداً[31].
الحنابلة:
إذا ماتت امرأة حامل شق جوفها، فإن احتملت حياته وتعذر إخراجه بالطريق المعتاد قال
البعض يشق، والمذهب لا، لا تدفن حتى يموت[32].
الظاهرية:
إن ماتت امرأة حامل والولد يتحرك قد تجاوز ستة أشهر فإنه يشق بطنها طولاً ويخرج الولد،
ويبرر شق البطن في هذه الحالة بأنه ارتكاب لأخف الضررين وأدعى لتحقيق المصلحة.
فمن
أقوال الأئمة المتقدمة يتبين لنا جواز شق بطن الميت من أجل إنقاذ الحي فمصلحة إنقاذ
الحي مقدمة على مفسدة هتك حرمة الميت، ولكن مما تقدم رأينا أن بين الحي والميت تعلقاً
وارتباطاً لا يسهل انفكاكه، فهل بالإمكان أن نعدي هذا الجواز إلى ما هو أبعد من ذلك
؟ هذا ما سنصل إليه إن شاء الله ولكن بشروط منها: موافقة ذوي الشأن، ووجود ضرورة تتطلب
التشريح وعدم التمثيل في الالمبحث الرابع: مدى شرعية التشريح
لما
كانت شريعة الإسلام تنزيلاً من حكيم حميد عليم بما كان وما سيكون، أنزلها على خير الخلق
وخاتم الأنبياء والمرسلين، فقد جعلها سبحانه قواعد كلية، ومقاصد سامية شاملة، فكانت
تشريعاً عاماً خالداً صالحاً لجميع طبقات الخلق في كل زمان ومكان.
إن
كثيراً من الجزئيات والوقائع التي حدثت لا نجدها منصوصاً عليها نفسها في الكتاب أو
السنة، وربما لم تكن وقعت من قبل فلا يعرف لسلفنا الصالح فيها حكم، لكن من البحث العلمي
يتضح أنها مندرجة في قاعدة شرعية عامة، ومن ثم يعرف حكمها.
ومسألة
التشريح لجثث موتى بني آدم لا تعدو أن تكون جزئية من هذه الجزئيات التي لم ينص عليها
في نص خاص، فشأنها شأن الوقائع التي جدت، لابد أن تكون مشمولة بقاعدة كلية من قواعد
الشريعة وشمولها وصلاحيتها لجميع الخلق، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[33]
وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى
اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[34] وقال تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}[35].
إن
من قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها العامة أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما، وإذا
تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفادياً لأشدهما، ومسألة التشريح داخلة في هذه القاعدة
على كل حال، فإن مصلحة حرمة الميت – مسلماً كان أو ذمياً – تعارضت مع مصلحة أولياء
الميت والأمة. فالمتهم عند الاشتباه مثلاً يطلب تشريح جثة المجني عليه لإثبات الجناية
أو نفيها وفي هذا حفظ للحق وإعانة لولي الأمر على ضبط الأمن والتحقق من المجرمين لردع
من تسول له نفسه ارتكاب جريمة يظن أنها تخفى على الناس. كما أن الشخص قد يموت موتاً
طبيعياً وفي التشريح تبرئة للمتهم، أضف أنه يمكن الكشف على الأمراض السارية بواسطة
التشريح، وبذلك تحفظ الأمة من الأوبئة والأمراض السارية الخطيرة. من هذا تبرز أهمية
علم التشريح، وما دام أنه جزء من علم الطب فالعلم به إذن من فروض الكفاية التي لابد
لجماعة من المسلمين معرفته والتدرب عليه. ولذلك فإن التدرب على الجثث الحقيقية يعرف
الطبيب بمكان العضو المصاب وأوصافه، خلافاً لمن رأى التدرب على الجثث غير الآدمية لاختلاف
الأوصاف وعدم التمكن من الوصول إلى الحق في هذا الموضوع.
المبحث الخامس: قواعد الطب الإسلامي
قواعد
الطب الإسلامي تؤخذ من القواعد الكلية في الفقه الإسلامي.
أولاً - قواعد التصرف في الحق لسلامة الحياة والجسد:
أ
- حق الله تعالى وحق العبد في نفس هذا الأخير يوكلان لمن ينسبان إليه ثبوتاً وإسقاطاً.
ب
- لا يجوز لإنسان أن يتصرف في حق الغير إلا بإذنه.
ج
- قتل الإنسان أو فصل عضو من أعضائه لا يحتمل الإباحة بغير حق.
د
- لا يملك الإنسان إسقاط حقه، فيما اجتمع فيه حق الله تعالى، لعدم جواز تصرفه في حق
الله تعالى.
هـ
- يقدم ما كان فيه حق الله وحق العبد على ما كان فيه حق العبد وحده[36].
و-
حق الله مبني على التسهيل بخلاف حق الآدمي فإنه مبني على التشديد إلا عند الضرورة[37].
