القدس عربية:
إن مدينة القدس، مدينة الطهر، ومهد الأنبياء، وأرض
النبوات، نالت اهتماماً عبر التاريخ عزّ نظيره، وما ذلك إلا لأنها كانت ولا تزال
محط أطماع الغزاة، وآخرهم المحتل الصهيوني الذي يعمل بشتى الوسائل لضرب شخصيتها،
وطمس هويتها متوسلاً لغايته هذه وسائل وأساليب عديدة كجدار الفصل العنصري، وبناء
المستعمرات، والإغراق السكاني الإحلالي الاستيطاني، والحفر والتنقيب لقضم الأرض
وهدم المباني المقدسة أو السكنية أو سواها.
القدس عربية النشأة والتاريخ والموقع والدور. لقد أسس
الكنعانيون الوافدون من الجزيرة العربية مدينة القدس في الألف الرابع قبل الميلاد،
وسمّوها: ياروشالايم؛ يارو: مدينة أو موضع. وشالايم: السلام؛ فهي مدينة السلام،
والاسم كنعاني لا صلة له بيهود ولا ببني إسرائيل ولا باللغة العبرية القديمة أو
الحالية.
وقد جاء نص العهد القديم يؤكد ذلك: "وكانت إليّ
كلمة الرب قائلاً: يا ابن البشر أخبر أورشليم بأرجاسها، وقل هكذا قال السّيّد الرب
لأورشليم معدنك ومولدك من أرض الكنعانيين وأبوك أموري وأمك حثيّة."[1]
بعد ذلك حملت القدس اسم: يبوس. واليبوسيون قبيلة متفرعة
من الكنعانيين، واليبوسيون حكموا القدس مدة طويلة وأحد ملوكهم سالم اليبوسي كان قد
بنى قصره على ربوة صهيون المطلّة على المدينة أواسط الألف الثالث قبل الميلاد.
وفي العهد القديم: "وأما اليبوسيون سكان أورشيلم
فلم يقدر بني يهوذا على طردهم، فأقام اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى يومنا
هذا."[2]
وجاء في نص آخر من العهد القديم: "فلم يرض الرجل أن
يبيت بل قام وانصرف حتى انتهى إلى يبوس، وقد مال النهار جداً، قال الغلام لمولاه:
مِلْ بنا إلى مدينة اليبوسيين هذه فنبيت فيها."[3]
أما ربوة صهيون فتسميتها كذلك كنعانية ولفظها:
"صِهْيون"؛ ومعناها بالعربية الجبل المشمس أو الجاف. وفي دلالة أنها من
صِهْوة؛ أي صِهْوة الجواد لأن ربوة صهيون شكلها يتضمن انحناءة في الوسط كما الحال
عند الجواد.
لم يستقر يهود في القدس ولا بني اسرائيل (آل يعقوب) سوى
في عهدي داود وسليمان، منذ حوالي العام 1030 ق.م. إلى العام 960 ق.م.، وحتى في هذه
الحقبة لم ينفردوا بالإقامة فيها بل كان معهم اليبوسيون أهل المدينة الأصليين.
ومسألة الهيكل حولها جدل كثير إذ قالوا في العهد القديم
بأن داود استأجر بيدراً من أرنان اليبوسي كانت عليه حظائر للأبقار والمواشي وحصاد
مواسم، وقد أفرغه أرنان مما عليه ليقيم عليه داود خيمة عبادة، والغريب كيف يكون
موضع حظيرة حيوانات مكاناً مقدساً؟
أما الهيكل المزعوم الذي يدّعون أن سليمان قد بناه فأمره
أشد غرابة! لقد جاء النص على أنه أمر لموسى لبناء بيت عبادة، على الشكل التالي:
"مذبحاً من تراب تصنع لي وتذبح عليه محرقاتك
وذبحائك السّلامّية من غنمك وبقرك. في كل موضع ذُكر فيه اسمي آتيك وأباركك. وإن
صنعت لي مذبحاً من حجارة، فلا تبنيه بالحجر المنحوت، فإنك أن رفعت حديدك عليها
دنّستها."[4]
ويكون السؤال: كيف يصبح البناء من حجارة وخشب منحوتين؟!
وهل هذا مخالف للأمر الذي جاء لموسى عليه السلام أم موافق له؟!
ويظهر التناقض كذلك بين النص والمزاعم اليهودية حين كان الكلام
عن مواد البناء وشكلها. ففي العهد القديم: "وأمر داود أن يجمع النزلاء الذين
في أرض إسرائيل، وأقام قلاعين ليقلعوا حجارة تنحت لبناء بيت الله. وخزن داود
حديداً كثيراً للمسامير، لمصاريع الأبواب والوصل، ونحاساً كثيراً يفوق الوزن، وخشب
أرز لا يحصى، لأن الصيدونيين والصوريين أحضروا خشب أرز بكثرة إلى داود."[5]
وورد عندهم أن شكل الحجارة كان مربعاً علماً أن حجارة
حائط البراق وهو الجدار الغربي للأقصى مستطيلة. فكل ما عندهم مزاعم بمزاعم.
إن مراجعة ما كتبه العالم المقدسي المهندس رائف نجم ضمن
كتاب: "القدس: التاريخ والحضارة"[6]
يبيّن بشكل جلي كيف أن علماء الآثار المعاصرين من يهود قد أقروا بأنه لا أصل لهيكل
في القدس:
1- كلف شمعون بيريز صديقه عالم الآثار طوبياساجيف ليقوم
بدراسة وتنقيب ينتهي بعدها إلى يهودية الأقصى والخليل. بعد المتابعة خلص ساجيف إلى
القول: "لم أجد أي أثر في المسجد الأقصى أو في المسجد الإبراهيمي يثبت أن
هذين المسجدين أصلهما يهودي".
والتقارير الأخرى رفعها جدعون أفني وروني رايخ ويائير
زاكوبتش وزئيف هيرتسوغ بعد عشرات السنوات من التنقيب دامت منذ كلفتهم وزارة
الأديان الإسرائيلية عام 1967 إلى ربيع العام 1999، وقد قالوا فيها: إن داود لم
يبن مدينة، وأن التنقيب لم يوصل إلى العثور على أي أثر يدل على وجود هيكل.
