الملخص
يتناول هذا البحث
بالدراسة والتحليل طبيعة المخالفة التأديبية ومدى خضوعها لمبدأ المشروعية، والعقبات
التي تعترض تطبيق هذا المبدأ،ومرد ذلك أن هذه المخالفات تستعصي على الحصر
والتحديد، فليس بمقدور المشرع تعدادها على وجه الدقة كما هو الشأن بالنسبة للجرائم
المنصوص عليها في قانون العقوبات .
ويترتب على ذلك نتائج
بالغة الخطورة أهمها : إفساح المجال أمام الرؤساء الإداريين وهيئات التأديب للحكم
على تصرفات الموظفين وغيرهم من العاملين في المهن والمؤسسات المختلفة، وتقدير ما
إذا كان الفعل الصادر عنهم يُعدّ مخالفة تستوجب التأديب والعقاب .
ورغم إقرارنا
بالصعوبات المشار إليها فإننا لا نتردد بالمناداة بضرورة تقنين الواجبات
والمحظورات الوظيفية والمهنية بأقصى درجة ممكنة من الوضوح، ليكون الأشخاص
المخاطبون بهذه القواعد على علم بما هو مطلوب منهم وما هو محظور عليهم، علاوة على
أنّ اتباع هذا الأسلوب يُضيق الخناق على سلطات التأديب ويحد من تعسفها في تقديرها
وتكييفها لما يصدر عنهم من أفعال، وفي ذلك ضمان لحقوقهم وحماية لحرياتهم .
المقدمة
يدور جدل فقهي واسع
حول حقيقة الصلة ومدى الارتباط بين المخالفة التأديبية ومبدأ المشروعية، ما يستوجب
بداية تحديد المقصود بكل من هذين المصطلحين .
ذهب جانب من الفقه إلى
تعريف المخالفة أو الجريمة التأديبية بأنها : "كل فعل أو امتناع يرتكبه
العامل ويجافي واجبات وظيفته([1])
أو هي : "إخلال شخص بواجباته الوظيفية أو المهنة التي ينتمي إليها سواء أكان
هذا الإخلال إيجابياً أم سلبياً([2]).
ويرى جانب آخر من الفقه : "أن المخالفة التأديبية ليست فقط الإخلال بواجبات
الوظيفة أو المهنة، بل توجد كلما سلك العامل خارج نطاق وظيفته أو مهنته سلوكاً
معيباً يمس كرامته أو كرامة المرفق الذي يعمل فيه([3]).
ويرى بعض الفقهاء: "أن الجريمة التأديبية تعني عدم التزام الموظف بالأسس
التنظيمية والأخلاقية في أثناء تأدية الوظيفة وخارجها"([4]).
وأهم ما يمكن استنباطه
من هذه التعريفات هو التعميم وعدم التحديد الدقيق لفحوى المخالفة التأديبية، نظراً
لأن هذه التعريفات على درجة من الاتساع بحيث تشمل كل فعل يخل بمقتضيات الوظيفة أو
المهنة سواء تعلق بواجباتها أو محظوراتها أو أخلاقياتها، ويستوي وقوع هذا الإخلال
داخل نطاق العمل الوظيفي أو خارجه .
ويتبنى القضاء الإداري
ذات الموقف في بيانه للمقصود بالمخالفة أو الجريمة التأديبية، فقد جاء في أحد
الأحكام الصادرة عن مجلس الدولة الفرنسي بأن الجريمة أو المخالفة التأديبية تعني :
"إخلال الموظف بواجباته الوظيفية بما في ذلك الأفعال المخلة بشرف
الوظيفة"([5]).
ومما ورد في حيثيات أحد الأحكام الصادرة عن المحكمة الإدارية العليا المصرية قولها
: "كل عمل يخالف الواجبات المنصوص عليها في القوانين، أو يخرج على مقتضى
الواجب الوظيفي، أو يظهر بمظهر من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة، يعاقب تأديبياً([6])،
وكذلك قولها أن الجريمة التأديبية تعني : "إخلال الموظف بواجبات وظيفته أو
خروجه على مقتضياتها أو ارتكابه خارج الوظيفة ما ينعكس عليها"([7]).
وهذا أيضاً هو موقف
محكمة العدل وهي المحكمة الإدارية الوحيدة في الأردن، إذ تقرر أن المخالفة
المسلكية قوامها " مخالفة الشخص لواجبات وظيفته أو مهنته أو مقتضياتها
وكرامتها"([8])
نخلص من ذلك إلى تعريف
المخالفة التأديبية بأنها : فعل أو امتناع يمثل إخلالاً بواجبات الوظيفة أو المهنة
التي ينتمي إليها شخص ما أو محظوراتها، سواء أوقع ذلك في أثناء ساعات الدوام
الرسمي أم بعدها .
أما مبدأ المشروعية
بمفهومه العام فيقصد به خضوع جميع السلطات والأفراد أي الحكام والمحكومين لقواعد القانون وأحكامه، بينما يقصد
به في مجال التجريم والعقاب: قيام المشرع بتحديد الأفعال التي تُعدّ جرائم، وبيان
العقوبات المقررة لها بصورة واضحة ومحددة([9]).
ويُعدّ مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات من المبادئ الأساسية في التشريعات الحديثة
ومن مقتضاه أن لا يُجرّم فعل ولا يعاقب عليه إلا بنص قانوني يحدد نوع الفعل المجرم
وأركانه وشروطه، كما يبين العقوبة المستحقة. ويوفر هذا المبدأ حماية قانونية للفرد
وضمانة لحقوقه وحرياته؛ بمنع السلطة العامة المختصة من اتخاذ أي إجراء بحقه، ما لم
يكن قد ارتكب فعلاً ينص القانون على أنه جريمة معاقب عليها .
لذا يجب على القاضي أن
يلتزم بالنص القانوني، فلا يسوغ له أن يستند في تجريمه لأي فعل على القواعد
الأخلاقية أو الاجتماعية، أو على تقديره بأن الفعل ضار بالمجتمع، كما لا يسوغ
الحكم بعقوبة لم ينص عليها القانون؛ كأن يحظر المشرع فعلاً دون أن يذكر عقوبة
لفاعله، أو يطلب القيام بعمل دون النص على عقوبة الامتناع عن القيام به([10]).
ومن الواضح أن هذا المبدأ يتكوين من شقين؛ الأول : يتعلق بالتجريم، إذ يجب لاعتبار
فعل أو تصرف ما بأنه غير مشروع أن تجرمه وتؤثمه النصوص والقواعد القانونية، فإن لم
يكن هناك نص فلا يُعدّ القيام بهذا الفعل جريمة لأن الأصل في الأشياء الإباحة. أما
الشق (الثاني) فيتعلق بالعقاب، ومضمونه أن الشخص لا يعاقب إلا على الفعل الذي
يُعدّ جريمة، وبالعقوبة التي حددها المشرع.