ثانياً: قواعد المفاضلة بين المصالح والمفاسد:
1
- جواز ارتكاب أخف الضررين دفعاً لأعظمهما، فالواجب تحصيل أعلى المصلحتين، فإن تعذر
رخص في التقديم والتأخير بينهما، ومثاله من صال على نفسين مسلمتين فلم نتمكن من دفعه
عنهما فإننا ندفع عن أي واحدة منهما[38].
أ
– إذا اجتمعت المفاسد في عمل واحد فإنه لا تفاضل بينها لأن الواجب درء الجميع، فإن
تعذر ذلك درأنا الأفسد فالأفسد[39].
ب
– إذا اجتمعت المصالح والمفاسد، فالمطلوب تحصيل المصالح ودرء المفاسد جميعاً إن أمكن،
فإن تعذر ذلك وكانت المفسدة أعظم من المصلحة أو مساوية لها درأنا المفسدة وفوتنا المصلحة
لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح[40]. أما إن كانت المفسدة أعظم من المصلحة التي
تقابلها فتقدم المصلحة[41]، من ذلك مثلاً أن مصلحة إنقاذ الحي أولى بالرعاية من مفسدة
انتهاك حرمة الموتى[42] بشرط أن تكون المصلحة راجحة على المفسدة وأعظم منها.
ج
– يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام[43].
2-
الضرورات تبيح المحظورات:
أ
– تقدر الضرورة بقدرها[44].
ب
– يجب أن تكون المصلحة التي تقتضيها الضرورة أعظم من مفسدة المحظور.
ج
– الضرر لا يزال بمثله[45]، فلا يجوز مثلاً لشخص قتل غيره ليدفع الضرر عن نفسه. وذلك
بأخذ علاجه أو غذائه الذي هو بحاجة إليه بمثل حاجته هو.
د
– الحاجة تنزل منزلة الضرورة سواء كانت الحاجة عامة أو خاصة[46].
هـ
- الاضطرار لا يبطل حق الغير[47].
ثالثاً: قواعد مزاولة العمل الطبي والجراحي:
1
- حق التطبيب والجراحة لأن الشرع أجاز التداوي، فهذا يتضمن جواز ممارسة الطب.
2
- جواز ممارسة الطبيب للجراحة لا تعطيه حق تشريح أجساد الآخرين إلا بالرضا من المريض
باستثناء حالات الاستعجال والضرورة.
3
- مراعاة أصول العلاج في حفظ الصحة الموجودة للمريض ورد المفقودة بقدر الإمكان وإزالة
العلة أو تقليلها بقدر الإمكان.
4
- استعمال طرق العلاج الأسهل فالأسهل.
5
- لا مسئولية على الطبيب فيما يجوز له فعله.
6
- لا يتقيد عمل الطبيب بشرط السلامة، لأن المطلوب منه القيام بالمعتاد ما دام رضي المريض
أو وليه بذلك.
المبحث السادس:
حكم الشرع في بعض الأعمال المستحدثة في
الطب والجراحة
الإسلام
بطبيعته يشجع البحث العلمي ويدعو إليه فالله تعالى يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}[48]. إلا أن للبحث العلمي في بعض الأحيان
هفواته التي لا تغتفر، وشطحاته التي لا تصيب الهدف، وعلى ذلك لابد من تمحيص النتائج
على ضوء القواعد التي وضعها صاحب الشرع سبحانه وتعالى، العليم بأحوال عباده فإنه كما
قال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[49].
قطع
الأعضاء البشرية لغرض الزرع:
لما
كان مما يجوز للطبيب أن يعمل مبضعه في جسم المريض من أجل علاجه وإبعاد الأذى عنه، فهل
له مثل ذلك ولكن في جسم سليم ليخلص جسماً آخر هو بحاجة إلى العلاج ؟ أي هل يجوز أن
يكون علاج المريض جزءاً أو قطعة أو عضواً من جسم سليم ؟ فيكون الأول معطياً والآخر
آخذاً أو متلقياً.
بالنسبة
لزرع عضو في جسم المريض من أجل إنقاذه لا إشكال عليه في الشريعة الإسلامية، فإنه علاج
مباح ما دام حصل إذن الشرع بالعلاج وإذن المريض بالتداوي وتقبله ولكن الصعوبة كل الصعوبة
في قطع العضو من الحي أو الميت.
فلنتكلم
أولاً على استقطاع عضو حي لإنقاذ حي بحاجة إلى ذلك العضو:
أول
ما نلجأ إليه في مثل هذا الأمر هو البحث في الشريعة الإسلامية قبل غيرها، فإن أجازت
هذا العمل ترتب عليه الجواز من الناحية الطبية وإلا فلا، والحقيقة أنه لا نص على هذه
القضية بصراحة في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة، بل هي قضية تندرج تحت غيرها
من القواعد الكلية كما أسلفت فيما سبق، والقواعد الفقهية تراعي ثلاثة أمور في الغالب
هي:
دينية:
تتصل بمدى حرمة الانتفاع بأجزاء الآدمي حياً أو ميتاً.
فقهية
أو قانونية: تتعلق بالوسيلة الفنية التي يمكن بواسطتها بلورة هذا الانتفاع.