وقد أكد الأمر نفسه عالم الآثار اليهودي مائير بن دوف،
والذي قال: "إذا قمنا بإجراء حفريات أسفل تلك المنطقة فإننا سنجد آبار مياه
متشعبة، وقد رأينا قنوات مائية خلال مسيرة الحفريات، والدراسة التي أجريناها خلال
الخمسة والعشرين سنة الماضية، ونستنج من ذلك أنه لا يوجد هيكل هناك، وإذا قمت
بالحفر فإنك لن تستطيع إطلاقاً أن تجد أية بقايا للهيكل تدل على تلك الفترة."[7]
أما حائط البراق الذي يسميه الصهاينة حائط المبكى، فإن
الموسوعة اليهودية الصادرة عام 1971 جاءت تبين ارتباطهم به. وهو أنهم بعد الفرار
من الأندلس (أسبانيا) مع العرب والمسلمين وصل بعض أفراد منهم إلى القدس، وفي العام
1520م طلبوا من الوالي العثماني أن يسمح لهم بمكان يصلون فيه، وكانوا يقفون في
الباحة المقابلة للجدار، وبعدها بدأت ها
مزاعمهم بأنه حائط المبكى وأنه من بقايا الهيكل.
بعد الاستيطان الاستعماري الصهيوني في فلسطين برعاية
بريطانية رفعت قضية أمام عصبة الأمم المتحدة عام 1930 وكان الحكم بأن الحائط جزء
لا يتجزأ من المسجد الأقصى وهو وقف إسلامي، وادعاء يهود بأنه من بقايا الهيكل
ادعاء باطل لا أصل له.
القدس العربية ملتقى المسيحية والإسلام:
تحتل مدينة القدس مكانة دينية مسيحية ـ إسلامية، وهي
واحدة من حواضر العرب، ومدنهم المحورية في إطار مدن الوطن العربي. وكل مشروع
استعماري عبر التاريخ وضع في حساباته مدينة القدس وسعى للاستيلاء عليها. فحروب
الفرنجة (المعروفة باسم: الحروب الصليبية) عملت لاحتلال القدس ضمن استعمارها
الإحتلالي، وزعمت أن حملتها ما كانت إلا لتأمين طريق الحج المسيحي من أوروبا إلى
القدس وفلسطين، وحملة نابليون على مصر عام 1798 اتجهت إلى فلسطين وتراجعت بعد حصار
عكا، والاستعمار البريطاني استهدف القدس وفلسطين، وكان يبيت مشروعاً لتنفيذ وعد
بلفور وزير خارجية بريطانيا في 2/11/1917، والقاضي بتسليم فلسطين للعدو الصهيوني
في مشروع استعماري استيطاني إحلالي.
يأتي في أسباب هذا الاستهداف عامل الجذب الديني من جهة،
ومن جهة ثانية زراعة كيان غاصب سرطاني في فلسطين عقدة الوصل والاتصال بين شطري
الأمة العربية الآسيوي والأفريقي.
إن مكونات المجتمع العربي هي من المسلمين والمسيحيين، وفي رحاب القدس ملتقى
للجميع، وفي زمن العصبيات والأطروحات الفئوية التي تستهدف وحدة الأمة العربية
والوحدة الوطنية في كل بلد عربي تشكل القدس العنوان الجامع الذي يستطيع من خلال
المشروع القومي العربي أن ينتشل الناس من مستنقعات التعصبات الرديئة للطائفة أو
العرق أو الانتماءات الضيّقة إلى مستوى التطلع الوحدوي، وليس كالقدس سبيلاً، لذلك
يكون الواجب زيادة الاهتمام بملف القدس في مواجهة المخاطر والتحديات، والمناسبة
فرصة مؤاتية ألا وهي الإعلان عن القدس أنها عاصمة الثقافة العربية للعام 2009؛ فإن
رفع درجة العناية بالقدس واجب ديني بسبب موقعها الديني مسيحياً وإسلامياً، وواجب
قومي عربي لأنها أرض عربية محتلة وواجب الإجزاء في الجسد أن تتداعى للدفاع عن أي
جزء مصاب منه، يضاف إلى ذلك أن الوحدة العربية لا تكون دون تحرير فلسطين وفي قلبها
القدس، والاستقرار لا يكون أمنياً ما دام الكيان الغاصب الصهيوني في أرض فلسطين،
والتقدم العربي لا يكون مع التجزئة ولا مع الحرب والصراع العربي – الصهيوني، ولا
الديمقراطية تستقيم حالها مع الاحتلال الصهيوني والمشروعات التآمرية على الأمة،
ومنها الحرب الأمنية باختراق الجبهات العربية الداخلية بالعملاء، وقد حصل ذلك ويحصل، وما برز في لبنان
من شبكات عملاء للعدو خلال السنوات الأخيرة، لا بل خلال هذا العام 2009 خير دليل.
أضف إلى هذا أن العدوان، ومحاولات تهويد القدس والمقدسات إنما هو أمر يستفز
كل المؤمنين بالمسيحية أو بالإسلام، ويهددهم عقيدة وعبادات، فالقدس وفلسطين شهدت
منذ العام 1948 يوم سيطر الكيان الصهيوني الغاصب على فلسطين حركة عدوان على
المساجد والكنائس والأوقاف الإسلامية والمسيحية سواء أكانت أراضي أم مؤسسات صحية
أو تربوية أم غير ذلك. والمعلوم أن المسيحية متجذرة في القدس وجوارها. فكنيسة
القيامة قامت منذ العام 334م في القدس وهي مقصد الحج المسيحي والمتقدمة قداسة
ومكانة على كل كنائس العالم ومعها بيت لحم المهد، والناصرة أرض النشأة، هذا غير
الحشد الكبير من الأديرة والكنائس والمؤسسات التي تجعل القدس وما يجاورها محل
عناية خاصة عند كل أتباع المسيحية.
لقد كان طرد المفسدين من القدس والمعبد من المحطات البارزة في دعوة المسيح
عليه السلام. جاء في النص الإنجيلي: "وجاءوا إلى أورشليم فدخل الهيكل وأخذ
يطرد الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة
الحمام. ولم يدعْ أحداً ينقل متاعاً في الهيكل."[8]
وكان عليه السلام يعلم قائلاً: "أليس مكتوباً بيتي بيت الصلاة يدعى لجميع
الأمم وأنتم جعلتموه مغارة للّصوص."[9]
وجاء بشأن القدس في قوانين الكنيسة المسيحية الجامعة ما يلي: "لا
غرابة في أن المدينة المقدسة يليق لها أن تتمتع بمركز خاص ممتاز بين الكنائس
المسيحية.
