في الأوامر على العرائض أو اختصاص القاضي الإداري
يُحسن بنا في موضوع كهذا عظيم الشأن أن نبدأ بلمحة تاريخية عن سلطة
القاضي الإدارية وأن نتناول بحثه وتمحيصه من عهد القانون الروماني لما في ذلك من
جليل الفائدة وتعرف ما للتقاليد من الأثر في التشريع مهما تقادم عليها العهد وقد
نستخلص من استعراض الماضي البعيد ولو بطريق الإيجاز نتائج يصح التعويل عليها في
مختلف المباحث إذ لا يكفي لمعرفة أحكام القانون وتفهم حقيقة نصوصه وإزالة ما يحيط
بها من اللبس الناتج من اقتضاب النصوص وخلوها من الجلاء والوضوح أن نرجع إلى
القانون الفرنسي وحده بل ينبغي أيضًا أن نبحث عن بعض القواعد على ضوء العصور
الغابرة فقد تكون كفيلة بأن توصلنا إلى حالتنا التي ننشدها.
لذلك نقسم الكلام هنا إلى المباحث الآتية:
1 - القانون الروماني.
2 - القانون الفرنسي القديم.
3 - القانون الفرنسي الحديث.
4 - الشريعة الإسلامية.
5 - القانون المصري.
6 - الطعن في أوامر الصرف وحجز الدين.
وهاك بيان كل من هذه المباحث:
(1)
القانون الروماني
كان للقضاة في القانون الروماني نوعان من الاختصاص القضائي، وهما
الاختصاص القضائي Attribution
de juridiction والاختصاص
الإداري Imperium.
والمقصود بالاختصاص القضائي هو ما كان للقاضي الروماني من حق الفصل في المشكلات
التي تُرفع إليه في شكل دعاوى بالمعنى الصحيح وهذه المهمة كانت معهودة في روما إلى
قاضيين الأول قاضي الشكل Magistrat وكانت مهمته مقصورة على صوغ
الإجراءات في قالب قانوني دون تدخل في موضوع الدعوى - الثاني قاضي الموضوع judex وهو الذي تحال إليه الدعوى من الأول فيفصل فيها وكان هذا القاضي
يختار من بين أفراد الناس، أما الأول فكان موظفًا حكوميًا.
أما القضاء الإداري فكان عبارة عن الأوامر التي يصدرها القاضي بما له من الولاية
العامة Imperium بغير تحرٍ لوقائع الدعوى كالأمر
الصادر لشخص بوضع يده على عقار Missiones
in Possessionem أو الأمر الصادر بإعادة الحالة إلى ما كانت عليه Les restitutiones in integrum وذلك بإبطال حكم الالتزام وإرجاع
المغبون إلى حالته التي كان فيها قبل التعاقد.
ويُفهم مما تقدم أن وظيفة القاضي الروماني في المسائل الإدارية أو بعبارة أخرى
الإرادية (Volontaires) أهم بكثير من وظيفته القضائية إذ
هذه كما ذكرنا كانت منحصرة في تحضير الدعوى وتيسير الأمر على أرباب الحقوق من أجل
الوصول إليها في الدور الأول من الخصومة in judicio أما الأوامر فكان القاضي ينشئ بها الحقوق بمعنى أنه كان المصدر
الذي يستمد منه طالب الحق حقه.
وكان يدخل في سلطة القاضي الإدارية الإشراف على الانتقال الحقوق العينية والعتق
والتبني بطريقة الدعوى الصورية in
jure cessio ومن مقتضى
إجراءات هذه الدعوى أن المدعي يطالب بحقه فيسكت المدعى عليه ولا يدفع الدعوى بأي
وجه فيكون من القاضي عندئذٍ تدوين ما حصل أمامه وتكون النتيجة في الواقع انتقال
الحق من يد المدعى عليه إلى يد المدعي.
ومن الممكن أن نلخص الفروق بين السلطة القضائية والسلطة الإدارية في القانون
الروماني فيما يأتي:
1 - استعمال القاضي سلطته الإدارية خارج محكمته وما كان هناك من ضرورة لحضور
الضابط الذي كان يتحتم أن يتقدم القاضي عادةً عند قيامه بوظيفة القضاء الحقيقي.
2 - لا يفقد القاضي حق استعمال سلطته الإدارية خارج دائرة ولايته القضائية إذ هذا
الحق من المزايا المرتبطة بشخصه بصفة فخرية a titre honorifique.
3 - كان للقاضي حق إتيان الأعمال الإدارية لأهله وذويه بخلاف الأعمال القضائية
المتعلقة بهم فكان ممنوعًا منها.
4 - للقاضي إجراء الأعمال الإدارية حتى في أيام الأعياد وليس الأمر كذلك فيها
بالنسبة للسلطة القضائية.
(2)
القانون الفرنسي القديم
كان للقانون الروماني كما كان لأحكام الديانة المسيحية تأثير تام في
تكوين نظرية القضاء الإداري في التشريع الفرنسي القديم إذ تبين مما ذكرنا عن
القانون الروماني أن الاتفاقات التي تحصل أمام القاضي كالبيع والعتق والتبني وغير
ذلك تُعد من قبيل القضاء الولائي أو الإداري.
وكانت تقضي مبادئ الشريعة المسيحية أيضًا بأن هناك وظيفتين للقضاء: الأولى إدارية
وهي المقررة للمسائل الروحية أو شبه الروحية كالأوامر الصادرة بالترخيص بالتبشير
والإرشاد وبقبول أحد الأفراد في سلك الرهبنة وغير ذلك وكانت سلطة إصدار هذه الأوامر
محولة للأسقف أو وكيله، والثانية قضائية وكان يقوم بها قاضٍ خاص إذا ما طرأ نزاع
بين أحد رجال الكهنوت وأحد أفراد الناس.
وكان من نتائج تأثير النظريتين الرومانية والمسيحية أن أعمال القضاء الإداري أصبحت
على نوعين: الأول وهو الذي يكفي فيه أن يتم أمره على يد السلطة القضائية أو يقع
بتصديق منها، والثاني وهو الذي يجب أن يصدر بشأنه من القاضي قرار ويشمل النوع
الأول التبني adoption وإثبات الرشد emancipation والعتق manumission ويشمل الثاني بيع عقار الصغير وعتق
رقيق الصغير.
وكان من مقتضى النظرية القديمة عد الموثقين كموظفين قائمين بشطر من سلطة القضاء
الإدارية.
(3)
القانون الفرنسي الحديث
جاء القانون الفرنسي الحديث خلوًا من أية إشارة خاصة إلى سلطة القضاء
الإدارية.
نعم أن القانون المدني أشار إلى اختصاص غرفة المشورة chambre du conseil بإصدار الإذن في بعض المسائل غير أنه لم يكن ليضع قواعد صحيحة
تصلح لتكييف نظرية السلطة الإدارية للقاضي.
كذلك نصت المادة (588) مرافعات على اختصاص رئيس المحكمة بإصدار أوامر حجز الدين Saisie arrêt .
وهناك نصوص أخرى متعلقة بالأوامر التي يصدرها رئيس المحكمة أو غرفة المشورة لا نرى
حاجة لبيانها إلا أن النصوص خالية من بيان ما يجب اتباعه من الإجراءات وطرق الطعن
في هذه الأوامر، وقد كان صمت النصوص داعيًا إلى أن يضع أهل العلم والدراية من رجال
القانون قواعد لهذه السلطة تحديدًا لنطاقها وتبيانًا لطرق الطعن فيها.
وقد فرقوا بين السلطة القضائية والسلطة الإدارية وقالوا بأن مجال الأولى في
الخصومات بالمعنى الحقيقي أي المنازعات التي تقوم بين مدعٍ ومدعى عليه، أما
الثانية فتكون في غير الخصومات وينبني على ذلك في عرفهم أن هناك مميزات ثلاث للأمر
الإداري وهي:
أولاً: الأمر الإداري لا يحوز على العموم قوة قضاء القاضي وهو ما يسمح للقاضي بسحب
الأمر بعد منحه.
ثانيًا: يجوز الطعن في الأمر الإداري بالبطلان بصفة أصلية.
ثالثًا: الأوامر الإدارية غير قابلة للطعن مبدئيًا ولو أن هذا الفارق الأخير محل
خلاف كما سيأتي.
أما منشأ هذا الخلاف الذي أشرنا إليه فهو أن بعضهم يرى أن الأوامر الإدارية لا
يمكن إلغاؤها بعد صدورها وغاية ما هنالك أن إزالة أثرها لا تكون إلا بدعوى بطلان
أصلية تُرفع من المأخوذ ضده الأمر ويرى آخرون جواز التظلم منها ثم الطعن فيها بعد
أن تكون قد تحولت إلى خصومة حقيقية.
ولا حاجة بنا إلى زيادة التوسع فيما هو عليه الحال في فرنسا إذ فيما قلناه الكفاية
للمقارنة بالقانون المصري ومعرفة ما كان للتشريع والقضاء الفرنسيين من الأثر في
تشريعنا.
(4)
الشريعة الإسلامية
يقسم علماء الفقه القضاء إلى ثلاثة أقسام:
قولي وفعلي وضمني. وقد رأينا أن نأتي على تعريف كل منها وإن كان لا يهمنا من أمرها
سوى الأول والثاني إلا أن تمام الفائدة يقضي علينا بالإتيان على تعريفها جميعًا.
فالقضاء القولي: يرجع إلى سلطة القاضي القضائية ومحله الخصومات بالمعنى الصحيح.
والفعلي: وهو بعينه القضاء الإداري ومرجعه الولاية العامة للقاضي فلا يحتاج إلى
دعوى بل يكفي فيه إذن القاضي أو أمره بتزويج الصغير واليتيم وشراء وبيع مال اليتيم
وقسمة عقاره مثلاً ومن المعلوم أن بعض ما ذكر أصبح مخولاً الآن للمجالس الحسبية.
والقضاء الضمني: يكون المحكوم فيه غير مقصود بالذات بل هو داخل ضمن المحكوم به
قصدًا كما لو شهد اثنان بأن زوجة وكلت زوجها في أمر من الأمور على خصم منكر وحكم
القاضي بتوكيلها كان هذا الحكم قضاءً بالزوجية وإن لم تكن الدعوى في حادثة
الزوجية.