تزاحم
المصالح: أي المفاضلة بين المصالح المتزاحمة.
نجد
أن الفقهاء أجازوا الانتفاع بلبن الظئر، وذلك بتأجيرها أو استئجارها، فقد اختلفوا في
الناحيتين الأولى والثانية، ولكن هذا الاختلاف دل على سعة الأفق والتوقعات المستقبلية
لما يجد ويستحدث، مما يحفز المختص في أن يبحث مدى شرعية استقطاع الأعضاء من جسم حي
أو ميت لغرض الزرع، وعليه فلابد من الموازنة والترجيح بين أدلة الإباحة وأدلة الحظر:
هل جسم الإنسان من الأموال وهل هو ملك لصاحبه ؟
والصحيح
أن جسم الإنسان ليس مالاً له ولا يجوز بيعه.
فلا
الشرع ولا الطبع ولا العقل يجيز بيع الأجزاء الآدمية، لأن الله كرمه وميزه عن غيره،
والأصل في المبيعات أن تكون أشياء خارجة عن الإنسان، وأعضاؤه ليست خارجة عنه[50]. وإذا
أراد الناس أن يقولوا: ولكن الإنسان تضمن قيمته إذا قتل، قلنا: إن هذا استدلال فاسد
لأن الأصل في الضمان في الفقه الإسلامي يتمثل في القضاء الكامل للمضمون صورة ومعنى
وإن جاز في بعض الحالات فإنه على سبيل الاستثناء[51]. وهو قول الجماهير من أهل العلم.
وعند
الحنفيه: أن أطراف الإنسان تعتبر من قبيل الأموال بالنسبة لصاحبها[52]، ومعنى الأطراف
هنا ينسحب على أي عضو أو جزء من الأجزاء الإنسانية معزولاً عن باقي الأعضاء التي لا
يجوز التصرف بمجموعها.
ولكن
الإنسان يستطيع أن يضحي بجزء من أجزاء بدنه لإنقاذ حياته[53]، فهي كالمال خُلق وقاية
للنفس[54]. ونجد أن الحنفية أنفسهم أجازوا العقد على منافع الأشياء – بالإجارة – بالرغم
من أن المنافع ليست من الأموال عندهم، وهو استحسان تبرره الضرورة[55].
هل أجزاء الإنسان المنفصلة عنه طاهرة ؟
إن
من شروط صحة العقد أن يكون محل العقد طاهراً منتفعاً به طبعاً وشرعاً[56]، فلا يصح
العقد على نجس أو محرم.
لم
يتفق الفقهاء على طهارة الجزء المنفصل، فعند الحنفية أن ما انفصل عن جسم حي وكان فيه
دم فهو نجس لا يجوز الانتفاع به[57]. ونص أيضاً على أنه لا يجوز التداوي بعظم الآدمي
أو أي جزء منه لعدم الطهارة أو الكرامة الإنسانية[58].
أما
المذاهب الأخرى فالراجح فيها أن أجزاء الآدمي المنفصلة طاهرة كجملته[59]، كما ذهب نفر
إلى جواز بيع أجزاء الإنسان إذا كان يستفاد منها[60].
أما
بالنسبة لجثة الإنسان فالراجح في المذاهب الفقهية أنها طاهرة خلافاً لبقية الميتات[61]
لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنجسوا أمواتكم فإن المؤمن لا ينجس حياً أو ميتاً))[62]،
ولكن منع النووي من الانتفاع بأي جزء من أجزائه بعد الموت لحرمته وكرامته ويتعين دفنه.
ويحسن
بنا أن نفهم أن حرمة استعمال الدواء النجس إنما تكون عند عدم وجود الطاهر، فإن لم يوجد
الطاهر جاز استعمال النجس للضرورة وليس في هذا مخالفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
((إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)) أو ((لا شفاء في نجس))[63]. ويجوز للإنسان
أن ينتفع بجزء من أجزائه للتداوي بشرط أن تكون المصلحة في ذلك أعظم من ترك الجزء، وتطبيقاً
لذلك يجوز لصق ما انفصل من الجسد في موضعه[64]، كما ويجوز ترقيع الجلد المحروق من مكان
آخر سليم.
ومعلوم
في الفقه الإسلامي أنه لا يجوز بيع الأجزاء الآدمية لأنها ليست ملكاً للشخص بل هي بمجموعها
مسخرة للإنسان ليقوم بطاعة ربه وقضاء حوائجه، ولكن إذا كان بالهبة وبدون مقابل فما
الذي يمنع ذلك بشرط أن تكون القضية بوسيلة جائزة ومشروعة.
وقد
أجاز الفقهاء إجارة الظئر كما قدمنا فهو بيع لأجزاء آدمية بشرط الرضاء الصحيح المحل
المبين، والسبب المشروع. فلبنها مال متقوم يجوز بيعه عند الشافعية[65]، والحنابلة في
رواية، وعند المالكية[66] والله تعالى يقول: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ}[67].