وهكذا فإن مبدأ
المشروعية يستهدف مصلحة مزدوجة، فهو من جهة يحقق مصلحة الأفراد بعلمهم ومعرفتهم
المسبقة بالأفعال المحظورة عليهم والتي يؤدي اقترافها إلى تعرضهم للعقاب.
ومن جهة أخرى فإنه
يحقق مصلحة المجتمع وأمنه في تخفيض عدد الجرائم أو المخالفات،لأن قيام المشرع
بالنص عليها وعلى العقوبات المقررة لها، يدفع بالكثير من الأشخاص إلى التفكير
ملياً والتردد بل والأحجام عن إتيانها، خشية وقوعهم تحت طائلة المسؤولية، ويطلق
على ذلك عنصر الردع أو الأثر الوقائي([11]).
إن مبدأ المشروعية
بشقيه يعبر عنه بالقاعدة المشهورة في القانون الجنائي : "لا جريمة ولا عقوبة
إلاّ بنص "وبما أن بحثنا يقتصر على موضوع الجرمية في المجال التأديبي دون
الخوض في العقوبات المقررة لها وتفصيلاته، فسنعرض لهذا المبدأ في شقه الأول
المتعلق بالتجريم فقط أي "لا جريمة إلا بنص".
وتتجلى أهمية هذه
الدراسة وهدفها في بيان وتحديد مدى العلاقة بين مبدأ المشروعية والمخالفة
التأديبية، فهل يخضع هذا النوع من الجرائم للقاعدة السابقة فلا يُعدّ الفعل خاطئاً
والسلوك مؤثماً إلا بوجود نص قانوني يجرّمه صراحة؟ أم أن لهذا المبدأ لوناً
مختلفاً في هذا المجال فلا يطبق على المخالفات التأديبية بهذه الصيغة الصارمة؟
وإذا كان الأمر كذلك فما هو الأثر الذي يترتب على عدم الالتزام بالتطبيق الحرفي
لهذا المبدأ، خاصة بالنسبة لأولئك العاملين في الوظائف والمهن المختلفة الذين
يشكلون شريحة واسعة وقطاعاً كبيراً من مجتمعاتهم؟ وكيف يمكن ضمان حقوقهم وعدم
الافتئات على حرياتهم، إذا زعمت السلطة الرئاسية أو غيرها من الجهات التأديبية
التي تتولى الرقابة والحكم على تصرفاتهم وأعمالهم، أنّ فعلاً أو سلوكاً ما يُعدّ
مخالفة أو جريمة تستوجب العقاب والتأديب؟
وسنتولى في هذا البحث
دراسة هذه المسائل والإجابة عمّا تطرحه من تساؤلات بأسلوب تحليلي مقارن في ثلاثة
مباحث على النحو التالي :
المبحث الأول : طبيعة
المخالفة التأديبية وصعوبات تحديدها وحصرها تشريعياً.
المبحث الثاني : الأثر
المترتب على صعوبة حصر وتحديد المخالفات التأديبية .
المبحث الثالث : موقف
الفقه في تقنين المخالفات التأديبية .
المبحث الأول : طبيعة
المخالفة التأديبية وصعوبات تحديدها تشريعياً
باستقراء تعريفات
الفقه والقضاء الهادفة إلى تحديد المقصود بالجرم التأديبي، يتضح لنا أن هذا النوع
من الجرائم أو المخالفات يتسم بطبيعة خاصة ينفرد بها. لذا نجد المشرّع يعرض
لتقنينها بأسلوب مغير لما هو متبع في تحديد وحصر الجرائم المنصوص عليها في قانون
العقوبات، وذلك نظراً للصعوبات التي يواجهها في المجال التأديبي، وسنتناول بيان
ذلك في مطلبين.
المطلب الأول :
الطبيعة الخاصة للمخالفة التأديبية
يرى معظم الفقهاء([12])
أن للمخالفة التأديبية طبيعة خاصة تميزها عن سواها من الجرائم والمخالفات، وآية
ذلك أنها تستعصي على الحصر، مما يعني أنّه يصعب على المشرع تعدادها وتحديدها بصورة
حاسمة. وتتضح هذه الحقيقة باستعراض نصوص القوانين والأنظمة التي تحكم شؤون
الموظفين، وما ماثلها من التشريعات المنظمة لشؤون طائفة أو مهنة معينة، حيث لم يقم
المشرع بتحديد وحصر جميع الواجبات والمحظورات الوظيفية أو المهنية، والتي يُعدّ
الخروج عليها جريمة أو مخالفة تأديبية. فمن الملاحظ أنه يلجأ أحياناً إلى استعمال
ألفاظ ومصطلحات تتسم بالغموض وتحتمل العديد من المعاني، وعلى سبيل المثال فإن نظرة
فاحصة لنصوص نظام الخدمة المدنية الأردني رقم (1) لسنة 1998([13])
تؤكد هذا المنهج؛ فقد جاء في صدر المادة (43)
أن : "الوظيفة العامة مسؤولية وأمانة أخلاقية، تحكمها وتوجه مسيرتها
مصادر القيم الدينية والوطنية والقومية والحضارية العربية، والموظف هو وسيلة
الدولة في أدائها لدورها وتحقيقاً لهذا الدور على الموظف الالتزام بما يلي .........."وقد أورد النصّ تعداداً
للواجبات الوظيفية في سبع فقرات. وسنكتفي بذكر نص كل من الفقرتين (ب،ج) من هذه
المادة. فقد جاء نص الفقرة (ب) على النحو الآتي :
"أن يتصرف – أي موظف
– بأدب وكياسة في صلاته برؤسائه ومرؤوسيه وزملائه، وفي تعامله مع المواطنين، وأن
يحافظ في جميع الأوقات على شرف الوظيفة وحسن سمعتها"، أما الفقرة (ج) فقد نصت
على "أن يؤدي واجباته بدقة ونشاط وسرعة وأمانة، وينفذ أوامر رؤسائه
وتوجيهاتهم...".
وعلى الرغم من أن
المشرّع قد اتجه إلى تعداد واجبات الموظف العامّة، فإننا نلاحظ بأن صياغة هذه
الفقرات جاءت بعبارات عامة ينقصها الوضوح، وأحياناً تخلو من التحديد الدقيق لما
تتطلبه من التزامات ([14]).