وقد جاءت اللائحة الشرعية بنصوص تتفق كل الاتفاق مع تقسيم القضاء إلى قولي وفعلي
والأول هو الاختصاص الأصلي فلا حاجة للتعرض له بأكثر مما تقدم. أما الثاني فهو
اختصاص تبعي وقد نصت المادة (28) من لائحة الإجراءات على أن التصرفات في الأوقات
من إقامة ناظر وضم ناظر إلى آخر واستبدال وإذن بعمارة أو تأجير أو استدانة أو
بخصومة وغير ذلك تكون من خصائص هيئة المحكمة التي تكون في دائرتها أعيان الوقف
كلها أو بعضها الأكثر قيمة أو أمام المحكمة التي بدائرتها محل توطن الناظر كما نصت
المادة (29) على أن الإذن في غير الأوقاف بجميع مقتضياته الشرعية من اختصاص رؤساء
المحاكم والقضاة الجزئيين في دائرة اختصاصهم وكذا تزويج من لا ولي له من الأيتام
وغيرهم.
ويلحق بما تقدم إشهادات تحقيق الوفاة والوراثة وأوامر تقدير أجور الخبراء
ومصروفاتهم ونحو ذلك مما نصت عليه اللائحة.
وكانت هذه المسائل فيما سبق غير قابلة للاستئناف على اعتبار أنها أوامر إدارية،
أما الآن فقد أصبح الاستئناف جائزًا بمقتضى القانون نمرة (33) المعدل للمادة (7)
في المسائل الآتية:
( أ ) إقامة ناظر وضم ناظر إلى آخر وإذن أحد الناظرين بالانفراد ولو في عمل خاص
ورفض الإذن بالخصومة والإذن بمخالفة شرط الواقف مهما كانت قيمة الأعيان الموقوفة.
(ب) الموافقة على الاستبدال أو عدم الموافقة عليه والإذن بالاستدانة والتحكير
والتأجير لمدة طويلة وبيع العقار الموقوف لسداد دين إذا كانت قيمة الأعيان
الموقوفة تزيد على خمسمائة جنيه مصري.
أما ما خرج عن دائرة التصرفات المذكورة سواء في الأوقاف أو في غيرها وكذا جميع
المسائل الإدارية الأخرى كل ذلك يكون غير قابل للاستئناف طبقًا للمادة (31) من اللائحة
ونصها (متى نُظر شيء مما ذُكر بمادتي (28) و(29) لدى من له حق النظر فيه فليس
لغيره نظرة).
أما ما لم يُذكر بهاتين المادتين فلا يطعن فيه أيضًا إذ حكمه كحكم سائر الأوامر
الإدارية وبمعزل عن الأحكام.
هذا وتجوز المعارضة في تقدير أجرة أهل الخبرة وتفصل فيها المحكمة المختصة بالقضية
الأصلية نهائيًا (م 236 إلى 239 من اللائحة).
ونلاحظ أن تعديل المادة (7) كان يقتضي تعديل المادة (31) التي جاءت في حكمها
منطبقة على كل ما ورد بالمادتين (28) و(29) مع أن جُل ما تضمنته المادة (28) أصبح
استئنافه جائزًا، ومهما كانت المسألة قليلة الشأن في حد ذاتها إلا أن انسجام
النصوص وانتفاء كل تعارض ولو ظاهريًا كان يقتضي أن يضاف إلى المادة (31) عبارة
تؤدي إلى أن ما جاء بها لا يخل بالتعديل الطارئ على المادة (7).
ومما تقدم يتبين أن هناك أوجه شبه بين القواعد الأساسية في السلطتين القضائية والإدارية
في كل من القانون الروماني والشريعة الإسلامية.
(5)
القانون المصري
لاحظ الشارع المصري ما في القانون الفرنسي من نقص فأراد تلافيه بما
أتى به من النصوص في فصل خاص مسترشدًا في ذلك بآراء رجال العلم وقضاء المحاكم،
وإنا لنورد فيما يلي المواد المتعلقة بهذا الموضوع لتسهيل الإلمام والرجوع إليها
في بحثنا هذا.
(م 127):
في الأحوال التي يكون للخصم فيها وجه في طلب صدور أمر يقدم عريضة بذلك إلى رئيس
المحكمة أو إلى القاضي المعين للأمور الوقتية - تطابق (م 130) مختلط.
(م 128):
يجب على رئيس المحكمة أو القاضي المذكور أن يكتب أمره في ذيل العريضة ولو كان بعدم
قبولها - تطابق (م 131) مختلط.
(م 129):
يترك مقدم العريضة نسخة منها عند رئيس المحكمة أو القاضي ليسلمها مع صورة من أمره
ممضاة منه إلى كاتب المحكمة بغير تأخير - تطابق (م 132) مختلط.
(م 130):
لمن قدم العريضة وللخصم الذي أعلن الأمر إليه الحق في التظلم من الأمر إلى المحكمة
مع تكليف الخصم الآخر بالحضور أمامها بمقتضى علم خبر إنما لا يترتب على هذا التظلم
توقيف تنفيذ الأمر تنفيذًا مؤقتًا إذ أنه واجب حتمًا.
ويجوز أيضًا أن يكون التظلم من الأمر منضمًا بالتبعية إلى الدعوى الأصلية في أي
حالة كانت عليها الدعوى بدون أن يترتب على ذلك سقوط حق بسبب مضي الميعاد - تطابق
(م 133) مختلط.
(م 131):
لا تُذكر في الأوامر الأسباب التي بنيت عليها إنما الأوامر التي تكون منافية لأمر
سابق صدوره من نفس الآمر أو غيره لا بد أن تكون مشتملة على بيان الأحوال الجديدة
التي اقتضت إصدارها وإلا كانت لاغية - تطابق (م 134) مختلط.
(م 132):
وفضلاً عما ذُكر يكون للخصم الذي صدر عليه الأمر الحق دائمًا في أن يتظلم من نفس
الأمر مع تكليف الخصم الآخر بالحضور بمقتضى علم خبر - تقابل (م 135) مختلط ونصها:
(للخصم الذي صدر الأمر عليه الحق أيضًا في أن يتظلم منه لنفس الآمر ويكون التظلم
إليه بصفة كونه في هيئة محكمة الأمور المستعجلة).
حدود القضاء الإداري
لم يبين القانون الدائرة التي يعمل فيها القاضي بما له من الولاية
الإدارية بل ضرب لنا أمثلة كثيرة في بعض مواده وإنا لنورد كثيرًا منها لنقف على ما
إذا كان يمكن بناؤها على أساس ثابت وإرجاعها إلى قواعد معينة بحيث إنها تكون لنا
نموذجًا يساعدنا على تعرف الأعمال الإدارية والوقوف على كنهها وحقيقتها والفصل
بينها وبين غيرها من الأعمال التي تقتضي بطبيعتها أن تكون موضوع خصومة بالمعنى
الحقيقي.
( أ ) تنقيص المواعيد القانونية في تحديد الجلسات للدعاوى (م 49/ 38 و39 و40).
(ب) توقيع حجز ما للمدين لدى الغير عند عدم وجود سند بيد الدائن أو كان السند
الموجود غير خالٍ من النزاع (م 412/ 473).
(جـ) الحجز التحفظي المخول للمؤجر على ما بالعقار من المنقولات (م 668/ 669 و670/
760 و761).
(د) الحجز المخول للمالك على منقولاته التي بيد الغير (م 678/ 767).
(هـ) حق الاختصاص المخول للدائن على عقارات مدينه إذا كان بيده سند رسمي (م 681/
769).
(و) تعيين يوم للتحقيق (م 183 و258 و285/ 211 و299 و326).
(ز) أمر تقدير مصروفات الدعوى (م 116/ 121).
(ح) صدور الأمر بإجراء التوزيع (م 514/ 578).
(ط) الأمر بإعفاء الراسي عليه المزاد من تقديم كفالة (م 575/ 657).
(ي) الأمر بتوقيع الحجز على المدين الذي ليس له مقر بالديار المصرية (م 671/ 764).
(ك) توقيع الحجز لحامل الكمبيالة أو السند تحت الإذن (م 675/ 764).
(ل) الأمر بتنفيذ أحكام المحكمين (م 725/ 814).
(م) أوامر قاضي التفليسة (م 236/ 244 تجاري).
(ن) الإذن للمرتهن التجاري ببيع المنقولات المرهونة (م 78/ 84 تجاري).
(س) الإذن للوكيل بالعمولة ببيع البضائع الموجودة تحت يده لحصوله على دينه (م 89/
92 تجاري).
(ع) الأمر بالمطالبة بدفع قيمة كمبيالة ضائعة (م 150/ 157 تجاري).
(ف) وضع الأختام على أموال المدين المفلس أو عمل أي طريقة أخرى من الطرق التحفظية
(م 204/ 213 تجاري).
بقي علينا بعد أن أوردنا الأمثلة المتقدمة أن نبحث عما إذا كان لهذه الحالات كما
قلنا قاعدة قانونية يمكن إرجاعها إليها واعتبارها طابعًا لها يميزها عن سواها.
إنا لا نرى ذلك وغاية ما يمكن أن يقال إن خاصية الأمر الإداري هي أنه صادر بناءً
على عريضة تُرفع للقاضي بينما الحكم القضائي لا يكون إلا بناءً على عريضة تعلن
للخصم إلا أن هذه الخاصية لا تؤدي إلى تعرف العمل الإداري إذ هي لا ترجع إلى طبيعة
موضوع الطلب ذاته بل إلى الإجراءات التي تُتبع لدى القاضي. ولكن المهم أن يعرف كنه
العمل الإداري قبل الشروع في اتخاذ الإجراءات اللازمة للحصول عليه حتى تزل قدم
الطالب فيخطئ من جهة طلب أمر في مسألة قضائية صرفة. وقد يجوز أن يرتكب العكس فيرفع
دعوى حيث كان يكفيه أن يستصدر أمرًا من القاضي بطلباته.
ومما يؤيد قولنا إن هذه الحالات التي خول القانون صاحب الشأن فيها استصدار أمر من
القاضي لإجراء مقتضياتها تختلف أغراضها وتتباين أسبابها إننا إذا نظرنا إلى الحجز
التحفظي خلناه لا يعطى إلا بناءً على خصومة في بدء التكوين والظهور إلا أنها خصومة
بالمعنى الحقيقي إذ لدينا مؤجر ومستأجر تتعارض مصلحة كل منها ومصلحة الآخر ولا
يكون للحجز أثر ما إلا إذا نظرت المحكمة الدعوى وفصلت فيها لمصلحة الحاجز.