... ومن المحتمل أنه
نحو نهاية القرن الثاني أخذت فكرة قداسة المكان تضفي على صاحب الكرسي فيه كرامة
خاصة... فشعور الاحترام لصاحب الكرسي في المدينة المقدسة هو الذي حمل آباء مجمع
نيقية (إزنك اليوم) على سن هذا القانون."[10]
إن مكانة القدس
مسيحياً لها ما يقابلها إسلامياً لأن القدس مهد النبوات والإسلام يأمر أتباعه في
الآية الكريمة: "لا نفرّق بين أحد من رسله."[11]
كما أن الأقصى يتمتع بمكانه خاصة فهو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين،
وهو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بناء الأقصى الجدار الغربي المسمى
جدار البراق نسبة لدابة البراق التي نقلت الرسول من مكة المكرمة إلى القدس.
وفي أرض القدس مسجد
قبة الصخرة ومساجد ومدارس وتكايا ومقابر تضم صحابة وتابعين منها المدرسة التنكزية
بين الأقصى وقبة الصخرة حيث يريد العدو إقامة أكبر كُنيس في العالم، ومقبرة مأمن
الله التي صادرها العدو مؤخراً خلال هذا العام 2009 ليقيم عليها متحفاً ومن
المدفونين فيها الصحابي عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
أما مكانة القدس فقد
جاءت حولها نصوص منها الحديث النبوي: "عن ميمونة بنت سعد رضي الله عنها أنها
قالت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس. فقال عليه الصلاة والسلام: أرض المحشر
والمنشر، ائتوه فصّلوا فيه فإن كل صلاة فيه كألف صلاة. قلنا: يا رسول الله فمن لم يستطع
أن يصل إليه؟ قال: فمن لم يستطع أن يأتيه فليهدِ إليه زيتاً يسرج في قناديله، فإن
من أهدى إليه زيتاً كان كمن أتاه."
وفي حديث نبوي آخر:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي على الحقّ ظاهرين
لعدوّهم قاهرين لا يضرّهم من خالفهم، ولا ما أصابهم من اللأواء (الضيق وشدة العيش)
حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: في بيت المقدس
وأكناف بيت المقدس".
والمشترك الإسلامي
المسيحي الذي يبيّن أن القدس مدينة خاصة ولا مكان فيها ليهود كان ما نصت عليه
العهد العمرية وهي وثيقة العهد الذي أعطاه الفاروق عمر للبطريرك صفرينوس يوم استلم
مفاتيح المدينة منه. والنص هو:
"بسم الله الرحمن
الرحيم. هذا ما أعطى عبد الله عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، وأعطاهم
أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا
تُسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيّزها ولا من صليبهم ولا شيء من
أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد
من يهود".
كان ذلك عام 15هـ
(636م). وقد عاش العرب من المسلمين والمسيحيين في رحاب القدس، وكانوا يستقبلون
الزائرين من كل المؤمنين مئات السنين إلى أن كان الاحتلال الصهيوني حيث بدأت
المخاطر من خلال إجراءات التهويد التي بدأها العدو الغاصب منذ دخول المدينة في
حزيران/يونيو 1967.
إن ماجريات الأمور
لجهة خطوات العدو في تهويد القدس وعموم فلسطين تستلزم العمل المشترك بعيداً من
التعصبات الرديئة التي بات يلاحظها المتابع في أقوال أو ممارسات بعض أهل الغلو ممن
بعدت بهم الشّقّة عن هوية الأمة الوسط، فيجدهم المرء قد صنّعوا لأنفسهم مقولات
وأطروحات عمادها الإنفعال والفئوية وهذه تتذر بخطر داهم لأنها تنشر الفتنة، وتنتج
التفكك والتفتيت، وهذه كلها أمور تضرب مشروع التحرر والتحرير في الصميم، وتخدم
العدو الصهيوني المحتل وسائر الأعداء الطامعين بالأمة، والمشاركين للصهيوني
جريمته.
التحديات الصهيونية:
يمكن إجمال
التحديات الصهيونية على فلسطين والقدس
والأمة العربية بما يلي:
1- اغتصاب فلسطين وغرس سرطان صهيوني فيها، وقد كان ذلك بناء
لمشروع استعماري أوروبي (بريطاني خصوصاً) حيث كانت لجنة المستعمرات البريطانية
المعروفة بلجنة كامبل بنرمان قد كتبت تقريراً يؤكد على زرع كيان محتل غاصب في
فلسطين يمنع وحدة الأمة العربية، ويشغلها بصراع عسكري يعطل الوحدة والتقدم، ويخلق
حالة عدم استقرار تضعف الأمة أمام المؤامرات الاستعمارية الصهيوأوروبية
والصهيوأمريكية وأمام الأطماع.
2- الاعتقاد الصهيوني عند الصهيونية اليهودية، والصهيونية
غير اليهودية والقائل بأن مجيء المسيح يحتاج لمقدمات هي احتلال فلسطين وتجميع يهود
العالم فيها، وتهويد القدس، وهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل يهودي على أنقاضه، ثم
تكون معركة هرمجدون (تل المتسلم) الفاصلة، بعدها يكون مجيء المسيح ويبدأ عندها
العهد الألفي السعيد. لذلك يلتزم المتصهينون الأمريكان والغربيون مع الصهيانة من
يهود العمل بكل ما يستطيعون خدمة لعقيدتهم الفاسدة هذه.
3- الاستعمار الصهيوني الاستيطاني الإحلالي الذي دعمته
أوروبا وبريطانيا خاصة ليتخلصوا من سكان الغيتوات اليهودية المغلقة التي كانت تقض
مضجع قيادات أوروبا، وليكون الكيان الغاصب حارساً لمصالح الاستعمار الأوروبي
والأمريكي العولمي الامبراطوري لاحقاً، وقد ترتب على ذلك تهجير وتشديد أكثر من ستة
ملايين فلسطيني ومصادرة أملاكهم هذا مع اغتصاب الممتلكات الوقفية وبيوت العبادة
الإسلامية والمسيحية، ورغم صدور قرار مجلس الأمن الرقم 194 الذي ينصّ على حقّ
العودة لكل فلسطيني، والذي لم ينفذ لا بل هو محل رفض عند الصهاينة وعند الداعمين
لهم في الغرب، فإنه لم يتغير شيءٌ، وباتوا يطرحون يهودية الدولة، وهذا يفيد أنهم
سيطردون العرب الباقين في فلسطين المحتلة.