تبرعاً أو بيعاً
د. أمين محمد سلاّم البطوش
المصدر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد
53، ص317-34
مقدمة
إن
الله سبحانه وتعالى خلق هذا الإنسان وكرمه على خلقه ورباه على عينه، فهو الذي يقول
في محكم تنزيله مبرهناً على هذه الحقيقة التي لا مراء فيها: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي
آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}[1]. ويقول سبحانه وتعالى:
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا
وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ}[2]. فلما تقدم الإنسان في العلوم ومن بينها علم الطب والجراحة اختلف الناس
في استقطاع الأعضاء وزرعها بين مبيح ومانع، وما كان لشيء أن يجد أو يستجد إلا وله حكم
في كتاب الله تعالى لقوله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[3]،
نتيجة لذلك فإن هذا البحث يقدم محاولة لبيان ما في هذا الأمر من حكم شرعي.
وقد
جعلت هذا البحث من مقدمة وفصل واحد يحتوي ثمانية مباحث كما يلي:
فصل:
جسم الإنسان – كرامته وامتهانه:
ويحتوي
هذا الفصل ثمانية مباحث:
المبحث الأول: أدلة حرمة جسم الإنسان.
المبحث الثاني: إباحة التطبيب والجراحة.
المبحث الثالث: أهمية علم التشريح.
المبحث الرابع: مدى شرعية التشريح.
المبحث الخامس: قواعد الطب الإسلامي.
المبحث السادس: حكم الشرع في بعض الأعمال المستحدثة في الطب والجراحة.
المبحث السابع: حكم الانتفاع بأجزاء الآدمي في حالات الاضطرار.
المبحث الثامن: فتاوى العلماء في هذه المسألة.
ثم الخاتمة. راجياً من الله تعالى أن أكون قد وفقت للصواب فيه.
المبحث الأول: أدلة حرمة جسم الإنسان
إن
الله تعالى لما خلق الإنسان خلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وطرد
إبليس من أجله لعصيانه أن يسجد لآدم، وأسكن آدم الجنة، وعلمه الأسماء كلها، وجعله خليفته
في الأرض، فإن كان الإنسان لربه مطيعاً مخبتاً كان أفضل من الملائكة، وإن عصاه كان
أدنى من البهائم، كل هذا دليل على التكريم، فهل تراه يسلمه ويذله ويخزيه ما دام يسير
طبقاً لخط السير الذي رسمه له ربه، كلا وحاشا أن يكون ذلك.
فها
هو سبحانه يقول في حقه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[4] ويخلقه في أحسن صورة:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[5] وتتجلى فيه عظمته سبحانه
فيقول: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[6]. من أجل ذلك فقد تولاه ربه،
وأوصى باحترامه في شرائعه، وحرم قتله بغير حق قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}[7] وهذه قاعدة تحرم مساسه بغير حق. ورسول
الله صلى الله عليه وسلم قد بين في سنته أن أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء،
كما توعد الله قاتله بالعذاب يوم القيامة قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ
لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[8] هذا في الآخرة بالإضافة إلى عقوبة القصاص في الدنيا والحرمان
من الميراث إن كان القاتل من ورثة المقتول.
فإذا
كان قتل المسلم بغير حق لا يحتمل الإباحة، فكذلك فإن قطع عضو من أعضائه لا يحل ولو
كان بإذن المجني عليه[9] كما يرى ابن قدامة في المغني[10] ((بينما يرى الحنفية أن أعضاء
الإنسان كالمال بالنسبة لصاحبها)) وليس للإنسان أن يقتل نفسه قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[11] أو يتلف أعضاء جسمه قال تعالى:
{وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[12] لأن الحق في سلامة البدن حق
مشترك بين العبد وبين ربه[13]، وقد بلغت حرمة جسد الإنسان في نظر فقهاء الإسلام حدًّا
جعلهم يرون دفن ما يسقط منه كشعر أو ظفر[14].
قال
القرافي في الفروق ما نصه: "إن حق الله تعالى لا يتمكن العباد من إسقاطه والإبراء
منه بل إن ذلك يرجع إلى صاحب الشرع"[15].
ويضيف
القرافي: "حرم الله القتل والجرح صوناً لمهجة العبد وأعضائه ومنافعها عليه ولو
رضي العبد بإسقاط حقه في ذلك لم يعتبر رضاه ولم ينفذ إسقاطه"[16].
والإنسان
منذ بداية تكوينه وهو جنين في بطن أمه أدركته حماية الشرع، فالقرآن يؤرخ له ويقول:
{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا
* إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ
سَمِيعًا بَصِيرًا}[17]. وألزم الشرع الإسلامي من جنى على امرأة حامل فأسقطت جنينها
بغرة عبد كغرامة دنيوية هذا إن سقط ميتاً، أما إن سقط حياً ثم مات ففيه الدية كاملة.
حتى أن الأم لو تسببت بإسقاط جنينها بواسطة غيرها لزمتها دية الجنين كذلك، ولم يسلم
من أعان على هذا الأمر من تبعة مغبته.