أما الذي برر وقوع الحجز بناءً على عريضة هو مصلحة المؤجر التي أراد الشارع أن
تكون محلاً لرعايته فخول القاضي أن يأذن بتوقيع الحجز على غرة من المستأجر حتى لا
يعبث بتلك المصلحة بمبادرته إلى تهريب الأمتعة إذا كان لا بد من أن تكون الدعوى
سابقة على الحجز إذ يجب فيها إعلان الخصم بادئ ذي بدء.
أما أمر التقدير فيكون بأمر بناءً على أن المصروفات محكوم بها قضاءً ولم يبقَ سوى
معرفة مقدارها وليس هناك من داعٍ لأن يكون هذا التقدير موضوع خصومة في بدء الأمر.
ووضع الأختام بأمر من رئيس المحكمة على منقولات المفلس لم يكن المقصود منه إلا
التناهي في السرعة.
وإنا نكتفي بما أوردناه من أسباب استصدار الأوامر المتقدمة وما على القارئ إلا
الرجوع إلى كل حال على حدة إذ منها يتبين له بلا عناء السبب الداعي إلى استصدار
أمر قاضي الأمور الوقتية أو خلافه فيها.
على أنه مع ذلك سواء في الأهلي أو المختلط نرى في الغالب الأوامر متعلقة بخصومة
مرفوعة أو على وشك أن تُرفع إلى القضاء والمرجع في ذلك كله النصوص القانونية
المبعثرة في مختلف القوانين وكذا القياس وحُسن تصرف القضاة وما يستعملونه في
القيام بولايتهم الإدارية من الفطنة والحذق وما تمليه عليهم درايتهم وحُسن خبرتهم.
وإليك بعض الأمثلة التي لم يرد في القانون نصوص خاصة بشأنها إلا أن التصرف فيها
يرجع إلى سلطة القاضي الإدارية:
1 - حجز المقلدات فقد ألف من يقع عليهم ضرر التقليد في مصنوعاتهم أن يلجأوا إلى
القاضي ليصدر أمره بحجز المقلدات توطئة لرفع الدعوى.
2 - الأمر في جني المحصولات والثمار المحجوز عليها لعدم احتمالها الإرجاء.
3 - الأمر ببيع المحجوزات التي يتسارع إليها الفساد.
أما في القضاء الشرعي فقد يصدر القاضي أو رئيس المحكمة أوامر بناءً على عرائض بدون
أن تكون هناك خصومة قائمة حالاً أو أنها ستقام بعد حين ومن الأمثلة على ذلك
التصرفات في الأوقاف وزواج من لا ولي له وغير ذلك مما ذكرناه آنفًا.
التفريق بين الأوامر الإدارية والأحكام القضائية
ذكرنا ما هو مقرر في كتب الشراح الفرنسيين من أوجه الفرق بين الأوامر
والأحكام وأنا مع إقرارنا الفرقين الأول والثاني وهما:
1 - كون الأوامر ليس لها قوة قضاء القاضي.
2 - إمكان الطعن فيها بالبطلان بطريقة أصلية.
نقول إن الفرق الثالث المختلف فيه في فرنسا لا يمكن التسليم به في مصر لأن النصوص
عندنا صريحة في إمكان التظلم من الأوامر سواء لنفس الآمر أو للمحكمة - أما من جهة
الاستئناف فإن الأمر بعد رفعه إلى المحكمة يتحول إلى خصومة بالمعنى الحقيقي ويكون
بذلك قد خرج من ولاية القاضي المعبر عنها بلفظة imperium
في القانون الروماني إلى سلطة المحكمة المعبر عنها بلفظة judictio
ويمكن أن يقال بعبارة أخرى إنه بالتظلم إلى المحكمة قد تحولت الإجراءات الإدارية
إلى إجراءات قضائية كما هو الحال في استبدال الدين بآخر وذلك بانتقالها من إجراءات
ذات طرف إلى إجراءات ذات طرفين.
الإجراءات: أما الإجراءات التي تُتبع في استصدار الأوامر فمبينة في المواد
التي أوردنا نصوصها فيما سبق وهي في غنى عن الإيضاح.
القاضي المختص بإصدار الأوامر
لما كانت المواد المتعلقة بالأوامر على العرائض (127) إلى (132)
مأخوذة عن المواد المختلطة (130) إلى (135) وكان القانون المختلط أحال النظر في
الأوامر على قاضي الأمور الوقتية سواء كان رئيس المحكمة أو من يندب لذلك دون أن
يعهد بهذه المهمة للقاضي الجزئي بصفة أصلية كان المتبادر لأول وهلة من تلاوة هذه
المواد أن الاختصاص الوارد بها هو لرئيس المحكمة أو القاضي الأمور الوقتية في
المحكمة الكلية إذا كان هذا القاضي هو غير رئيس المحكمة.
ولكن لما كان قاضي الأمور الجزئية في القضاء الأهلي هو في آنٍ واحد قاضٍ للأمور
الوقتية في حدود وظيفته بدليل تخويله حق إعطاء الأمر بتوقيع الحجوز التحفظية
المختلفة بخلاف زميله المختلط إذ لا يملك هذا الحق بل انفرد به رئيس المحكمة أو
قاضي الأمور الوقتية بالمحكمة الكلية كما تقدم، قلنا لما كان الأمر كذلك تحتم
التوسع في تفسير المواد المشار إليها بحيث إن نصها يجب حتمًا أن يشمل في آنٍ واحد
القاضي المذكور دون التقيد بما عليه الحال في القضاء المختلط لاختلاف القواعد فيما
يتعلق بالاختصاص في كل من التشريعين عن الآخر.
وعدا ما تقدم فإن هناك أحوالاً خاصة يكون إصدار الأوامر فيها من قضاة آخرين كما هو
الحال بالنسبة لقاضي التفليسة وهذا واضح من الأمثلة المتعددة التي سبق أن أتينا
عليها كما هو الحال بالنسبة لأتعاب المحاماة وأجر الخبير فإن تقدير كل منهما يكون
من اختصاص المحكمة التي نظرت الدعوى سواء كان القاضي الجزئي أو قاضي الأمور
المستعجلة.
وقد تكون السلطة الإدارية موكولة في بعض الأحيان إلى هيئة المحكمة كما هو الشأن في
القضاء الشرعي فقد سبق أن ذكرنا أن التصرفات في الأوقاف من اختصاص هيئة المحكمة
الابتدائية مما يعبر عنه في القضاء الأهلي في مثل هذا المقام بغرفة المشورة.
الطعن في الأوامر
نصت المادة (130/ 134) على جواز رفع التظلم إلى المحكمة ونصت المادة
(132/ 135) على إمكان رفع التظلم لنفس الآمر من الخصم الذي صدر عليه الأمر أما
التظلم إلى المحكمة فحق لمقدم العريضة وللخصم الذي أعلن إليه الأمر بصريح النص.
ولكن التظلم إلى الآمر نفسه لا يكون إلا من الخصم الذي صدر الأمر ضده وهو المحجوز
عليه دون سواه تطبيقًا لنص المادة (132/ 135).
إلا أن إحدى المحاكم قضت في العهد الأخير بإمكان حصول التظلم من كل من يصيبه ضرر
من الحجز ارتكانًا إلى اختلاف التعبيرين في كل من المادتين (130) و(132) إذ ذكرت
الأولى الخصم (المعلن إليه) contre
laquelle l'ordonnance a eté signifiée بينما ورد في الثانية (من صدر الأمر عليه) contre laquelle l'ordonnance a été rendue
ومما قالت المحكمة في حكمها (إن هناك معنيين متفاوتين فعبارة (من صدر الأمر عليه)
يصح أن يقال باحتمالها معنى أوسع من عبارة (أعلن الأمر إليه) إذ قد ينصرف التعبير
الأول دون الثاني إلى من يصيبه ضرر من الأمر الصادر من القاضي).
ثم حاولت المحكمة أن تؤيد نظريتها هذه بقولها إن المادة (132) التي استعمل فيها
هذا التعبير (من صدر الأمر عليه) هي الخاصة بالتظلم السريع أي التظلم أمام مصدر
الأمر أمكن إدراك حكمة خفية قد تكون هي الداعي إلى تعمد هذا التباين في التعبير
وتلك الحكمة هي أنه في حالة التظلم أمام المحكمة طبقًا للمادة (130) يمكن من أصابه
ضرر من الأمر أن يدخل خصمًا ثالثًا أمامها في دعوى التظلم أو في الدعوى الأصلية أو
يرفع دعوى استرداد مستقلة إذا كان الأمر صدر بالحجز وكل هذه الإجراءات متقاربة
الأجل فلا داعي إذن لأن ينص بعبارة (من صدر عليه الأمر) تلك العبارة الواسعة المدى
واكتفي بذكر (من أعلن إليه) الأمر - أما في حالة المادة (132) عندما يكون التظلم
أمام مصدر الأمر فإن اختصاص القاضي اختصاص إداري لا يمكن معه دخول خصم ثالث أمامه
وقد يكون الخصم الظاهر متواطئًا مع مستصدر الأمر فلا يتظلم للقاضي الآمر ولا
للمحكمة من أجل ذلك قد توسع الشارع في ذكر من يمكنهم رفع التظلم فيشمل الحق كل من
أصابه ضرر من أمر القاضي. ويلاحظ هنا أنه يوجد رأي يقول إن التظلم أمام القاضي
مصدر الأمر يحرم من التظلم فيما بعد للمحكمة وهذا مما يجعل الحكمة في مد حق التظلم
أمام القاضي لكل من يصيبه ضرر أكثر نصوعًا (راجع حكم الزقازيق 12 فبراير سنة 1920
منشور في المجموعة الرسمية سنة 1920 صفحة 95) [(1)].
هكذا رأت المحكمة وإنا لا نجاريها فيما قررت بل إن كل ما استند إليه بعيد عن
الصواب.
فقد استندت إلى اختلاف التعبيرين مع أنه لا يتعدى الألفاظ لكن المعنى واحد إذ
المعلن إليه هو نفسه من صدر الأمر عليه وكل ما يمكن أن يقال إن حالة المادة (130/
133) تقتضي الإعلان لأن التظلم سيُرفع إلى المحكمة نفسها فمن اللازم أن تكون
الصورة في يد المتظلم يبني عليها تظلمه وتكون أساسًا للمرافعة. أما حالة المادة
(132/ 135) فإنها مستعجلة لا تتوقف على إعلان ويكفي فيها أن يكون الأمر قد أصدره
القاضي ومن السهل الفصل في التظلم على أصل الأمر الموجود بقلم الكتاب.