فما هي حدود السلوك الذي يتصف بالأدب والكياسة، وهل يُعدّ طرح الرأي بجرأة
وموضوعية خروجاً على هذه الحدود؟ والأهم من ذلك ماذا يعني النص: "على أن
يحافظ الموظف في جميع الأوقات على شرف الوظيفة وسمعتها"؟
وإذا كان من الممكن أن
نتصور صعوبة مطالبته الالتزام بذلك داخل وخارج نطاق عمله الوظيفي، فإن التساؤل
يثور أيضاً حول تحديد المقصود بمصطلحي : شرف الوظيفة، وحسن سمعتها، وما هي الأعمال
التي يمكن اعتبارها إخلالاً بالشرف أو السمعة؟
ولا ريب بأنّ الباب
يبقى مفتوحاً أمام الرؤساء والجهات المختصة لتقدير تلك الأفعال والتصرفات. وكذلك
الحال بالنسبة لمضمون الفقرة (ج) فضرورة القيام بالعمل بدقة ونشاط وسرعة وأمانة،
هي مصطلحات تحتمل كثيراً من المعاني والتفسيرات .
كما تنطبق هذه
الملاحظات على صياغة المشرع الأردني للمحظورات الوظيفية التي ورد النص عليها في
المادة (44) من النظام المذكور، فقد جاء
فيها : "يحظر على الموظف تحت طائلة المسؤولية التأديبية الإقدام على أي من
الأعمال التالية.... معدداً إياها في سبع فقرات أيضاً. وعلى سبيل المثال فقد تكرر
ذكر مصطلح استغلال الوظيفة في الفقرتين (ج، و) من هذه المادة، وهو تعبير فضفاض
يتصف بالإبهام وعدم الوضوح.
وبناء على ما سبق ذهب
غالبية الفقه إلى القول بعدم إمكانية تحديد وحصر المخالفات التأديبية بصورة جامعة
مانعة، وبالتالي عدم خضوعها لمبدأ : لا جريمة بغير نص، إذ يكفي أن يرتكب الموظف أو
العامل فعلاً يُعدّ مخالفاً لمقتضيات الوظيفة أو المهنة التي ينتسب إليهان سواء
أنص المشرع على تلك المخالفة بعينها أم لم ينص عليها([15]).
ويعلق بعض الفقه على
مسلك المشرع التأديبي وما يمكن استخلاصه من نتائج بقوله :
"إن الأفعال
المكونة للجريمة التأديبية لم ترد على سبيل الحصر، كما هو الشأن في الجريمة
الجنائية، وكل ما ورد في قوانين العاملين هو بيان واجباتهم والأعمال المحظورة
عليهم بصفة عامة دونما تحديد دقيق. غير أنّ عدم وجود نص مجرّم لفعل ما لا يعني أنه
مباح، فهذه الأفعال غير محددة على سبيل الحصر، ولا تخضع لقاعدة لا جريمة بغير نص،
وإنما يجوز لمن يملك سلطة التأديب قانوناً، أن يرى في أي عمل إيجابي أو سلبي يقع
من الموظف ذنباً تأديبياً، إذا كان ذلك العمل لا يتفق مع واجبات وظيفته. وعليه فلا
يمكن حصر الذنوب التأديبية مقدماً"([16])
ويؤكد هذا التوجه
الطبيعة الخاصة التي يتميز بها هذا النوع من المخالفات، فالشائع أنّ المشرّع يحرّم
على الموظف ارتكاب مجموعة من الافعال على وجه التحديد، وفي نفس الوقت يحظر عليه
بنصوص عامة الخروج على واجبات الوظيفة أو الإخلال بكرامتها، أو سلوك ما يعد شائناً
من الأعمال، دون أن يحدد مظاهر هذا الخروج، أو حالات ذلك الإخلال، أو حصر تلك
الأفعال.
ويستخلص من هذا
الأسلوب أن المخالفات التأديبية لا يمكن حصرها سلفاً بأفعال محددة. وعليه فإنّ
القانون الإداري لا يأخذ بمبدأ شرعية المخالفة، الذي يوجب تحديد كافة الافعال،
التي يؤدي ارتكابها إلى تقرير المسؤولية على سبيل الحصر بنصوص قاطعة([17]).
ولعل الطبيعة الخاصة
للمخالفة التأديبية وما تمخض عنها من النتائج التي ظهرت جلية في مسلك المشرع، كانت
السبب الذي حدا ببعض الفقه إلى معالجة هذا الموضوع تحت عنوان :"غياب تطبيق
مبدأ شرعية الجريمة) في المجال التأديبي([18]).
وفي المقابل يرى جانب
آخر من الفقه أنّ مبدأ المشروعية يُعدّ ركناً من أركان المخالفة او الجريمة
التأديبية، مع اعترافه بالصعوبات التي تواجه تطبيق هذا المبدأ. و حجتهم أنه إذا
كان القانون التأديبي لا يتقيد بمبدأ الشرعية حسب مفهومه الجنائي، إلا أنّ ذلك لا
يعني عدم الخضوع لقاعدة شرعية الخطأ التأديبي. فالشرعية هنا تأخذ لونا مختلفاً
يتفق مع طبيعة القانون التأديبي، بحيث تتنوع مصادر الركن الشرعي بصورة تنسجم مع
واجبات الوظيفة ومقتضياتها([19]).
ويخلص أنصار هذا الا
تجاه إلى القول :
"لذلك لا نتردد
في الأخذ بالرأي القائل بلزوم الركن الشرعي لقيام الخطأ التأديبي، أما الرأي
المخالف فلا يخلو من المغالطة التي جاءت نتيجة عدم الاعتراف بالطبيعة المميزة
لمفهوم الشرعية هنا والذي يختلف عن مسألة حصر الأخطاء التأديبية أو عدمه. فمبدأ
الشرعية يعني خضوع الإدارة للقانون، إلا أنّه يخولها في المجال التأديبي سلطة
تقديرية لتحديد ما يعد خطأ تأديبياً، لاعتبارات تتعلق بأوضاع المرافق العامة، وهي
التي تدعو للإبقاء على صفة المرونة، بالقدر الذي يجعل من الإشراف الرئاسي أمراً
مجدياً حسب الظروف الخاصة بكل مرفق"([20]).
ورغم قناعتنا بقوة
الحجج والتبريرات التي استند إليها أصحاب الرأي الأول، وهم غالبية الفقه، للتدليل
وبحق على صعوبة حصر المخالفات التأديبية، إلاّ أنّنا نخالفهم في النتيجة التي
توصلوا إليها، من ناحية إقرارهم بعدم خضوع هذه المخالفات لمبدأ المشروعية، وقولهم
بأنها لا تخضع لمبدأ لا جريمة بغير نص .