أضف
إلى ذلك أن المرأة الحامل لو كان عليها القصاص أو الحد فإنه لا يجوز التنفيذ حتى تتم
حملها وتضعه وترضع وليدها وتربيه إلى الوقت الذي يستغني بنفسه عنها سواء كان الحد بالنفس
أو الأطراف[18]. ويجوز في الشرع الإسلامي شق بطن الأم الميتة لاستخراج ولدها من رحمها،
لأن مصلحة حفظ حياته أعظم من مفسدة انتهاك حرمة بدنها الميت[19].
وقد
أجمعت المذاهب الإسلامية على تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح إلا لعذر، أما قبل نفخ الروح
فإن العلماء قد اختلفت أقوالهم بين الإباحة والكراهة والتحريم[20]. ولكن إن ثبت بطريق
موثوق أن الجنين يؤدي إلى وفاة أمه فيجب إسقاطه تطبيقاً لقاعدة ارتكاب أخف الضررين،
وهذا يعتبر تضحية بالجزء (الفرع) في سبيل إنقاذ الكل (الأصل)[21].
وأما
بعد الموت فقد تولى الشرع الإسلامي حفظ الإنسان وحمى جثته من عبث العابثين، فالرسول
صلى الله عليه سولم يقول: ((كسر عظم الميت ككسره حياً)) وفي رواية: ((كسر عظم الميت
ككسر عظم الحي في الإثم))[22]، ومن أراد المزيد من هذه الأدلة فعليه بالرجوع إلى المذاهب
الفقهية وما كتب في أبواب الجنائز، فسيتبين له الأمر بجلاء ووضوح عظيم الحرمة في مساس
الأجساد الميتة.
المبحث الثاني: إباحة التطبيب والجراحة
بالرغم
مما تقدم بيانه من تعظيم الشرع لحرمة جسم الإنسان، فإن ضرورة العلاج أو الحاجة إليه
تفسح المجال وتبرر المحظور الشرعي. فالتداوي أمر مأمور به شرعاً حفظاً لهذا الإنسان،
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع
له دواء غير داء واحد الهرم))[23].
وتعلم
الطب في الإسلام فرض من فروض الكفاية التي يتعين على طائفة من الأمة القيام به وإلا
أثمت الأمة جميعاً[24]. وهذا العمل وإن كان من فروض الكفاية فإنه يحتاج إلى شروط إليك
بعضها:
1
- أن يباشر العمل الطبي مختص فيه مع كون الحاجة ملحة لنتجنب من لا يحذق هذا الفن، فلابد
من كونه حاذقاً بصيراً عارفاً[25]. فإن كان غير ذلك فما يحصل من أضرار على يديه كان
فيها ضامناً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن))[26].
2
- أن يكون القصد العلاج والرعاية للمصالح المشروعة مع المعرفة بأن الطبيب لا يهدف من
عمله غرضاً خاصاً ولا البحث عن الكشف العلمي، بل جل هدفه علاج المريض ومنفعته.
3
- أن يمارس عمله الطبي وفقاً لأصول صنعة الطب وإلا كان ضامناً خشية أن يتولد ما هو
أعظم.
4
- إن كان المريض قاصراً، يشترط الإذن من وليه[27].
المبحث الثالث: أهمية علم التشريح
إن
للتشريح أهمية كبيرة إذ بدونه لا يعرف الطبيب مكان العضو ولا كيفية اتصاله بالبدن،
كما أن للتشريح أهمية أخرى وذلك في الكشف عن السبب الحقيقي للموت في قضايا الجنايات،
هذه الأهميات تقف أمام نظرة الناس إلى الجثة الآدمية نظرة ملؤها التقديس والحرمة، ولقد
قام علماء من المسلمين القدامى بتشريح الجسم الإنساني وإن كانوا لم يقولوا صراحة بجواز
التشريح كابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية الصغرى وابن الهيثم الذي قام بتشريح
العين[28].
ولقد
استشهد الفقهاء في مواقف عديدة على تصحيح آرائهم على نتائج علم التشريح في زمانهم.
أما قبله فكأنها إباحة غير صريحة لهذا العلم.
وإليك
أقوال المذاهب في هذا الموضوع:
الحنفية:
((حامل ماتت وولدها حي يضطرب، يشق بطنها من الأيسر ويخرج ولدها... ولو مات الولد في
بطنها وهي حية وخيف على الأم قطع وأخرج بخلاف ما لو كان حياً))[29].
وكذلك
لو بلع مال غيره ولا مال له هل يشق ؟ قولان، الأول: نعم وإن كانت حرمة الآدمي أعلى
من صيانة حرمة المال، إلا أنه أزال حرمته بتعديه.
وجاء
في الأشباه والنظائر لابن نجيم تحت قاعدة (الأشد يزال بالأخف) أنه يجوز شق بطن الميتة
لإخراج الولد إن كانت ترجى حياته بخلاف ما إذا ابتلع لؤلؤة فمات فإنه لا يشق بطنه لأن
حرمة الآدمي أعظم من حرمة المال.
المالكية:
اختلفوا في شق بطن المرأة، وقيده البعض بأن يكون في السابع أو التاسع أو العاشر[30].