وفضلاً عما تقدم فإنه ليست هناك إشارة تفيد أن الشارع أراد غير من صدر ضده الأمر
وهو الذي انفرد بإمكانه التظلم من أمر الحجز المأخوذ ضده بطريقتين مختلفتين أخذًا
بالرأي الراجح في فرنسا نظرًا لعدم وجود نص هناك كما قدمنا.
وإذ كنا إزاء نصوص جاءت على خلاف القاعدة العامة ومن قبيل الشذوذ عن الأصل فقد وجب
علينا عدم التوسع في التفسير والسير في تطبيقها بحذر تام حتى لا نخرج عن مؤداها
بحسب المبنى والمعنى دون التلاعب بالألفاظ.
أما ما جاء في الحكم من أن حرمان (الغير) من التظلم للآمر قد يعود عليه بالضرر
لعدم وجود من يلجأ إليه للتخلص من الأمر لا سيما إذا أخذنا بالرأي القائل بأن
التظلم إلى الآمر يحرم من التظلم إلى المحكمة فليس له أساس.
أولاً: لأن الغير لا يعدم الوسائل التي تبعد الشر عنه إذا أراد اتخاذها وذلك أما
بالاستشكال في تنفيذ الأمر أو برفع دعوى، أصلية ببطلان الأمر وما ترتب عليه وقد
يستطيع أن يرفع دعوى مستعجلة تزيل أثر ما لحقه من الضرر ولو بصفة مؤقتة - نعم قد
يكون المؤدي واحدًا في التظلم المنصوص عليه في الأوامر على العرائض من قبل المحجوز
عليه وفي هذه الطرق المختلفة التي قلنا إن للمتضرر حقًا فيها إذ الغاية التي
يتوخاها المتضرر ليست إلا إسقاط مفعول أمر الحجز ولكن المسألة على كل حال متعلقة
بنصوص قانونية جاءت على سبيل الاستثناء فيتعين إذن تطبيقها بمنتهى الدقة خصوصًا
إذا لاحظنا أن رفع الإشكال قد يؤدي إلى نتيجة أنجع من طريقة التظلم إذ هذه لا توقف
التنفيذ (م 130/ 133) بينما الإشكال يتعين رفعه إلى القاضي المستعجل لا قاضي
الأمور الوقتية ووقف التنفيذ محتم عندئذٍ حتى يأمر القاضي بما يراه على افتراض أن
التنفيذ لم يتم.
ثانيًا: إن الرأي القائل بأن رفع التظلم إلى الآمر يحرم من التظلم إلى المحكمة غير
صواب بالمرة وسنبينه فيما بعد بما فيه الكفاية.
وكأننا بالحكم وقد شعر بضعف حجته ووهن أدلته فلجأ إلى العدالة يبرر بها هذا
التأويل الذي نعته (بالاحتمالي) على أنه في غنى عن تلمس العدالة من النصوص قسرًا
واستخلاصها من ثنايا التعبير كرهًا إذ قد بينا أن (الغير) الذي قد يلحقه ضرر من
تنفيذ الأمر لا يعدم الوسائل القانونية لدفع هذا الضرر عنه.
هذا وقد جاء النص المختلط بأن التظلم أمام نفس الآمر يكون بصفة مستعجلة، ومن
المتفق عليه قضاءً أن الحكم الصادر بهذه الصفة لا يعد حكمًا مستعجلاً بالمعنى
الصحيح ومن ثم قابلاً للاستئناف أمام محكمة الاستئناف العليا بل هو أمر إداري يجب
أولاً رفع التظلم منه إلى المحكمة المختصة مدنية كانت أو تجارية لتفصل فيه طبقًا
للمادة (133) ثم بعد ذلك يجوز استئنافه أمام المحكمة العليا أسوةً بسائر الأحكام
الصادرة من المحاكم الكلية [(2)].
هذا ويلاحظ أن قاضي الأمور المستعجلة في المختلط وإن كان له الحق في تقدير
المصروفات كأتعاب المحامي وأجر الخبير في القضايا المرفوعة أمامه أسوةً بسائر
القضاة إلا أنه لا يفصل في المعارضة التي تُرفع في مثل هذه الأوامر وما السبب إلا
كون هذا القاضي لا ينظر في الموضوع مطلقًا واختصاصه مقصور على الأمور المستعجلة [(3)].
إلى أي وقت يجوز التظلم: ليس هناك من ميعاد لرفع التظلم في مواد الأوامر
على العرائض بل نصت المادة (132) على إمكان حصول التظلم دائمًا أي toujours وذُكرت هذه الكلمة في النص الفرنسي لكل من المواد (130) و(132/
133) و(135) ويلوح لنا أن واضع النص العربي تصرف في الترجمة بعدم إيراد لفظة
(دائمًا) في المادة (130) على أن هذا لا يغير من مدلول المادة لأن عدم تحديد ميعاد
في المادة يجعل تطبيقها جائزًا في كل وقت يمكن استعمال الحق فيه.
وينبني على ما تقدم أن رفع التظلم سواء إلى المحكمة أو إلى القاضي الآمر غير مقيد
بميعاد ويجوز حصوله في كل وقت من أدوار النزاع طالما لم يحصل تنازل عنه وغاية
الأمر أن اختيار طريق المحكمة يمنع من الرجوع إلى الآمر ذاته [(4)] أما العكس
فجائز وهو ما سنبينه فيما يلي.
وقد أراد الشارع بذكر لفظة (دائمًا) (toujours)
أن يأخذ بالرأي القائل بأن رفع الدعوى إلى المحكمة لا يحرم من الالتجاء إلى الآمر
ذاته للمحو والتبديل في أمره لأن المسألة موضوع خلاف شديد في فرنسا حتى مع اشتراط
بعض رؤساء المحاكم شرط الرجوع إليهم عند طروء نزاع في تنفيذ الأمر.
انقسام الرأي في التظلم: للمحاكم رأيان في رفع التظلم نلخصهما أولاً ثم
نأخذ في بيان كل منهما بعد ذلك.
الرأي الأول: للمأخوذ ضده الأمران يرفع التظلم إلى الآمر نفسه أو إلى المحكمة
المختصة وليس له أن يجمع بين الأمرين.
الرأي الثاني: للمأخوذ ضده الأمر الجمع طريقي التظلم بطريقة رفعه إلى الآمر أولاً
ثم إلى المحكمة بعد ذلك.
الرأي الأول
عدم الجمع بين التظلم إلى الآمر والمحكمة
هذا رأي قديم لمحكمة الاستئناف المختلطة [(5)] وقد أخذت به
بعض المحاكم الأهلية [(6)] واستندت إلى
أن الشارع لم يقصد بما قرره في المادتين (130) و(131) أن يمنح لمن صدر عليه الأمر
طريقتين للتظلم يستعملهما الواحدة تلو الأخرى ولكنه رأى أن الحالة قد تدعو أحيانًا
إلى ضرورة سرعة الفصل في التظلم فخول من صدر عليه الأمر أن يقدم هذا التظلم على
وجه السرعة إلى نفس الآمر سواء كان القاضي الجزئي أو قاضي الأمور الوقتية في
المحكمة الكلية فإذا اختار أحد الطريقين يكون قد استوفى حقه في التظلم.
وبإمعان النظر في هذا التدليل نراه غير متفق ومراد الشارع إذ أن هذا قصد بإمكان
التظلم إلى الآمر نفسه من قبل المأخوذ ضده الأمر أن تكون هناك مساواة بين الطالب
والمطلوب ضده الأمر إذ الأول قدم أوراقه إلى قاضي الأمور الوقتية وقد يكون أبدى
ملحوظاته أيضًا فأعطى الأمر بناءً عليها بصفة إدارية من غير أن يكون قد سمع أقوال
الخصم الآخر لذلك كان من الحق والعدل أن يلجأ هذا الخصم إلى نفس الآمر ليسمع منه
تظلمه بصفة إدارية أيضًا في مواجهة الطالب، وإذ تمت معاملة الاثنين على قدم
المساواة أصبح لأيهما حق التظلم إلى المحكمة الكلية في حالة صدور الأمر ضد مصلحته
وعلى افتراض أن القضية من خصائصها والحكم الذي يصدر منها في هذه الحالة يكون
قابلاً للاستئناف وما نقرره هذا موافق كل الموافقة لقضاء محكمة الاستئناف المختلطة
في كثير من أحكامها وهي التي أشرنا إلى بعضها فيما تقدم.
وينبني على ما سبق أن التظلم إلى نفس الآمر لا يغير من طبيعة الأمر إذ يظل معتبرًا
أمرًا إداريًا بحيث إنه لا يمكن الطعن فيه بطريق الاستئناف لأنه ليس بحكم حتى
ينبني الطعن فيه بهذا الطريق إنما للمتضرر أن يحول الإجراءات الإدارية إلى إجراءات
خصومة بالمعنى الحقيقي برفعه الأمر بطريق التظلم إلى المحكمة المختصة فتجرى عليه
إذن الأحكام العامة للدعاوى.
وإذا كان طريق التظلم إلى الآمر نفسه اختياريًا للمأخوذ ضده الأمر كان له الالتجاء
مباشرةً إلى المحكمة المختصة وليس لمستصدر الأمر وجه للتضرر من سلوك هذا السبيل إذ
هو مقرر لمصلحة الطرف الآخر تسويةً له به فله أن يتنازل عنه صراحةً أو ضمنًا.
وحاصل القول إن الخيار لم يكن إذن لحرمان المتظلم (وهو دائمًا المأخوذ ضده الأمر)
إلى الآمر نفسه من الالتجاء إلى المحكمة الابتدائية بل المقصود منه تسويته بالطالب
وتخويله حق المرور بقاضي الأمور الوقتية إذ لا يبعد أن يكون في سلوك هذا الطريق
المختصر ما يغنيه عن التظلم إلى المحكمة الابتدائية ولكنه لا يحرمه منه بتاتًا كما
أن له حق صرف النظر عنه ورفع التظلم إلى المحكمة الابتدائية مباشرةً كما سبق.
لما تقدم يكون الرأي القائل بأن اختيار طريق التظلم أمام الآمر يمنع من التظلم
أمام المحكمة خطأ ولا محل للتعويل عليه أو الأخذ به.