فهذا المبدأ ليس
غائباً أو غير مطبق، ولكنه يتسع بالقدر اللازم لشمول كافة الأفعال التي يمكن
وقوعها واحتسابها إخلالاً بمقتضيات الوظيفة أو المهنة. فالأسلوب المتبع أن يتولى
المشرع تعداد معظم الواجبات والمحظورات، ويذكر قسماً منها بألفاظ وعبارات محددة،
لكنه يحتاط ،فيورد أحياناً عبارات عامة تسمح بإدراج ما يمكن أن ينضوي تحت مفهومها
من الأفعال، وهو مضطر لاتباع هذا الأسلوب الذي تقتضيه طبيعة هذه المخالفات.
وقد اعترف القضاء
الإداري بهذه الخصوصية التي تتصف بها المخالفات التأديبية، فبعد أن تؤكد المحكمة
الإدارية العليا ضرورة التزام الموظف بالواجبات التي تنص عليها القوانين، تضيف
قائلة:
"إن الأخطاء
التأديبية قد ترتكب في أثناء القيام بالوظيفة أو بمناسبة أدائها، وذلك بمخالفة ما
تفرضه من واجبات إيجابية أو نواه، يستوي في ذلك أن ترد هذه الواجبات في نصوص صريحة
أو تفرضها طبيعة العمل الوظيفي"([21]).
([1]
) الطماوي، سليمان،
القضاء الإداري، الكتاب الثالث، قضاء التأديب، دار الفكر العربي، القاهرة، 1987، ص
48.
([2]
)A. Plantey : Trite Critique de la function
publique, 1971, 1.G.D.J.Tom.I.p350.
([3] ) جمال الدين، سامي، أصول القانون الإداري، الجزء
الأول ، دار المطبوعات الجامعية،
الاسكندرية، 1996، ص 368.
([4] ) عبد الهادي، بشار،
دراسات وأبحاث في الإدارة العامة والقانون الإداري، الطبعة الأولى، دار الفرقان
للنشر والتوزيع، عمان، 1983، ص 37.
([5]
)C.E.4.7.1947. Dame Ricou, Rec. P.298 .
([6]
) إدارية عليا، حكمها بتاريخ 22/5/1965، مجموعة
المبادئ القانونية، س10، ص 1405.
([7]
) إدارية
عليا، حكمها بتاريخ 28 ديسمبر 1968، مجموعة المبادئ القانونية، س 13، ص 165.
([8]
) عدل عليا،
رقم 62/71، مجلة نقابة المحامين، لسنة 1972، العددان (7 ، ص 1977 أيضاً عدل
عليا رقم 76/97، تاريخ 28/6/97، غير منشور، أشار إليه: كنعان، نواف، القضاء
الإداري في الأردن، دار النشر بدون، الطبعة الأولى، عمان، 1999، ص 143.
([9]
) نجم، محمد
صبحي، قانون العقوبات، القسم العام، الطبعة الثانية، مكتبة دار الثقافة للنشر
والتوزيع، عمان، 1991، ص 17-19.
([10]
) السراج،
عبود، قانون العقوبات، القسم العام، الطبعة السابعة، منشورات جامعة دمشق، 1994، ص
67-70.
([11]
)Chapus,
Rene: Droit administratif. General. Tome 2. 10 edetion Montcherstien. 1997, pp.
306-308.
([12]
) جمال
الدين، سامي، أصول القانون الإداري، ج1، ص 366.
وياقوت، محمد ماجد، أصول التحقيق الإداري في المخالفة التأديبية، دراسة
مقارنة، منشأة المعارف بالاسكندرية، 2000، ص 38 .
([13]
) نشر هذا
النظام في الجريدة الرسمية، عدد 4257، تاريخ 26 كانون الثاني، 1998. تجدر الإشارة إلى أنه بعد الانتهاء من تحكيم
هذا البحث وخلال فترة إعادة طباعته صدر نظام الخدمة المدنية الجديدة رقم 55 لسنة
2002. الجريدة الرسمية، عدد 4550، تاريخ
4/6/2002.
([14]
) وهذا هو مسلك المشرع المصري والفرنسي، راجع نصوص
قانون العاملين بالدولة، المصري رقم (47) لسنة 1978. وكذلك القانون الخاص بحقوق وواجبات الموظفين في
فرنسا رقم (634) لسنة 1983. وقد علّق على
بعض نصوص هذين القانونيين: بركات: عمر فؤاد، مبادئ القانون الإداري، شركة سعيد
رأفت للطباعة، القاهرة، 1985، ص 320.
([15]
) عبد
الرحمن، حمدي، المركز القانوني للعاملين بالقطاع العام وقطاع الأعمال، دراسة
مقارنة، دكتوراة، جامعة عين شمس، 1994، ص 123.
وعلي، يحيى قاسم، ضمانات تأديب الموظف العام (في تشريعات اليمن، العراق،
مصر، فرنسا) مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 1999، ص 51. والملط، محمد جودت، المسؤولية التأديبية للموظف
العام، دكتوراة، جامعة القاهرة 1967، ص (87 ، 93) . ويشير إلى : Auby et Drago: Traite de conteintieux Administratif. Paris. 1962.p. 131
([16]
) الحلو، ماجد، القضاء الإداري، دار المطبوعات
الجامعية، الاسكندرية، 1985، ص (542-543).
وبنفس المعنى أنظر أيضاً : الظاهر، خالد خليل ، القانون الإداري دراسة
مقارنة ، الكتاب الأول، الطبعة الأولى، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، 1998، ص
243.
([17]
) جمال
الدين، سامي، أصول القانون الإداري، ج1، ص 366-367.
([18]
) شطناوي،
علي خطار، مبادئ القانون الإداري الأردني، الكتاب الثالث، الوظيفة العامة، منشورات
الجامعة الأردنية، عمان، 1993، ص 290.
([19]
) عصفور،
محمد، الخطأ التأديبي، بحث منشور في مجلة إدارة قضايا الحكومة، 1962، عدد (1) ، ص
90. عثمان، محمد مختار محمد، الجريمة
التأديبية بين القانون الإداري وعلم الإدارة العامة، دكتوراة، جامعة عين شمس، دار
الفكر العربي، القاهرة، 1973، ص 208، البنداري، عبد الوهاب، الجرائم الجنائية
والتأديبية للعاملين المدنيين بالدولة والقطاع العام، دار الفكر العربي، القاهرة،
1970/1971، ص 14.
([20]
) العتوم،
منصور، المسؤولية التأديبية للموظف العام، مطبعة الشرق ومكتبتها، عمان، 1984، ص
101.
([21]
) إدارية
عليا، حكمها بتاريخ 22/5/1965، مجموعة المبادئ القانونية، س10، ص 1405.