الشافعية:
إذا ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي يشق جوفها لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه
ما إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت، واشترطوا لذلك حياة الطفل بأن يكون له ستة شهور
فصاعداً[31].
الحنابلة:
إذا ماتت امرأة حامل شق جوفها، فإن احتملت حياته وتعذر إخراجه بالطريق المعتاد قال
البعض يشق، والمذهب لا، لا تدفن حتى يموت[32].
الظاهرية:
إن ماتت امرأة حامل والولد يتحرك قد تجاوز ستة أشهر فإنه يشق بطنها طولاً ويخرج الولد،
ويبرر شق البطن في هذه الحالة بأنه ارتكاب لأخف الضررين وأدعى لتحقيق المصلحة.
فمن
أقوال الأئمة المتقدمة يتبين لنا جواز شق بطن الميت من أجل إنقاذ الحي فمصلحة إنقاذ
الحي مقدمة على مفسدة هتك حرمة الميت، ولكن مما تقدم رأينا أن بين الحي والميت تعلقاً
وارتباطاً لا يسهل انفكاكه، فهل بالإمكان أن نعدي هذا الجواز إلى ما هو أبعد من ذلك
؟ هذا ما سنصل إليه إن شاء الله ولكن بشروط منها: موافقة ذوي الشأن، ووجود ضرورة تتطلب
التشريح وعدم التمثيل في الالمبحث الرابع: مدى شرعية التشريح
لما
كانت شريعة الإسلام تنزيلاً من حكيم حميد عليم بما كان وما سيكون، أنزلها على خير الخلق
وخاتم الأنبياء والمرسلين، فقد جعلها سبحانه قواعد كلية، ومقاصد سامية شاملة، فكانت
تشريعاً عاماً خالداً صالحاً لجميع طبقات الخلق في كل زمان ومكان.
إن
كثيراً من الجزئيات والوقائع التي حدثت لا نجدها منصوصاً عليها نفسها في الكتاب أو
السنة، وربما لم تكن وقعت من قبل فلا يعرف لسلفنا الصالح فيها حكم، لكن من البحث العلمي
يتضح أنها مندرجة في قاعدة شرعية عامة، ومن ثم يعرف حكمها.
ومسألة
التشريح لجثث موتى بني آدم لا تعدو أن تكون جزئية من هذه الجزئيات التي لم ينص عليها
في نص خاص، فشأنها شأن الوقائع التي جدت، لابد أن تكون مشمولة بقاعدة كلية من قواعد
الشريعة وشمولها وصلاحيتها لجميع الخلق، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[33]
وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى
اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[34] وقال تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}[35].
إن
من قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها العامة أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما، وإذا
تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفادياً لأشدهما، ومسألة التشريح داخلة في هذه القاعدة
على كل حال، فإن مصلحة حرمة الميت – مسلماً كان أو ذمياً – تعارضت مع مصلحة أولياء
الميت والأمة. فالمتهم عند الاشتباه مثلاً يطلب تشريح جثة المجني عليه لإثبات الجناية
أو نفيها وفي هذا حفظ للحق وإعانة لولي الأمر على ضبط الأمن والتحقق من المجرمين لردع
من تسول له نفسه ارتكاب جريمة يظن أنها تخفى على الناس. كما أن الشخص قد يموت موتاً
طبيعياً وفي التشريح تبرئة للمتهم، أضف أنه يمكن الكشف على الأمراض السارية بواسطة
التشريح، وبذلك تحفظ الأمة من الأوبئة والأمراض السارية الخطيرة. من هذا تبرز أهمية
علم التشريح، وما دام أنه جزء من علم الطب فالعلم به إذن من فروض الكفاية التي لابد
لجماعة من المسلمين معرفته والتدرب عليه. ولذلك فإن التدرب على الجثث الحقيقية يعرف
الطبيب بمكان العضو المصاب وأوصافه، خلافاً لمن رأى التدرب على الجثث غير الآدمية لاختلاف
الأوصاف وعدم التمكن من الوصول إلى الحق في هذا الموضوع.
المبحث الخامس: قواعد الطب الإسلامي
قواعد
الطب الإسلامي تؤخذ من القواعد الكلية في الفقه الإسلامي.
أولاً - قواعد التصرف في الحق لسلامة الحياة والجسد:
أ
- حق الله تعالى وحق العبد في نفس هذا الأخير يوكلان لمن ينسبان إليه ثبوتاً وإسقاطاً.
ب
- لا يجوز لإنسان أن يتصرف في حق الغير إلا بإذنه.
ج
- قتل الإنسان أو فصل عضو من أعضائه لا يحتمل الإباحة بغير حق.
د
- لا يملك الإنسان إسقاط حقه، فيما اجتمع فيه حق الله تعالى، لعدم جواز تصرفه في حق
الله تعالى.
هـ
- يقدم ما كان فيه حق الله وحق العبد على ما كان فيه حق العبد وحده[36].
و-
حق الله مبني على التسهيل بخلاف حق الآدمي فإنه مبني على التشديد إلا عند الضرورة[37].