يُحسن بنا في موضوع كهذا عظيم الشأن أن نبدأ بلمحة تاريخية عن سلطة
القاضي الإدارية وأن نتناول بحثه وتمحيصه من عهد القانون الروماني لما في ذلك من
جليل الفائدة وتعرف ما للتقاليد من الأثر في التشريع مهما تقادم عليها العهد وقد
نستخلص من استعراض الماضي البعيد ولو بطريق الإيجاز نتائج يصح التعويل عليها في
مختلف المباحث إذ لا يكفي لمعرفة أحكام القانون وتفهم حقيقة نصوصه وإزالة ما يحيط
بها من اللبس الناتج من اقتضاب النصوص وخلوها من الجلاء والوضوح أن نرجع إلى
القانون الفرنسي وحده بل ينبغي أيضًا أن نبحث عن بعض القواعد على ضوء العصور
الغابرة فقد تكون كفيلة بأن توصلنا إلى حالتنا التي ننشدها.
لذلك نقسم الكلام هنا إلى المباحث الآتية:
1 - القانون الروماني.
2 - القانون الفرنسي القديم.
3 - القانون الفرنسي الحديث.
4 - الشريعة الإسلامية.
5 - القانون المصري.
6 - الطعن في أوامر الصرف وحجز الدين.
وهاك بيان كل من هذه المباحث:
(1)
القانون الروماني
كان للقضاة في القانون الروماني نوعان من الاختصاص القضائي، وهما
الاختصاص القضائي Attribution
de juridiction والاختصاص
الإداري Imperium.
والمقصود بالاختصاص القضائي هو ما كان للقاضي الروماني من حق الفصل في المشكلات
التي تُرفع إليه في شكل دعاوى بالمعنى الصحيح وهذه المهمة كانت معهودة في روما إلى
قاضيين الأول قاضي الشكل Magistrat وكانت مهمته مقصورة على صوغ
الإجراءات في قالب قانوني دون تدخل في موضوع الدعوى - الثاني قاضي الموضوع judex وهو الذي تحال إليه الدعوى من الأول فيفصل فيها وكان هذا القاضي
يختار من بين أفراد الناس، أما الأول فكان موظفًا حكوميًا.
أما القضاء الإداري فكان عبارة عن الأوامر التي يصدرها القاضي بما له من الولاية
العامة Imperium بغير تحرٍ لوقائع الدعوى كالأمر
الصادر لشخص بوضع يده على عقار Missiones
in Possessionem أو الأمر الصادر بإعادة الحالة إلى ما كانت عليه Les restitutiones in integrum وذلك بإبطال حكم الالتزام وإرجاع
المغبون إلى حالته التي كان فيها قبل التعاقد.
ويُفهم مما تقدم أن وظيفة القاضي الروماني في المسائل الإدارية أو بعبارة أخرى
الإرادية (Volontaires) أهم بكثير من وظيفته القضائية إذ
هذه كما ذكرنا كانت منحصرة في تحضير الدعوى وتيسير الأمر على أرباب الحقوق من أجل
الوصول إليها في الدور الأول من الخصومة in judicio أما الأوامر فكان القاضي ينشئ بها الحقوق بمعنى أنه كان المصدر
الذي يستمد منه طالب الحق حقه.
وكان يدخل في سلطة القاضي الإدارية الإشراف على الانتقال الحقوق العينية والعتق
والتبني بطريقة الدعوى الصورية in
jure cessio ومن مقتضى
إجراءات هذه الدعوى أن المدعي يطالب بحقه فيسكت المدعى عليه ولا يدفع الدعوى بأي
وجه فيكون من القاضي عندئذٍ تدوين ما حصل أمامه وتكون النتيجة في الواقع انتقال
الحق من يد المدعى عليه إلى يد المدعي.
ومن الممكن أن نلخص الفروق بين السلطة القضائية والسلطة الإدارية في القانون
الروماني فيما يأتي:
1 - استعمال القاضي سلطته الإدارية خارج محكمته وما كان هناك من ضرورة لحضور
الضابط الذي كان يتحتم أن يتقدم القاضي عادةً عند قيامه بوظيفة القضاء الحقيقي.
2 - لا يفقد القاضي حق استعمال سلطته الإدارية خارج دائرة ولايته القضائية إذ هذا
الحق من المزايا المرتبطة بشخصه بصفة فخرية a titre honorifique.
3 - كان للقاضي حق إتيان الأعمال الإدارية لأهله وذويه بخلاف الأعمال القضائية
المتعلقة بهم فكان ممنوعًا منها.
4 - للقاضي إجراء الأعمال الإدارية حتى في أيام الأعياد وليس الأمر كذلك فيها
بالنسبة للسلطة القضائية.
(2)
القانون الفرنسي القديم
كان للقانون الروماني كما كان لأحكام الديانة المسيحية تأثير تام في
تكوين نظرية القضاء الإداري في التشريع الفرنسي القديم إذ تبين مما ذكرنا عن
القانون الروماني أن الاتفاقات التي تحصل أمام القاضي كالبيع والعتق والتبني وغير
ذلك تُعد من قبيل القضاء الولائي أو الإداري.
وكانت تقضي مبادئ الشريعة المسيحية أيضًا بأن هناك وظيفتين للقضاء: الأولى إدارية
وهي المقررة للمسائل الروحية أو شبه الروحية كالأوامر الصادرة بالترخيص بالتبشير
والإرشاد وبقبول أحد الأفراد في سلك الرهبنة وغير ذلك وكانت سلطة إصدار هذه الأوامر
محولة للأسقف أو وكيله، والثانية قضائية وكان يقوم بها قاضٍ خاص إذا ما طرأ نزاع
بين أحد رجال الكهنوت وأحد أفراد الناس.
وكان من نتائج تأثير النظريتين الرومانية والمسيحية أن أعمال القضاء الإداري أصبحت
على نوعين: الأول وهو الذي يكفي فيه أن يتم أمره على يد السلطة القضائية أو يقع
بتصديق منها، والثاني وهو الذي يجب أن يصدر بشأنه من القاضي قرار ويشمل النوع
الأول التبني adoption وإثبات الرشد emancipation والعتق manumission ويشمل الثاني بيع عقار الصغير وعتق
رقيق الصغير.
وكان من مقتضى النظرية القديمة عد الموثقين كموظفين قائمين بشطر من سلطة القضاء
الإدارية.
(3)
القانون الفرنسي الحديث
جاء القانون الفرنسي الحديث خلوًا من أية إشارة خاصة إلى سلطة القضاء
الإدارية.
نعم أن القانون المدني أشار إلى اختصاص غرفة المشورة chambre du conseil بإصدار الإذن في بعض المسائل غير أنه لم يكن ليضع قواعد صحيحة
تصلح لتكييف نظرية السلطة الإدارية للقاضي.
كذلك نصت المادة (588) مرافعات على اختصاص رئيس المحكمة بإصدار أوامر حجز الدين Saisie arrêt .
وهناك نصوص أخرى متعلقة بالأوامر التي يصدرها رئيس المحكمة أو غرفة المشورة لا نرى
حاجة لبيانها إلا أن النصوص خالية من بيان ما يجب اتباعه من الإجراءات وطرق الطعن
في هذه الأوامر، وقد كان صمت النصوص داعيًا إلى أن يضع أهل العلم والدراية من رجال
القانون قواعد لهذه السلطة تحديدًا لنطاقها وتبيانًا لطرق الطعن فيها.
وقد فرقوا بين السلطة القضائية والسلطة الإدارية وقالوا بأن مجال الأولى في
الخصومات بالمعنى الحقيقي أي المنازعات التي تقوم بين مدعٍ ومدعى عليه، أما
الثانية فتكون في غير الخصومات وينبني على ذلك في عرفهم أن هناك مميزات ثلاث للأمر
الإداري وهي:
أولاً: الأمر الإداري لا يحوز على العموم قوة قضاء القاضي وهو ما يسمح للقاضي بسحب
الأمر بعد منحه.
ثانيًا: يجوز الطعن في الأمر الإداري بالبطلان بصفة أصلية.
ثالثًا: الأوامر الإدارية غير قابلة للطعن مبدئيًا ولو أن هذا الفارق الأخير محل
خلاف كما سيأتي.
أما منشأ هذا الخلاف الذي أشرنا إليه فهو أن بعضهم يرى أن الأوامر الإدارية لا
يمكن إلغاؤها بعد صدورها وغاية ما هنالك أن إزالة أثرها لا تكون إلا بدعوى بطلان
أصلية تُرفع من المأخوذ ضده الأمر ويرى آخرون جواز التظلم منها ثم الطعن فيها بعد
أن تكون قد تحولت إلى خصومة حقيقية.
ولا حاجة بنا إلى زيادة التوسع فيما هو عليه الحال في فرنسا إذ فيما قلناه الكفاية
للمقارنة بالقانون المصري ومعرفة ما كان للتشريع والقضاء الفرنسيين من الأثر في
تشريعنا.
(4)
الشريعة الإسلامية
يقسم علماء الفقه القضاء إلى ثلاثة أقسام:
قولي وفعلي وضمني. وقد رأينا أن نأتي على تعريف كل منها وإن كان لا يهمنا من أمرها
سوى الأول والثاني إلا أن تمام الفائدة يقضي علينا بالإتيان على تعريفها جميعًا.
فالقضاء القولي: يرجع إلى سلطة القاضي القضائية ومحله الخصومات بالمعنى الصحيح.
والفعلي: وهو بعينه القضاء الإداري ومرجعه الولاية العامة للقاضي فلا يحتاج إلى
دعوى بل يكفي فيه إذن القاضي أو أمره بتزويج الصغير واليتيم وشراء وبيع مال اليتيم
وقسمة عقاره مثلاً ومن المعلوم أن بعض ما ذكر أصبح مخولاً الآن للمجالس الحسبية.
والقضاء الضمني: يكون المحكوم فيه غير مقصود بالذات بل هو داخل ضمن المحكوم به
قصدًا كما لو شهد اثنان بأن زوجة وكلت زوجها في أمر من الأمور على خصم منكر وحكم
القاضي بتوكيلها كان هذا الحكم قضاءً بالزوجية وإن لم تكن الدعوى في حادثة
الزوجية.