يتناول هذا البحث
بالدراسة والتحليل طبيعة المخالفة التأديبية ومدى خضوعها لمبدأ المشروعية، والعقبات
التي تعترض تطبيق هذا المبدأ،ومرد ذلك أن هذه المخالفات تستعصي على الحصر
والتحديد، فليس بمقدور المشرع تعدادها على وجه الدقة كما هو الشأن بالنسبة للجرائم
المنصوص عليها في قانون العقوبات .
ويترتب على ذلك نتائج
بالغة الخطورة أهمها : إفساح المجال أمام الرؤساء الإداريين وهيئات التأديب للحكم
على تصرفات الموظفين وغيرهم من العاملين في المهن والمؤسسات المختلفة، وتقدير ما
إذا كان الفعل الصادر عنهم يُعدّ مخالفة تستوجب التأديب والعقاب .
ورغم إقرارنا
بالصعوبات المشار إليها فإننا لا نتردد بالمناداة بضرورة تقنين الواجبات
والمحظورات الوظيفية والمهنية بأقصى درجة ممكنة من الوضوح، ليكون الأشخاص
المخاطبون بهذه القواعد على علم بما هو مطلوب منهم وما هو محظور عليهم، علاوة على
أنّ اتباع هذا الأسلوب يُضيق الخناق على سلطات التأديب ويحد من تعسفها في تقديرها
وتكييفها لما يصدر عنهم من أفعال، وفي ذلك ضمان لحقوقهم وحماية لحرياتهم .
المقدمة
يدور جدل فقهي واسع
حول حقيقة الصلة ومدى الارتباط بين المخالفة التأديبية ومبدأ المشروعية، ما يستوجب
بداية تحديد المقصود بكل من هذين المصطلحين .
ذهب جانب من الفقه إلى
تعريف المخالفة أو الجريمة التأديبية بأنها : "كل فعل أو امتناع يرتكبه
العامل ويجافي واجبات وظيفته([1])
أو هي : "إخلال شخص بواجباته الوظيفية أو المهنة التي ينتمي إليها سواء أكان
هذا الإخلال إيجابياً أم سلبياً([2]).
ويرى جانب آخر من الفقه : "أن المخالفة التأديبية ليست فقط الإخلال بواجبات
الوظيفة أو المهنة، بل توجد كلما سلك العامل خارج نطاق وظيفته أو مهنته سلوكاً
معيباً يمس كرامته أو كرامة المرفق الذي يعمل فيه([3]).
ويرى بعض الفقهاء: "أن الجريمة التأديبية تعني عدم التزام الموظف بالأسس
التنظيمية والأخلاقية في أثناء تأدية الوظيفة وخارجها"([4]).
وأهم ما يمكن استنباطه
من هذه التعريفات هو التعميم وعدم التحديد الدقيق لفحوى المخالفة التأديبية، نظراً
لأن هذه التعريفات على درجة من الاتساع بحيث تشمل كل فعل يخل بمقتضيات الوظيفة أو
المهنة سواء تعلق بواجباتها أو محظوراتها أو أخلاقياتها، ويستوي وقوع هذا الإخلال
داخل نطاق العمل الوظيفي أو خارجه .
ويتبنى القضاء الإداري
ذات الموقف في بيانه للمقصود بالمخالفة أو الجريمة التأديبية، فقد جاء في أحد
الأحكام الصادرة عن مجلس الدولة الفرنسي بأن الجريمة أو المخالفة التأديبية تعني :
"إخلال الموظف بواجباته الوظيفية بما في ذلك الأفعال المخلة بشرف
الوظيفة"([5]).
ومما ورد في حيثيات أحد الأحكام الصادرة عن المحكمة الإدارية العليا المصرية قولها
: "كل عمل يخالف الواجبات المنصوص عليها في القوانين، أو يخرج على مقتضى
الواجب الوظيفي، أو يظهر بمظهر من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة، يعاقب تأديبياً([6])،
وكذلك قولها أن الجريمة التأديبية تعني : "إخلال الموظف بواجبات وظيفته أو
خروجه على مقتضياتها أو ارتكابه خارج الوظيفة ما ينعكس عليها"([7]).
وهذا أيضاً هو موقف
محكمة العدل وهي المحكمة الإدارية الوحيدة في الأردن، إذ تقرر أن المخالفة
المسلكية قوامها " مخالفة الشخص لواجبات وظيفته أو مهنته أو مقتضياتها
وكرامتها"([8])
نخلص من ذلك إلى تعريف
المخالفة التأديبية بأنها : فعل أو امتناع يمثل إخلالاً بواجبات الوظيفة أو المهنة
التي ينتمي إليها شخص ما أو محظوراتها، سواء أوقع ذلك في أثناء ساعات الدوام
الرسمي أم بعدها .
أما مبدأ المشروعية
بمفهومه العام فيقصد به خضوع جميع السلطات والأفراد أي الحكام والمحكومين لقواعد القانون وأحكامه، بينما يقصد
به في مجال التجريم والعقاب: قيام المشرع بتحديد الأفعال التي تُعدّ جرائم، وبيان
العقوبات المقررة لها بصورة واضحة ومحددة([9]).
ويُعدّ مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات من المبادئ الأساسية في التشريعات الحديثة
ومن مقتضاه أن لا يُجرّم فعل ولا يعاقب عليه إلا بنص قانوني يحدد نوع الفعل المجرم
وأركانه وشروطه، كما يبين العقوبة المستحقة. ويوفر هذا المبدأ حماية قانونية للفرد
وضمانة لحقوقه وحرياته؛ بمنع السلطة العامة المختصة من اتخاذ أي إجراء بحقه، ما لم
يكن قد ارتكب فعلاً ينص القانون على أنه جريمة معاقب عليها .
لذا يجب على القاضي أن
يلتزم بالنص القانوني، فلا يسوغ له أن يستند في تجريمه لأي فعل على القواعد
الأخلاقية أو الاجتماعية، أو على تقديره بأن الفعل ضار بالمجتمع، كما لا يسوغ
الحكم بعقوبة لم ينص عليها القانون؛ كأن يحظر المشرع فعلاً دون أن يذكر عقوبة
لفاعله، أو يطلب القيام بعمل دون النص على عقوبة الامتناع عن القيام به([10]).
ومن الواضح أن هذا المبدأ يتكوين من شقين؛ الأول : يتعلق بالتجريم، إذ يجب لاعتبار
فعل أو تصرف ما بأنه غير مشروع أن تجرمه وتؤثمه النصوص والقواعد القانونية، فإن لم
يكن هناك نص فلا يُعدّ القيام بهذا الفعل جريمة لأن الأصل في الأشياء الإباحة. أما
الشق (الثاني) فيتعلق بالعقاب، ومضمونه أن الشخص لا يعاقب إلا على الفعل الذي
يُعدّ جريمة، وبالعقوبة التي حددها المشرع.