ثانياً: قواعد المفاضلة بين المصالح والمفاسد:
1
- جواز ارتكاب أخف الضررين دفعاً لأعظمهما، فالواجب تحصيل أعلى المصلحتين، فإن تعذر
رخص في التقديم والتأخير بينهما، ومثاله من صال على نفسين مسلمتين فلم نتمكن من دفعه
عنهما فإننا ندفع عن أي واحدة منهما[38].
أ
– إذا اجتمعت المفاسد في عمل واحد فإنه لا تفاضل بينها لأن الواجب درء الجميع، فإن
تعذر ذلك درأنا الأفسد فالأفسد[39].
ب
– إذا اجتمعت المصالح والمفاسد، فالمطلوب تحصيل المصالح ودرء المفاسد جميعاً إن أمكن،
فإن تعذر ذلك وكانت المفسدة أعظم من المصلحة أو مساوية لها درأنا المفسدة وفوتنا المصلحة
لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح[40]. أما إن كانت المفسدة أعظم من المصلحة التي
تقابلها فتقدم المصلحة[41]، من ذلك مثلاً أن مصلحة إنقاذ الحي أولى بالرعاية من مفسدة
انتهاك حرمة الموتى[42] بشرط أن تكون المصلحة راجحة على المفسدة وأعظم منها.
ج
– يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام[43].
2-
الضرورات تبيح المحظورات:
أ
– تقدر الضرورة بقدرها[44].
ب
– يجب أن تكون المصلحة التي تقتضيها الضرورة أعظم من مفسدة المحظور.
ج
– الضرر لا يزال بمثله[45]، فلا يجوز مثلاً لشخص قتل غيره ليدفع الضرر عن نفسه. وذلك
بأخذ علاجه أو غذائه الذي هو بحاجة إليه بمثل حاجته هو.
د
– الحاجة تنزل منزلة الضرورة سواء كانت الحاجة عامة أو خاصة[46].
هـ
- الاضطرار لا يبطل حق الغير[47].
ثالثاً: قواعد مزاولة العمل الطبي والجراحي:
1
- حق التطبيب والجراحة لأن الشرع أجاز التداوي، فهذا يتضمن جواز ممارسة الطب.
2
- جواز ممارسة الطبيب للجراحة لا تعطيه حق تشريح أجساد الآخرين إلا بالرضا من المريض
باستثناء حالات الاستعجال والضرورة.
3
- مراعاة أصول العلاج في حفظ الصحة الموجودة للمريض ورد المفقودة بقدر الإمكان وإزالة
العلة أو تقليلها بقدر الإمكان.
4
- استعمال طرق العلاج الأسهل فالأسهل.
5
- لا مسئولية على الطبيب فيما يجوز له فعله.
6
- لا يتقيد عمل الطبيب بشرط السلامة، لأن المطلوب منه القيام بالمعتاد ما دام رضي المريض
أو وليه بذلك.
المبحث السادس:
حكم الشرع في بعض الأعمال المستحدثة في
الطب والجراحة
الإسلام
بطبيعته يشجع البحث العلمي ويدعو إليه فالله تعالى يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}[48]. إلا أن للبحث العلمي في بعض الأحيان
هفواته التي لا تغتفر، وشطحاته التي لا تصيب الهدف، وعلى ذلك لابد من تمحيص النتائج
على ضوء القواعد التي وضعها صاحب الشرع سبحانه وتعالى، العليم بأحوال عباده فإنه كما
قال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[49].
قطع
الأعضاء البشرية لغرض الزرع:
لما
كان مما يجوز للطبيب أن يعمل مبضعه في جسم المريض من أجل علاجه وإبعاد الأذى عنه، فهل
له مثل ذلك ولكن في جسم سليم ليخلص جسماً آخر هو بحاجة إلى العلاج ؟ أي هل يجوز أن
يكون علاج المريض جزءاً أو قطعة أو عضواً من جسم سليم ؟ فيكون الأول معطياً والآخر
آخذاً أو متلقياً.
بالنسبة
لزرع عضو في جسم المريض من أجل إنقاذه لا إشكال عليه في الشريعة الإسلامية، فإنه علاج
مباح ما دام حصل إذن الشرع بالعلاج وإذن المريض بالتداوي وتقبله ولكن الصعوبة كل الصعوبة
في قطع العضو من الحي أو الميت.
فلنتكلم
أولاً على استقطاع عضو حي لإنقاذ حي بحاجة إلى ذلك العضو:
أول
ما نلجأ إليه في مثل هذا الأمر هو البحث في الشريعة الإسلامية قبل غيرها، فإن أجازت
هذا العمل ترتب عليه الجواز من الناحية الطبية وإلا فلا، والحقيقة أنه لا نص على هذه
القضية بصراحة في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة، بل هي قضية تندرج تحت غيرها
من القواعد الكلية كما أسلفت فيما سبق، والقواعد الفقهية تراعي ثلاثة أمور في الغالب
هي:
دينية:
تتصل بمدى حرمة الانتفاع بأجزاء الآدمي حياً أو ميتاً.