وقد جاءت اللائحة الشرعية بنصوص تتفق كل الاتفاق مع تقسيم القضاء إلى قولي وفعلي
والأول هو الاختصاص الأصلي فلا حاجة للتعرض له بأكثر مما تقدم. أما الثاني فهو
اختصاص تبعي وقد نصت المادة (28) من لائحة الإجراءات على أن التصرفات في الأوقات
من إقامة ناظر وضم ناظر إلى آخر واستبدال وإذن بعمارة أو تأجير أو استدانة أو
بخصومة وغير ذلك تكون من خصائص هيئة المحكمة التي تكون في دائرتها أعيان الوقف
كلها أو بعضها الأكثر قيمة أو أمام المحكمة التي بدائرتها محل توطن الناظر كما نصت
المادة (29) على أن الإذن في غير الأوقاف بجميع مقتضياته الشرعية من اختصاص رؤساء
المحاكم والقضاة الجزئيين في دائرة اختصاصهم وكذا تزويج من لا ولي له من الأيتام
وغيرهم.
ويلحق بما تقدم إشهادات تحقيق الوفاة والوراثة وأوامر تقدير أجور الخبراء
ومصروفاتهم ونحو ذلك مما نصت عليه اللائحة.
وكانت هذه المسائل فيما سبق غير قابلة للاستئناف على اعتبار أنها أوامر إدارية،
أما الآن فقد أصبح الاستئناف جائزًا بمقتضى القانون نمرة (33) المعدل للمادة (7)
في المسائل الآتية:
( أ ) إقامة ناظر وضم ناظر إلى آخر وإذن أحد الناظرين بالانفراد ولو في عمل خاص
ورفض الإذن بالخصومة والإذن بمخالفة شرط الواقف مهما كانت قيمة الأعيان الموقوفة.
(ب) الموافقة على الاستبدال أو عدم الموافقة عليه والإذن بالاستدانة والتحكير
والتأجير لمدة طويلة وبيع العقار الموقوف لسداد دين إذا كانت قيمة الأعيان
الموقوفة تزيد على خمسمائة جنيه مصري.
أما ما خرج عن دائرة التصرفات المذكورة سواء في الأوقاف أو في غيرها وكذا جميع
المسائل الإدارية الأخرى كل ذلك يكون غير قابل للاستئناف طبقًا للمادة (31) من اللائحة
ونصها (متى نُظر شيء مما ذُكر بمادتي (28) و(29) لدى من له حق النظر فيه فليس
لغيره نظرة).
أما ما لم يُذكر بهاتين المادتين فلا يطعن فيه أيضًا إذ حكمه كحكم سائر الأوامر
الإدارية وبمعزل عن الأحكام.
هذا وتجوز المعارضة في تقدير أجرة أهل الخبرة وتفصل فيها المحكمة المختصة بالقضية
الأصلية نهائيًا (م 236 إلى 239 من اللائحة).
ونلاحظ أن تعديل المادة (7) كان يقتضي تعديل المادة (31) التي جاءت في حكمها
منطبقة على كل ما ورد بالمادتين (28) و(29) مع أن جُل ما تضمنته المادة (28) أصبح
استئنافه جائزًا، ومهما كانت المسألة قليلة الشأن في حد ذاتها إلا أن انسجام
النصوص وانتفاء كل تعارض ولو ظاهريًا كان يقتضي أن يضاف إلى المادة (31) عبارة
تؤدي إلى أن ما جاء بها لا يخل بالتعديل الطارئ على المادة (7).
ومما تقدم يتبين أن هناك أوجه شبه بين القواعد الأساسية في السلطتين القضائية والإدارية
في كل من القانون الروماني والشريعة الإسلامية.
(5)
القانون المصري
لاحظ الشارع المصري ما في القانون الفرنسي من نقص فأراد تلافيه بما
أتى به من النصوص في فصل خاص مسترشدًا في ذلك بآراء رجال العلم وقضاء المحاكم،
وإنا لنورد فيما يلي المواد المتعلقة بهذا الموضوع لتسهيل الإلمام والرجوع إليها
في بحثنا هذا.
(م 127):
في الأحوال التي يكون للخصم فيها وجه في طلب صدور أمر يقدم عريضة بذلك إلى رئيس
المحكمة أو إلى القاضي المعين للأمور الوقتية - تطابق (م 130) مختلط.
(م 128):
يجب على رئيس المحكمة أو القاضي المذكور أن يكتب أمره في ذيل العريضة ولو كان بعدم
قبولها - تطابق (م 131) مختلط.
(م 129):
يترك مقدم العريضة نسخة منها عند رئيس المحكمة أو القاضي ليسلمها مع صورة من أمره
ممضاة منه إلى كاتب المحكمة بغير تأخير - تطابق (م 132) مختلط.
(م 130):
لمن قدم العريضة وللخصم الذي أعلن الأمر إليه الحق في التظلم من الأمر إلى المحكمة
مع تكليف الخصم الآخر بالحضور أمامها بمقتضى علم خبر إنما لا يترتب على هذا التظلم
توقيف تنفيذ الأمر تنفيذًا مؤقتًا إذ أنه واجب حتمًا.
ويجوز أيضًا أن يكون التظلم من الأمر منضمًا بالتبعية إلى الدعوى الأصلية في أي
حالة كانت عليها الدعوى بدون أن يترتب على ذلك سقوط حق بسبب مضي الميعاد - تطابق
(م 133) مختلط.
(م 131):
لا تُذكر في الأوامر الأسباب التي بنيت عليها إنما الأوامر التي تكون منافية لأمر
سابق صدوره من نفس الآمر أو غيره لا بد أن تكون مشتملة على بيان الأحوال الجديدة
التي اقتضت إصدارها وإلا كانت لاغية - تطابق (م 134) مختلط.
(م 132):
وفضلاً عما ذُكر يكون للخصم الذي صدر عليه الأمر الحق دائمًا في أن يتظلم من نفس
الأمر مع تكليف الخصم الآخر بالحضور بمقتضى علم خبر - تقابل (م 135) مختلط ونصها:
(للخصم الذي صدر الأمر عليه الحق أيضًا في أن يتظلم منه لنفس الآمر ويكون التظلم
إليه بصفة كونه في هيئة محكمة الأمور المستعجلة).
حدود القضاء الإداري
لم يبين القانون الدائرة التي يعمل فيها القاضي بما له من الولاية
الإدارية بل ضرب لنا أمثلة كثيرة في بعض مواده وإنا لنورد كثيرًا منها لنقف على ما
إذا كان يمكن بناؤها على أساس ثابت وإرجاعها إلى قواعد معينة بحيث إنها تكون لنا
نموذجًا يساعدنا على تعرف الأعمال الإدارية والوقوف على كنهها وحقيقتها والفصل
بينها وبين غيرها من الأعمال التي تقتضي بطبيعتها أن تكون موضوع خصومة بالمعنى
الحقيقي.
( أ ) تنقيص المواعيد القانونية في تحديد الجلسات للدعاوى (م 49/ 38 و39 و40).
(ب) توقيع حجز ما للمدين لدى الغير عند عدم وجود سند بيد الدائن أو كان السند
الموجود غير خالٍ من النزاع (م 412/ 473).
(جـ) الحجز التحفظي المخول للمؤجر على ما بالعقار من المنقولات (م 668/ 669 و670/
760 و761).
(د) الحجز المخول للمالك على منقولاته التي بيد الغير (م 678/ 767).
(هـ) حق الاختصاص المخول للدائن على عقارات مدينه إذا كان بيده سند رسمي (م 681/
769).
(و) تعيين يوم للتحقيق (م 183 و258 و285/ 211 و299 و326).
(ز) أمر تقدير مصروفات الدعوى (م 116/ 121).
(ح) صدور الأمر بإجراء التوزيع (م 514/ 578).
(ط) الأمر بإعفاء الراسي عليه المزاد من تقديم كفالة (م 575/ 657).
(ي) الأمر بتوقيع الحجز على المدين الذي ليس له مقر بالديار المصرية (م 671/ 764).
(ك) توقيع الحجز لحامل الكمبيالة أو السند تحت الإذن (م 675/ 764).
(ل) الأمر بتنفيذ أحكام المحكمين (م 725/ 814).
(م) أوامر قاضي التفليسة (م 236/ 244 تجاري).
(ن) الإذن للمرتهن التجاري ببيع المنقولات المرهونة (م 78/ 84 تجاري).
(س) الإذن للوكيل بالعمولة ببيع البضائع الموجودة تحت يده لحصوله على دينه (م 89/
92 تجاري).
(ع) الأمر بالمطالبة بدفع قيمة كمبيالة ضائعة (م 150/ 157 تجاري).
(ف) وضع الأختام على أموال المدين المفلس أو عمل أي طريقة أخرى من الطرق التحفظية
(م 204/ 213 تجاري).
بقي علينا بعد أن أوردنا الأمثلة المتقدمة أن نبحث عما إذا كان لهذه الحالات كما
قلنا قاعدة قانونية يمكن إرجاعها إليها واعتبارها طابعًا لها يميزها عن سواها.
إنا لا نرى ذلك وغاية ما يمكن أن يقال إن خاصية الأمر الإداري هي أنه صادر بناءً
على عريضة تُرفع للقاضي بينما الحكم القضائي لا يكون إلا بناءً على عريضة تعلن
للخصم إلا أن هذه الخاصية لا تؤدي إلى تعرف العمل الإداري إذ هي لا ترجع إلى طبيعة
موضوع الطلب ذاته بل إلى الإجراءات التي تُتبع لدى القاضي. ولكن المهم أن يعرف كنه
العمل الإداري قبل الشروع في اتخاذ الإجراءات اللازمة للحصول عليه حتى تزل قدم
الطالب فيخطئ من جهة طلب أمر في مسألة قضائية صرفة. وقد يجوز أن يرتكب العكس فيرفع
دعوى حيث كان يكفيه أن يستصدر أمرًا من القاضي بطلباته.
ومما يؤيد قولنا إن هذه الحالات التي خول القانون صاحب الشأن فيها استصدار أمر من
القاضي لإجراء مقتضياتها تختلف أغراضها وتتباين أسبابها إننا إذا نظرنا إلى الحجز
التحفظي خلناه لا يعطى إلا بناءً على خصومة في بدء التكوين والظهور إلا أنها خصومة
بالمعنى الحقيقي إذ لدينا مؤجر ومستأجر تتعارض مصلحة كل منها ومصلحة الآخر ولا
يكون للحجز أثر ما إلا إذا نظرت المحكمة الدعوى وفصلت فيها لمصلحة الحاجز.