هذا الاستعمار الاستيطاني
الإحلالي خلق عذابات ووجوه من المعاناة للفلسطينيين، وطرح التوطين للفلسطينيين في
أماكن وجودهم، وهذا ينشأ عنه خطران:
أ.
تذويب الشخصية
الوطنية الفلسطينية وتعطيل قرار حق العودة.
ب.
مشكلة
ديموغرافية في البنية المجتمعية العربية خاصة في بلد متنوع الطوائف مثل لبنان.
لذلك فإن التوطين خطر كبير على
العرب والفلسطينيين. وقد صعّد قادة العدو من خلال شمعون بيريز رئيس الجمهورية،
وبنيامين نتنياهو رئيس الحكومة مؤخراً من لهجتهم في طرح "يهودية الدولة"
أي يهودية الكيان الغاصب في الأرض المحتلة عام 1948، وهذا مفاده طرد أكثر من مليون
ونصف المليون عربي، وبالتالي إضافة مشكلة جديدة في موضوع حق العودة والتوطين. وقد
جاهر بيريز بهذا الموقف في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس حسني مبارك الثلاثاء في
7/7/2009 في القاهرة دون أن يعترض الرئيس مبارك على ذلك.
4- تهويد القدس وتهديد المقدسات بالتقويض والتضييق والحصار
وتعطيل الشعائر، وهذا ما قام به ويقوم به العدو منذ بداية الاحتلال. حيث يخطط
العدو لتغيير معالم المدينة بتجريف المنازل وإقامة المساحات الخضراء، أو جدار
الفصل العنصري، أو مصادرة الأملاك، ويضاف إلى ذلك الحفريات ومنها الأنفاق تحت
الأقصى التي تخترقه من كل الاتجاهات، وهناك تحت حائط البراق بناء من طابقين هما
كُنيسان للعبادة اليهودية أحدهما للرجال وآخر للنساء، ونفق تحت المصلى المرواني من
جهة الشرق لمرور قوى الأمن العدوة إلى باحات الأقصى، وأنفاق من الغرب إلى الشرق
تمر فيها الآليات الكبيرة.
وبعد تجريف حارة المغاربة عام
1967 وإزالة بيوتها الأثرية وعددها 138 منزلاً، عمد العدو في العام الماضي 2008
إلى تجريف تلة المغاربة ليقيم جسراً معلقاً يمكنهم من الوصول بسرعة وأمان إلى باحة
حائط البراق.
وإجراءات العدو بمصادرة الأراضي
والتضييق على حركة البناء للعرب مع توسيع نطاق بلدية القدس من 70 كلم² إلى 600
كلم² إنما هدفها إغراق المدينة بالمستعمرين المحتلين ليكون العرب أقل من 25 بالمئة
من سكان المدينة. وعلى سبيل المثال كان المسيحيون عند احتلال القدس الشرقية 40 ألف
مواطن عربي، وحالياً لم يبق في القدس إلا أقل من 5 آلاف، وإذا عرفنا عدد الكنائس
والأديرة والمؤسسات ندرك أن الباقين أغلبهم كهنة.
ويدخل ضمن أساليب التضييق أن حق
الاستثمار في المباني على المساحات هو للعرب 75 بالمئة بينما هو للغاصبين الصهاينة
300 بالمئة وأي عربيٍ لا يعطى رخصة بناء أو ترميم إلا بعد معاناة تستمر لأكثر من 5
سنوات، هذا مع رسوم تتراوح من 20ألف إلى 25 ألف دولار.
وإذا حصل وأقام أحد المقدسيين في
الضواحي مؤقتاً فإنهم يسحبون منه إقامته، ويعدّونه غير مقدسي ويمنعونه من دخول
المدينة بعدها.
لقد اقتطع العدو حوالي 40
بالمئة من مساحة القدس وصنفها مناطق خضراء وهي في تصنيفه الحقيقي مناطق احتياط
استيطاني، وهذا ما فعلوه في جبل أبو غنيم (منطقة الرأس من قرية شعفاط) عندما حولها
إلى مناطق لمستعمرتي هارحوماه ورامات شلومو.
وخلال الأيام الأخيرة صادروا
مقبرة مأمن الله (ما من الله) ليقيموا على أنقاضها متحفاً، وأخطروا أهالي حي
البستان بترك منازلهم ليزيلوها – رغم أنها قديمة وأثرية – ليقيموا مستعمرة في
مكانها، وسلموا في أواسط حزيران/يونيو 2009 إنذارات إلى 65 أسرة بإخلاء مساكنهم
ليقوموا بإزالتها وهدمها، والعملية متواصلة.
إنهم أغرقوا القدس بالغاصبين
المحتلين، وقد قارب عدد الوحدات السكنية الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية
الإحلالية ضمن القدس الشرقية أو المدينة القديمة قرابة 60 ألف وحدة سكنية.
[1] سفر النبوة حزفيال،
الإصحاح 16: 1، 2، 3.
[2] سورة يشوع،
الإصحاح15: 63.
[3] سفر القضاة،
الإصحاح19: 10،11.
[4] سفر الخروج، الإصحاح
20: 24،25.
[5] سفر أخبار الأول،
الإصحاح 22: 1، 2، 3، 4. أأأ
[6] القدس: التاريخ
والحضارة، إشراف وتحرير الدكتور عزت جرادات، مراجعة وتدقيق أ.د. أسعد السحمراني،
منشورات المؤتمر الإسلامي العام لبيت المقدس، عمان، ط1، سنة 1427هـ - 2006م.
[7] جريدة الرأي، عمّان –
الأردن، في 23/1/2001.
[8] إنجيل مرقس،
الإصحاح11: 15.
[9] إنجيل مرقس،
الإصحاح11: 16.
[10] مجموعة الشرع
الكنسي، جمع وترتيب الأب حنانيا كساب، بيروت، منشورات النور، سنة 1985، ص59.
[11] سورة البقرة، الآية
285.