فقهية
أو قانونية: تتعلق بالوسيلة الفنية التي يمكن بواسطتها بلورة هذا الانتفاع.
تزاحم
المصالح: أي المفاضلة بين المصالح المتزاحمة.
نجد
أن الفقهاء أجازوا الانتفاع بلبن الظئر، وذلك بتأجيرها أو استئجارها، فقد اختلفوا في
الناحيتين الأولى والثانية، ولكن هذا الاختلاف دل على سعة الأفق والتوقعات المستقبلية
لما يجد ويستحدث، مما يحفز المختص في أن يبحث مدى شرعية استقطاع الأعضاء من جسم حي
أو ميت لغرض الزرع، وعليه فلابد من الموازنة والترجيح بين أدلة الإباحة وأدلة الحظر:
هل جسم الإنسان من الأموال وهل هو ملك لصاحبه ؟
والصحيح
أن جسم الإنسان ليس مالاً له ولا يجوز بيعه.
فلا
الشرع ولا الطبع ولا العقل يجيز بيع الأجزاء الآدمية، لأن الله كرمه وميزه عن غيره،
والأصل في المبيعات أن تكون أشياء خارجة عن الإنسان، وأعضاؤه ليست خارجة عنه[50]. وإذا
أراد الناس أن يقولوا: ولكن الإنسان تضمن قيمته إذا قتل، قلنا: إن هذا استدلال فاسد
لأن الأصل في الضمان في الفقه الإسلامي يتمثل في القضاء الكامل للمضمون صورة ومعنى
وإن جاز في بعض الحالات فإنه على سبيل الاستثناء[51]. وهو قول الجماهير من أهل العلم.
وعند
الحنفيه: أن أطراف الإنسان تعتبر من قبيل الأموال بالنسبة لصاحبها[52]، ومعنى الأطراف
هنا ينسحب على أي عضو أو جزء من الأجزاء الإنسانية معزولاً عن باقي الأعضاء التي لا
يجوز التصرف بمجموعها.
ولكن
الإنسان يستطيع أن يضحي بجزء من أجزاء بدنه لإنقاذ حياته[53]، فهي كالمال خُلق وقاية
للنفس[54]. ونجد أن الحنفية أنفسهم أجازوا العقد على منافع الأشياء – بالإجارة – بالرغم
من أن المنافع ليست من الأموال عندهم، وهو استحسان تبرره الضرورة[55].
هل أجزاء الإنسان المنفصلة عنه طاهرة ؟
إن
من شروط صحة العقد أن يكون محل العقد طاهراً منتفعاً به طبعاً وشرعاً[56]، فلا يصح
العقد على نجس أو محرم.
لم
يتفق الفقهاء على طهارة الجزء المنفصل، فعند الحنفية أن ما انفصل عن جسم حي وكان فيه
دم فهو نجس لا يجوز الانتفاع به[57]. ونص أيضاً على أنه لا يجوز التداوي بعظم الآدمي
أو أي جزء منه لعدم الطهارة أو الكرامة الإنسانية[58].
أما
المذاهب الأخرى فالراجح فيها أن أجزاء الآدمي المنفصلة طاهرة كجملته[59]، كما ذهب نفر
إلى جواز بيع أجزاء الإنسان إذا كان يستفاد منها[60].
أما
بالنسبة لجثة الإنسان فالراجح في المذاهب الفقهية أنها طاهرة خلافاً لبقية الميتات[61]
لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنجسوا أمواتكم فإن المؤمن لا ينجس حياً أو ميتاً))[62]،
ولكن منع النووي من الانتفاع بأي جزء من أجزائه بعد الموت لحرمته وكرامته ويتعين دفنه.
ويحسن
بنا أن نفهم أن حرمة استعمال الدواء النجس إنما تكون عند عدم وجود الطاهر، فإن لم يوجد
الطاهر جاز استعمال النجس للضرورة وليس في هذا مخالفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
((إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)) أو ((لا شفاء في نجس))[63]. ويجوز للإنسان
أن ينتفع بجزء من أجزائه للتداوي بشرط أن تكون المصلحة في ذلك أعظم من ترك الجزء، وتطبيقاً
لذلك يجوز لصق ما انفصل من الجسد في موضعه[64]، كما ويجوز ترقيع الجلد المحروق من مكان
آخر سليم.
ومعلوم
في الفقه الإسلامي أنه لا يجوز بيع الأجزاء الآدمية لأنها ليست ملكاً للشخص بل هي بمجموعها
مسخرة للإنسان ليقوم بطاعة ربه وقضاء حوائجه، ولكن إذا كان بالهبة وبدون مقابل فما
الذي يمنع ذلك بشرط أن تكون القضية بوسيلة جائزة ومشروعة.
وقد
أجاز الفقهاء إجارة الظئر كما قدمنا فهو بيع لأجزاء آدمية بشرط الرضاء الصحيح المحل
المبين، والسبب المشروع. فلبنها مال متقوم يجوز بيعه عند الشافعية[65]، والحنابلة في
رواية، وعند المالكية[66] والله تعالى يقول: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ}[67].