وهكذا فإن مبدأ
المشروعية يستهدف مصلحة مزدوجة، فهو من جهة يحقق مصلحة الأفراد بعلمهم ومعرفتهم
المسبقة بالأفعال المحظورة عليهم والتي يؤدي اقترافها إلى تعرضهم للعقاب.
ومن جهة أخرى فإنه
يحقق مصلحة المجتمع وأمنه في تخفيض عدد الجرائم أو المخالفات،لأن قيام المشرع
بالنص عليها وعلى العقوبات المقررة لها، يدفع بالكثير من الأشخاص إلى التفكير
ملياً والتردد بل والأحجام عن إتيانها، خشية وقوعهم تحت طائلة المسؤولية، ويطلق
على ذلك عنصر الردع أو الأثر الوقائي([11]).
إن مبدأ المشروعية
بشقيه يعبر عنه بالقاعدة المشهورة في القانون الجنائي : "لا جريمة ولا عقوبة
إلاّ بنص "وبما أن بحثنا يقتصر على موضوع الجرمية في المجال التأديبي دون
الخوض في العقوبات المقررة لها وتفصيلاته، فسنعرض لهذا المبدأ في شقه الأول
المتعلق بالتجريم فقط أي "لا جريمة إلا بنص".
وتتجلى أهمية هذه
الدراسة وهدفها في بيان وتحديد مدى العلاقة بين مبدأ المشروعية والمخالفة
التأديبية، فهل يخضع هذا النوع من الجرائم للقاعدة السابقة فلا يُعدّ الفعل خاطئاً
والسلوك مؤثماً إلا بوجود نص قانوني يجرّمه صراحة؟ أم أن لهذا المبدأ لوناً
مختلفاً في هذا المجال فلا يطبق على المخالفات التأديبية بهذه الصيغة الصارمة؟
وإذا كان الأمر كذلك فما هو الأثر الذي يترتب على عدم الالتزام بالتطبيق الحرفي
لهذا المبدأ، خاصة بالنسبة لأولئك العاملين في الوظائف والمهن المختلفة الذين
يشكلون شريحة واسعة وقطاعاً كبيراً من مجتمعاتهم؟ وكيف يمكن ضمان حقوقهم وعدم
الافتئات على حرياتهم، إذا زعمت السلطة الرئاسية أو غيرها من الجهات التأديبية
التي تتولى الرقابة والحكم على تصرفاتهم وأعمالهم، أنّ فعلاً أو سلوكاً ما يُعدّ
مخالفة أو جريمة تستوجب العقاب والتأديب؟
وسنتولى في هذا البحث
دراسة هذه المسائل والإجابة عمّا تطرحه من تساؤلات بأسلوب تحليلي مقارن في ثلاثة
مباحث على النحو التالي :
المبحث الأول : طبيعة
المخالفة التأديبية وصعوبات تحديدها وحصرها تشريعياً.
المبحث الثاني : الأثر
المترتب على صعوبة حصر وتحديد المخالفات التأديبية .
المبحث الثالث : موقف
الفقه في تقنين المخالفات التأديبية .
المبحث الأول : طبيعة
المخالفة التأديبية وصعوبات تحديدها تشريعياً
باستقراء تعريفات
الفقه والقضاء الهادفة إلى تحديد المقصود بالجرم التأديبي، يتضح لنا أن هذا النوع
من الجرائم أو المخالفات يتسم بطبيعة خاصة ينفرد بها. لذا نجد المشرّع يعرض
لتقنينها بأسلوب مغير لما هو متبع في تحديد وحصر الجرائم المنصوص عليها في قانون
العقوبات، وذلك نظراً للصعوبات التي يواجهها في المجال التأديبي، وسنتناول بيان
ذلك في مطلبين.
المطلب الأول :
الطبيعة الخاصة للمخالفة التأديبية
يرى معظم الفقهاء([12])
أن للمخالفة التأديبية طبيعة خاصة تميزها عن سواها من الجرائم والمخالفات، وآية
ذلك أنها تستعصي على الحصر، مما يعني أنّه يصعب على المشرع تعدادها وتحديدها بصورة
حاسمة. وتتضح هذه الحقيقة باستعراض نصوص القوانين والأنظمة التي تحكم شؤون
الموظفين، وما ماثلها من التشريعات المنظمة لشؤون طائفة أو مهنة معينة، حيث لم يقم
المشرع بتحديد وحصر جميع الواجبات والمحظورات الوظيفية أو المهنية، والتي يُعدّ
الخروج عليها جريمة أو مخالفة تأديبية. فمن الملاحظ أنه يلجأ أحياناً إلى استعمال
ألفاظ ومصطلحات تتسم بالغموض وتحتمل العديد من المعاني، وعلى سبيل المثال فإن نظرة
فاحصة لنصوص نظام الخدمة المدنية الأردني رقم (1) لسنة 1998([13])
تؤكد هذا المنهج؛ فقد جاء في صدر المادة (43)
أن : "الوظيفة العامة مسؤولية وأمانة أخلاقية، تحكمها وتوجه مسيرتها
مصادر القيم الدينية والوطنية والقومية والحضارية العربية، والموظف هو وسيلة
الدولة في أدائها لدورها وتحقيقاً لهذا الدور على الموظف الالتزام بما يلي .........."وقد أورد النصّ تعداداً
للواجبات الوظيفية في سبع فقرات. وسنكتفي بذكر نص كل من الفقرتين (ب،ج) من هذه
المادة. فقد جاء نص الفقرة (ب) على النحو الآتي :
"أن يتصرف – أي موظف
– بأدب وكياسة في صلاته برؤسائه ومرؤوسيه وزملائه، وفي تعامله مع المواطنين، وأن
يحافظ في جميع الأوقات على شرف الوظيفة وحسن سمعتها"، أما الفقرة (ج) فقد نصت
على "أن يؤدي واجباته بدقة ونشاط وسرعة وأمانة، وينفذ أوامر رؤسائه
وتوجيهاتهم...".
وعلى الرغم من أن
المشرّع قد اتجه إلى تعداد واجبات الموظف العامّة، فإننا نلاحظ بأن صياغة هذه
الفقرات جاءت بعبارات عامة ينقصها الوضوح، وأحياناً تخلو من التحديد الدقيق لما
تتطلبه من التزامات ([14]).