إن مدينة القدس، مدينة الطهر، ومهد الأنبياء، وأرض
النبوات، نالت اهتماماً عبر التاريخ عزّ نظيره، وما ذلك إلا لأنها كانت ولا تزال
محط أطماع الغزاة، وآخرهم المحتل الصهيوني الذي يعمل بشتى الوسائل لضرب شخصيتها،
وطمس هويتها متوسلاً لغايته هذه وسائل وأساليب عديدة كجدار الفصل العنصري، وبناء
المستعمرات، والإغراق السكاني الإحلالي الاستيطاني، والحفر والتنقيب لقضم الأرض
وهدم المباني المقدسة أو السكنية أو سواها.
القدس عربية النشأة والتاريخ والموقع والدور. لقد أسس
الكنعانيون الوافدون من الجزيرة العربية مدينة القدس في الألف الرابع قبل الميلاد،
وسمّوها: ياروشالايم؛ يارو: مدينة أو موضع. وشالايم: السلام؛ فهي مدينة السلام،
والاسم كنعاني لا صلة له بيهود ولا ببني إسرائيل ولا باللغة العبرية القديمة أو
الحالية.
وقد جاء نص العهد القديم يؤكد ذلك: "وكانت إليّ
كلمة الرب قائلاً: يا ابن البشر أخبر أورشليم بأرجاسها، وقل هكذا قال السّيّد الرب
لأورشليم معدنك ومولدك من أرض الكنعانيين وأبوك أموري وأمك حثيّة."[1]
بعد ذلك حملت القدس اسم: يبوس. واليبوسيون قبيلة متفرعة
من الكنعانيين، واليبوسيون حكموا القدس مدة طويلة وأحد ملوكهم سالم اليبوسي كان قد
بنى قصره على ربوة صهيون المطلّة على المدينة أواسط الألف الثالث قبل الميلاد.
وفي العهد القديم: "وأما اليبوسيون سكان أورشيلم
فلم يقدر بني يهوذا على طردهم، فأقام اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى يومنا
هذا."[2]
وجاء في نص آخر من العهد القديم: "فلم يرض الرجل أن
يبيت بل قام وانصرف حتى انتهى إلى يبوس، وقد مال النهار جداً، قال الغلام لمولاه:
مِلْ بنا إلى مدينة اليبوسيين هذه فنبيت فيها."[3]
أما ربوة صهيون فتسميتها كذلك كنعانية ولفظها:
"صِهْيون"؛ ومعناها بالعربية الجبل المشمس أو الجاف. وفي دلالة أنها من
صِهْوة؛ أي صِهْوة الجواد لأن ربوة صهيون شكلها يتضمن انحناءة في الوسط كما الحال
عند الجواد.
لم يستقر يهود في القدس ولا بني اسرائيل (آل يعقوب) سوى
في عهدي داود وسليمان، منذ حوالي العام 1030 ق.م. إلى العام 960 ق.م.، وحتى في هذه
الحقبة لم ينفردوا بالإقامة فيها بل كان معهم اليبوسيون أهل المدينة الأصليين.
ومسألة الهيكل حولها جدل كثير إذ قالوا في العهد القديم
بأن داود استأجر بيدراً من أرنان اليبوسي كانت عليه حظائر للأبقار والمواشي وحصاد
مواسم، وقد أفرغه أرنان مما عليه ليقيم عليه داود خيمة عبادة، والغريب كيف يكون
موضع حظيرة حيوانات مكاناً مقدساً؟
أما الهيكل المزعوم الذي يدّعون أن سليمان قد بناه فأمره
أشد غرابة! لقد جاء النص على أنه أمر لموسى لبناء بيت عبادة، على الشكل التالي:
"مذبحاً من تراب تصنع لي وتذبح عليه محرقاتك
وذبحائك السّلامّية من غنمك وبقرك. في كل موضع ذُكر فيه اسمي آتيك وأباركك. وإن
صنعت لي مذبحاً من حجارة، فلا تبنيه بالحجر المنحوت، فإنك أن رفعت حديدك عليها
دنّستها."[4]
ويكون السؤال: كيف يصبح البناء من حجارة وخشب منحوتين؟!
وهل هذا مخالف للأمر الذي جاء لموسى عليه السلام أم موافق له؟!
ويظهر التناقض كذلك بين النص والمزاعم اليهودية حين كان الكلام
عن مواد البناء وشكلها. ففي العهد القديم: "وأمر داود أن يجمع النزلاء الذين
في أرض إسرائيل، وأقام قلاعين ليقلعوا حجارة تنحت لبناء بيت الله. وخزن داود
حديداً كثيراً للمسامير، لمصاريع الأبواب والوصل، ونحاساً كثيراً يفوق الوزن، وخشب
أرز لا يحصى، لأن الصيدونيين والصوريين أحضروا خشب أرز بكثرة إلى داود."[5]
وورد عندهم أن شكل الحجارة كان مربعاً علماً أن حجارة
حائط البراق وهو الجدار الغربي للأقصى مستطيلة. فكل ما عندهم مزاعم بمزاعم.
إن مراجعة ما كتبه العالم المقدسي المهندس رائف نجم ضمن
كتاب: "القدس: التاريخ والحضارة"[6]
يبيّن بشكل جلي كيف أن علماء الآثار المعاصرين من يهود قد أقروا بأنه لا أصل لهيكل
في القدس:
1- كلف شمعون بيريز صديقه عالم الآثار طوبياساجيف ليقوم
بدراسة وتنقيب ينتهي بعدها إلى يهودية الأقصى والخليل. بعد المتابعة خلص ساجيف إلى
القول: "لم أجد أي أثر في المسجد الأقصى أو في المسجد الإبراهيمي يثبت أن
هذين المسجدين أصلهما يهودي".
والتقارير الأخرى رفعها جدعون أفني وروني رايخ ويائير
زاكوبتش وزئيف هيرتسوغ بعد عشرات السنوات من التنقيب دامت منذ كلفتهم وزارة
الأديان الإسرائيلية عام 1967 إلى ربيع العام 1999، وقد قالوا فيها: إن داود لم
يبن مدينة، وأن التنقيب لم يوصل إلى العثور على أي أثر يدل على وجود هيكل.