أما الذي برر وقوع الحجز بناءً على عريضة هو مصلحة المؤجر التي أراد الشارع أن
تكون محلاً لرعايته فخول القاضي أن يأذن بتوقيع الحجز على غرة من المستأجر حتى لا
يعبث بتلك المصلحة بمبادرته إلى تهريب الأمتعة إذا كان لا بد من أن تكون الدعوى
سابقة على الحجز إذ يجب فيها إعلان الخصم بادئ ذي بدء.
أما أمر التقدير فيكون بأمر بناءً على أن المصروفات محكوم بها قضاءً ولم يبقَ سوى
معرفة مقدارها وليس هناك من داعٍ لأن يكون هذا التقدير موضوع خصومة في بدء الأمر.
ووضع الأختام بأمر من رئيس المحكمة على منقولات المفلس لم يكن المقصود منه إلا
التناهي في السرعة.
وإنا نكتفي بما أوردناه من أسباب استصدار الأوامر المتقدمة وما على القارئ إلا
الرجوع إلى كل حال على حدة إذ منها يتبين له بلا عناء السبب الداعي إلى استصدار
أمر قاضي الأمور الوقتية أو خلافه فيها.
على أنه مع ذلك سواء في الأهلي أو المختلط نرى في الغالب الأوامر متعلقة بخصومة
مرفوعة أو على وشك أن تُرفع إلى القضاء والمرجع في ذلك كله النصوص القانونية
المبعثرة في مختلف القوانين وكذا القياس وحُسن تصرف القضاة وما يستعملونه في
القيام بولايتهم الإدارية من الفطنة والحذق وما تمليه عليهم درايتهم وحُسن خبرتهم.
وإليك بعض الأمثلة التي لم يرد في القانون نصوص خاصة بشأنها إلا أن التصرف فيها
يرجع إلى سلطة القاضي الإدارية:
1 - حجز المقلدات فقد ألف من يقع عليهم ضرر التقليد في مصنوعاتهم أن يلجأوا إلى
القاضي ليصدر أمره بحجز المقلدات توطئة لرفع الدعوى.
2 - الأمر في جني المحصولات والثمار المحجوز عليها لعدم احتمالها الإرجاء.
3 - الأمر ببيع المحجوزات التي يتسارع إليها الفساد.
أما في القضاء الشرعي فقد يصدر القاضي أو رئيس المحكمة أوامر بناءً على عرائض بدون
أن تكون هناك خصومة قائمة حالاً أو أنها ستقام بعد حين ومن الأمثلة على ذلك
التصرفات في الأوقاف وزواج من لا ولي له وغير ذلك مما ذكرناه آنفًا.
التفريق بين الأوامر الإدارية والأحكام القضائية
ذكرنا ما هو مقرر في كتب الشراح الفرنسيين من أوجه الفرق بين الأوامر
والأحكام وأنا مع إقرارنا الفرقين الأول والثاني وهما:
1 - كون الأوامر ليس لها قوة قضاء القاضي.
2 - إمكان الطعن فيها بالبطلان بطريقة أصلية.
نقول إن الفرق الثالث المختلف فيه في فرنسا لا يمكن التسليم به في مصر لأن النصوص
عندنا صريحة في إمكان التظلم من الأوامر سواء لنفس الآمر أو للمحكمة - أما من جهة
الاستئناف فإن الأمر بعد رفعه إلى المحكمة يتحول إلى خصومة بالمعنى الحقيقي ويكون
بذلك قد خرج من ولاية القاضي المعبر عنها بلفظة imperium
في القانون الروماني إلى سلطة المحكمة المعبر عنها بلفظة judictio
ويمكن أن يقال بعبارة أخرى إنه بالتظلم إلى المحكمة قد تحولت الإجراءات الإدارية
إلى إجراءات قضائية كما هو الحال في استبدال الدين بآخر وذلك بانتقالها من إجراءات
ذات طرف إلى إجراءات ذات طرفين.
الإجراءات: أما الإجراءات التي تُتبع في استصدار الأوامر فمبينة في المواد
التي أوردنا نصوصها فيما سبق وهي في غنى عن الإيضاح.
القاضي المختص بإصدار الأوامر
لما كانت المواد المتعلقة بالأوامر على العرائض (127) إلى (132)
مأخوذة عن المواد المختلطة (130) إلى (135) وكان القانون المختلط أحال النظر في
الأوامر على قاضي الأمور الوقتية سواء كان رئيس المحكمة أو من يندب لذلك دون أن
يعهد بهذه المهمة للقاضي الجزئي بصفة أصلية كان المتبادر لأول وهلة من تلاوة هذه
المواد أن الاختصاص الوارد بها هو لرئيس المحكمة أو القاضي الأمور الوقتية في
المحكمة الكلية إذا كان هذا القاضي هو غير رئيس المحكمة.
ولكن لما كان قاضي الأمور الجزئية في القضاء الأهلي هو في آنٍ واحد قاضٍ للأمور
الوقتية في حدود وظيفته بدليل تخويله حق إعطاء الأمر بتوقيع الحجوز التحفظية
المختلفة بخلاف زميله المختلط إذ لا يملك هذا الحق بل انفرد به رئيس المحكمة أو
قاضي الأمور الوقتية بالمحكمة الكلية كما تقدم، قلنا لما كان الأمر كذلك تحتم
التوسع في تفسير المواد المشار إليها بحيث إن نصها يجب حتمًا أن يشمل في آنٍ واحد
القاضي المذكور دون التقيد بما عليه الحال في القضاء المختلط لاختلاف القواعد فيما
يتعلق بالاختصاص في كل من التشريعين عن الآخر.
وعدا ما تقدم فإن هناك أحوالاً خاصة يكون إصدار الأوامر فيها من قضاة آخرين كما هو
الحال بالنسبة لقاضي التفليسة وهذا واضح من الأمثلة المتعددة التي سبق أن أتينا
عليها كما هو الحال بالنسبة لأتعاب المحاماة وأجر الخبير فإن تقدير كل منهما يكون
من اختصاص المحكمة التي نظرت الدعوى سواء كان القاضي الجزئي أو قاضي الأمور
المستعجلة.
وقد تكون السلطة الإدارية موكولة في بعض الأحيان إلى هيئة المحكمة كما هو الشأن في
القضاء الشرعي فقد سبق أن ذكرنا أن التصرفات في الأوقاف من اختصاص هيئة المحكمة
الابتدائية مما يعبر عنه في القضاء الأهلي في مثل هذا المقام بغرفة المشورة.
الطعن في الأوامر
نصت المادة (130/ 134) على جواز رفع التظلم إلى المحكمة ونصت المادة
(132/ 135) على إمكان رفع التظلم لنفس الآمر من الخصم الذي صدر عليه الأمر أما
التظلم إلى المحكمة فحق لمقدم العريضة وللخصم الذي أعلن إليه الأمر بصريح النص.
ولكن التظلم إلى الآمر نفسه لا يكون إلا من الخصم الذي صدر الأمر ضده وهو المحجوز
عليه دون سواه تطبيقًا لنص المادة (132/ 135).
إلا أن إحدى المحاكم قضت في العهد الأخير بإمكان حصول التظلم من كل من يصيبه ضرر
من الحجز ارتكانًا إلى اختلاف التعبيرين في كل من المادتين (130) و(132) إذ ذكرت
الأولى الخصم (المعلن إليه) contre
laquelle l'ordonnance a eté signifiée بينما ورد في الثانية (من صدر الأمر عليه) contre laquelle l'ordonnance a été rendue
ومما قالت المحكمة في حكمها (إن هناك معنيين متفاوتين فعبارة (من صدر الأمر عليه)
يصح أن يقال باحتمالها معنى أوسع من عبارة (أعلن الأمر إليه) إذ قد ينصرف التعبير
الأول دون الثاني إلى من يصيبه ضرر من الأمر الصادر من القاضي).
ثم حاولت المحكمة أن تؤيد نظريتها هذه بقولها إن المادة (132) التي استعمل فيها
هذا التعبير (من صدر الأمر عليه) هي الخاصة بالتظلم السريع أي التظلم أمام مصدر
الأمر أمكن إدراك حكمة خفية قد تكون هي الداعي إلى تعمد هذا التباين في التعبير
وتلك الحكمة هي أنه في حالة التظلم أمام المحكمة طبقًا للمادة (130) يمكن من أصابه
ضرر من الأمر أن يدخل خصمًا ثالثًا أمامها في دعوى التظلم أو في الدعوى الأصلية أو
يرفع دعوى استرداد مستقلة إذا كان الأمر صدر بالحجز وكل هذه الإجراءات متقاربة
الأجل فلا داعي إذن لأن ينص بعبارة (من صدر عليه الأمر) تلك العبارة الواسعة المدى
واكتفي بذكر (من أعلن إليه) الأمر - أما في حالة المادة (132) عندما يكون التظلم
أمام مصدر الأمر فإن اختصاص القاضي اختصاص إداري لا يمكن معه دخول خصم ثالث أمامه
وقد يكون الخصم الظاهر متواطئًا مع مستصدر الأمر فلا يتظلم للقاضي الآمر ولا
للمحكمة من أجل ذلك قد توسع الشارع في ذكر من يمكنهم رفع التظلم فيشمل الحق كل من
أصابه ضرر من أمر القاضي. ويلاحظ هنا أنه يوجد رأي يقول إن التظلم أمام القاضي
مصدر الأمر يحرم من التظلم فيما بعد للمحكمة وهذا مما يجعل الحكمة في مد حق التظلم
أمام القاضي لكل من يصيبه ضرر أكثر نصوعًا (راجع حكم الزقازيق 12 فبراير سنة 1920
منشور في المجموعة الرسمية سنة 1920 صفحة 95) [(1)].
هكذا رأت المحكمة وإنا لا نجاريها فيما قررت بل إن كل ما استند إليه بعيد عن
الصواب.
فقد استندت إلى اختلاف التعبيرين مع أنه لا يتعدى الألفاظ لكن المعنى واحد إذ
المعلن إليه هو نفسه من صدر الأمر عليه وكل ما يمكن أن يقال إن حالة المادة (130/
133) تقتضي الإعلان لأن التظلم سيُرفع إلى المحكمة نفسها فمن اللازم أن تكون
الصورة في يد المتظلم يبني عليها تظلمه وتكون أساسًا للمرافعة. أما حالة المادة
(132/ 135) فإنها مستعجلة لا تتوقف على إعلان ويكفي فيها أن يكون الأمر قد أصدره
القاضي ومن السهل الفصل في التظلم على أصل الأمر الموجود بقلم الكتاب.