فما هي حدود السلوك الذي يتصف بالأدب والكياسة، وهل يُعدّ طرح الرأي بجرأة
وموضوعية خروجاً على هذه الحدود؟ والأهم من ذلك ماذا يعني النص: "على أن
يحافظ الموظف في جميع الأوقات على شرف الوظيفة وسمعتها"؟
وإذا كان من الممكن أن
نتصور صعوبة مطالبته الالتزام بذلك داخل وخارج نطاق عمله الوظيفي، فإن التساؤل
يثور أيضاً حول تحديد المقصود بمصطلحي : شرف الوظيفة، وحسن سمعتها، وما هي الأعمال
التي يمكن اعتبارها إخلالاً بالشرف أو السمعة؟
ولا ريب بأنّ الباب
يبقى مفتوحاً أمام الرؤساء والجهات المختصة لتقدير تلك الأفعال والتصرفات. وكذلك
الحال بالنسبة لمضمون الفقرة (ج) فضرورة القيام بالعمل بدقة ونشاط وسرعة وأمانة،
هي مصطلحات تحتمل كثيراً من المعاني والتفسيرات .
كما تنطبق هذه
الملاحظات على صياغة المشرع الأردني للمحظورات الوظيفية التي ورد النص عليها في
المادة (44) من النظام المذكور، فقد جاء
فيها : "يحظر على الموظف تحت طائلة المسؤولية التأديبية الإقدام على أي من
الأعمال التالية.... معدداً إياها في سبع فقرات أيضاً. وعلى سبيل المثال فقد تكرر
ذكر مصطلح استغلال الوظيفة في الفقرتين (ج، و) من هذه المادة، وهو تعبير فضفاض
يتصف بالإبهام وعدم الوضوح.
وبناء على ما سبق ذهب
غالبية الفقه إلى القول بعدم إمكانية تحديد وحصر المخالفات التأديبية بصورة جامعة
مانعة، وبالتالي عدم خضوعها لمبدأ : لا جريمة بغير نص، إذ يكفي أن يرتكب الموظف أو
العامل فعلاً يُعدّ مخالفاً لمقتضيات الوظيفة أو المهنة التي ينتسب إليهان سواء
أنص المشرع على تلك المخالفة بعينها أم لم ينص عليها([15]).
ويعلق بعض الفقه على
مسلك المشرع التأديبي وما يمكن استخلاصه من نتائج بقوله :
"إن الأفعال
المكونة للجريمة التأديبية لم ترد على سبيل الحصر، كما هو الشأن في الجريمة
الجنائية، وكل ما ورد في قوانين العاملين هو بيان واجباتهم والأعمال المحظورة
عليهم بصفة عامة دونما تحديد دقيق. غير أنّ عدم وجود نص مجرّم لفعل ما لا يعني أنه
مباح، فهذه الأفعال غير محددة على سبيل الحصر، ولا تخضع لقاعدة لا جريمة بغير نص،
وإنما يجوز لمن يملك سلطة التأديب قانوناً، أن يرى في أي عمل إيجابي أو سلبي يقع
من الموظف ذنباً تأديبياً، إذا كان ذلك العمل لا يتفق مع واجبات وظيفته. وعليه فلا
يمكن حصر الذنوب التأديبية مقدماً"([16])
ويؤكد هذا التوجه
الطبيعة الخاصة التي يتميز بها هذا النوع من المخالفات، فالشائع أنّ المشرّع يحرّم
على الموظف ارتكاب مجموعة من الافعال على وجه التحديد، وفي نفس الوقت يحظر عليه
بنصوص عامة الخروج على واجبات الوظيفة أو الإخلال بكرامتها، أو سلوك ما يعد شائناً
من الأعمال، دون أن يحدد مظاهر هذا الخروج، أو حالات ذلك الإخلال، أو حصر تلك
الأفعال.
ويستخلص من هذا
الأسلوب أن المخالفات التأديبية لا يمكن حصرها سلفاً بأفعال محددة. وعليه فإنّ
القانون الإداري لا يأخذ بمبدأ شرعية المخالفة، الذي يوجب تحديد كافة الافعال،
التي يؤدي ارتكابها إلى تقرير المسؤولية على سبيل الحصر بنصوص قاطعة([17]).
ولعل الطبيعة الخاصة
للمخالفة التأديبية وما تمخض عنها من النتائج التي ظهرت جلية في مسلك المشرع، كانت
السبب الذي حدا ببعض الفقه إلى معالجة هذا الموضوع تحت عنوان :"غياب تطبيق
مبدأ شرعية الجريمة) في المجال التأديبي([18]).
وفي المقابل يرى جانب
آخر من الفقه أنّ مبدأ المشروعية يُعدّ ركناً من أركان المخالفة او الجريمة
التأديبية، مع اعترافه بالصعوبات التي تواجه تطبيق هذا المبدأ. و حجتهم أنه إذا
كان القانون التأديبي لا يتقيد بمبدأ الشرعية حسب مفهومه الجنائي، إلا أنّ ذلك لا
يعني عدم الخضوع لقاعدة شرعية الخطأ التأديبي. فالشرعية هنا تأخذ لونا مختلفاً
يتفق مع طبيعة القانون التأديبي، بحيث تتنوع مصادر الركن الشرعي بصورة تنسجم مع
واجبات الوظيفة ومقتضياتها([19]).
ويخلص أنصار هذا الا
تجاه إلى القول :
"لذلك لا نتردد
في الأخذ بالرأي القائل بلزوم الركن الشرعي لقيام الخطأ التأديبي، أما الرأي
المخالف فلا يخلو من المغالطة التي جاءت نتيجة عدم الاعتراف بالطبيعة المميزة
لمفهوم الشرعية هنا والذي يختلف عن مسألة حصر الأخطاء التأديبية أو عدمه. فمبدأ
الشرعية يعني خضوع الإدارة للقانون، إلا أنّه يخولها في المجال التأديبي سلطة
تقديرية لتحديد ما يعد خطأ تأديبياً، لاعتبارات تتعلق بأوضاع المرافق العامة، وهي
التي تدعو للإبقاء على صفة المرونة، بالقدر الذي يجعل من الإشراف الرئاسي أمراً
مجدياً حسب الظروف الخاصة بكل مرفق"([20]).
ورغم قناعتنا بقوة
الحجج والتبريرات التي استند إليها أصحاب الرأي الأول، وهم غالبية الفقه، للتدليل
وبحق على صعوبة حصر المخالفات التأديبية، إلاّ أنّنا نخالفهم في النتيجة التي
توصلوا إليها، من ناحية إقرارهم بعدم خضوع هذه المخالفات لمبدأ المشروعية، وقولهم
بأنها لا تخضع لمبدأ لا جريمة بغير نص .