وقد أكد الأمر نفسه عالم الآثار اليهودي مائير بن دوف،
والذي قال: "إذا قمنا بإجراء حفريات أسفل تلك المنطقة فإننا سنجد آبار مياه
متشعبة، وقد رأينا قنوات مائية خلال مسيرة الحفريات، والدراسة التي أجريناها خلال
الخمسة والعشرين سنة الماضية، ونستنج من ذلك أنه لا يوجد هيكل هناك، وإذا قمت
بالحفر فإنك لن تستطيع إطلاقاً أن تجد أية بقايا للهيكل تدل على تلك الفترة."[7]
أما حائط البراق الذي يسميه الصهاينة حائط المبكى، فإن
الموسوعة اليهودية الصادرة عام 1971 جاءت تبين ارتباطهم به. وهو أنهم بعد الفرار
من الأندلس (أسبانيا) مع العرب والمسلمين وصل بعض أفراد منهم إلى القدس، وفي العام
1520م طلبوا من الوالي العثماني أن يسمح لهم بمكان يصلون فيه، وكانوا يقفون في
الباحة المقابلة للجدار، وبعدها بدأت ها
مزاعمهم بأنه حائط المبكى وأنه من بقايا الهيكل.
بعد الاستيطان الاستعماري الصهيوني في فلسطين برعاية
بريطانية رفعت قضية أمام عصبة الأمم المتحدة عام 1930 وكان الحكم بأن الحائط جزء
لا يتجزأ من المسجد الأقصى وهو وقف إسلامي، وادعاء يهود بأنه من بقايا الهيكل
ادعاء باطل لا أصل له.
القدس العربية ملتقى المسيحية والإسلام:
تحتل مدينة القدس مكانة دينية مسيحية ـ إسلامية، وهي
واحدة من حواضر العرب، ومدنهم المحورية في إطار مدن الوطن العربي. وكل مشروع
استعماري عبر التاريخ وضع في حساباته مدينة القدس وسعى للاستيلاء عليها. فحروب
الفرنجة (المعروفة باسم: الحروب الصليبية) عملت لاحتلال القدس ضمن استعمارها
الإحتلالي، وزعمت أن حملتها ما كانت إلا لتأمين طريق الحج المسيحي من أوروبا إلى
القدس وفلسطين، وحملة نابليون على مصر عام 1798 اتجهت إلى فلسطين وتراجعت بعد حصار
عكا، والاستعمار البريطاني استهدف القدس وفلسطين، وكان يبيت مشروعاً لتنفيذ وعد
بلفور وزير خارجية بريطانيا في 2/11/1917، والقاضي بتسليم فلسطين للعدو الصهيوني
في مشروع استعماري استيطاني إحلالي.
يأتي في أسباب هذا الاستهداف عامل الجذب الديني من جهة،
ومن جهة ثانية زراعة كيان غاصب سرطاني في فلسطين عقدة الوصل والاتصال بين شطري
الأمة العربية الآسيوي والأفريقي.
إن مكونات المجتمع العربي هي من المسلمين والمسيحيين، وفي رحاب القدس ملتقى
للجميع، وفي زمن العصبيات والأطروحات الفئوية التي تستهدف وحدة الأمة العربية
والوحدة الوطنية في كل بلد عربي تشكل القدس العنوان الجامع الذي يستطيع من خلال
المشروع القومي العربي أن ينتشل الناس من مستنقعات التعصبات الرديئة للطائفة أو
العرق أو الانتماءات الضيّقة إلى مستوى التطلع الوحدوي، وليس كالقدس سبيلاً، لذلك
يكون الواجب زيادة الاهتمام بملف القدس في مواجهة المخاطر والتحديات، والمناسبة
فرصة مؤاتية ألا وهي الإعلان عن القدس أنها عاصمة الثقافة العربية للعام 2009؛ فإن
رفع درجة العناية بالقدس واجب ديني بسبب موقعها الديني مسيحياً وإسلامياً، وواجب
قومي عربي لأنها أرض عربية محتلة وواجب الإجزاء في الجسد أن تتداعى للدفاع عن أي
جزء مصاب منه، يضاف إلى ذلك أن الوحدة العربية لا تكون دون تحرير فلسطين وفي قلبها
القدس، والاستقرار لا يكون أمنياً ما دام الكيان الغاصب الصهيوني في أرض فلسطين،
والتقدم العربي لا يكون مع التجزئة ولا مع الحرب والصراع العربي – الصهيوني، ولا
الديمقراطية تستقيم حالها مع الاحتلال الصهيوني والمشروعات التآمرية على الأمة،
ومنها الحرب الأمنية باختراق الجبهات العربية الداخلية بالعملاء، وقد حصل ذلك ويحصل، وما برز في لبنان
من شبكات عملاء للعدو خلال السنوات الأخيرة، لا بل خلال هذا العام 2009 خير دليل.
أضف إلى هذا أن العدوان، ومحاولات تهويد القدس والمقدسات إنما هو أمر يستفز
كل المؤمنين بالمسيحية أو بالإسلام، ويهددهم عقيدة وعبادات، فالقدس وفلسطين شهدت
منذ العام 1948 يوم سيطر الكيان الصهيوني الغاصب على فلسطين حركة عدوان على
المساجد والكنائس والأوقاف الإسلامية والمسيحية سواء أكانت أراضي أم مؤسسات صحية
أو تربوية أم غير ذلك. والمعلوم أن المسيحية متجذرة في القدس وجوارها. فكنيسة
القيامة قامت منذ العام 334م في القدس وهي مقصد الحج المسيحي والمتقدمة قداسة
ومكانة على كل كنائس العالم ومعها بيت لحم المهد، والناصرة أرض النشأة، هذا غير
الحشد الكبير من الأديرة والكنائس والمؤسسات التي تجعل القدس وما يجاورها محل
عناية خاصة عند كل أتباع المسيحية.
لقد كان طرد المفسدين من القدس والمعبد من المحطات البارزة في دعوة المسيح
عليه السلام. جاء في النص الإنجيلي: "وجاءوا إلى أورشليم فدخل الهيكل وأخذ
يطرد الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة
الحمام. ولم يدعْ أحداً ينقل متاعاً في الهيكل."[8]
وكان عليه السلام يعلم قائلاً: "أليس مكتوباً بيتي بيت الصلاة يدعى لجميع
الأمم وأنتم جعلتموه مغارة للّصوص."[9]
وجاء بشأن القدس في قوانين الكنيسة المسيحية الجامعة ما يلي: "لا
غرابة في أن المدينة المقدسة يليق لها أن تتمتع بمركز خاص ممتاز بين الكنائس
المسيحية.