وفضلاً عما تقدم فإنه ليست هناك إشارة تفيد أن الشارع أراد غير من صدر ضده الأمر
وهو الذي انفرد بإمكانه التظلم من أمر الحجز المأخوذ ضده بطريقتين مختلفتين أخذًا
بالرأي الراجح في فرنسا نظرًا لعدم وجود نص هناك كما قدمنا.
وإذ كنا إزاء نصوص جاءت على خلاف القاعدة العامة ومن قبيل الشذوذ عن الأصل فقد وجب
علينا عدم التوسع في التفسير والسير في تطبيقها بحذر تام حتى لا نخرج عن مؤداها
بحسب المبنى والمعنى دون التلاعب بالألفاظ.
أما ما جاء في الحكم من أن حرمان (الغير) من التظلم للآمر قد يعود عليه بالضرر
لعدم وجود من يلجأ إليه للتخلص من الأمر لا سيما إذا أخذنا بالرأي القائل بأن
التظلم إلى الآمر يحرم من التظلم إلى المحكمة فليس له أساس.
أولاً: لأن الغير لا يعدم الوسائل التي تبعد الشر عنه إذا أراد اتخاذها وذلك أما
بالاستشكال في تنفيذ الأمر أو برفع دعوى، أصلية ببطلان الأمر وما ترتب عليه وقد
يستطيع أن يرفع دعوى مستعجلة تزيل أثر ما لحقه من الضرر ولو بصفة مؤقتة - نعم قد
يكون المؤدي واحدًا في التظلم المنصوص عليه في الأوامر على العرائض من قبل المحجوز
عليه وفي هذه الطرق المختلفة التي قلنا إن للمتضرر حقًا فيها إذ الغاية التي
يتوخاها المتضرر ليست إلا إسقاط مفعول أمر الحجز ولكن المسألة على كل حال متعلقة
بنصوص قانونية جاءت على سبيل الاستثناء فيتعين إذن تطبيقها بمنتهى الدقة خصوصًا
إذا لاحظنا أن رفع الإشكال قد يؤدي إلى نتيجة أنجع من طريقة التظلم إذ هذه لا توقف
التنفيذ (م 130/ 133) بينما الإشكال يتعين رفعه إلى القاضي المستعجل لا قاضي
الأمور الوقتية ووقف التنفيذ محتم عندئذٍ حتى يأمر القاضي بما يراه على افتراض أن
التنفيذ لم يتم.
ثانيًا: إن الرأي القائل بأن رفع التظلم إلى الآمر يحرم من التظلم إلى المحكمة غير
صواب بالمرة وسنبينه فيما بعد بما فيه الكفاية.
وكأننا بالحكم وقد شعر بضعف حجته ووهن أدلته فلجأ إلى العدالة يبرر بها هذا
التأويل الذي نعته (بالاحتمالي) على أنه في غنى عن تلمس العدالة من النصوص قسرًا
واستخلاصها من ثنايا التعبير كرهًا إذ قد بينا أن (الغير) الذي قد يلحقه ضرر من
تنفيذ الأمر لا يعدم الوسائل القانونية لدفع هذا الضرر عنه.
هذا وقد جاء النص المختلط بأن التظلم أمام نفس الآمر يكون بصفة مستعجلة، ومن
المتفق عليه قضاءً أن الحكم الصادر بهذه الصفة لا يعد حكمًا مستعجلاً بالمعنى
الصحيح ومن ثم قابلاً للاستئناف أمام محكمة الاستئناف العليا بل هو أمر إداري يجب
أولاً رفع التظلم منه إلى المحكمة المختصة مدنية كانت أو تجارية لتفصل فيه طبقًا
للمادة (133) ثم بعد ذلك يجوز استئنافه أمام المحكمة العليا أسوةً بسائر الأحكام
الصادرة من المحاكم الكلية [(2)].
هذا ويلاحظ أن قاضي الأمور المستعجلة في المختلط وإن كان له الحق في تقدير
المصروفات كأتعاب المحامي وأجر الخبير في القضايا المرفوعة أمامه أسوةً بسائر
القضاة إلا أنه لا يفصل في المعارضة التي تُرفع في مثل هذه الأوامر وما السبب إلا
كون هذا القاضي لا ينظر في الموضوع مطلقًا واختصاصه مقصور على الأمور المستعجلة [(3)].
إلى أي وقت يجوز التظلم: ليس هناك من ميعاد لرفع التظلم في مواد الأوامر
على العرائض بل نصت المادة (132) على إمكان حصول التظلم دائمًا أي toujours وذُكرت هذه الكلمة في النص الفرنسي لكل من المواد (130) و(132/
133) و(135) ويلوح لنا أن واضع النص العربي تصرف في الترجمة بعدم إيراد لفظة
(دائمًا) في المادة (130) على أن هذا لا يغير من مدلول المادة لأن عدم تحديد ميعاد
في المادة يجعل تطبيقها جائزًا في كل وقت يمكن استعمال الحق فيه.
وينبني على ما تقدم أن رفع التظلم سواء إلى المحكمة أو إلى القاضي الآمر غير مقيد
بميعاد ويجوز حصوله في كل وقت من أدوار النزاع طالما لم يحصل تنازل عنه وغاية
الأمر أن اختيار طريق المحكمة يمنع من الرجوع إلى الآمر ذاته [(4)] أما العكس
فجائز وهو ما سنبينه فيما يلي.
وقد أراد الشارع بذكر لفظة (دائمًا) (toujours)
أن يأخذ بالرأي القائل بأن رفع الدعوى إلى المحكمة لا يحرم من الالتجاء إلى الآمر
ذاته للمحو والتبديل في أمره لأن المسألة موضوع خلاف شديد في فرنسا حتى مع اشتراط
بعض رؤساء المحاكم شرط الرجوع إليهم عند طروء نزاع في تنفيذ الأمر.
انقسام الرأي في التظلم: للمحاكم رأيان في رفع التظلم نلخصهما أولاً ثم
نأخذ في بيان كل منهما بعد ذلك.
الرأي الأول: للمأخوذ ضده الأمران يرفع التظلم إلى الآمر نفسه أو إلى المحكمة
المختصة وليس له أن يجمع بين الأمرين.
الرأي الثاني: للمأخوذ ضده الأمر الجمع طريقي التظلم بطريقة رفعه إلى الآمر أولاً
ثم إلى المحكمة بعد ذلك.
الرأي الأول
عدم الجمع بين التظلم إلى الآمر والمحكمة
هذا رأي قديم لمحكمة الاستئناف المختلطة [(5)] وقد أخذت به
بعض المحاكم الأهلية [(6)] واستندت إلى
أن الشارع لم يقصد بما قرره في المادتين (130) و(131) أن يمنح لمن صدر عليه الأمر
طريقتين للتظلم يستعملهما الواحدة تلو الأخرى ولكنه رأى أن الحالة قد تدعو أحيانًا
إلى ضرورة سرعة الفصل في التظلم فخول من صدر عليه الأمر أن يقدم هذا التظلم على
وجه السرعة إلى نفس الآمر سواء كان القاضي الجزئي أو قاضي الأمور الوقتية في
المحكمة الكلية فإذا اختار أحد الطريقين يكون قد استوفى حقه في التظلم.
وبإمعان النظر في هذا التدليل نراه غير متفق ومراد الشارع إذ أن هذا قصد بإمكان
التظلم إلى الآمر نفسه من قبل المأخوذ ضده الأمر أن تكون هناك مساواة بين الطالب
والمطلوب ضده الأمر إذ الأول قدم أوراقه إلى قاضي الأمور الوقتية وقد يكون أبدى
ملحوظاته أيضًا فأعطى الأمر بناءً عليها بصفة إدارية من غير أن يكون قد سمع أقوال
الخصم الآخر لذلك كان من الحق والعدل أن يلجأ هذا الخصم إلى نفس الآمر ليسمع منه
تظلمه بصفة إدارية أيضًا في مواجهة الطالب، وإذ تمت معاملة الاثنين على قدم
المساواة أصبح لأيهما حق التظلم إلى المحكمة الكلية في حالة صدور الأمر ضد مصلحته
وعلى افتراض أن القضية من خصائصها والحكم الذي يصدر منها في هذه الحالة يكون
قابلاً للاستئناف وما نقرره هذا موافق كل الموافقة لقضاء محكمة الاستئناف المختلطة
في كثير من أحكامها وهي التي أشرنا إلى بعضها فيما تقدم.
وينبني على ما سبق أن التظلم إلى نفس الآمر لا يغير من طبيعة الأمر إذ يظل معتبرًا
أمرًا إداريًا بحيث إنه لا يمكن الطعن فيه بطريق الاستئناف لأنه ليس بحكم حتى
ينبني الطعن فيه بهذا الطريق إنما للمتضرر أن يحول الإجراءات الإدارية إلى إجراءات
خصومة بالمعنى الحقيقي برفعه الأمر بطريق التظلم إلى المحكمة المختصة فتجرى عليه
إذن الأحكام العامة للدعاوى.
وإذا كان طريق التظلم إلى الآمر نفسه اختياريًا للمأخوذ ضده الأمر كان له الالتجاء
مباشرةً إلى المحكمة المختصة وليس لمستصدر الأمر وجه للتضرر من سلوك هذا السبيل إذ
هو مقرر لمصلحة الطرف الآخر تسويةً له به فله أن يتنازل عنه صراحةً أو ضمنًا.
وحاصل القول إن الخيار لم يكن إذن لحرمان المتظلم (وهو دائمًا المأخوذ ضده الأمر)
إلى الآمر نفسه من الالتجاء إلى المحكمة الابتدائية بل المقصود منه تسويته بالطالب
وتخويله حق المرور بقاضي الأمور الوقتية إذ لا يبعد أن يكون في سلوك هذا الطريق
المختصر ما يغنيه عن التظلم إلى المحكمة الابتدائية ولكنه لا يحرمه منه بتاتًا كما
أن له حق صرف النظر عنه ورفع التظلم إلى المحكمة الابتدائية مباشرةً كما سبق.
لما تقدم يكون الرأي القائل بأن اختيار طريق التظلم أمام الآمر يمنع من التظلم
أمام المحكمة خطأ ولا محل للتعويل عليه أو الأخذ به.