فهذا المبدأ ليس
غائباً أو غير مطبق، ولكنه يتسع بالقدر اللازم لشمول كافة الأفعال التي يمكن
وقوعها واحتسابها إخلالاً بمقتضيات الوظيفة أو المهنة. فالأسلوب المتبع أن يتولى
المشرع تعداد معظم الواجبات والمحظورات، ويذكر قسماً منها بألفاظ وعبارات محددة،
لكنه يحتاط ،فيورد أحياناً عبارات عامة تسمح بإدراج ما يمكن أن ينضوي تحت مفهومها
من الأفعال، وهو مضطر لاتباع هذا الأسلوب الذي تقتضيه طبيعة هذه المخالفات.
وقد اعترف القضاء
الإداري بهذه الخصوصية التي تتصف بها المخالفات التأديبية، فبعد أن تؤكد المحكمة
الإدارية العليا ضرورة التزام الموظف بالواجبات التي تنص عليها القوانين، تضيف
قائلة:
"إن الأخطاء
التأديبية قد ترتكب في أثناء القيام بالوظيفة أو بمناسبة أدائها، وذلك بمخالفة ما
تفرضه من واجبات إيجابية أو نواه، يستوي في ذلك أن ترد هذه الواجبات في نصوص صريحة
أو تفرضها طبيعة العمل الوظيفي"([21]).
([1]
) الطماوي، سليمان،
القضاء الإداري، الكتاب الثالث، قضاء التأديب، دار الفكر العربي، القاهرة، 1987، ص
48.
([2]
)A. Plantey : Trite Critique de la function
publique, 1971, 1.G.D.J.Tom.I.p350.
([3] ) جمال الدين، سامي، أصول القانون الإداري، الجزء
الأول ، دار المطبوعات الجامعية،
الاسكندرية، 1996، ص 368.
([4] ) عبد الهادي، بشار،
دراسات وأبحاث في الإدارة العامة والقانون الإداري، الطبعة الأولى، دار الفرقان
للنشر والتوزيع، عمان، 1983، ص 37.
([5]
)C.E.4.7.1947. Dame Ricou, Rec. P.298 .
([6]
) إدارية عليا، حكمها بتاريخ 22/5/1965، مجموعة
المبادئ القانونية، س10، ص 1405.
([7]
) إدارية
عليا، حكمها بتاريخ 28 ديسمبر 1968، مجموعة المبادئ القانونية، س 13، ص 165.
([8]
) عدل عليا،
رقم 62/71، مجلة نقابة المحامين، لسنة 1972، العددان (7 ، ص 1977 أيضاً عدل
عليا رقم 76/97، تاريخ 28/6/97، غير منشور، أشار إليه: كنعان، نواف، القضاء
الإداري في الأردن، دار النشر بدون، الطبعة الأولى، عمان، 1999، ص 143.
([9]
) نجم، محمد
صبحي، قانون العقوبات، القسم العام، الطبعة الثانية، مكتبة دار الثقافة للنشر
والتوزيع، عمان، 1991، ص 17-19.
([10]
) السراج،
عبود، قانون العقوبات، القسم العام، الطبعة السابعة، منشورات جامعة دمشق، 1994، ص
67-70.
([11]
)Chapus,
Rene: Droit administratif. General. Tome 2. 10 edetion Montcherstien. 1997, pp.
306-308.
([12]
) جمال
الدين، سامي، أصول القانون الإداري، ج1، ص 366.
وياقوت، محمد ماجد، أصول التحقيق الإداري في المخالفة التأديبية، دراسة
مقارنة، منشأة المعارف بالاسكندرية، 2000، ص 38 .
([13]
) نشر هذا
النظام في الجريدة الرسمية، عدد 4257، تاريخ 26 كانون الثاني، 1998. تجدر الإشارة إلى أنه بعد الانتهاء من تحكيم
هذا البحث وخلال فترة إعادة طباعته صدر نظام الخدمة المدنية الجديدة رقم 55 لسنة
2002. الجريدة الرسمية، عدد 4550، تاريخ
4/6/2002.
([14]
) وهذا هو مسلك المشرع المصري والفرنسي، راجع نصوص
قانون العاملين بالدولة، المصري رقم (47) لسنة 1978. وكذلك القانون الخاص بحقوق وواجبات الموظفين في
فرنسا رقم (634) لسنة 1983. وقد علّق على
بعض نصوص هذين القانونيين: بركات: عمر فؤاد، مبادئ القانون الإداري، شركة سعيد
رأفت للطباعة، القاهرة، 1985، ص 320.
([15]
) عبد
الرحمن، حمدي، المركز القانوني للعاملين بالقطاع العام وقطاع الأعمال، دراسة
مقارنة، دكتوراة، جامعة عين شمس، 1994، ص 123.
وعلي، يحيى قاسم، ضمانات تأديب الموظف العام (في تشريعات اليمن، العراق،
مصر، فرنسا) مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 1999، ص 51. والملط، محمد جودت، المسؤولية التأديبية للموظف
العام، دكتوراة، جامعة القاهرة 1967، ص (87 ، 93) . ويشير إلى : Auby et Drago: Traite de conteintieux Administratif. Paris. 1962.p. 131
([16]
) الحلو، ماجد، القضاء الإداري، دار المطبوعات
الجامعية، الاسكندرية، 1985، ص (542-543).
وبنفس المعنى أنظر أيضاً : الظاهر، خالد خليل ، القانون الإداري دراسة
مقارنة ، الكتاب الأول، الطبعة الأولى، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، 1998، ص
243.
([17]
) جمال
الدين، سامي، أصول القانون الإداري، ج1، ص 366-367.
([18]
) شطناوي،
علي خطار، مبادئ القانون الإداري الأردني، الكتاب الثالث، الوظيفة العامة، منشورات
الجامعة الأردنية، عمان، 1993، ص 290.
([19]
) عصفور،
محمد، الخطأ التأديبي، بحث منشور في مجلة إدارة قضايا الحكومة، 1962، عدد (1) ، ص
90. عثمان، محمد مختار محمد، الجريمة
التأديبية بين القانون الإداري وعلم الإدارة العامة، دكتوراة، جامعة عين شمس، دار
الفكر العربي، القاهرة، 1973، ص 208، البنداري، عبد الوهاب، الجرائم الجنائية
والتأديبية للعاملين المدنيين بالدولة والقطاع العام، دار الفكر العربي، القاهرة،
1970/1971، ص 14.
([20]
) العتوم،
منصور، المسؤولية التأديبية للموظف العام، مطبعة الشرق ومكتبتها، عمان، 1984، ص
101.
([21]
) إدارية
عليا، حكمها بتاريخ 22/5/1965، مجموعة المبادئ القانونية، س10، ص 1405.