... ومن المحتمل أنه
نحو نهاية القرن الثاني أخذت فكرة قداسة المكان تضفي على صاحب الكرسي فيه كرامة
خاصة... فشعور الاحترام لصاحب الكرسي في المدينة المقدسة هو الذي حمل آباء مجمع
نيقية (إزنك اليوم) على سن هذا القانون."[10]
إن مكانة القدس
مسيحياً لها ما يقابلها إسلامياً لأن القدس مهد النبوات والإسلام يأمر أتباعه في
الآية الكريمة: "لا نفرّق بين أحد من رسله."[11]
كما أن الأقصى يتمتع بمكانه خاصة فهو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين،
وهو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بناء الأقصى الجدار الغربي المسمى
جدار البراق نسبة لدابة البراق التي نقلت الرسول من مكة المكرمة إلى القدس.
وفي أرض القدس مسجد
قبة الصخرة ومساجد ومدارس وتكايا ومقابر تضم صحابة وتابعين منها المدرسة التنكزية
بين الأقصى وقبة الصخرة حيث يريد العدو إقامة أكبر كُنيس في العالم، ومقبرة مأمن
الله التي صادرها العدو مؤخراً خلال هذا العام 2009 ليقيم عليها متحفاً ومن
المدفونين فيها الصحابي عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
أما مكانة القدس فقد
جاءت حولها نصوص منها الحديث النبوي: "عن ميمونة بنت سعد رضي الله عنها أنها
قالت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس. فقال عليه الصلاة والسلام: أرض المحشر
والمنشر، ائتوه فصّلوا فيه فإن كل صلاة فيه كألف صلاة. قلنا: يا رسول الله فمن لم يستطع
أن يصل إليه؟ قال: فمن لم يستطع أن يأتيه فليهدِ إليه زيتاً يسرج في قناديله، فإن
من أهدى إليه زيتاً كان كمن أتاه."
وفي حديث نبوي آخر:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي على الحقّ ظاهرين
لعدوّهم قاهرين لا يضرّهم من خالفهم، ولا ما أصابهم من اللأواء (الضيق وشدة العيش)
حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: في بيت المقدس
وأكناف بيت المقدس".
والمشترك الإسلامي
المسيحي الذي يبيّن أن القدس مدينة خاصة ولا مكان فيها ليهود كان ما نصت عليه
العهد العمرية وهي وثيقة العهد الذي أعطاه الفاروق عمر للبطريرك صفرينوس يوم استلم
مفاتيح المدينة منه. والنص هو:
"بسم الله الرحمن
الرحيم. هذا ما أعطى عبد الله عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، وأعطاهم
أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا
تُسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيّزها ولا من صليبهم ولا شيء من
أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد
من يهود".
كان ذلك عام 15هـ
(636م). وقد عاش العرب من المسلمين والمسيحيين في رحاب القدس، وكانوا يستقبلون
الزائرين من كل المؤمنين مئات السنين إلى أن كان الاحتلال الصهيوني حيث بدأت
المخاطر من خلال إجراءات التهويد التي بدأها العدو الغاصب منذ دخول المدينة في
حزيران/يونيو 1967.
إن ماجريات الأمور
لجهة خطوات العدو في تهويد القدس وعموم فلسطين تستلزم العمل المشترك بعيداً من
التعصبات الرديئة التي بات يلاحظها المتابع في أقوال أو ممارسات بعض أهل الغلو ممن
بعدت بهم الشّقّة عن هوية الأمة الوسط، فيجدهم المرء قد صنّعوا لأنفسهم مقولات
وأطروحات عمادها الإنفعال والفئوية وهذه تتذر بخطر داهم لأنها تنشر الفتنة، وتنتج
التفكك والتفتيت، وهذه كلها أمور تضرب مشروع التحرر والتحرير في الصميم، وتخدم
العدو الصهيوني المحتل وسائر الأعداء الطامعين بالأمة، والمشاركين للصهيوني
جريمته.
التحديات الصهيونية:
يمكن إجمال
التحديات الصهيونية على فلسطين والقدس
والأمة العربية بما يلي:
1- اغتصاب فلسطين وغرس سرطان صهيوني فيها، وقد كان ذلك بناء
لمشروع استعماري أوروبي (بريطاني خصوصاً) حيث كانت لجنة المستعمرات البريطانية
المعروفة بلجنة كامبل بنرمان قد كتبت تقريراً يؤكد على زرع كيان محتل غاصب في
فلسطين يمنع وحدة الأمة العربية، ويشغلها بصراع عسكري يعطل الوحدة والتقدم، ويخلق
حالة عدم استقرار تضعف الأمة أمام المؤامرات الاستعمارية الصهيوأوروبية
والصهيوأمريكية وأمام الأطماع.
2- الاعتقاد الصهيوني عند الصهيونية اليهودية، والصهيونية
غير اليهودية والقائل بأن مجيء المسيح يحتاج لمقدمات هي احتلال فلسطين وتجميع يهود
العالم فيها، وتهويد القدس، وهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل يهودي على أنقاضه، ثم
تكون معركة هرمجدون (تل المتسلم) الفاصلة، بعدها يكون مجيء المسيح ويبدأ عندها
العهد الألفي السعيد. لذلك يلتزم المتصهينون الأمريكان والغربيون مع الصهيانة من
يهود العمل بكل ما يستطيعون خدمة لعقيدتهم الفاسدة هذه.
3- الاستعمار الصهيوني الاستيطاني الإحلالي الذي دعمته
أوروبا وبريطانيا خاصة ليتخلصوا من سكان الغيتوات اليهودية المغلقة التي كانت تقض
مضجع قيادات أوروبا، وليكون الكيان الغاصب حارساً لمصالح الاستعمار الأوروبي
والأمريكي العولمي الامبراطوري لاحقاً، وقد ترتب على ذلك تهجير وتشديد أكثر من ستة
ملايين فلسطيني ومصادرة أملاكهم هذا مع اغتصاب الممتلكات الوقفية وبيوت العبادة
الإسلامية والمسيحية، ورغم صدور قرار مجلس الأمن الرقم 194 الذي ينصّ على حقّ
العودة لكل فلسطيني، والذي لم ينفذ لا بل هو محل رفض عند الصهاينة وعند الداعمين
لهم في الغرب، فإنه لم يتغير شيءٌ، وباتوا يطرحون يهودية الدولة، وهذا يفيد أنهم
سيطردون العرب الباقين في فلسطين المحتلة.
هذا الاستعمار الاستيطاني
الإحلالي خلق عذابات ووجوه من المعاناة للفلسطينيين، وطرح التوطين للفلسطينيين في
أماكن وجودهم، وهذا ينشأ عنه خطران:
أ.
تذويب الشخصية
الوطنية الفلسطينية وتعطيل قرار حق العودة.
ب.
مشكلة
ديموغرافية في البنية المجتمعية العربية خاصة في بلد متنوع الطوائف مثل لبنان.
لذلك فإن التوطين خطر كبير على
العرب والفلسطينيين. وقد صعّد قادة العدو من خلال شمعون بيريز رئيس الجمهورية،
وبنيامين نتنياهو رئيس الحكومة مؤخراً من لهجتهم في طرح "يهودية الدولة"
أي يهودية الكيان الغاصب في الأرض المحتلة عام 1948، وهذا مفاده طرد أكثر من مليون
ونصف المليون عربي، وبالتالي إضافة مشكلة جديدة في موضوع حق العودة والتوطين. وقد
جاهر بيريز بهذا الموقف في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس حسني مبارك الثلاثاء في
7/7/2009 في القاهرة دون أن يعترض الرئيس مبارك على ذلك.
4- تهويد القدس وتهديد المقدسات بالتقويض والتضييق والحصار
وتعطيل الشعائر، وهذا ما قام به ويقوم به العدو منذ بداية الاحتلال. حيث يخطط
العدو لتغيير معالم المدينة بتجريف المنازل وإقامة المساحات الخضراء، أو جدار
الفصل العنصري، أو مصادرة الأملاك، ويضاف إلى ذلك الحفريات ومنها الأنفاق تحت
الأقصى التي تخترقه من كل الاتجاهات، وهناك تحت حائط البراق بناء من طابقين هما
كُنيسان للعبادة اليهودية أحدهما للرجال وآخر للنساء، ونفق تحت المصلى المرواني من
جهة الشرق لمرور قوى الأمن العدوة إلى باحات الأقصى، وأنفاق من الغرب إلى الشرق
تمر فيها الآليات الكبيرة.
وبعد تجريف حارة المغاربة عام
1967 وإزالة بيوتها الأثرية وعددها 138 منزلاً، عمد العدو في العام الماضي 2008
إلى تجريف تلة المغاربة ليقيم جسراً معلقاً يمكنهم من الوصول بسرعة وأمان إلى باحة
حائط البراق.
وإجراءات العدو بمصادرة الأراضي
والتضييق على حركة البناء للعرب مع توسيع نطاق بلدية القدس من 70 كلم² إلى 600
كلم² إنما هدفها إغراق المدينة بالمستعمرين المحتلين ليكون العرب أقل من 25 بالمئة
من سكان المدينة. وعلى سبيل المثال كان المسيحيون عند احتلال القدس الشرقية 40 ألف
مواطن عربي، وحالياً لم يبق في القدس إلا أقل من 5 آلاف، وإذا عرفنا عدد الكنائس
والأديرة والمؤسسات ندرك أن الباقين أغلبهم كهنة.
ويدخل ضمن أساليب التضييق أن حق
الاستثمار في المباني على المساحات هو للعرب 75 بالمئة بينما هو للغاصبين الصهاينة
300 بالمئة وأي عربيٍ لا يعطى رخصة بناء أو ترميم إلا بعد معاناة تستمر لأكثر من 5
سنوات، هذا مع رسوم تتراوح من 20ألف إلى 25 ألف دولار.
وإذا حصل وأقام أحد المقدسيين في
الضواحي مؤقتاً فإنهم يسحبون منه إقامته، ويعدّونه غير مقدسي ويمنعونه من دخول
المدينة بعدها.
لقد اقتطع العدو حوالي 40
بالمئة من مساحة القدس وصنفها مناطق خضراء وهي في تصنيفه الحقيقي مناطق احتياط
استيطاني، وهذا ما فعلوه في جبل أبو غنيم (منطقة الرأس من قرية شعفاط) عندما حولها
إلى مناطق لمستعمرتي هارحوماه ورامات شلومو.
وخلال الأيام الأخيرة صادروا
مقبرة مأمن الله (ما من الله) ليقيموا على أنقاضها متحفاً، وأخطروا أهالي حي
البستان بترك منازلهم ليزيلوها – رغم أنها قديمة وأثرية – ليقيموا مستعمرة في
مكانها، وسلموا في أواسط حزيران/يونيو 2009 إنذارات إلى 65 أسرة بإخلاء مساكنهم
ليقوموا بإزالتها وهدمها، والعملية متواصلة.
إنهم أغرقوا القدس بالغاصبين
المحتلين، وقد قارب عدد الوحدات السكنية الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية
الإحلالية ضمن القدس الشرقية أو المدينة القديمة قرابة 60 ألف وحدة سكنية.
[1] سفر النبوة حزفيال،
الإصحاح 16: 1، 2، 3.
[2] سورة يشوع،
الإصحاح15: 63.
[3] سفر القضاة،
الإصحاح19: 10،11.
[4] سفر الخروج، الإصحاح
20: 24،25.
[5] سفر أخبار الأول،
الإصحاح 22: 1، 2، 3، 4. أأأ
[6] القدس: التاريخ
والحضارة، إشراف وتحرير الدكتور عزت جرادات، مراجعة وتدقيق أ.د. أسعد السحمراني،
منشورات المؤتمر الإسلامي العام لبيت المقدس، عمان، ط1، سنة 1427هـ - 2006م.
[7] جريدة الرأي، عمّان –
الأردن، في 23/1/2001.
[8] إنجيل مرقس،
الإصحاح11: 15.
[9] إنجيل مرقس،
الإصحاح11: 16.
[10] مجموعة الشرع
الكنسي، جمع وترتيب الأب حنانيا كساب، بيروت، منشورات النور، سنة 1985، ص59.
[11] سورة البقرة، الآية
285.